September 14, 2016, 3:30 pm
هل الدين ظاهرة اجتماعية؟
ناصر بن سعيد السيف
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإنه لا ريب أن الأديان هي التي سارت إلى الإنسان وهي التي نزلت إليه، ولم يصعد هو إليها، وأن الناس لم يعرفوا ربهم بافتراض العقل البدائي فحسب، وإنما بنور الوحي كذلك.
والدين تجربة وجدانية فطرية أولية خالصة؛ بل هو أسبق في العقل من كل الأوليات، وهو جماع كل الحقائق الإيجابية، وأصل المعرفة وأصل الأخلاق والقيمة والحق والكمال، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (إن كل خيرٍ في الأرض فمن آثار النبوة). [1]
وفي علم الاجتماع مسألة أن الدين ظاهرة اجتماعية من عدمها من المسائل المشهورة في هذا التخصص، ومن هذا السياق يكون السؤال: (هل الدين ظاهرة اجتماعية؟) والجواب يكون في هذه الورقات على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعريف الدين.
المبحث الثاني: تعريف الظاهرة الاجتماعية.
المبحث الثالث: هل الدين ظاهرة اجتماعية؟
نسأل الله العلي القدير التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المبحث الأول: تعريف الدين
الدين له معانٍ واستعمالات كثيرة في اللغة العربية، أهمها:
1- الجزاء والمكافأة والحساب: تقول: دنته بفعله ديناً أي جزيته، ومن هذا قول الله تعالى: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾. [2]
2- الذل والانقياد والطاعة والعبادة والخضوع: وهو أصل المعنى، وبهذا سميت الشريعة دينا، ومن هذا قول الله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾. [3]
3- السياسة والملك: تقول دنته: أي سسته وملكته، قال ابن منظور: (ومنه سمي المصر مدينة، والدَّيَّان: السائس).[4]
واختلف في تعريف الدين عند علماء المسلمين على أقوال، منها:
1- الدين هو التوحيد، قاله الفيروز آبادي. [5]
2- الدين: التسليم والاستسلام لله تعالى وحده وعبادته بما شرع على لسان أنبيائه من العقائد والأحكام والآداب وكل شؤون المعاش. [6]
3- التسليم لله والانقياد له، والدين هو ملة الإسلام عقيدة التوحيد التي هي دين جميع المرسلين من لدن آدم ونوح عليهما السلام إلى خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم. [7]
المبحث الثاني: تعريف الظاهرة الاجتماعية
عرَّف دور كايم – زعيم المدرسة الاجتماعية الفرنسية - الظاهرة الاجتماعية بأنها: كل ضرب من السلوك ثابتاً كان أم غير ثابت يمكن أن يباشر نوعاً من القهر الخارجي على الأفراد، أو هي: سلوك يعم في المجتمع بأسره، وكان ذا وجود خاص مستقل عن الصور التي يتشكل بها في الحالات الفردية. [8]
المبحث الثالث: هل الدين ظاهرة اجتماعية ؟
ذهب بعض علماء الاجتماع إلى القول بأن الدين ظاهرة اجتماعية في المقام الأول؛ فالمجتمع من وجهة نظرهم عندما يتعرض لبعض الأزمات فإنه يحاول جاهداً في الخروج منها ويبتكر لذلك الكثير من الحلول وعندما تنجح طريقة معينة للخروج من الأزمة فإن المجتمع يقدس هذه الطريقة وتقدسها الأجيال المتعاقبة بعد ذلك. [9]
والذي يتفق عليه علماء الاجتماع أن الظاهرة الاجتماعية الحقيقية كما نشاهدها في القوانين والقواعد الاقتصادية ذات وجود خارجي مستقل عن أفراد الجماعة، في حين أن الدين ظاهرة فردية في المقام الأول، ظاهرة داخليةٌ ذاتيّة مستقلة، فهي تأتي على العكس تمامًا من الظاهرة الاجتماعية، فلا يصح القياس مع هذه المفارقة. [10]
والخلاصة أن الدين المتعارف عليه عن الغربيين ليس أكثر من ظاهرة إنسانية.
♦♦♦
انتهى البحث
وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
[1] انظر: موقع اسلام ويب، المقالات، الاطلاع على الموقع في تاريخ 20/ 1/ 1436هـ
[2] سورة البقرة، آية 4.
[3] سورة البقرة، آية 256.
[4] انظر: لسان العرب، ابن منظور 13/ 165.
[5] انظر: القاموس المحيط، الفيروز آبادي 4/ 227.
[6] انظر: الموسوعة الميسرة في المذاهب والأديان المعاصرة، مانع الجهني 2/ 1057.
[7] انظر: الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة، ناصر القفاري وناصر العقل، ص 10.
[8] انظر: هل الدين ظاهرة اجتماعية ؟، زكي محمد إسماعيل، ص 497.
[9] انظر: الموسوعة الحرة (ويكيبيديا)، علم اجتماع الدين، الاطلاع على الموقع في تاريخ 20/ 1/ 1436هـ
[10] انظر: موقع اسلام ويب، المقالات، الاطلاع على الموقع في تاريخ 20/ 1/ 1436هـ على رابط:
http:/ / articles.islamweb.net/ media/ index.php?page=article&lang=A&id=196219
↧
September 14, 2016, 6:58 pm
حول كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عظيم الروم (1)
الشيخ محمد محمد مخيمر
وعدنا في العدد الماضي بإيراد طرف من الأحكام الشرعية والأخلاق الإسلامية، شرحاً لكتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي بعث به إلى قيصر الروم سنة سبع من الهجرة. وها نحن نذكر منها ما يتسع له المقام:
1- بدأ صلى الله عليه وسلم كتابه ببسم الله الرحمن الرحيم. وهو يدل على أن السنة في بدء الكتب والرسائل أن تفتتح بالبسملة اقتداءً بالقرآن الكريم، وبهذا الكتاب الخالد. وليست البسملة من خصائص القرآن الكريم بل هي آية من الكتب السابقة كما يجل عليه كتاب سليمان عليه السلام إلى ملكة سبأ. وأنسب ما يتعلق به الجار والمجرور في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون تقديره: أدعو إلى الله مستعينا: على أن يتأخر هذا العامل على البسملة وفاقاً لابن جرير في إعراب بسملة القرآن. وقد وافقه المحققون من علماء العربية على أن الأولى في متعلق الجار والمجرور في البسملة أن يكون فعلاً خاصاً متأخراً.
[ كلمة في الفرق بين الرحمن والرحيم ]
وخير ما يفرق به بين الرحمن والرحيم في المعنى بعد جعلهما علمين للذات العلية أن يلاحظ في الرحمة المستفادة من الرحمن أنها في كل شيء بحبسه بحيث تستعمل في مقام التبشير تارة، وإظهار النعمة والإنذار والتهديد للكافر تارة أخرى، فتكون في ناحية التبشير مساوية للرحيم. وفي ناحية الانذار مساوية للتعزيز: يشهد بهذا ما نسوقه من الآيات. فمن استعمالها في مقام التبشير وإظهار النعيم قوله عز وجل ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ ﴾ [الرحمن: 1-2]، ومن استعمالها في مقام الانذار قوله عز وجل ﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ ﴾ [الفرقان: 26]، ألا ترى إلى قوله بعدها ﴿ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً ﴾ [الفرقان: 26]، ولهذا لم تتبع بكلمة الرحيم في الآيتين، وإنما يذكر بعدها ما يكون من نعم الدنيا التي تنتهي. وأما كلمة رحيم فإنها تستعمل في رحمة الدار الآخرة التي يختص بها المؤمنون من دون الخلق والتي لا تنتهي. ولا يستعمل "الرحمن" في غير الله عز وجل مع "ال" منفرداً، فلا يرد البيت الذي مدح به مسيلمة الكذاب وهو قول الشاعر:
سموت للمجد يا ابن الأكرمين أباً ♦♦♦ وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
بخلاف (الرحيم) فإنه يطلق على غير الله عز وجل كما في قوله تعالى ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، ويستعمل في جانب الله بأل وبغيرها كما في قوله ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ﴾ [الأحزاب: 43].
2- ويدل على أنه يكتب بالبسملة للكافرة كما يكتب بها للمسلم. ولهذا كتب بها سليمان عليه الصلاة والسلام إلى ملكة سبأ قبل إسلامها.
3- "من محمد عبدالله ورسوله" فيه أنه يبدأ باسم المرسِل. وهذا هو الذي جرى عليه النبي صلى الله عليه وسلم في جميع كتبه، وكان يختم كتبه بخاتمه وفيه اسمه. وهذا أولى من ترك اسم المرسل في أول الكتاب استغناء بذكره آخر الكتاب.
4- يدل تقديم وصف العبودية لله تعالى على وصف الرسالة، على أنه أحب الأوصاف إليه صلى الله عليه وسلم وأشرفها، ولهذا قدم في التشهد على وصف الرسالة، فالأولى للمصلي أن يجمع بين وصفي العبودية والرسالة، وأن يقدم الأول على الثاني فيقول في تشهده: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وقد شرف الله رسوله بهذا الوصف في آيات من القرآن كما في قوله عز وجل ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾ [البقرة: 23]، ﴿ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ [الحديد: 9]، ﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ ﴾ [الجن: 19]، كما شرف به غيره من الرسل ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ ﴾ [صّ: 41]، ﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ﴾ [صّ: 45]، وفي الصحيحين عن عبادة أنه صلى الله عليه وسلم قال "من مات يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، أدخله الله الجنة على ما كان عليه من عمل".
ولرسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء أشرفها محمد وأحمد. ولهذا لم يستعمل في القرآن سواهما وأشهرهما محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا ذكر به في القرآن مراراً، في آر عمران والأحزاب والقتال والفتح.
5- (إلى هرقل عظيم الروم) فيه أنه لا حرج على من يكتب إلى شخص أن يذكره بأعظم المناصب الدنيوية لاسيما إذا كان يؤمل من وراء ذلك قبول ما يكتب به إليه أو لم يكن يعرف من نسبه شيئاً.
"سلام على من اتبع الهدى" هذا موافق لما قاله موسى وهارون عليهما السلام لفرعون بعد بيان دعوتهما وتأييدها بالحجة. قال تعالى يعلمهما ما يقولان لفرعون ﴿ فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴾ [طه: 47].
[ هل يجوز بدء الكافر بالسلام أم لا؟؟ ]
وظاهر صنيع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الكتاب وغيره وما يدل عليه القرآن في قصة موسى أنه لا يجوز بد الكافر بالسلام. وقد اختلف العلماء في ذلك، فمنهم من منعه لما تقدم واحتجوا كذلك بما أخرجه مسلم في صحيحه والبخاري في كتاب الأدب المفرد ولم يخرجه في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام -الحديث-" ومنهم من أجازه - وعليه طائفة من السلف- فيمن بيننا وبينهم معاهدة قائمة. وقد احتج عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه ومن وافقه للجواز بقوله عز وجل ﴿ لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8]، وبعموم حديث "وأن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" وبحديث "لهم ما لنا وعليهم ما علينا". ولا خلاف بين المسلمين في رد السلام عليهم إذا بدأونا به لقوله عز وجل ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ﴾ [النساء: 86]، وبما كان يفعله صلى الله عليه وسلم من الرد على اليهود وأحاديثه في الصحيحين.
أما تحية الكافر بغير السلام فجائزة لمفهوم حديث "لا تبدأوا" المتقدم ذكره ولعموم آية الممتحنة السابقة ﴿ لا يَنْهَاكُمُ ﴾ وقد رجح عمر بن عبدالعزيز ومن وافقه رأيهم بأن الآية متأخرة النزول فإنها نزلت بعد فتح مكة حين لم يكن بالمدينة من كانوا بها من اليهود. وظاهر حديث رد السلام عليهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك كان في أول الهجرة، كما أن النهي عن بدئهم بالسلام كان قبل نزول الآية فإنها نزلت في أم أسماء بنت أبي بكر وأبي سفيان قبل الفتح في مدة الصلح. وقد اختير القول بالجواز عند أكثر المتأخرين نظراً لأن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم كانوا يسوون بين المسلمين والمعاهدين في المعاملة. إلا أن الفرق بين التسليم على الكافر والتسليم على غيره من المسلمين أنه يندب في التسليم على المسلمين ذكر الرحمة والبركة ولا يذكر ذلك في رد السلام على الكافر بل يستبدل بالدعاء له بالهدى.
وفي حديث أصحاب السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال "إذا قال المسلم: السلام عليكم كتب الله له عشر حسنات، فإذا قال: ورحمة الله كتب له عشرين حسنة، فإذا قال: وبركاته كتب له ثلاثين ولو زاد لزاده الله عشراً عشراً" فإذا قال البادئ بالسلام هذه الكلمات الثلاث وأراد المسلم أن يرد عليه بأحسن منها قال بعد وبركاته "ومغفرته ورضوانه وأزكى تحياته وتسليماته" كما في حديث الإمام أحمد في تفسير الآية الكريمة ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ ﴾. ولو قال: وأسعد الله أوقاتكم وأحسن عملك وأجزل ثوابك كان ذلك من التحية بأحسن، لأن الدعاء للمؤمنين من الخير ومن المكافأة على المعروف، وفي الحديث "من صنع معكم معروفاً فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه به فادعوا له بخير".
ومن رغب عن تحية الإسلام التي جعلها الله تحية لآدم ولذريته من بعده وللملائكة عليهم السلام ولأهل الجنة في الجنة – واستبدالها بالتحيات التي ليست من شعار المسلمين فقد رغب عن خير كثير وأضاع مشخصاً من مشخصات الإسلام وخلقاً من أجل مكارم الأخلاق. قال الله تعالى في تحيته لأهل الجنة عند دخولها ﴿ سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ﴾ [يّس: 58]، وهو أول كلام يبدؤهم به عز وجل بعد دخول الجنة، كما تسلم عليهم الملائكة ﴿ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 23-24].
وفي حديث البخاري "أن الله لما خلق آدم ونفخ فيه الروح قال له اذهب فسلم على أولئك – لنفر من الملائكة – فاسمع ما يجيبونك به – وفي رواية ما يجيبونك به - فإنها تحيتك وتحية ذريتك إلى يوم القيامة".
ومعنى كلمة السلام الأمان والمسالمة والسلامة، وهو اسم من أسماء الله عز وجل أيضاً؛ وهذا المعنى هو الذي يلاحظ في الرد على الكافر إذ يكون معناه: وعليكم الله رقيب. وللمسلم أن يرد على الكافر بقوله: وعليكم ويقتصر، وله أن يقول: وعليكم السلام، ويكون معناه: وعليكم الله رقيب.
وقوله صلى الله عليه وسلم "سلام على من اتبع الهدى" استعمال لنوع من الملاينة التي ينبغي لكل مسلم أن يستعملها، وهي من الخلق الحسن الذي حث عليه الإسلام في كتب الله كلها. قال تعالى لموسى وهارون ﴿ فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 44]، وما أحسن قوله صلى الله عليه وسلم "إن أقربكم مني منزلة يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً الموطؤون أكنافاً - الحديث" وقوله صلى الله عليه وسلم "وخالق الناس بخلق حسن".
مجلة الهدي النبوي - المجلد السادس - العدد (3-4) - صفر سنة 1361
[*] لفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ محمد محمد مخيمر، الواعظ بالقاهرة.
↧
↧
September 14, 2016, 7:04 pm
تطور منهج التوثيق في الحضارة الإسلامية وواقع التوثيق في الحضارة الحديثة
ناصر بن سعيد السيف
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فإن التوثيق يشكل أهمية كبرى في حياة الأمم وحضاراتها المختلفة، وبسبب أهمية التوثيق نجد الأمم السابقة أبدعت أدوات العلم والكتابة كالأقلام والمحابر فدونت تواريخها في القراطيس والدفاتر والصحف والخفاف، بل حتى الأمم الأمية حاولت تدوين تاريخها وأمجادها؛ فالعرب مثلاً وبصفتهم أمة أميّة جعلت الشعر ديوان لها تسطر فيه أيامها وحروبها وأنسابها يتناقلونها جيلاً بعد جيل، ولما جاء الإسلام لم يغفل المسلمون عن التوثيق التاريخي فبعد الانتهاء من توثيق الكتاب والسنة، وما يتعلق بهما من كتب أسماء الصحابة والجرح والتعديل، ظهرت المصنفات التوثيقية التاريخية.
والتوثيق في الحضارة الإسلامية مر على مراحل في تطويره حتى وصلت على ماهي عليه في الوقت الحاضر، ومن هذا الباب كتبت هذا البحث بعنوان: (تطور منهج التوثيق في الحضارة الإسلامية وواقع التوثيق في الحضارة الحديثة)، وقسمت البحث إلى ستة مباحث، هي:
المبحث الأول: تاريخ التوثيق قديمًا.
المبحث الثاني: نشأة التوثيق في الحضارة الإسلامية.
المبحث الثالث: أهمية التوثيق في الحضارة الإسلامية.
المبحث الرابع: واقع التوثيق في الحضارة الحديثة.
المبحث الخامس: أدوات التوثيق في الحضارة الحديثة.
المبحث السادس: دوافع التوثيق في الحضارة الحديثة.
نسأل الله العلي القدير التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المبحث الأول
تاريخ التوثيق قديمًا
تعود بدايات التوثيق إلى عصور ما قبل التاريخ، أي أن بدايات التوثيق سبقت التدوين الكتابي، حينما قال آدم - عليه السلام - لربه عندما أتاه ملك الموت:((قد عجلت فقد كتب لي ألف سنة قال بلى ولكنك جعلت لابنك داود ستين سنة فجحد فجحدت ذريته ونسي فنسيت ذريته قال فمن يومئذ أُمر بالكتاب والشهود))[1]، وقد عُرف التوثيق بالكتابة في الأمم القديمة، ويبدو أن السبب في ذلك حفاظاً على المعتقدات من الضياع بالنسيان أو أن يرتكب الناس أخطاء عند إقامتهم للشعائر الدينية، وحفاظاً على معاملاتهم التجارية من الخسارة وعلى العلوم من أن تندثر. [2]
المبحث الثاني
نشأة التوثيق في الحضارة الإسلامية
بدأ المنهج التوثيقي في الحضارة الإسلامية مع ظهور الإسلام وانتشاره، حيث أن النصوص الشرعية تقرره وتدعو إليه، وهذا ظاهر في تطبيقات الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وعلماء الاسلام، والشواهد على ذلك مايأتي:
1- القرآن الكريم: لقد جاءت توجيهات القرآن الكريم واضحة المعالم بينة الدلالة على الدعوة إلى تحقيق المنهج التوثيقي بما لا يدع مجالا للشك على أسبقية الإسلام للدعوة لهذا المنهج ويمثل على ذلك آية الدين.
2- السنة النبوية: جاء الأمر بتبليغ الدين مع التحذير الشديد من عدم الثبت وتعمد الكذب، قال صلى الله عليه وسلم قال: ((بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ))[3]، فهذا الحديث وغيره قد دل دلالة ظاهرة على وجوب إتباع منهج التوثيق في الأخبار الشرعية عن الله ورسوله وأنه لا مجال للعبث والتخبط في دين الله تعالى.
3- عمل الخلفاء الراشدون: إن ما جاء عن الخلفاء الراشدين من الثبت والتدقيق في كل ما يصل إليهم من الأخبار أو فيما يستجد لهم من الأحداث والنوازل ليؤكد شدة التزامهم بمنهج التوثيق كجمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
4- العقل: هو موجه الإنسان ودافعه ووسيلته إلى إدراك موقعه وغايته من الحياة ووسيلته في طلب العلم والتلقي عن رسالات الوحي، وهو الذي يميز بين الوحي الصحيح الموثق وبين الخرافة والكهانة الكاذبة، قال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ﴾[4]، وبذلك يظهر دور العقل في اتخاذ منهج التوثيق للتحقق والتأكد من صحة الخبر وصدق المعلومة . [5]
المبحث الثالث
أهمية التوثيق في الحضارة الإسلامية
تعود أهمية منهج التوثيق في الحضارة الإسلامية إلى كونه من الطرق الآمنة في الوصول إلى العلم الصحيح، وبما أن الإسلام أمر بالعلم وشجع عليه وأثنى على أصحابه وذم الجهلة، فإنه طالب أيضًا بالتوثق والتحقق عند طلبه وأثناء ممارسته، كما أمر بإقامة الدليل والحجة على أي دعوى يدعيها الانسان، ولهذا كانت عناية الحضارة الإسلامية بمنهج التوثيق كبيرة فهو أحد وسائل التثبت والتحقق في طلب العلم وبدون المنهج السليم من البحث يحلق الذهن بعيداً وربما تتحكم فيه الأهواء وبالتالي يظل طريقه الصحيح.[6]
المبحث الرابع
واقع التوثيق في الحضارة الحديثة
نشأ في عصرنا الحديث العديد من المجالات لخدمة منهج التوثيق مثل:
1- العمليات الفنية: ينبغي على دارس علم الوثائق أن يكون على علم ودراية بالعمليات الفنية التي تمكنه من التحقق من جودة الوثيقة التي بين يديه منها معرفة نوع المداد المستعمل في الكتابة وتركيبته والأقلام التي كتبت بها وكذلك نوع الورق المستعمل وخصائصه والعلامات المائية والألياف التي تتضح عند تعرض الورق للضوء.
2- التصنيف: يعتبر العامود الفقري لعملية التوثيق، وتكمن الأهمية في وضع الموضوعات المتشابه والمتداخلة والمتشابكة في قالب يمكننا من تسهيل عمليةالرجوع إلى الوثيقة، لأنها تعتبر مثل إمساك طرف الخيط المعقد ببعضه، وتقوم عملية التصنيف على أساس وضع كل موضوع بمكانه المناسب وتجميع ما يتفق مضمونه مع بعضه البعض لكييسهل لنا عملية البحث.
3- التحليل: يعتبر علم قائم بذاته وله العديد من الطرق والمفاهيم التي تدعمه، لذا تعتبر عملية تحليل الوثيقة خطوة في فهم وصياغة وحفظ الوثيقة بين ملايين الوثائق، ويمكننا تعريف التحليل بأنه العملية الذهنية التي يقوم بها الشخص المعني بالتوثيق، فإذ كانت عملية التصنيف هي إمساك طرف الخيط المعقد مع بعضه، فإن عملية التحليل هي محاولة تفكيك ذلك التعقيد وربط مختلف المصادر مع بعضها لكي نصل بالنهاية إلى استنتاج يخدم قضية البحث.
4- الفهرسة: عملية الفهرسة أيضاً جزء لا يتجزأ من عملية التوثيق بمعناها الشامل، وهي عملية إنشاء أدلة الاسترجاع أي كان نوعها أو حجمها، حيث يعتمد الموثق في عملية الفهرسة على محتوى مادة البحث والأدوات الفنية لمعالجة الوثائق.
5- التكشيف: أحد العمليات التوثيقية التي يستقى منها الكلمات الدالة على الموضوع المراد توثيقه، وتعتبر ضرورية ومتممة لإعداد الفهارس، وعملية التكشيف هي جزء لا يتجزأ من عملية التوثيق التي تساعدنا بعملية استرجاع المعلومات من خلال الكلمات الدالة ومرادفتها.
المبحث الخامس
أدوات التوثيق في الحضارة الحديثة
للتوثيق أدوات عدة وهي تنقسم إلى اربعة أنواع رئيسة وهي كالتالي:
1- الوثيقة الكتابية: يعتمد عليه لأنه يقوم على واقع ثابت لا يحتاج إلى دراسات مطولة، أو اجتهادات، أو خبرات خاصة قائمة على الترجيح أو التخمين. ويقصد بالوثيقة الكتابية كل ما دون كمخطوط أو مطبوعة، فالرسالة والدورية في علم التوثيق تعني كل نشرة تحتوي على عدة موضوعات لعدد من الكتاب، أو المحررين ولها اسم خاص هو عنوانها الذي تعرف به، وتظهر بأجزاء متتابعة وفي مدد محددة، ولزمن معين.
2- الوثيقة التصويرية:هذا النوع من الوثائق في درجة تلي الوثيقة الكتابية والتي تعتبر في علم التوثيق وثيقة مساعدة بمعنى لا يعتد بها وحدها ويعتمد عليها لأن الجوهر فيها موضع ترجيح وتشكيك، ولا ينظر إليها إلا في حال استطاعت أن تنير جانباً من البحث، وهكذا تساعد على التحقيق والكشف، وهي على الغالب رسم ما نقل بالقلم، أو بالفحم، وربما كانت هذه الوثيقة المساعدة صورة شمسية تعين على التحقيق، فالهوية الشخصية، وجواز السفر لا يعتد بهما كوثيقتين في إثبات الشخصية بالرغم من صدورها عن دائرتين رسميتين إلا إذا كان كل منهما يحمل صورة الشخص.
3- الوثيقة التشكيلية: تعتبر هذه الوثيقة كسابقتها في إطار الوثائق المساعدة وربما جاءت في منزلة الوثيقة التصويرية لأنها مماثلة لها في كثير من المقومات، وغالباً ما يكون لها قيمة مالية كبيرة خصوصاً عندما تكون قد صيغت بيد أحد المشاهير في العلوم التشكيلية، فالوثيقة التشكيلية في الغالب تشتمل على الآثار المعمارية الخالدة وغيرها.
4- الوثيقة السمعية أو المرئية: تدخل هذه الوثيقة كنوع ممن أنواع الوثائق المساعدة وهي في الغالب تسجيلات صوتية أو إذاعية، أو تسجيل أسطواني، أو شريط سينمائي ناطق.
ومن هنا نستخلص من أشكال وأنواع الوثائق إن لها دوراً إنسانياً وحضارياً عظيماً وهي تساعد في عملية التوثيق التي تهدف إلى تجمع الوثائق لغرض البحث العلمي، أوالتنظيم، والتخطيط، والتطوير الإداري، وتوفير المعلومات، وكل ما يتعلق بالدراسات المقارنة وقد عبرت تلك الأنواع والإشكال عن الإنسان وواقعه. [7]
المبحث السادس
دوافع التوثيق في الحضارة الحديثة
التوثيق تم تداوله بين المهتمين بالشأن التوثيقي لما يمثله من أهميه بالبالغة في العصر الحديث، فبعد اتساع رقعة المعرفة وزيادة الاتصال والتواصل بين مختلف الأدوات العلمية وتطورها لدرجة أصبح هناك ما يعرف أي مجتمع بلا ورق، و أصبحت الحاجة ماسة للتوثيق سواء كان ذلك توثيقاً لأحداث أو توثيقاً فنياً لوثائق الإحداث، و نظراً لتعقد الأمور وتطورها بسرعة مذهلة والاندفاع التكنولوجي غير المسبوق حتم علينا إن نتطور معه ونواكبه بعملية توثيق لكي تسهل علينا عملية استرجاع تلك الإحداث ووثائقه، وهنا انتقل التوثيق من الحجري إلى الورقي إلى فلمي وإلى ضوئي ومن ثم توثيق آلي أو الكتروني مما خلق حاجة ماسة لاتساع رقعة التوثيق بشكل مكثف ومعمق، لكي نصل بالنهاية إلى ما نحتاجه من معلومة معينة بين ملايين المعلومات التي يحتويها وعاء الحفظ، لذلك لا بد من التوثيق كمرحلة أولى وبعدها يتم حفظ الوثاق أو الوثيقة على أي من وسائط الحفظ المعروفة والمتداولة في مراكز حفظ الوثائق.[8]
انتهى البحث
وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
[1] انظر: البداية والنهاية، ابن كثير، 1/ 82.
[2] انظر: الموسوعة الحرة (ويكيبيديا)، الاطلاع على الموقع في تاريخ 1/ 7/ 1436هـ.
[3] أخرجه البخاري في صحيحه.
[4] سورة الرعد، آية 19.
[5] انظر: مقدمة ابن خلدون، ص411.
[6] انظر: الموسوعة الحرة (ويكيبيديا)، الاطلاع على الموقع في تاريخ 1/ 7/ 1436هـ.
[7] انظر: علم الأعلام الوثائق والمحفوظات، عبدالله أنيس طباع، ص34.
[8] انظر: ألدبلوماتك علم دراسة الوثائق ونقدها، سالم الألوسي، ص89.
↧
September 14, 2016, 7:08 pm
المزي لا المزني (1)
د. عبدالحكيم الأنيس
من حفاظ الحديث الكبار الحافظ المِزّي: يوسف بن عبدالرحمن القضاعي الكلبي، وقد عاش في القرنين السابع والثامن (654-742هـ)، وهو علم معروف.
والمزي: نسبة إلى المزة (كانت من ضواحي دمشق)[1].
ومن الأنساب المشهورة أيضاً: المُزَني، وممن يُعرف بهذه النسبة الإمام الفقيه إسماعيل بن يحيى تلميذ الإمام الشافعي، وقد عاش في القرنين الثاني والثالث (175-264هـ).
والمزني: نسبة إلى مزينة (من مضر)[2].
ولقرب رسم الحروف حصلَ تحريفٌ، فانقلب (المزي) الى (المزني) بزيادة نونٍ لا ينبغي أن تُزاد.
وقد وقع هذا في عدة كتب منها:
1- فيض القدير بشرح الجامع الصغير للمناوي (ت:1031هـ):
♦ ففي (1/101): "ما رواه المزني في "التهذيب" أنَّ الحجاج سأل عكرمة...".
والصواب: المزي، انظر: تهذيب الكمال (20/276).
♦ وفي (2/200): "حتى قال المزني في ترجمته: لا يعرف له كنية".
يَقصد كعب بن عاصم. انظر: تهذيب الكمال (24/177).
♦ وفي الكلام على حديث: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" (4/268): "قال المزني: روي من طرق تبلغ رتبة الحسن".
♦ وفي (5/260): "قال الهيثمي (أي في مجمع الزوائد 5/401): فيه يزيد بن أبي زياد مولى ابن عباس (كذا والصواب: عياش) ذكره المزني في الرواية (كذا والصواب: ذكره المزي في الرواة) عن أبي رافع"[3].
◘ ◘ ◘ ◘ ◘
2- فتح المغيث بحكم اللحن في الحديث لأبي عبد الله محمد الإفراني الصغير (ت بعد: 1154هـ):
جاء فيه ص 59 من طبعة دار الكتب العلمية: "قال الذهبي:...وكان المزني يسرع ويبين، وربما تمتمَ يسيراً".
وجاء على الصواب: (المزي) في طبعة الدكتور أحمد عبدالكريم نجيب ضمن مجلة (قطر الندى)، العدد السابع، ص196.
◘ ◘ ◘ ◘ ◘
3- تطبيق حكم الطريقة العلية على الأحكام الشرعية النبوية لأبي الهدى الصيادي (ت:1327هـ):
جاء فيه ص271 بعد ذكر حديثٍ: "ذكره الحافظُ جمال الدين المزني في التهذيب".
وجاء على الصواب ص274، ولكن لُقِّبَ هنا كمال الدين! وهو جمال الدين كما سبق.
◘ ◘ ◘ ◘ ◘
4-الكنى والألقاب لعباس القمي (ت: 1359هـ):
جاء فيه في ترجمة الشيخ تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي (2/308): "قرأ على المزني".
◘ ◘ ◘ ◘ ◘
والصواب في هذا كله: (المزي).
المصادر:
1- الأعلام للزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، ط 11(1995م).
2- تطبيق حكم الطريقة العلية على الأحكام الشرعية النبوية للصيادي، ضمن مجموعة كتبٍ له طبعت بعنوان: أشرف الوسائل في تحقيق أدق المسائل، تحقيق: عبد الحكيم بن سليم عبدالباسط. ط1(1389هـ) دون ذكر المكان، وهو دمشق.
3- تهذيب الكمال للمزي، تحقيق: بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة.
4- فتح المغيث بحكم اللحن في الحديث لأبي عبد الله محمد الإفراني الصغير، تحقيق: عبد المجيد خيالي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1 (1424-2003م).
5- فيض القدير بشرح الجامع الصغير للمناوي، مصورة دار الفكر، بيروت.
6- الكنى والألقاب لعباس القمي، تقديم محمد هادي الأميني، مكتبة الصدر، طهران ط 5 (1359).
7- مجمع الزوائد للهيثمي، ضمن المكتبة الشاملة.
8- المغيث بحكم اللحن في الحديث (هكذا من غير: فتح) للإفراني، تحقيق: أحمد عبدالكريم نجيب، نشر في مجلة (قطر الندى) الصادرة عن مركز نجيبويه للمخطوطات وخدمة التراث، العدد السابع، السنة الثانية، رمضان، (1431هـ).
[1] ترجمته في الأعلام (8/236).
[2] ترجمته في الأعلام (1/329).
[3] وهناك موضعان في "فيض القدير" فيهما حاجةٌ إلى مزيد بحث، ففي (1/41): "وقد جزم بضعف جنادة المذكور جمعٌ منهم المزني وغيره"، وفي (1/152): "ووحشي هذا قال فيه المزني والذهبي: فيه لين".
↧
September 14, 2016, 7:41 pm
النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان (9)
رمضان التاسع في السنة العاشرة
(وهو الأخير)
د. عبدالحكيم الأنيس
في هذه السنة توفِّي إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم:
قال ابن حجر: "وقد ذكر جمهور أهل السير أنه مات في السنة العاشرة من الهجرة:
فقيل: في ربيع الأول.
وقيل: في رمضان.
وقيل: في ذي الحجة.
والأكثر على أنها[1] وقعَت في عاشر الشهر.
وقيل: في رابعه.
وقيل: في رابع عشرة.
ولا يصح شيء منها على قول ذي الحجَّة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذ ذاك بمكَّة في الحج، وقد ثبت أنه شهد وفاته وكانت بالمدينة بلا خلاف، نعم قيل: إنه مات سنة تسع، فإن ثبت يصح، وجزم النووي بأنها كانت سنة الحديبية، ويجاب بأنه كان يومئذ بالحديبية ورجع منها في آخر الشهر..."[2].
قلت: والمعروف أن الشمس كُسِفَت يوم وفاة إبراهيم، وقد حقَّق محمود باشا الفلكي في كتابه "نتائج الأفهام في تقويم العرب قبل الإسلام وفي تحقيق مولده وعمره عليه الصلاة والسلام" أنَّ كسوف الشمس في المدينة كان في الساعة (8) والدقيقة (30) بعد نصف الليل من يوم (27) يناير سنة (632 م).
قال: "وبناء على ذلك يكون اليوم التاسع والعشرون من شوال من السنة العاشرة للهجرة موافقًا لليوم السابع والعشرين من يناير سنة (632)"[3].
وعلى هذا فيكون إبراهيم في رمضان هذا حيًّا، ولنا أن نتصوَّر سعادة النبي صلى الله عليه وسلم وسروره بوجوده.
♦ ♦ ♦
في رمضان هذا كانت سريَّة علي رضي الله عنه الثانية إلى اليمن[4].
♦ ♦ ♦
وفيه قدم وفد غسان وهم ثلاثة نفر[5].
وفيه كان قدوم جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه؛ على قول محمد بن عمر الأسلمي[6].
♦ ♦ ♦
وفيه اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم عشرين يومًا:
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كلِّ رمضان عشرة أيام، فلمَّا كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يومًا[7].
وفي حديث ابن ماجه عن أبي هريرة قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يَعتكف كلَّ عام عشرة أيام، فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يومًا، وكان يعرض عليه القرآن في كل عام مرة، فلما كان العام الذي قُبض فيه عُرِضَ عليه مرتين"[8].
وعن هذا يقول ابن عباس:
"كان النبي صلى الله عليه وسلم أجودَ النَّاس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كلَّ ليلة في رمضان حتى ينسلخ[9]، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآنَ، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة"؛ رواه البخاري[10].
ويقول أيضًا: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل شهر رمضان أطلق كلَّ أسير، وأعطى كل سائل"[11].
♦ ♦ ♦
وبعد هذه الجولة المباركة مع وقائع حياة النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، مما نُصَّ على تاريخه، أو اجتهدت في معرفة تاريخه استدلالًا واحتمالًا، ننتقل إلى ذِكر شيء من أحواله العامَّة، سائلين اللهَ تعالى أن يقرِّبنا من النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به صيامًا وقيامًا وسلوكًا:
[1] أي: وفاة إبراهيم.
[2] فتح الباري (2/ 529)، وانظر: الإصابة (1/ 175).
[3] نتائج الأفهام صـ (19)، وانظر: أيام حياة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم صـ (21).
[4] انظر: السيرة الشامية (6/ 238).
[5] المصدر السابق (6/ 391).
[6] انظر تفصيل قدومه في المصدر السابق (6/ 311، 312).
[7] صحيح البخاري، كتاب الاعتكاف: باب الاعتكاف في العشر الأوسط من رمضان (4/ 284 - 285).
[8] سنن ابن ماجه، كتاب الصيام: باب ما جاء في الاعتكاف (1/ 562)، وانظر: فتح الباري (4/ 285)، وزاد المعاد (2/ 89).
[9] يدلُّ هذا على أن اللِّقاء والمعارضة كانت كل ليلة، فما قيل من أن سبب اعتكافه في رمضانه الأخير عشرين ليلة لأن المعارضة كانت مرتين (كما نقل في الفتح 4/ 285) ففيه نظر، فالمعارضة لم تكن مختصة بالاعتكاف.
[10] صحيح البخاري، كتاب الصوم: باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان (4/ 116).
[11] أخرجه البزار والبيهقي؛ الدر المنثور (1/ 194).
↧
↧
September 14, 2016, 7:47 pm
تجميد البويضات ... تقنية طبية جديدة توفر فرص الانجاب للنساء في سن متقدمة
الدكتورة وفاء عبد الله محسن
لم تخف "ريما " 33 عاما مخاوفها من سنوات العمر التي تمر بها دون ان تدخل القفص الذهبي كما يطلقون عليه فالزواج بالنسبة لها ليس هدفا اساسيا في حياتها وهي الموظفة في احدى البنوك.
لكن فكرة انجاب طفل والمرور بتجربة الامومة هي مصدر قلقها الدائم في الوقت الذي لا تعلم ريما وغيرها من الفتيات اللواتي بدان في عمر الثلاثنيات متى يمكن ان يتزوجن فان الخوف من عدم القدرة على الانجاب كلما اقتربن من عمر الاربعين يزيد من قلقهن خاصة وان اطباء النسائية والتوليد يحذرون من صعوبة الحمل بعد عمر الخامسة و الثلاثون للمرأة وتراجع فرص الانجاب لديها بشكل واضح.
هذه التاكيدات الطبية ليست بالضرورة ان تنطبق على جميع النساء الا انها حقائق واقعية يعتمد عليها الاطباء الذين يفضلون ان تنجب المراة اطفالها قبل هذا العمر خاصة مع احتمالية زيادة المشاكل المترافقة مع الحمل في مثل هذه الاعمار.
مخاوف كثير من النساء اللواتي لم يتزوجن بعد حيال الانجاب هي مخاوف تمكن الطب التعامل معها مؤخرا من خلال تقنية يطلق عليها "تجميد البويضات" لدى النساء في العمر المناسب لتتمكن المراة من استخدام هذة البويضات في اي سن تريد بهدف الحمل و الانجاب ولو بعمر متاخر كسن الاربعين او الخمسين.
الدكتورة وفاء عبد الله محسن اخصائية النسائية و التوليد وعلاج العقم اشارت الي انه بتقدم العلم فقد اصبح بالإمكان أن نعمل على تجميد البويضات بتكلفة مقبولة في حالات عديدة كاصابة المراة بالسرطان وتناولها للادوية الكيمائية او الاشعة التي تؤثر على قدرتها الانجابية.
واضافت ان تقنية تجميد البويضات تستخدم في مثل هذه الحالات حيث يمكن الإستفادة من هذه البويضات وتخصيبها بالحيوانات المنوية للحصول على الأجنة وإرجاعها الى الرحم الذي لا يتضرر من الأدوية الكيماوية وإنجاب طفل سليم معافى بأذن الله
واشارت محسن ان هذه التقنية من احدث التقنيات المستخدمة الآن في حقل الخصوبة والمساعدة على الإنجاب، ونحن نستخدمه الآن للسيدات اللواتي سيتعرضن لعلاج كيمائي أو علاج بالأشعة.
وبينت محسن ان هذه التقنية تستخدم ايضا للنساء اللواتي لم يتزوجن بعد وتخشى إذا تأخر عمر الزواج أن تفقد قدرتها على الحمل والإنجاب ولذلك فنحن نقوم الآن تجميد البويضات لحين الحاجة إليها.
واكدت محسن اهمية هذه التقنية التي تكون غائبة عن اذهان الكثيرات من النساء اللواتي لا يعلمن متى يمكنهن الزواج وفي حال تأخرهن بالزواج فان فرص الانجاب تقل بشكل ملحوظ.
وتؤكد مصادر طبية مختصة بامراض النسائية بان هناك نساء يتزوجن في اعمار متاخرة ويبدأن رحلتهن في العلاج منذ بداية الزواج لان المراة تكون قد قلت خصوبتها بشكل ملحوظ مما يؤثر على الحمل.
واشارت المصادر الى ان التاخر بالزواج له سلبيات كثيرة خاصة بالنسبة للنساء اضافة الى مشاكل قد ترافق الحمل مؤكدين ان تقنية تجميد البويضات تعتبر الملاذ الحقيقي والامن لكثير من النساء سواء على صعيد التاخر بالزواج او في حالات اصابتهن بامراض قد تعيق الانجاب كالاصابة بالسرطان او امراض اخرى لها تاثير على الانجاب.
ويبقى تقدم العلم في هذا المجال وان كان غائبا على اذهان الكثير من النساء اللواتي يتاخرن بالزواج او اللواتي اصبن بامراض ويخشين من فقدان قدرتهن على الانجاب يبقى يشكل املا حقيقيا لهن بالقدرة على الانجاب وتحقيق حلم الامومة الذي يراود كل امرأة قد لا تستطيع تحقيقه في وقتها الحاضر الا ان ضمان الحلول وابقاءها قائمة هو احدى الفرص المتاحة امام النساء في اعمار معينة قد تتلاشى كلما تقدم العمر بها دون ان تعمل على استغلالها بالشكل الصحيح.
↧
September 14, 2016, 7:51 pm
![]()
الفيتامينات ومرافقات الأنزيمات VITAMINS AND COENZYMES
د. ماجد عيسى
1- المقدمة
يستعمل التعبير فيتامين Vitamin للدلالة على عامل غذائي ضروري يحتاجه الكائن الحي بكميات صغيرة، والذي يؤدي غيابه إلى بعض الاعراض أو الامراض الناشئة عننقصه. أما وصف الأعراض الناشئة عن نفص الفيتامينات، أو الكميات اللازمة لمعالجتها، فإنها تقع في نطاق علم التغذية. في هذا الجزء سوف ننتطرق إلى العلاقة بينالفيتامينات ومرافقات الانزيمات.
فلقد عرف الآن – كما سنرى بعد قليل – أن العديد من مرافقات الانزيمات تحتوي على أحد الفيتامينات كجزء من تركيبها البنائي. وبما لا شك فيه أن هذه العلاقة هي التيأضافت على الفيتامينات ذلك الدور الحيوي الهام الذي تلعبه داخل الكائن الحي بالإضافة إلى وظائفها الأخرى.
وقد كانت الأبحاث الأولية التي أدت إلى ايجاد تلك العلاقة في مرافقات الانزيمات والفيتامينات من أهم الأبحاث في ميدان للكيمياء الحيوية، وذلك لأنها أوجدت نموذجاً اتبع فيجميع الدراسات التي تلتها والمختصة بايجاد علاقات بين الفيتامينات ومرافقات الانزيمات الأخرى. وقد بدأ العالم الألماني Otto Warburg تلك الأبحاث عندما نشر (سنة 1932)أول بحث من سلسلة الدراسات الكلاسيكية حول اثنين من مرافقات الانزيمات.
كان واربورغ يدرس نظاماً انزيمياً موجوداً في الخمائر Yeast – يلامس اكسدة الجلوكوز -6- فوسفات إلى حمض -6- فوسفوجلوكونيك. وقد تبين أن ذلك التفاعل يتطلب وجودنوعين من البروتينات (يمكن الحصول عليهما من الخميرة) بالإضافة إلى مرافق انزيمي يمكن عزله من كريات الدم الحمراء. وقد سمى الانزيم اللازم لملامسة هذا التفاعلبالاسم الالماني Zwischenferment وهو عبارة عن انزيم نازع للهيدروجين Dehydrogenase. أما المرافق الانزيمي الذي يحتاجه ذلك الانزيم فقد اطلق عليه اسم Coenzyme IIوذلك لأنه يشبه تركيبه مرافقاً انزيمياً آخر كان يسمى Coenzyme I، والذي تمكن العالمان Harden and young – قبل عدة سنوات – من اثبات علاقته بتفاعلات التخمر اللاهوائيللكربوهيدرات. وقد تبين أن المرافق الانزيمي I يشبه في تركيبه البنائي الادينوزين أحادي الفوسفات AMP المستخرج من العضلات وذلك لأن هذا المركب الأخير (AMP) ينتجمن التحليل الانزيمي للمرافق I.
وقد كشفت ابحاث واربوغ عام 1935 على أن المرافق الانزيمي II يحوي قاعدة نتروجينية أخرى (بالإضافة إلى الادينين) وهي مشتقة من حمض النيكوتينيك (وقد عرف فيمابعد -1937- أنه أحد الفيتامينات) وتسمى نيكوتيناميد Nicotinamide. وتلك كانت أول اشارة إلى علاقة الفيتامينات بمرافقات الانزيمات. واعتماداً على تلك المعلومات وغيرها –مما لا مجال للدخول في تفاصيله – فقد أمكن كتابة الصيغة البنائية لكل من المرافقين الانزيميين I و II (انظر الفقرة التالية): وسيقسم هذا الفصل إلى قسمين، القسم الأولوسيقتصر البحث فيه على الفيتامينات التي تدخل في بناء مرافقات الانزيمات حيث سنبين تركيب الفيتامين والمشتق الذي يؤلف من مرافق الانزيم ومنه وميكانيكية عملالمرافق الانزيمي أي كيفية تأديته لوظيفته الحيوية، وكذلك التفاعلات التي يشترك فيها.
أما القسم الثاني من هذا الفصل فيشتمل على دراسة مختصرة لأهم الفيتامينات التي لا تدخل في تركيب مرافقات الانزيمات. وسنكتفي عند ذلك ببيان التركيب البنائي للفيتامينومصادر وجوده بالإضافة إلى وظيفته الحيوية.
القسم الأول: الفيتامينات التي لها وظيفة مرافقات الانزيمات
2- حمض النيكوتينيك – نيكوتيناميد Nicotinic Acid - Nicotinamide
تركيبه: غالباً ما يشار إلى الفيتامين المسمى بهذا الاسم بكلمة (نياسين) Niacin التي هي الاسم المستعمل الشائع له، سواء أكان الحمض بصورته الحرة أم المشتق الاميدي منه.ينتشر بكثرة في الأنسجة البناتية والحيوانية، وتعتبر منتجات اللحوم والذرة الصفراء من المصادر الممتازة لهذا الفيتامين.
وصورة مرافق الأنزيم من هذا الفيتامين تظهر في المركبين الهامين التاليين:
1- نيكوتيناميد ادينين نيوكليوتايد nieotinamide Adenine Dinucleolide وهو مرافق الانزيم الأول Coenzyme I ويرمز له اختصاراً NAD+، وكان يعرف قبل عام 1961 باسم دايفوسفوبيريدين نيوكليوتايد ويرمز له اختصاراً (DPN+).
2- المشتق الفوسفاتي للمركب الأول NAD+ - Phosphate وهو مرافق الانزيم الثاني Coenzyme II (اللذين اكتشفهما واربورغ) ويرمز له اختصاراً NDAP+. وكان يعرف قبل عام1961 باسم تراي فوسفوبيريدين نيوكليوتايد ويرمز له اختصاراً (TPN+)، وهي الأسماء التي اطلقها واربورغ.
وهذا المرفقان الأنزيمان يوجدان بكثرة في الطبيعة، ويفترض أن سبب ذلك هو دورهما الرئيسي في عمليات الاكسدة الحيوية.
الوظيفةالحيوية: يستعمل الاسم بيريدين نيوكليوتايد Pridine Nucleotide للدلالة على المرافقين الانزيميين NAD+، NADP+. ويعمل هذان المركبان كمرافقات للانزيمات التيتلامس تفاعلات الاكسدة والاختزال الحيوية والتي يحدث فيها نزع للهيدروجين، أي الانزيمات النازعة للهيدروجين Dehydrogenases. وعلى سبيل المثال، ففي التفاعل الذييتأكسد بواسطته الجلوكوز – 6 - فوسفات إلى حمض – 6 – فوسفوجلوكونيك والذي يلامسه الانزيم Glucose – 6 – Phosphate Dehydrogenase، يحدث في نفس الوقت اختزالمرافق الانزيم الثاني NADP+ إلى NADPH. كذلك فالانزيم الموجود في الخمائر Alcohol Dehydrogenase والذي يؤكسد كحول ايثانول إلى اسيتالدهيد يختزل مع مرافق الانزيمNAD+ إلى NADH،
ويكتب ثابت الاتزان الظاهري (Kapp.) لهذا التفاعل كما يلي:
[CH3CHO] [NADH] |
Kapp = |
[CH3CH2OH] [NAD+] |
وقد قيس ثابت الاتزان ذلك فوجد أنه يساوي 10 ْ تقريباً عند pH=9، مما يدل على علاقته بتركيز أيونات الهيدروجين وذلك لأن أيونات [H+] تعتبر احدى نواتج التفاعل. ويتضحمن تلك القيم أن التفاعل من اليسار إلى اليمين (أكسدة الكحول) يميل إلى الحدوث بدرجة أكبر في درجات pH المرتفعة. ولفهم الطريقة التي يؤدي بها مرافق الانزيم عمله فيالتفاعل السابق (وهو نزع ما يعادل جزيء – أي ذرتين – هيدروجين من مادة التفاعل وهي الكحول الايثيلي، وبذلك يتحول من الحالة المؤكسدة NAD+ إلى الحالة المختزلةNADH وينطلق مكافيء واحد من أيونات الهيدروجين لكل مول من مرافق الانزيم)، لا بد لفهم ذلك من القاء نظرة على التركيب البنائي لمرافق الانزيم NAD+ (وينطبق نفسالكلام تماماً على المرافق الآخر NADP+).
ويتم اختزال مرافق الانزيم بإضافة بروتون واحد (H+) مع الكترونين إلى حلقة البيريدين. ويمكن أن يحدث هذا في خطوة واحدة بإضافة أيون هايدرايد – (H:) إلى حلقةالبيريدين المؤكسدة في الموضع رقم 4، والمعروف أن ذرة الهيدروجين المضافة تدخل فعلاً في ذلك الموضع.
ويمكن تصور ذلك بوضوح إذا كتبنا الصورة الطنينية لمرافق الانزيم المؤكسد NAD+ وفيها يكتسب الكربون في الوضع رقم 4 الشحنة الموجبة (أي ينتقل الالكترون من تلكالذرة إلى ذرة النتروجين لمعادلة الشحنة الموجبة الموجودة عليها في الأصل.
وباعتبار أنه يحدث نزع ما يعادل ذرتي هيدروجين من مادة التفاعل وإضافة ذرة واحدة مع الكترونين إلى حلقة البيريدين، فإن البروتون اللازم لموازنة التفاعل ينطلق فيالوسط الذي يحدث فيه ذلك التفاعل.
ومن المهم أن نشير إلى الطريقتين العامتين اللتين تؤدي بهما النيوكليوتيدات البيريدينبة عملها. فالانزيمات النازعة للهيدروجين والتي تحتاج إلى NADP+ أو NAD+ كمرافقاتانزيمية تلامس التفاعلات التي تجري فيها أكسدة الكحولات (أولية وثانية) Primary and Secondary Alcohols والالدهيدات والاحماض الكربوكسيلية التي تحوي مجموعةهيدروكسيل في الموضع ألفا أو بيتا، وكذلك الأحماض الأمينية – الفا. وجميع هذه التفاعلات غالباً ما تكون عكسية، إلا أنه في بعض الأحوال قد تدل قيمة ثابت الاتزان للتفاعلعلى أن الظروف الفيزيولوجية لا تسمح للتفاعل إلا بالسير في جهة واحدة (غير عكسي). وفي مثل هه الحالة قد ينتج عن ذلك أما اكسدة أو اختزال مرافق الانزيم NAD+ أوNADP+ التي تتطلبها تلك الانزيمات.
أي أن مرافق الانزيم – في مثل هذه الأحوال – يستطيع استقبال الالكترونات مباشرة من مادة التفاعل المختزلة ويعطيها مباشرة إلى مادة تفاعل أخرى موجودة في الحالةالمؤكسدة فيما يسمى بالتفاعل المزدوج Coupled Reaction الذي سبق ذكره. وعلى هذا فإن اختزال الاسيتالدهيد إلى ايثانول يرتبط في تفاعل مزدوج مع أكسدة فوسفاتالجليسرالدهيد إلى حمض الجليسريك ثنائي الفوسفات في وجود الانزيم .Triosephosphate Dehydrogenase
والجدول التالي يبين أهم التفاعلات التي تشترك فيها البيريدين نيوكليوتايد كمرافقات للإنزيمات
مادةالتفاعل |
ناتجالتفاعل |
الانزيم |
مرافقالانزيم |
Substrate |
Product |
ايثانول |
اسيتالدهيد |
Alcohol Dehydrogenase |
NAD+ |
حمض اللاكتيك |
حمض البيروفيك |
Lactic |
NAD+ |
جلوكوز -6- فوسفات |
6- فوسفوحمض جلوتونيك |
Glucos-6-phosphate |
NADP+ |
حمض جلوتاميك |
حمض الفاكيتو جلوتاريك |
Glutamic |
NAD+ NADP+ |
حمض الماليك |
حمض بيروفيك + CO2 |
Malic Enzyme |
NADP+ |
فوسفات جليسرالدهيد |
حمض 3.1 – داي فوسفو |
Glyceraldehyde-3- |
NAD+ |
(+ حمض فوسفوريك) |
جليسيريك |
Phosphate Dehydrogenase |
|
نترات |
نتريت |
Nitrate Reductase |
NADPH |
جلوتاثيون (مؤكسد) |
جلوتاثيون (مختزل) |
Glutathione Reductase |
NADPH |
حمض ايسوستريك |
حمض الفاكيتو جلوتاريك CO2+ |
Isocitric Dehydrogenase |
NAD+ |
أما الطريقة الأخرى التي تؤدي بها المرافقات الانزيمية البيريدينية عملها فهي في اختزال نوع آخر من مرافقات الانزيمات تسمى بالمرافقات الفلافينية Flavine Coenzymesوالتي سيلي شرحها بالتفصيل في الفقرة التالية. وهذه المرافقات عبارة عن المجموعة اللابروتينية لانزيمات اخرى تقوم أيضاً باكسدة واختزال المواد العضوية البيولوجية.ويشكل ذلك الاختزال حلقة ارتباط بين تلك المواد والمرافقات البيريدينية السابقة الذكر. وعلى سبيل المثال فإن اختزال الجلوتاثيون المؤكسد يتم بواسطة الانزيم المختزلللجلوتاثيون الذي يشترك معه أحد المرافقات البيريدينية.
وفي الواقع فإن عملية الاختزال تلك تتم على مرحلتين: في الأولى يقوم المرافق البيريديني باختزال المرافق الفلافيني (FAD) ويحوله إلى الصورة المختزلة، ثم يقوم هذا بدورهاختزال الجلوتاثيون المؤكسد والمعادلة الأولى هنا تمثل الطريقة الأخرى لعمل المرافقات البيريدينية
3- الرايبوفلافينوالمرافقاتالفلافينية Riboflavin and Flavine Coenzymes
يتألف الرايبوفلافين – وهو فيتامين B2 – من السكر الكحولي ريبيتول Ribitol – D (المشتق من الرايبوز) متحداً مع حلقة ايسواللوكسازين Isoalloxazine مستبدلة.
عرف هذا الفيتامين كعامل نمو للفئران وذلك أثناء الدراسات المختلفة التي أجريت لمعرفة المواد التي يمكن اعتبارها عوامل نمو لتلك الحيوانات. ويحصل على الفيتامينتجارياً من بيئات بعض أنواع الكائنات الحية الدقيقة التي تنتجه بنسبة عالية، ومن أهم الخصائص الكيميائية للرايبوفلافين هو تحوله من اللون الأصفر إلى عديم اللون لدىاختزاله، ثم عودة اللون الأصفر إليه إذا ما عرض للهواء ثانية (أكسدة).
وقد أمكن معرفة التركيب البنائي لكل من الصورتين المؤكسدة والمختزلة، وفي كل منهما يمثل الحرف R سكر الريبيتول: كما يظهر من هاتين الصيغتين، فإن عملية الاختزالتتم بإضافة ذرتي هيدروجين ( 2 بروتون + 2 الكترون) إلى "منطقة العمل" في مرافق الانزيم وهي ذرتي النتروجين في الحلقتين المتجاورتين.
يوجد هذا الفيتامين في الطبيعة كأحد مكونات المرافقات الانزيمية المعروفة بالمرافقات الغلافينية، والتي هي عبارة عن مركبين:
الأول: يسمى فلافين وحدي النيوكليوتايد Flavine mononucleotide الذي يرمز له بالأحرف FMN اختصاراً. فلافين وحيد النيوكليوتايد (رايبوفلافين احادي الفوسفات) FMN
والثاني: يسمى فلافين ادينين ثنائي النيوكليوتايد Flavine Adenine Dinucleotide الذي يرمز له بالأحرف FAD اختصاراً.
وتجدر ملاحظة أن الأسماء المعطاة للمرافقين الانزيميين السابقين ليست دقيقة من لناحية الكيميائية لأن اسم (نيوكليوتايد) لا بد أن يشتمل – حسب التعريف – على سكرلارايبوز وليس المشتق الكحولي منه أي ريبيتول.
الوظيفةالحيوية: عرف المركب FAD لأول مرة كمركب للانزيم الذي يؤكسد الأحماض الامينية من النوع (D-Amino –Acid Oxidase) D. وينتمي هذا الانزيم إلىمجموعة من البروتينات تسمى البروتينات الفلافينية Flavoproteins التي تلامس تفاعلات التأكسد والاختزال الحيوية. ومن الصعف تحديد انواع التفاعلات التي تشترك فيها تلكالبروتينات (الانزيمات) بشكل عام.
والجدول التالي يبين أهم التفاعلات التي تشترك فيها تلك الانزيمات.
ومن المهم أن تعرف أنه يعكس الانزيمات النازعة للهيدروجين والتي تحتاج إلى مرافقات بيريدينية (NADP+, NAD+) فإن المجموعة اللابروتينية FMN و FAD ترتبط بجزيءالانزيم البروتيني ارتباطاً وثيقاً بحيث أنها – أي تلك المرافقات – تبقى مرتبطة مع الانزيم إلا بالمعاملة بحمض على البارد أو ربما مع الغليان، وهذه العملية تحطم الطبيعةالبروتينية للانزيم، وبسبب ذلك فإن فصل مرافق الانزيم بهذه الطريقة عملية غير عكسية. أما المعاملة بحمض على البارد فإنها عملية عكسية، يعود بعدها نشاط الانزيم بإضافةالمرافق إليه.
مادةالتفاعل
(معطيالالكترونات) |
ناتجالتفاعل |
المستقبلالالكتروني |
الانزيم |
مرافقالانزيم |
أحماض أمينية - D |
أحماض ألفا كيتونية
NH3+ |
O2 |
D-Amino Acid Oxidase |
FAD |
NADH |
NAD+ |
سيتوكروم |
NAD+ - Cytochrome (C) Reductase |
FAD |
الدهيدات |
أحماض كربوكسيلية |
O2 |
Aldehyde Oxydase |
FAD |
حمض سكسينيك |
حمض فيوماريك |
صبغات مؤكسدة |
Succinic Dehydrogenase |
FAD |
NADPH |
NADP |
NO3 |
Nitrate Reduclase |
FAD |
حمض جليكوليك |
حمض جليوكسيليك |
O2 |
Glycolic Acid Oxidase |
FMN |
NADPH |
NADP |
NO2- |
Nitrite Reductase |
FAD |
جدول يبين أهم التفاعلات التي تلامسها انزيمات تحتاج إلى المرافقات الفلافينية
ومن المؤكد أن الانزيمات الفلافينية ومرافقاتها تعمل كمستقبل لذرات الهيدروجين من المرافقات البيريدينية المختزلة NADH، NADPH، كما سبق ذكره، وثمة تفاعل أكسدة هيدروجين من ذرتي كربون متجاورتين (وبذلك تتكون رابطة زوجية)، ويبدو أنه يحتاج إلى انزيمات ومرافقات انزيمات فلافينية. هذا التفاعل يلامسه الانزيم النازعللهيدروجين من حمض السكسينيك، الذي يتأكسد إلى حمض الفيوماريك.
وقد عرفنا فيما سبق منطقة العمل في المرافقات الفلافينية FAD، FMN، أي المكان الذي تحدث فيه إضافة ذرتي الهيدروجين. وقد أثبتت الأدلة المختلفة أن اختزال تلكالمرافقات يتم في خطوتين منفصلتين، في كل خطوة تحدث إضافة ذرة هيدروجين واحدة على إحدى ذرتي النتروجين في الحلقتين المتجاورتين في الايسواللوكسازين الداخلفي تركيب الرايبوفلافين.
4- فيتامين B1 ( ثايامين) Thiamin
لقد أمكن عزل هذا الفيتامين على الصورة الحرة، يوجد الفيتامين في الطبيعة بالصورة الحرة بتركيزات عالية نسبياً في محاصيل الحبوب (مثل القمح والرز..)، أما في الأنسجةالحيوانية وفي الخميرة فإنه يوجد بشكل رئيسي بصورة مرافق الانزيم ثايامين بيروفوسفات الذي اكتشف تركيبه البنائي الباحث Lohman عام 1937. وينتشر المرض الناتج عننقص هذا الفيتامين (والذي يسمى beri – beri) بصورة خاصة في الشرق الأقصى بسبب العادة المتبعة هناك والخاصة بإزالة الطبقة الخارجية لبذور الأرز وهي الغنيةبالفيتامين.
الوظيفةالحيوية: يشترك الثيامين بيروفوسفات كمرافق للانزيمات التالية:
1- الأنزيمات النازعة لمجموعة الكربوكسيل من الأحماض الالفا – كيتونية.
خ± – Keto Acid Decarboxylase
2- الأنزيمات المؤكسدة للأحماض الفا – كيتونية خ± - Keto Acid Oxidase.
3- الأنزيمات الناقلة لمجموعة الكربونيل Transketolase.
4- الأنزيمات Phosphoketolase.
وفي جميع هذه التفاعلات نجد أن "منطقة عمل" مرافق الانزيم هي ذرة الكربون رقم 2 في حلقة الثيازول Thiazole Ring، لأن ذرة الهيدروجين في هذا الموضع تنفصل بسهولةعلى صورة بروتون مخلفة مركزاً للشحنة السالبة على ذرة الكربون وبذلك يتكون ما يسمى كربانيون Carbanion، وهو الذي يشترك في نزع مجموعة الكربوكسيل منالأحماض ألفا – كيتونية. وهذا الأيون الكربوني السالب – كما ذكرنا – هو الذي يشترك في نزع مجموعة الكربوكسيل من الأحماض الفلكيتونية. ويبين التفاعل ميكانيكية قيامالمرافق الانزيمي توظيفته الحيوية، وهي نزع مجموعة الكربوكسيل من حمض البيروفيك (على صورة CO2) متحولاً بذلك إلى اسيتالدهيد.
5- فيتامين B6
ينتمي إلى مجموعة الفيتامين B6 ثلاثة مركبات وهي بيريدوكسال وبيريدوكسين، وبيريدوكسامين. توجد الصور الثلاث لفيتامين B6 موزعة بكثرة في الطبيعة في مصادرنباتبة وحيوانية على حد سواء. وتعتبر محاصيل الحبوب من المصادر الغنية بهذا الفيتامين. ويوجد البيريدوكسال والبيريدوكسابين في الطبيعة على صورة مشتقات فوسفاتية،وهي صورة مرافق الانزيم من ذلك الفيتامين، وهما فوسفات البيريدوكسال وفوسفات البيريدوكسامين. وتعتبر مختلف الصور التي تمثل فيتامين B6 عوامل نمو للعديد منأنواع البكتيريا.
الوظيفة الحيوية: يشترك فوسفات البيريدوكسال كمرافق انزيم في العديد من التفاعلات الحيوية الخاصة بتمثيل الاحماض الامينية، مثل نقل مجموعة الامينو Transaminationونزع مجموعة الكربوكسيل Decarboxylation وكذلك تكوين المخاليط الراسيمية (من النوعين L,D) Racemization.
وفيما يلي مثال على كل نوع من هذه التفاعلات:
أ- نقل مجموعة الامينو من حمض اميني إلى حمض الفلكيتوني وبذلك يتكون حمض اميني جديد.
ب- نزع مجموعة الكربوكسيل
ج- تكوين المخلوط الراسيمي
وتعتبر ميكانيكية قيام فوسفات البيريدوكسال بعمله كمرافق للانزيمات التي تلامس التفاعلات السابقة من العمليات المعقدة، ومع ذلك فقد تمكن العالم SNELL ومساعدوه فيجامعة كاليفورنيا من معرفة دور هذا المرافق الانزيمي في كل من التفاعلات السابقة مما ساعدهم على اقتراح مخطط يفسر ميكانيكية تلك التفاعلات، ولا يتسع المجال للدخولفي التفاصيل المعقدة لها.
6- حمضلايبويك Lipoic Acid
يوجد هذا الفيتامين على صورتين، مؤكسدة ومختزلة. اكتشف حمض اللايبويك كعامل نمو (فيتامين) لبعض الكائنات الدقيقة. ويعتبر الكبد والخميرة من المصادر الغنية بهذاالفيتامين. وان تواجده بالصورتين المؤكسدة والمختزلة ناتج عن إمكانية اختزال رابطة الكبريتيد الثنائية – كما هي الحال في حمض السيستين. وعندما يكون مرتبطاً إلىالبروتين، فمن السهولة بمكان تحليله – وبالتالي تحريره من سطح الانزيم – في وسط حامضي أو قلوي أو بالتحليل الانزيمي بواسطة الانزيمات المحللة لبروتينات. وقد تبين أنحمض اللايبويك يوجد مرتبطاً مع حمض لايسين بروابط تشاركية عندما يتواجد في معقدات روتينية ويجري تحليلها بعناية فائقة. يعتبر حمض لايبويك عاملاً مرافقاً Cofactorللمعقدات المتعددة الأنزيمات النازعة للهيدروجين من حمض البيروفيك (Pyruvic dehydrogenase) ومن حمض الفلكيتوجلوتاريك (خ±- Ketoglutaric dehydrogenase). وفي مثلهذه المعقدات فإن الانزيمات المحتوية على جذر اللايبويل تلامس عملية توليد ونقل مجموعات الأسيل (جذور الأحماض العضوية)، وأثناء تلك العملية يجري اختزالها ثمإعادة أكسدتها (بواسطة العامل المرافق الذي يتحول إلى الصورة المختزلة ثم إلى الصورة المؤكسدة ثانية).
وهناك بعض الفيتامينات الأخرى التي تقوم بدور مرافقات انزيمية (مثل البيوتين Biotein وحمض الفوليك Folic acid وفيتامين B1 2 وحمض Pantothenic) ولكن المجال لا يتسعلدراستها.
القسم الثاني: الفيتامينات التي لاتقوم بدور مرافقات أنزيمات: سيقتصر البحث على دراسة مختصرة تشمل اسم الفيتامين وتركيبه البنائي ووظيفته الحيوية (إذا كانت معروفة)وتصنف الفيتامينات التي ستدرس في هذا القسم تحت الاسم "الفيتامينات التي تذوب في الدهون "Lipid – Soluble Vitamins" حيث أن الفيتامينات التي سبقت دراستها تصنفتحت اسم "الفيتامينات التي تذوب في الماء Water – Soluble Vitamins".
وفيما يلي أهم الفيتامينات التي تذوب في الدهون أي التي لا تقوم بدور مرافقات للانزيمات:
7- فيتامين K:
هناك سلسلة أخرى من المركبات المشابهة تسمى سلسلة فيتامين K2 تختلف عن بعضها في عدد مجموعات ايسوبنتيل: ولذلك يكتب الحرف n للدلالة على عددها المتغير.
ويوجد فيتامين K1 في النباتات الخضراء بينما يتواجد أفراد سلسلة فيتامين K2 في البكتريا.
الوظيفة الحيوية: لم يعرف لهذا الفيتامين دور واضح في أي نظام انزيمي ولكن بالمقابل يبدو أن الفيتامين يلعب دوراً أساسياً تخثر الدم Blood Coagulation وهي عمليةمعقدة وحساسة جداً.
والخثرة الدموية Blood Clot (التي توقف نزيف الدم عند الإصابة بجرح) هي عبارة عن بروتين عديم الذوبان يسمى Fibrin الذي ينتج من مولده Fibrinogen وهو بروتين ذائبفي بلازما الدم الطبيعي. وهذا التحول (من فيبرينوجن إلى فيبرين) يحتاج إلى انزيم يسمى ثرومبين Thrombin، وهو انزيم محلل للبروتينات يقوم بنزع ببتيدات معينة من جزيءالفيبرينوجن الذي يستطيع بعدها أن يتحد مع نفسه (يتبلمر Polymerize) مكوناً البروتين غير الذائب الذي هو عبارة عن الخثرة الدموية.
على أن ذلك الانزيم ثرومبين لا يوجد في بلازما الدم بصورته الحرة، بل أنه ينتج من مولده Prothrombin في وجود أيونات الكالسيوم وبروتين آخر يسمى ثرومبوبلاستين.
وقد ثبت أنه عندما ينقص مستوى فيتامين K في الوجبة الغذائية، فإن مستوى مولد الثرومبين ينقص أيضاً. مما دعا الى الاستنتاج بأن الدور الذي يلعبه فيتامين K في تخثر الدمهو في انتاج البروثرومبين حيوياً إلى بلازما الدم. أما دور هذا الفيتامين في النشاطات الحيوية الأخرى فلم يتضح بعد.
8- فيتامين D:
ينتج هذا الفيتامين من أحد الستيرويدات النباتية وهو ارغوستيرول Ergosterol وذلك بتعريض هذا الأخير إلى اشعاعات من الضوء فوق البنفسجي. أما في الأنسجة الاحيوانيةفينتج فيتامين D من أحد مشتقات الكولستيرول التي يوجد فهيا بصورة طبيعية وهو Dehydrocholsterol – 7 بنفس الطريقة السابقة، وينتج منه فيتامين D3 الذي يوجد في زيتالسمك أيضاً. وجميع هذه الفيتامينات (D) ضرورية لنمو عظام الأطفال وأسنانهم بصورة طبيعية، وفي حالة نقص هذا الفيتامين يصاب الأطفال بالمرض المسمى كساحRickets، وفيه يحدث اضطراب في تمثيل الكلسيوم والفوسفات الى حد يحدث عند تغيرات في بناء العظام والأسنان. أما الطريقة التي تستطيع بها الكميات الكافية من فيتامين Dمعالجة أعراض النقص السابقة فإنها غير معروفة، علماً بأن ذلك الفيتامين يزيد من امتصاص الكالسيوم من الامعاء.
9- فيتامين A1:
والمادة الأم لهذا الفيتامين هي أحد الكاروتينويدات (Croteniods) وتسمي الفا – كاروتين وهي منتشرة بكثرة في النباتات الدنيا والراقية. أما الكاروتينويدات – وهي أكثر اشباعاًوتحتوي اوكسيجين – فتوجد في الترسبات الدهنية والحليب ونسيج العين. ويعتقد أن المواد الأساسية التي ينتج منها فيتامين A تتحلل في الأمعاء الدقيقة بصورة تأكسدية لينتجمنها ذلك الفيتامين.
ويشترك فيتامين A في عملية الرؤية Vision بالعينين وهي عملية معقدة نوضحها كما يلي:
توجد في الشبكية صبغة تسمى رودوبسين تتألف من معقد بروتيني – كاروتينويدي. والجزء الكاروتينويدي هو عبارة عن المركب 11 - Cis – Retinene خ” الذي يحوي خمسروابط زوجية كلها من النوع trans ما عدا تلك الموجودة بين الذرتين 11 و 12 فإنها من النوع Cis. عندما تتأثر الشبكية بالضوء تتحول هذه الرابطة (Cis) الى النوع trans فيتكونRetinene جميع روابطه غير المشبعة من النوع trans، ويختزل هذا المركب الأخير بواسطة NADH والانزيم Alcohol dehydrogenase في النسيج الشبكي إلى فيتامين A1(روابطه كلها trans). ثم تحدث عملية تماكب أخرى يتحول بها فيتامين (trans) A1 إلى فيتامين A 1 يحوي رابطة زوجية من النوع Cis (وهي بين الذرتين 11 و 12). ويمكن لهذهالصورة من فيتامين A 1 أن تتحول – بالأكسدة بواسطة NAD + - إلى الجزء الكاروتينويدي 11 - Cis – Retinene خ” الذي يدخل في تركيب الرودوبسين. أن هذه الصبغة تعودفتتولد –في الظلام– من اتحاد 11 - Cis – Retinene خ” - الذي ينتج من فيتامين ( 11 Cis خ”) مع الجزء البروتيني والذي يسمى Opsin.
فالرؤية اذن عبارة عن تهيد العصب البصري كنتيجة تأثير الضوء على صبغة الرودوبسين التي لا بد من اعادة توليدها كلما تحللت (إلى الجزء البروتيني Opsin والجزءالكاروتينويدي ). ويبدو بوضوح دور فيتامين A في عملية اعادة توليد الصبغة الشبكية Rhodopsin. ويجب التأكيد على أن نقص فيتامين A في الجرذان قد نتد عنه انخفاض فيوزنها بالإضافة إلى اضطرابات في هيكلها العظمي ونشاطاتها التناسلية، مما يدل على أن هذا الفيتامين يقوم بوظائف حيوية أخرى بالإضافة إلى عملية الرؤية. وتشير الدلائلالحديثة إلى أن له علاقة بالاصطناع الحيوي للسكريدات العديدة المخاطية.
10- حمضالاسكوربيك (فيتامين C) Ascorbic Acid
تستطيع النباتات والحيوانات (ما عدا بعض أنواع الخنازير والانسان) صنع حمض الاسكوربيك من الجلوكوز - D. وتلك الكائنات الحية التي لا تستطيع صنع هذا الفيتامين لايوجد فيها الانزيم L – Gulonoxidase الذي يقوم بتحويل L – Gulonolactone إلى 3 – Keto – L – Gulonolactene (أي يؤكسد الذرة الثالثة في اللاكتون إلى مجموعة كيتون)
الوظيفة الحيوية: لقد تبين أن غياب حمض الاسكوربيك من الوجبة الغذائية ينتج عنه مرض يطلق عليه الاسم Scurvy الذي يتميز بتغيرات مرضية في اللثة والأسنان. وقد عرفالاقدمون هذا هذا المرض وخاصة بين البحارة الذين يغيبون أثناء سفرهم مدداً طويلة لا يتناولون أثناءها الفواكه والخضار الطازجة التي من شأنها توفير الكميات اللازمة منفيتامين C لتجنب ذلك المرض.
وثمة ظاهرة أساسية تميز ذلك المرض وهي تغير في الأنسجة الرابطة. ففي حالات نقص فيتامين C تتغير طبيعة السكريدات العديدة المخاطية في مواد الخلية وتحدثتبدلات واضحة جداً في طبيعة الألياف المتشكلة في البروتين Collagen الذي يؤلف الأنسجة الرابطة. فقد تبين أن وجود فيتامين C أساسي لتشكل الكولاجن الطبيعي في حيواناتالتجربة التي درست عليها أعراض نقص حمض الاسكوربيك. وعلى المستوى الانزيمي، فإن هناك ما يشير إلى أن لحمض الاسكوربيك علاقة في تحويل الحمض الأمينيبرولين إلى المشتق الهيدروكسي برولين، وهو الذي يتواجد في الكولاجن بنسبة عالية بالمقارنة مع باقي الأحماض الأمينية. ومما لا شك فيه أن الدور الحيوي الذي يقوم بهحمض الاسكوربيك مرتبط بكونه عاملاً مختزلاً جيداً. فالصورة المؤكسدة منه – والتي تسمى Dehydroascorbic Acid – يمكنها أن تختزل ثانية بواسطة العديد من العواملالمختزل بما فيها الجلوثاثيون. والصورتان المؤكسدة والمختزلة من حمض الاسكوربيك تشكلان نظام أكسدة واختزال عكسي جيد. وفي حالة تكون الكولاجن فإن حمضالاسكوربيك يستطيع أن يقوم بدور العامل المختزل الخارجي الذي يلزم لتحويل البرولين إلى هيدروكسي برولين.
علما أن حمض الاسكوربيك يستطيع القيام بوظائف حيوية أخرى، منها إضافة مجموعات هيدروكسيل إلى بعض المواد مثل المركبات العطرية والأحماض الدهنية. ومنالممكن جداً أن تكون الوظيفة الحيوية لحمض الاسكوربيك مرتبطة باشتراكه في تفاعلات إضافة مجموعات هيدروكسيل في الخلية الحية.
↧
September 14, 2016, 7:57 pm
آلام الظـهـر عـند الحامـل وتـدابيـرها العلاجـيـة
وفاء احمد
تصاب المرأة اثناء فترة الحمل بآلام في الظهر. ومعظم هذه الآلام تكون في الشهور الثلاثة الأخيرة من الحمل، وقد تمتد الى ما بعد الولادة لتصل الى ستة أشهر.
وتنقسم هذه الآلام، حسب الاختصاصيين، الى ثلاثة أنواع هي:
النوع الأول: ألم يصيب أسفل الظهر، ويمتد الى الساقين.
النوع الثاني: ألم يصيب المفصل الحرقوفي، ويكون عميقاً في منطقة الاليتين، وقد يمتد الى الناحية الخلفية، أو الجانبية للفخذ. وعادة يظهر هذا النوع من الألم، كلما تقدم الحمل، وفي بعض الاحيان يمتد الى فترة ما بعد الولادة.
النوع الثالث: ويعرف بالألم الليلي، وهو ألم يصيب منطقة أسفل الظهر، وتشعر به المرأة الحامل عند الاستلقاء للنوم ليلاً.
أسباب المرض
وأرجع هؤلاء الاختصاصيون هذا المرض الى أسباب عديدة تؤدي الى الاصابة بهذه الأنواع من الآلام منها:
· التغيرات الطبيعية التي تحدث أثناء فترة الحمل.
· زيادة الوزن اثناء الحمل.
· تغيرات وزيادة في افراز بعض الهرمونات، التي تسبب زيادة رخاوة الأربطة والعضلات.
· تغيرات في مركز ثقل الجسم.
· آلام ظهر ترجع الى العوامل نفسها، التي تحرك آلام الظهر لدى النساء غير الحوامل، اذ قد تصاب كل من الأربطة والعضلات والمفاصل والديسك بالارهاق، جراء وضع الجسم السيئة، والأساليب الخاطئة في حمل الأشياء الثقيلة، والعضلات الضعيفة أو التعرض لاصابة ما.
وتظهر آلام أسفل الظهر عند ممارسة بعض أنواع الأنشطة مثل المشي، والوقوف مدة طويلة، والجري، والانحناء الى الأمام، والتقلب على السرير وحمل الأشياء.
وكلما تقدم الحمل وازداد وزن الجنين ازداد التوتر والعبء الواقع على المفاصل والأربطة في منطقة أسفل الظهر، وإزداد ضعف عضلات البطن، وفي الوقت نفسه تزداد إفرازات بعض الهرمونات التي تعمل على رخاوة العضلات والأربطة بهدف زيادة مرونة وتمدد قناة الولادة.
ولا يقتصر تأثير هذه الهرمونات على حوض المرأة الحامل، فقط، وإنما يمتد ليشمل جميع المفاصل، بما فيها مفاصل العمود الفقري. ويؤدي هذا إلى أن يفقد العمود الفقري قدرته ومرونته الكاملة على مواجهة الضغوط والتوترات المتزايدة بسبب القوام الجديد للمرأة الحامل وزيادة وزن الجنين.
أما النوع الثاني المتعلق بألم المفصل الحرقوفي، فإنه يكون عادة ناتجاً عن إفراز أنواع من الهرمونات تسبب مرونة فى المفاصل وإرتخاء فى الأربطة المحيطة بها، ويزداد الألم أثناء الوقوف أو المشي أو قيادة السيارة مسافة طويلة، وعند الإستلقاء على السرير أو النهوض منه.
أما بالنسبة لآلام أسفل الظهر الليلية، فإن هذا النوع من الآلام يبدأ عند الإستلقاء على الفراش، ويسبب ذلك الألم أرقا للسيدة الحامل، ويرجع سببه إلى زيادة تدفق الدم داخل الأوعية في الحوض وأسفل الظهر.
وتعاني نسبة ضئيلة من النساء من ألم الورك خلال مرحلة الحمل. ومن أسبابه الالتهاب أو ضغط الظهر على عصب الورك، أو ما يعرف بـ «عرق النسا». ويتأثر أحياناً عمل العصب فيقود إلى الشعور بالوهن والضعف أو الإحساس بالوخز. وترتبط آلام عصب الورك، أحياناً، بوجود آلام الظهر أو من دونها، وربما يمتد حتى أسفل الرجل. وعلى عكس ما هو شائع شعبياً، فلا علاقة لضغط الطفل على عصب الورك، ويرجّح أن ألم هذا العصب (عرق النسا) سيظهر سواء كانت المرأة حاملاً أم لا.
وتطالب غالبية النساء مساعدة الطبيب بسبب آلام الظهر خلال الحمل المرتبط بحزام الحوض. وينكشف الألم هذا، عادةً، نتيجة الحمل، ويحتاج علاجاً مختلفاً تماماً عن علاجات آلام الظهر الأخرى، التي قد لا تجدي نفعاً، ولا تكون فعّالة لهذا النوع بالذات، حتى أنها تزيد من حدة الآلام في بعض الحالات.
ولو شعرت الحامل بالآلام في عظمة الحوض أو حولها من الجهة الأمامية، ربما كانت تعاني مما يسمى «الارتفاع العاني اللاوظيفي». وهنا من الضروري طلب مساعدة الطبيب، أو استشاري العلاج الطبيعي من أجل التمييز بين هذه الأنواع من آلام الظهر.
العلاج
طرق العلاج المنزلية:
· انتعال أحذية منخفضة الكعب ومبطنة جيداً.
· وضع «كمادة» مثلجة على منطقة الألم.
· النوم على فرشة صلبة ومتينة ووضع وسادة رقيقة أسفل الركبتين.
· ممارسة رياضة المشي.
· الوقوف مع جعل الظهر مقابلاً للحائط والضغط بالمؤخرة ببطء جهة الحائط حتى لمسه، ثم الابتعاد عنه، وتكرار هذا التمرين مرات عدة في اليوم.
· الانحناء بالركبتين والوركين عند رفع الأشياء الثقيلة، وعدم حني الظهر.
· عندما تكون الحامل حاملة شيئاً ثقيلاً عليها أن تجعله ملاصقاً لجسمها حتى تصل الى المكان المطلوب.
· اختيار مقعد متين ذي ظهر مستقيم اذا أرادت الحامل الجلوس بحيث يكون ظهرها قائماً دون أن تحنيه.
· عند الجلوس فترة طويلة، على الحامل تجنب وضعية تقاطع الساقين، وعليها أن تضع مسنداً على الأرض لتضع عليه احدى قدميها.
· الحفاظ على معدل الزيادة في الوزن، وفقاً للمعدلات الطبيعية.
· عدم رفع الحامل لجسمها لتعيد الصحون الى الخزانة الخاصة بها، أو تعلق شيئاً على الحائط، بل عليها أن تقف على مسند خشبي ثابت.
· الاسترخاء عندما تنتاب الحامل آلام الظهر.
· ممارسة بعض التمارين الرياضية لتقوية عضلات الظهر.
تجنب آلام الظهر:
يمكن التخفيف من آلام الظهر عبر الحفاظ على اللياقة البدنية قبل الحمل. واذا كانت المرأة حاملاً بامكانها تحسين لياقتها البدنية. وتستطيع الحامل التقليل من اصابتها بآلام الظهر عبر ممارسة الرياضة اسبوعياً. واذا كانت غير معتادة على ممارسة الرياضة، عليها البدء بتمارينها تدريجياً، والانتباه الى وضعية الجسم المستقيم، وتجنب رفع الأشياء الثقيلة.
كيفية التخلص من آلام الظهر:
· التدليك: ان تدليك أسفل الظهر يساعد في اراحة العضلات المتعبة والمتألمة. وعلى الحامل أن تجرب كيف تميل على ظهر كرسي، أو أن تستلقي على جانبها، بينما يدلك لها زوجها برفق العضلات الموجودة عند جانبي العمود الفقري، ويركز على أسفل الظهر. ويمكن أن تلجأ الحامل الى اختصاصي تدليك أو الى الطبيب، أو اختصاصي في العلاج الطبيعي، لأنهم الأفضل في المساعدة.
· الحرارة والماء: يساعدان في تخفيف آلام الظهر، مثل الحمام الدافىء.
· استخدام الحزام المساعد: قد ينصح اختصاصي العلاج الطبيعي بارتداء حزام مساعد ليرفع عن عضلات البطن والظهر قليلاً من وزن الطفل.
· استخدام وسادة مساعدة اثناء النوم: يساهم النوم على أحد جوانب الجسم، مع وضع وسادة خاصة بالحمل عند أسفل البطن، في التخلص من آلام الظهر.
· ممارسة تمارين القوة والاتزان: ان تمارين أسفل البطن قد تساعد في التخفيف من ثقل الحمل على ظهر الحامل. ولممارسة تمرين آمن وسهل عند منطقة أسفل البطن، على الحامل الركوع على يديها وركبتيها بحيث يكون ظهرها مستقيماً تقريباً، وعليها أن تأخذ شهيقاً، ثم عند الزفير تمارس تمارين أسفل البطن، وفي الوقت نفسه تشد بطنها الى الداخل والى الأعلى. وعليها أن تحافظ على هذه الوضعية لمدة خمس الى عشر ثوان دون أن تحبس نفسها أو تحرك ظهرها، وعليها أن ترخي عضلاتها ببطء في ختام التمرين.
وإذا كانت تؤلم الحامل عضلة المؤخرة (العصعص) عليها تجنب الجلوس في شكل خاطىء، والحفاظ على استقامة الظهر قدر المستطاع، وتجرب الجلوس فوق وسادة طرية.
متى يجب مراجعة الطبيب؟
اذا اشتدت الآلام ولم يعد بالامكان تحملها.
↧
September 15, 2016, 4:00 pm
تجسير التطبيع
. قـلـم الـتحـرير
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، وبعد: من بركة نشر العلم وتعليمه، وتوظيف كافة الوسائل الممكنة لتعليم الناس أحكام الشرع؛ أن تنشأ أجيال المسلمين معظمة لأحكام الشريعة، ملتزمة - في الجملة - بأصول العبادات، وأن تشيع بينهم معرفة الأحكام، وتطبيق السنن والواجبات، فلا تبقى أحكام الشريعة في غربة في بلاد الإسلام مهما حصل من تقصير أو تفريط في الواجبات واجتناب المحرمات، فيبقى المنكر منكراً ولو كثر منتهكوه، والمعروف معروفاً ولو قل فاعلوه. أما حين يغيب البيان والتوضيح للأحكام الشرعية فإن غربة العلم بالشرع من أعظم أسباب شيوع الانحرافات التي يصبح معها المعروف منكراً والمنكر معروفاً.
تجد بركة نشر العلم بينة في مجالات كثيرة من حياة الناس، ومن ذلك الوعي بالمفاهيم والاتجاهات الفكرية المعاصرة وما فيها من انحرافات عن حكم الشريعة، مما دفع كثيراً منهم أن يتبرأ منها خشية من نفور الناس وشدة نكيرهم، وهذه ظاهرة لا تخطئها العين في أتباع العلمانية في عالمنا العربي والإسلامي، حيث أصبح كثير منهم يتبرأ من العلمانية ظاهراً وإن كان لا يزال معتنقاً لأفكارها خشية من نفور الناس وتشنيعهم، وهو ما دفع بعضهم للبحث عن مسميات جديدة بديلة عن العلمانية. هذا الوعي الشعبي هو نتيجة إيجابية رائعة للجهود العلمية والفكرية المباركة التي قام بها العلماء وطلبة العلم والدعاة والمثقفون خلال فترة طويلة من الكتابة والمناظرة والحوار؛ غير أن هذا الوعي قد يطرأ عليه إشكال في أن تنشأ أجيال تعرف شناعة اللفظ لكن يخفى عليها حقيقة سبب هذه الشناعة، فتنفر من الاتجاهات الفكرية لكنها لا تدرك على التفصيل حقيقة الإشكال، وهو ما يسهل من مهمة تحريف قناعات الناس وتغيير وعيهم، ودفعهم نحو تقبل الانحرافات نظراً لعدم إدراكهم الحقيقي لمحل الإشكال. إشكالية الغفلة عن حقيقة الباطل عند من نشأ في الإسلام ليست أمراً جديداً، فقد نبه إليه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال - وهو الفقيه الملهم -: «قد علمت متى تهلك العرب» فقام إليه رجل من المسلمين فقال: «متى يهلكون يا أمير المؤمنين؟» فقال: «حين يسوس أمرهم من لم يعالج أمر الجاهلية ولم يصحب رسول الله». وهذا من دقيق فقهه رضي الله عنه، فإن من عرف الحق وعرف الجاهلية، فقد عرف الحق وعرف ما يضاده، فكانت معرفته بالحق معرفة مفصلة كاشفة لما فيه من عدل وخير وصلاح، ومدركة لما يترتب على تركه من فساد وانحراف وضلال، وليس هذا كله متيسراً لكل من عرف الحق وآمن به، فبعضهم عرف الحق ونشأ عليه لكنه لا يدرك الباطل بما يجعل أمر تأثره بالباطل أقوى.
ظاهرة تقبل الباطل ممن نشأ على الحق تتجلى في حالات كثيرة من واقعنا المعاصر؛ تنشأ أجيال المسلمين على معرفة الحق ثم تفجأ لاحقاً بتقبل كثير منهم لبعض الأفكار المصادمة لهذا الحق من دون أن يشعروا، نظراً لأنهم لم يعرفوا الحق معرفة حقيقة. ولعل من أبرز الشواهد على هذه الظاهرة حالة التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل، حيث نشأت أجيال المسلمين وهي ترى الصهاينة عدواً محتلاً للبلاد، منتهكاً للمقدسات، معتدياً على دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، وأن الاستعمار جاء بهم من أقاصي الشرق والغرب ليحلوا في بلاد المسلمين ظلماً وعدواناً، والواجب تحرير البلاد منهم، وأن التطبيع معهم يعطيهم المشروعية لما سلبوه من بلاد، ويجعل العلاقة معهم علاقة صداقة وتبادل مصالح تقوي من وجودهم، وأن هذا التطبيع تضييع لواجبات وقطعيات شرعية. نشأت الأجيال على هذا الأمر، وأصبحت ترى التطبيع خيانة شديدة لا يمكن أن تنقلب إلى وجهة نظر، غير أن الملفت أنه مع ظهور المعرفة القوية بهذا الحق، وعمق القناعة به عند أكثر المسلمين أنه يسهل تجاوزه بدعاوى ضعيفة تكشف عن إشكالية من نشأ في الإسلام وهو لا يعرف الجاهلية، فهذه الدعاوى والتبريرات تكشف أن من كان يكره التطبيع ويعاديه ويتبرأ منه لم يكن مدركاً على الحقيقة لماذا كان معادياً له! حين يؤيد بعض الناس مبادرة التطبيع مع العدو الصهيوني التي تشترط مكاسب اقتصادية لأهل فلسطين، وتسهيل دخول الضرورات والحاجات المعيشية على أن هذا مكسب كبير يجب دعمه! فهو لم يفقه لماذا إذن كنا ضد التطبيع مع الصهاينة، فالتطبيع مع الصهاينة الذي رفض لعقود كان يحقق مصالح اقتصادية لكنه يعطي صك المشروعية لمن احتل الأرض ونهب الثروات وسحق الحقوق؛ فهو تطبيع مرفوض برغم المصالح الاقتصادية.
وذاك المخذول الذي يدعو للتطبيع لأن الكثير من عوام الصهاينة يحبون السلام ولا يريدون الحرب! هذا الجاهل لا يدري أساساً ما سبب رفض التطبيع، فمن يحب السلام من الصهاينة هو من يغادر الأرض التي احتلها وهجّر أهلها، وليس من يريد أن يأخذ حقوق الآخرين ثم يريد السلام! فبهذا المنطق كل المجرمين هم محبون للسلام! لأن المجرم لا يريد سوى أن تترك له جريمته ولن يكون عسيراً أن تتصالح معه بعد ذلك على أي شيء! والثالث الذي يحمّل المقاومة المسلحة جريرة عدوان الصهاينة، وأن ما حدث هو بسبب المقاومة! هو أيضاً ممن نشأ في الإسلام ولا يعرف لماذا هو يرفض التطبيع، فالنظر للصهاينة وكأنهم أصحاب حق في ملكية أرضهم وأنهم يدافعون عن حقهم؛ هذه الصورة تعبر عن جهل محكم بحقيقة ما يجري في فلسطين، جهل بتاريخ المعركة، وغفلة عن حقيقتها. ورابع يتحدث عن الصلح والهدنة، ويستدل بصلح النبي صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش! وهو جهل عظيم بحقيقة التطبيع، وبالمستندات الشرعية التي بني عليها الموقف الرافض له، فالهدنة والصلح أمر مشروع ليس له علاقة بقبول التطبيع الذي يتجاوز موضوع الصلح والهدنة إلى الإقرار التام بمشروعية بقاء الصهاينة وملكيتهم الصحيحة لما احتلوه من الأراضي وأن يزول الخلاف والعداء بينهم وبين المسلمين، وهو أمر لا يمكن أن يتم مع بقاء مقدسات المسلمين تحت احتلالهم وتدنيسهم. وخامسٌ يجعل العلاقة مع الصهاينة كالعلاقة مع بقية الدول الكافرة، فكما تقيم علاقات مع بقية الدول فلماذا لا تقيم مع الصهاينة؟ وهو يكشف بشكل أوضح عن طبيعة الخلل عند من نشأ يرفض التطبيع وهو لا يفقه هذا الشيء الذي يرفضه، فالعلاقة مع الصهاينة تتضمن إقراراً لهم بما احتلوه من أراضي المسلمين، وهو ما لا يوجد مع غيرهم من الدول الكافرة. وسادسٌ يتحدث عن المصالح المترتبة على التطبيع، فيبدأ متفنناً في العد والحصر لما يتوهمه من مصالح ومفاسد، ولو قبل بمنطق المصالح والمفاسد في مثل هذا السياق لأصبح التخلي عن أوطان المسلمين مصلحة قابلة لوجهات النظر، ولأمكن لكل أحد أن يعلن إمكانية بيع وطنه لأقرب محتل له بدعوى المصالح والمفاسد! والحقيقة أنها مصالح متوهمة، بل هي تخدم المصالح الصهيونية التي ستستفيد من التطبيع في التمكين لكيانها وتقويته وتعزيز مشروعيته، وكل ما يذكر من مصالح ومفاسد يمكن تحقيقه بالهدنة والصلح، وهو أمر مشروع، لكن الصهاينة لا يريدونه بل يريدون الضغط من خلاله حتى يتم لهم التطبيع الكامل. وألوان كثيرة من تبريرات ودعاوى تسويغ التطبيع لا تخرج عن هذا الإطار: الغفلة وعدم فهم سبب رفض المسلمين للتطبيع مع الصهاينة؛ الرفض الذي يعتمد على أصول شرعية عديدة في ضرورة الدفاع عن أراضي المسلمين وعدم جواز تسليمها للعدو المحتل الغاشم، حتى ولو عجز المسلمون عن الدفاع، فالعجز مسقط لوجوب الجهاد، لكنه لا يسوغ التطبيع الذي يتجاوز ذلك كله إلى إعطاء المجرم المعتدي شرعية لجريمته. وقد سجلت خلال عشرات السنين في ذلك دراسات وأبحاث، وصدرت فتاوى من علماء الإٍسلام، والمجامع الفقهية والعلمية؛ كلها تندد بالتطبيع، وترفضه، وتبين أوجه الفساد فيه، وهو ما اتفقت عليه كلمة الدول العربية والإسلامية في أول الأمر. هي حالة من تراخي الوعي، وذبول الإدراك، تغشى أقواماً من الناس نشأوا وهم يسمعون الحق ويعلمونه، فحفظوه وعرفوه وقالوا به، فما طال عليهم زمن حتى تسرب إلى عقولهم وألسنتهم ما ينقض هذا الحق الذي عرفوه من حيث يشعرون أو لا يشعرون، لأنهم عرفوا الحق ولم يعرفوا حقيقته، ونشأوا عليه ولم يعرفوا ضده، فسهل اختراقهم وتغيير أفكارهم حتى في أجلى القضايا وأبينها. إن هذا ليحتم ضرورة الاستمرار في نشر الوعي وتصحيح المغالطات وتفكيك الإشكالات بشكل دائم، وإعادة البث في كل محفل، حتى لا تنشأ أجيال لا تعرف من الحق إلا لفظه، وليس في عقولها من معرفته إلا قشرة خفيفة في الظاهر، وتحتها نفق مظلم يجسر الطريق للتصورات والأفكار المشوهة. ::
↧
↧
September 15, 2016, 4:10 pm
ابتلاء وتمكين في البلد الأمين
د. إبراهيم بن محمد الحقيل
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهـد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: لموسم الحج وشعائره وعيده الأكبر لذة عظيمة في قلوب الموحدين، حيث اجتماع شعائر التوحيد فيها، وحيث ذكريات مكة وواديها، تلك الأرض المقفرة الخالية من أسباب الحياة، حين أراد الله تعالى لها أن تكون أعظم بقعة في الأرض؛ جعل أفئدة الناس تهوي إليها، وليس فيها ما تطلبه النفوس من جمال الأرض، أو رقة الهواء، أو طيب الثمار.
بل هي أرض جرداء، جبالها سوداء، وحرها شديد، ومع ذلك فإن أفئدة المؤمنين تهوي إليها، وتبذل المال والجهد لبلوغها، وثمرات العالم تجبى إليها؛ لأنها موطن بيت الرب سبحانه، أول بيت وضع للناس.
وإذا ذكرت مكة ذكر إسماعيل وأمه هاجر وأبوه إبراهيم، ذرية مؤمنة صالحة هم عمار مكة، وهم بناة بيت الرب سبحانه فيها.
خُلِّد ذكر هاجر وهي أمة مملوكة.. وكم من ملكات وأميرات وبنات أباطرة وأكاسرة وقياصرة مات ذكرهن بموتهن، أو بتحولهن عن قصورهن؛ ومن أحب الله تعالى وأرضاه، أحبه الله تعالى ورضي عنه، ومن أحبه الله تعالى أحبه أهل السماء، وكتب له القبول في الأرض، وبقي ذكره في الخلق.
إنه الاصطفاء الرباني لبعض البشر، فلا يحجب عن ضعيف لضعفه، ولا تستجلبه قوة قوي.
هاجر الأمة المملوكة، لا يذكر تاريخ مكة إلا وهو معطر بذكرها، ولا يذكر زمزم إلا ذكرت هاجر؛ لأنها ورضيعها أول من سكن مكة؛ ونبع زمزم بسببهما.
لكن ما كان ذلك لها حتى أعلنت رضاها بالله تعالى فيما اختاره لها من الوحدة في أرض مقفرة لا ماء فيها ولا أنيس، ومن رضي بالله تعالى رضي عنه وأرضاه، وأعطاه فوق ما يتمناه.
وهبت سارة زوجة إبراهيم أمتها هاجر لإبراهيم عليهم السلام، فتزوجها فحبلت بإسماعيل، فغارت منها سارة لأنها عقيم؛ فخرج الخليل بهاجر ووليدها بأمر الله تعالى فوضعهما في مكة، وليس بها أحد غيرهما، فلا ماء ولا طعام ولا بناء ولا بشر.
ومن تأمل طاعة الخليل لربه عز وجل في هذا الأمر عجب منه، فكيف يترك ولده الوحيد وقد جاءه على كبر في واد يغلب عليه فيه الهلاك، ولكنها الثقة بالله تعالى، والمسارعة لمرضاته ولو في فقد الأزواج والأولاد.
قام إبراهيم عليه السلام بعد أن ترك هاجر وولدها في الوادي ليرحل، «ثُمَّ قَفَّى مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الوَادِي، الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لاَ يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ»، وَفِي رِوَايَة فَقَالَتْ: «حَسْبِي»، أي: يكفيني، وَفِي رِوَايَةِ فَقَالَتْ: «رَضِيتُ بِاللَّهِ» رواه البخاري.
رضاها بالله تعالى، وتوكلها عليه، وثقتها به هي الأعمال العظيمة التي كان جزاؤها من الله تعالى في الدنيا نبع زمزم لها، وتخليد ذكرها، وتلاوة قصتها، فلا تذكر تواريخ مكة إلا كانت في أولها، ولا يذكر زمزم إلا واسمها مقرون بها.
ورغم توكل الخليل على ربه عز وجل حين وضع ذريته بواد غير ذي زرع فإنه دعا بالدعوات المشهورة {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37] أسرة إيمان وصلاح؛ علل كبيرها أنه وضعهما بهذا الوادي المقفر ليقيموا الصلاة فيه، فهوت إليهم الأفئدة، وجعل بيتهم هو القبلة، فكم من مؤمن مستقبل لها في كل زمان ومكان؟!
وكم من ملايين يفدون إلى مكة في العام من حجاج وعمار، حتى كانت أرضها أغلى أرض في البسيطة، وإليها تجبى الأرزاق، وبورك فيها فكانت رغم غلاء أرضها ومساكنها أرخص أرض طعاما وثمرات، وليس بها طعام ولا ثمر، وإنما يجبى إليها فيباع بأرخص من مثله في أرضه التي زرع فيها، وما ذاك إلا ببركة دعوة الخليل عليه السلام.
"جَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ المَاءِ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى، فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإِنْسَانِ المَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتِ الوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ المَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا».
من كان يتصور أن سعي هاجر بين جبلي الصفا والمروة بحثا عن ماء لها ولولدها سيجعله الله تعالى نسكا من أنساك الحج والعمرة، فلا يتم حج أحد ولا عمرته إلا بالسعي في ذات المكان الذي سعت هاجر فيه لا في غيره؛ كرامة من الله تعالى للأَمة المؤمنة المتوكلة هاجر عليها السلام، وأي تخليد لذكرها أعظم من هذا التخليد؟!
وفي المواسم يزدحم المسعى بالساعين طوال الليل والنهار، ولو أن عظيما من عظماء الدنيا أراد أن يخلد ذكره بأقل من هذا لعجز، ولكن الله تعالى إذا أراد شيئا قضاه، فجعل تقليد هاجر وهي تسعى تبحث عن الماء لولدها منسكا من المناسك.
وكم من عظيم صنعت له التماثيل، وحفرت صورته في الجبال، ووضعت له الألواح في البحار، فانتهى اسمه، واندثر ذكره، وما بقي شيء من أثره.
نزل الملك بأمر الله تعالى ليحفر لها ولولدها زمزم، وظل الناس يشربون من زمزم أربعة آلاف سنة، ويردون عليها، ويأخذون من مائها، فلم يجف بئرها، ولم يتغير ماؤها، وهو يؤثر في غيره ولا يتأثر؛ كرامة من الله تعالى لهاجر وابنها.
لم يزهد فيه المسلمون ولم تضعف رغبتهم فيه، بل يتحملون مشقة حمله من مكة إلى أقاصي الأرض. ويكفيها طمأنة الملك لها حين حفر لها زمزم فَقَالَ لَهَا: لاَ تَخَافُوا الضَّيْعَةَ، فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ، يَبْنِي هَذَا الغُلاَمُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَهْلَهُ.
وَفِي حَدِيثٍ آخر: نَادَاهَا جِبْرِيلُ فَقَال: مَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ: أَنَا هَاجَرُ أُمُّ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: فَإِلَى مَنْ وَكَلَكُمَا؟ قَالَتْ: إِلَى اللَّهِ، قَالَ: وَكَلَكُمَا إِلَى كَافٍ.
قَالَ بن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ يُقَالُ لَهُ مَاءُ السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ إِسْمَاعِيلَ وَلَدُ هَاجَرَ، وَقَدْ رُبِّيَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، وَهِيَ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ.
ومن أعظم الكرامة أن يكرم الله تعالى ولدها الذي نزلت به في الوادي المقفر بالنبوة، وبمشاركة أبيه في بناء بيت الله الحرام، الذي يحج الناس إليه كل عام.
ومن تكريم الله تعالى لها أن جعل الماء ماؤها، تشترط فيه على من يساكنها.
استأذنها قوم من قبيلة جرهم في النزول عندها فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، وَلَكِنْ لاَ حَقَّ لَكُمْ فِي المَاءِ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الإِنْسَ» فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ.
هذا ثواب الدنيا المعجل لهاجر عليها السلام، على إيمانها بالله تعالى ويقينها، ورضاها بابتلائه لها، وحسن ظنها، وصدق توكلها.
وأما ثواب الآخرة فخير من ثواب الدنيا وأبقى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطَّلاق:3].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واشكروه على ما هداكم إليه من هذا الدين وشعائره، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم رسولا إلى الناس في عرفة يقول لهم: «قِفُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ، فَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ» وملة إبراهيم هي الحنيفية {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} [النحل:123].
أيها المسلمون: في قصة هاجر وزمزم والمسعى تكريم الله تعالى للمرأة المؤمنة ولو كانت في الأصل أمة؛ فإن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا، ذكرا كان أم أنثى {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195].
ولن تجد المرأة ربع هذا التكريم ولا عشره في غير الإسلام. وفيها أن التمكين والجزاء والثواب لا يكون إلا بعد الابتلاء، إذا ثبت المؤمن على الحق، وتوكل على الله تعالى، ورضي به وعنه.
وأن الرفعة والتمكين وتخليد الذكر منوط بحجم البلاء مع قوة التوكل والثبات، وما أعظم ما بتليت به هاجر عليها السلام، فلما ثبتت ورضيت وتوكلت كان الجزاء عظيما لعظم ابتلائها.
والمؤمن في هذا الزمن محتاج إلى التأسي بالثابتين على الحق، الراضين عن الله تعالى، الموقنين بوعده، الذين لا يبدلون ولا ينتكسون مهما عظم البلاء، ولا يتلونون لنيل المصالح الآنية؛ لأن هممهم تسمو على دنايا الدنيا، وترتقي إلى رضوان الله تعالى والفوز في الدار الآخرة.
فلنتعلم من تاريخ البيت الحرام، وتاريخ عامريه وساكنيه حسن التعامل مع البلاء، وصدق التوكل على الله تعالى، وحسن الظن به، والثقة بوعده، في زمن تكالب فيه أهل الكفر والنفاق والبدعة على أهل الإيمان والسنة، يريدون محو دينهم، وإخلاء الأرض منهم، والله تعالى ناصر دينه، منجز وعده لعباده، ولكن بشرط أن يثبتوا ويصبروا ويتقوا، ولا يغيروا دينهم ولا يبدلوا {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:120] وصلوا وسلموا على نبيكم...
↧
September 15, 2016, 4:14 pm
إيجابيات وسائل الإعلام وسلبياتها
إيجابيات وسائل الإعلام:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد، وأما قبل، فللَّه الأمر من قبل ومن بعد.
فإنَّ وسائل الإعلام من أهمِّ نتاجات العقل البشري الذي سخَّر قريحتَه من أجل التوصُّل إلى جميع الوسائل التي تيسِّر حياة البشرية جَمعاء، وتتيح لهم أكبر مَجال لتحقيق المنافع وتبادُل المصالِح، وبلوغ درجاتٍ أكبر من التطوُّر الذي تفرضه أساليب الحياة الجديدة، ومتطلَّبات العصر التي تكبر وتنمو كلَّ يوم.
إذًا فما بعضُ إيجابيَّات وسائل الإعلام؟
لقد تعدَّدت إيجابيَّات الإعلام، وتضافرَت حسناتُه على الفرد والمجتمع والكون برمَّته، حتَّى أصبح من الصعب تحقيقُ المستوى المعيشيِّ والتواصلي المطلوب بِدُونه، بل وأضحى عنصرًا هامًّا من هذا الكون الذي نعيش فيه؛ وذلك لأنَّه يخدم مستوياتٍ كثيرةً من واقعهم ومجتمعهم.
وهَهُنَا ذِكْرٌ لبعض هذه المستوَيات: المستوى التَّواصلي - المستوى المعرِفي - المستوى الثقافي - المستوى الحقوقي.
1- المستوى التواصلي:
فَتح آفاق التَّواصُل: ويتجلَّى دَور الإعلام - في هذا المستوى - في ذلك التطوُّر المهول الذي عرفه مجال الاتِّصال في الجانب السَّمعي والبصري والمكتوب؛ إذْ لم يعُدْ هذا الاتِّصال مقتصِرًا على عنصرين متقاربَين فقط، بل أصبح بإمكان أيِّ شخص أن يَنفتح على العالَم بأكمله، دونَ حَواجِز أو مُثَبِّطاتٍ؛ لأن ما حدث اليوم من ثورة حَقيقيَّة في عالم الاتصال، وما ظهر فيه من تقنيات عالية متجدِّدة، جعل للاتِّصال وظائفَ جديدةً لم تكنْ في مُتناول الفكر الإعلامي من قبلُ؛ إذْ لم يعد يقتصر على نَقل الحدث فقط، بل تعدَّى ذلك إلى تفسيره وتحليل مضمونه ومُحتواه، وكذا صناعة الحدَث نفسه، بل وصياغة القَرَار، واقتراح الأوجه الممكنة في الخبر، حتَّى يَتَمَكَّن المتتبِّع من المشاركة والإدلاء برأيه ومَواقفِه، ولا أدلَّ على ذلك من بعض البرامج التي تُذاع على القنوات العالمية مثل: برنامج "مراسلون"، و"الحصاد المغاربي" الذي يُبثُّ على "قناة الجزيرة الإخبارية"؛ مما يؤكِّد الاتِّفاق على الدور المتعاظم والمتطوِّر الذي تحقِّقه العمليَّة الاتِّصالية في شكلها ونَمُوذجها الحديث، وفي تعاملها مع شعوب العالم ودُوَلِه وأحداثه.
وبذلك تطوَّرت وسائل الإعلام مِن دور التَّبليغ من شخصٍ إلى شخص آخر، إلى دور التبليغ بين جماعات منظَّمة، ثم إلى دور التبليغ الجماعيِّ بوساطة وسائل الإعلام الجماهيري، وشهد القرن العشرون تطوُّرًا هائلاً في وسائل الإعلام الجماهيريِّ؛ مثل: الكتاب، والصحافة، والإذاعة، والتِّلفاز، والحاسوب، ويعيش الناس منذ سبعينيَّات القرن العشرين ثورةَ الاتِّصال الجماهيري.
تيسير التواصل: أيْ: تيسير الوصول إلى الحدث في مدَّة وجيزة، والانفتاح على العالَم الخارجي - كما ذكر آنِفًا - بل ونَقْل ذلك العالَمِ بكل أحداثه المعقَّدة والمتلاطمة إليه، ويتجلَّى ذلك في قِصَر المدَّة التي يقطعها الفرد العاديُّ لِمُشاهدة الخبر في التلفاز، وبرامج الإذاعات العالميَّة، أو تصفُّح الجرائد والمجلاَّت، وبخاصَّة في أوقات الأزمات العالمية المتواصلة، ثم تقليب صفحات الإنترنت، وزيارة المواقع المختلفة على الشبكة الدَّولية؛ لمعرفة المزيد مِن أحوال العالَم الذي يعيش فيه، بعد أن كان ذلك يكلِّف الأيام الطوال.
2- المستوى المعرفي: حيث إنَّ الإعلام أصبح من الوسائل التي أجمع علماء التَّربية على نَجاعَتِها بالنِّسبة لِنقل المعارف للتلميذ في الوقت الحاضر، ويتجلَّى ذلك فيما يلي:
حِفظُ وَنَقْلُ المَعارف والعُلوم والمَفاهيم:
وذلك باستخدام وسائل الإعلام كأداةٍ لنقل المعارِف وتعميمها، وجَعْلِها في متناوَل التلاميذ يرجع إليها وقتَ ما شاء، وكيفما شاء.
ترسيخ هذه المعارف والقِيَم وبناؤها:
فقد أصبح الإعلام يمتلك قدرة على البناء وترسيخ القيم، كقدرته على الهدم وإبدال القِيَم؛ وذلك لما لهذه الوسائل الحديثة من تأثير على المجتمع المتلقِّي، مما دفع بأهل الاختصاص في مجال الدِّراسات الإعلامية إلى تناول وتصنيفِ هذا التَّأثير من خلال نظريَّات ودراسات علميَّة تؤكِّد على دور الإعلام في تحقيق أهداف تواصليَّة كثيرة.
كَثرةُ مَوارد الحُصولِ عَلى المعلومات، وتَوفُّرُها:
وذلك أنَّ المعرفة لم تعد تتوقَّف على مصدر واحد، أو مصدرين كما يحدث قديمًا (الكتاب والشيخ أو المعلِّم مثلاً)، ولم تعد حكرًا على جنس أو صنف دون آخر، بل وجدت هناك مصادر جديدة، وموارد متعدِّدة تُمَكِّن طالب العلم مِن الاطِّلاع على الموضوع الواحد انطِلاقًا مِن مصادر متَعدِّدة مختلفة.
3 - المسْتَوَى الثََّقَافِي: ويتجلَّى ذلك في كون وسائل الإعلام تقوم بدور حيوي في نشرِ ثقافة عامَّة موحَّدة بين فئات وشرائح المجتمع الواحد من ناحية، مثلما يعمل من الناحية الأخرى على التقريب بين الثقافات المختلفة، ويساعد بالتالي على نشر روح الاحترام مِن خلال التعرُّف على تلك الثقافات المغايرة، وعلى هذا الأساس يمكن اعتبارُ الإعلام جسرًا يربط بين حياة الأفراد الشخصيَّة الخاصَّة، والعالَم الكبير الذين يعيشون فيه؛ بحيث يستطيع الفردُ أن يَرى نفسه مِن خلال البرامج التي تبثُّها وسائلُ الإعلام المختلفة.
4- المسْتَوَى الحقوقي: إذْ إنَّ وسائل الإعلام من أهم الوسائل الَّتي تؤدِّي دور نشر ثقافة حقوق الإنسان، وقد أكَّدت على ذلك منظَّمة الأمم المتَّحدة للتربية والعلم والثَّقافة في مُؤتمرها العشرين، ونشرَت بيانًا تتحدَّث فيه عن: إسهام وسائل الإعلام في دَعم السَّلام والتفاهُم الدَّولي، وتعزيز حُقُوق الإنسان، ومُكافحة العُنصريَّة والفصل العنصري، والتَّحريض على الحرب.
وجاء في بعض توصياتِها:
إنَّ دعم السَّلام والتَّفاهُم الدولي، وتعزيز حقوق الإنسان، ومكافَحة العُنْصريَّة والفصل العنصري والتحريض على الحرب، يقتَضي تداوُلَ المعلومات بِحُرِّية، ونشْرَها على نحوٍ أوسع وأكثر توازنًا، وعلى وسائل إعلام الجماهير أن تقدِّم إسهامًا أساسيًّا في هذا المقام، وعلى قدر ما يعكس الإعلام شتَّى جوانب الموضوع المعالَج، يكون هذا الإسهام فعَّالاً.
• إنَّ مُمارسة حرية الرأي وحرية التعبير وحرِّية الإعلام، المعترَف بِها كجزء لا يتجزَّأ من حقوق الإنسان وحرياته الأساسيَّة، هي عامل جوهريٌّ في دعم السَّلام والتفاهم الدولي.
سلبيَّات الإعلام:
إن وسائل الإعلام من بركات العِلم، ومن أهم الوسائل الحديثة التي توصَّل إليها، وابتكرَها العقل البشريُّ الخلاَّق، نحن لا ننكر ذلك، ولا ندَّعي خلافَه، بل لا نُماري إذا قلنا: إنَّ هذه الوسائل من أهمِّ الأمور التي سهَّلَت التَّواصل بين بنِي الإنسان، فقرَّبت القاصِيَ وأدنت الدَّاني، حتَّى أصبح العالَمُ قريةً صغيرة يعلم كلُّ واحد منها كلَّ ما وقع فيها، بل ويقع في اللحظة ذاتِها، كما أنَّ هذه الوسائل يسَّرَت سبُلَ البحث العلميِّ، وجعلَتْه في متناول الجميع بأسهل الوسائل وأقرب الطُّرق.
نعم، نحن لا ننكر شيئًا من ذلك - حاشا وكلاَّ - ولا نقذف هذه الوسائل زعمًا وضربًا بالظَّن، ولكن مَخْبَر هذه الوسائل ينبئ عمَّا آلَت إليه من كساد وإفسادٍ للنَّاشئة والشباب على وجه الخصوص، وهذه سُنَّة الله في خلقه؛ لأنه أبى أن يكون الكمال إلاَّ له - سبحانه وتعالى - ولذلك فكلُّ عمل يقدِّمه العقل البشري لا بد له من سيِّئات ونقائص، إلى جانب الحسَنات الذي يقدِّمها ويتفَضَّل بِهَا، ولذلك قيل:
وَمَنْ ذَا الَّذِي تُرْضَى سَجَايَاهُ كُلُّهَا ![]()
كَفَى الْمَرْءَ نُبْلاً أَنْ تُعَدَّ مَعَايِبُهُ ![]()
|
أي: إنه لا أحَد ينجو من العَيْب والمنقصة، كائنًا مَن كان منَ البشَر، ووسائل الإعلام - كما هو معلوم - مِن وضع هذا البشر الناقص، الذي يشوبه النقص والخلل مهما حاول بلوغ درجة الدِّقة والكمال، وكل فرع يعود إلى أصله، وكل عمل يحمل سِمَة فاعله.
ومن أجل ذلك؛ فغرضنا أن نبيِّن الحقَّ بالحجة والدليل، وليس بالأهواء الباطلة، والشعارات الخدَّاعة، وليس هدفنا كذلك المراء والجدال المذموم الذي ذمَّه الله تعالى ورسوله، ونهى عنه العلماءُ، ونبَّه إليه العقلاء، وبناءً عليه فسننطلق في تدخلنا هذا بإثبات ما ذهبنا إليه، من كون وسائل الإعلام ذات سلبيات جمة، وأخطار جسيمة، فنقول - وبالله التوفيق -:
لقد تعدَّدت سلبيات وسائل الإعلام وتَشَعَّبَتْ، حَتَّى أصبحت طَافِحَةً على سطح المجتمع، ولامَسَتْ جوانب متعددة من حياتهم، سواء أكانت عقائدية أم اجتماعيَّة، أم تربوية أم غير ذلك، وها هنا ذكر لبعض تجلِّيات هذه السَّلبيات على هذه الجوانب حسب نوعها ويمكن أن نقسمها إلى خمسة جوانب:
الجانب العقدي - الجانب الاجتماعي الأخلاقي - الجانب التربوي - الجانب النفسي - الجانب الصحي.
الجانب العقدي:
• نشر المذاهب الفاسدة، والعقائد الباطلة، والتَّرويج لها عن طريق تلميع صورة معتنِقيها، وإبراز شعائرهم، وتخليد ذِكْرها، ولا أدَلَّ على ذلك من ذلك الزَّخم الإعلامي الذي يعرضون به الصَّليب والقِدِّيس مثلاً، وتبجيلهم لِمُختلف الآلِهة التي يعتقدون بوجودها، مثل آلهة الحبِّ والجمال، وآلهة الشَّر والخير.
• نشر الدَّجل والخُرافات والشَّعوذة والسِّحر، والكهانة المنافية للتَّوحيد.
• الإيحاء بقدرة بعض الخلق على مضاهاة الله في الخلق والإحياء والإماتة، وذلك بإظهاره في صورة ذلك البطَل الذي لا يُقهر، ولا يشقُّ له غبار، فهو القاهر القادر، وهو المقتدر الجبار!
الجانب الاجتماعي الأخلاقي:
• الدعوة إلى الجريمة بعرض مشاهد العنف والقتل، وظهور مُصيبة الاغتِصاب التي عمَّت بها البَلوى، وتأذَّى منها الصَّغير والكبير، والرجل والمرأة، بشهادة الواقع والغربيِّين أنفُسِهم، فقد أثبتَت دراسات أمريكيَّة أنَّ الأطفال الذين يشاهدون التِّلفاز وبخاصَّة الأفلام الإباحيَّة يقعون في زِنا المَحارِم، ويعتَدون عَلى أخَواتِهم الصِّغار جنسِيًّا، وقد وجدت وكالة الأنباء الأمريكية (fbi) بعد مقابلة 24 مجرمًا في السُّجون كلَّ واحد منهم متَّهمًا بجريمة اغتصاب، وقتل عددٍ كبير من البالغين والأطفال - أنَّ نسبة 81 % منهم كان يداوم على متابعة الأفلام الإباحيَّة والخليعة.
• السعي إلى خلع رداء الحياء، والترويج لذلك، وجعل العلاقة بين الجنسَيْن في قمة التحرُّر من كلِّ قيد ديني أو أخلاقي أو غيره، عن طريق تأسيس منتديات نسائيَّة، يتداول فيها ما قَبُح واسْتُهجِن من أَفانينِ القول القبيحة والمسْتَهْجَنة، فذُبِحت بذلك الفضيلةُ بسِكِّين الرذيلة، وطُعِن الصالحون في عُقورِ دِيارِهِم.
• انتشار العنف، وجعله أمرًا طبيعيًّا على أرض الواقع؛ حيث إنَّ المُجرم يُعرض في المسلسلات والأفلام كالبطل والنَّجم الساطع الذي لا يُبلَغ جنابه، فيكون ذلك سببٍا لمحبَّتِه من لدن المتابِعين، وتصبح الجريمة والقتل آنذاك أمرًا عاديًّا يوحي إلى البطولة والشموخ، وقد أثبتت الدِّراسات أن أمريكا وكندا قد ارتفعت فيهما نسبة الجريمة بين سنتي 1945 و 1974؛ أي: في الفترة التي ولج فيها التِّلفاز إلى هاتين الدَّولتين.
• فشُوُّ الفساد، وظهور الخيانة الزوجية من كلا الطَّرفين؛ فقد أصبح هذا أمرًا عاديًّا، ما دام البطل أو البطلة في الفيلم يصنع ذلك، وهذا من باب ضياع الْهُويَّة وطمس البصيرة، ولا أدَلَّ على ذلك من تلك السهرات الماجنة التي يُقام لها ولا يقعد، فهُتِكت الأعراض واستبيحت المنكرات، وذلك كله بسبب ما تروِّج له وسائل الإعلام بمختلف أنواعها، فلا نجد في هذه المسلسلات التي تذاع بمرأًى ومسمع من الجنسين - والحالة هذه - إلا ما يزيد الطين بلَّةً، والأمور تفاقُمًا وتعقيدًا.
شهادة: "فهذه الدكتورة ليلى عبدالمجيد - وكيلة كلية الإعلام بجامعة القاهرة - تقول: إنَّ بعض ما يُقدَّم في وسائل الإعلام يقوم بعمل تنميطٍ للنَّماذج البشرية، أو لبعض السُّلوكيات الاجتماعية، أو لدور المرأة، فتأخذ الدراما مثلاً جزءًا من الواقع، وتقدِّمه على أنَّه كل الواقع، وهذا خطأ إعلامِيٌّ كبير؛ لأنَّ الدراما بصفة خاصَّة تَحظى بمشاهدة عالية، فيأخذ المُشاهد ما يُقدَّم فيها، ويختزنه، ويستدعيه في المواقف المشابهة، ويُحاول تقليده، أو الاقتداءَ به".
• ارتفاع نسبة السَّرقة، وجعلها فنًّا واحترافًا، بالإضافة إلى الاختلاس والتزوير، وقبض الرَّشاوي، فظهر ما يُسمَّى بالجريمة المنظَّمة، والعصابات مُحكَمة التَّنسيق؛ اقتداءً بِما يُعرض على شاشات العرض، وقاعات الأفلام.
• تشويه معنى القدوة والأسوة، التي تعتبر من أهمِّ مرتكزات إصلاح المجتمع؛ إذْ أصبحت تلك الراقصة التي تعرِّي عن جسدها، والمغنِّية التي تكشف عن مَحاسنها، والممثِّلة التي انسلخَتْ مِن كلِّ مبادئ الحشمة والحياء - أصبحَتْ هي القدوةَ المُثلى بالنِّسبة للفتيات، بل لا نبالغ إذا قلنا: إنَّ بعض الفتيات يَثُرن على أهل بيتهنَّ، ويُخاصِمن مجتمعاتِهنَّ؛ من أجل بلوغ مرتبة هذه المغنِّية أو الممثِّلة!
والشَّيء نفسه بالنسبة للشَّباب الذين يعتقدون أنَّ البطل الأسطوري هو ذلك الممثِّل الذي تحدَّى أُمَّه وأباه؛ من أجل إرضاء محبوبته، وأنَّ ذلك الشاب الذي تعدَّدت عشيقاته، وصادق هذه، وخان تلك، ووقع مع أخرى - هو الأسوةُ الذي تشرَئِبُّ له الأعناق، وتَرنو له القلوب والأبصار، ويجب عليهم اتِّباعه.
• زوال الشُّعور بالمسؤوليَّة اتِّجاه الأسرة، واللاَّمبالاة بحال الأبناء، والزَّوجة التي تَحتاج إلى من يقف بِجانبها؛ من أجل التخفيف عنها، ومواساتها في بعض ما تجد من أعباء المَنْزل، ومشاكل تربية الأبناء.
• شيوع الألفاظ البذيئة مما يستخدم في كثير من الأفلام والمُسلسلات، ودعوة المجتمع إلى الاستهتار، وعدم الحشمة في ارتداء لباسٍ معيَّن.
• انعدام المراقبة وعدم التوجيه للأبناء، وهذا له أثره السلبِيُّ على التحصيل الدِّراسي، ومتابعة الدُّروس، ولا يخفى الأثر السيِّئ للأفلام التي تقذف الأخلاق بسِهامها على شخصية الطفل وتَهْيئته للانحراف، مع وجود ما نعرفه من أنَّ بعض الأفلام تصوِّر الكذب والخداعَ والمُراوغة على أنَّها خِفَّةٌ ومهارةٌ وشَطارة، ومعها يُنْزَع الحياءُ نزعًا من قلوب أطفالنا، والآدابُ التربوية السامية في حياتنا.
وهذا غيضٌ من فيض مما ينتج عن وسائل الإعلام من سلبيَّات ونقائص في هذا الجانب.
الجانب التربوي: أمَّا بخصوص الجانب التربوي، فهناك أيضًا مجموعة من السَّلبيات، منها:
• تنمية الرُّوح السَّلبية لدى المتلقِّي، خصوصًا الأطفال الذين يتقبَّلون جميع الأفكار دون نقد، أو تفكير؛ حيث يتعوَّد المُشاهد عمومًا سهولةَ التَّحصيل دون بذْلِ أدنى مجهودٍ للحُصول على المعلومات، أو اكتساب المهارات والقدرات، مكتفيًا بما يقدِّمه الجهاز الإعلامي من حلولٍ أو نتائج.
• التأثير على حياة الأطفال الاجتماعيَّة وعلاقاتِهم بالأسرة، وبِهذا يَقِلُّ اكتسابهم للمعارف والخبرات من الأهل والأصدقاء، كما يصرفه أيضًا عن اللعب، ومتعته مع أقرانه.
• تمرُّد الأبناء على الآباء بفعل المَشاهد التي يرونها في وسائل الإعلام، والتي كان يشارك في مشاهدتِها الأبُ نفسُه، وهذه نتيجةٌ حتميَّة، على الأب أن يَجني ثِمارَها، شاء أم أبى؛ لأنَّه هو الذي ساعد ابنه على تطبيع هذه المشاهد، واعتبارها شيئًا عاديًّا، والابن على دين أبيه، كما جاء في المثَل، قال الشاعر:
مَشَى الطاوُسُ يَوْمًا بِاخْتِيَالِ ![]()
فَقَلَّدَ شَكْلَ مِشْيَتِهِ بَنُوهُ ![]()
فَقَالَ: عَلامَ تَخْتَالُونَ؟ قَالُوا: ![]()
بَدَأْتَ بِهِ وَنَحْنُ مُقَلِّدُوهُ ![]()
وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الفِتْيَانِ فِينَا ![]()
عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ ![]()
|
أي: إنَّ الابن لا يشيب إلاَّ على ما شبَّ عليه من قِبَلِ الأَب.
ومن أجل ذلك فإنَّ كثيرًا من الآباء يشتكون من عقوق أبنائِهم، ولا يدركون أنَّهم هم أنفسهم كانوا السَّببَ على زرع هذا الشُّذوذ الأخلاقيِّ في تربية أبنائهم؛ بواسطة ما يُدْخِلونه على أبنائهم من وسائل إعلام، دون مراقَبة أو تَقنين، فمَن زرع شيئًا جنَى ثِمارَه، فقد أضاعوا فرصةَ تربية أبنائهم تربيةً سليمة في الوقت المناسب، ثم ندموا، ولاتَ حين مندَمٍ، وصدق عليهم قولُ أحدهم:
وَعَاجِزُ الرَّأْيِ مِضْيَاعٌ لِفُرْصَتِهِ ![]()
حَتَّى إِذَا فَاتَهُ ذَا عَاتَبَ القَدَرَا ![]()
|
• التعوُّد على مظاهر العنف المادِّي والمعنوي، تبعًا لما يُعرض من مشاهد العنف والتدمير، حتَّى في بعض البرامج الموجَّهة للأطفال، مثل الرسوم المتحرِّكة، وقد فسَّر بعض علماء التربية سببَ ميول بعض الأطفال إلى التدمير والعنف بتأثُّرهم ببعض برامج الأطفال التي تَجنح إلى صُوَر العنف والانتقام، ولو كانتْ رُسُومًا متحرِّكة.
• ضياع الأوقات، وذهابُها هدرًا، بفِعل تلك الأوقات الطويلة التي يقضيها المتعلِّم أمام هذه الوسائل، وبالتالي غفلته عن واجباته المدرسية التي يجب عليه أن يُنجزها باهتمامٍ وعناية.
• دُخُول الأطفالِ عالَمَ الكبار قبل الأوان فيما يسمَّى بـ"اختراق المرحَلة العمريَّة"، دون أن تتوفَّر لديهم الخبرة اللاَّزمة لذلك؛ فقد أثبتت الدِّراسات أنَّ برامج التلفاز تتيح للأطفال أساليبَ للتَّعامل ما كانوا يُدركونها أو يُمارسونها؛ مثل عمليات الهروب خارج الحدود، وتعاطي المخدِّرات، والقَتْل والاعتداء، وأساليب التَّحايل والكذِب، فيعيش الطفل عالَمًا غير عالَمِه، وعمرًا غير عمره، فلا يُربَّى التربية السليمة، ولا ينشأ النشأة الطبيعية التي يجب أن ينشأها ويَشِبَّ عليها.
• ظهور المراهقة المتقدِّمة؛ بفعل التعوُّد على مَشاهد التي يكون أبطالُها مراهقين، وهذه النتيجة تابعة، وتاليةٌ لِما سبق من سلبيَّات.
• ضعف العلاقات مع كلٍّ من الأسرة والمدرسة، وظهور الانعزال عن المُجتمع، وانفصام الرَّوابط بين الأقارب بفِعل الانشغال بوسائل الإعلام، وحَصر المُشاهد مع واقعٍ جديد، مِمَّا يُضعف فُرَصَ التَّعامل الاجتماعي والأُسَري.
• تربية الطِّفل تربية مشوَّهة غير منتَظِمة، لا تُراعي البعد الحضاريَّ للطِّفل، ولا تعير اهتمامًا لمرجعيَّاته الدِّينية والأخلاقيَّة، ولا تحترم خصوصيَّات الوسط الذي يعيش فيه، فينشأ الطِّفل انطِلاقًا من أفكارٍ واردة خارج بيئته، ويتبنَّى عاداتٍ وتقاليدَ مُخالفةً لما عليه مجتمعُه وواقعه.
الجانب النفسي:
• إفساد واقعية الأطفال، وتشويه عالَمِهم الجميل البسيط الذي يؤمن في هذه المرحلة بالملموس الواقعيِّ، وذلك بعرض المَشاهد المنافية للواقع، والمخرِّبة للفطرة.
• تربية الطِّفل تربية مشوَّهة غير منتظمة، لا تراعي البُعد الحضاريَّ للطفل، ولا تعير اهتمامًا لمرجعيَّاته الدِّينية والأخلاقيَّة، ولا تحترم خصوصيَّات الوسط الذي يعيش فيه، فينشأ الطِّفل انطلاقًا من أفكارٍ واردة خارج بيئته، ويتبنَّى عاداتٍ وتقاليد مُخالفة لِما عليه مجتمعُه وواقعه.
• ضعف الشخصيَّة، وتردُّدها في كلِّ ما تُقْدِم عليه، وعدم الرُّسوخ على موقف معيَّن؛ بسبب الاستهلاك السَّلبِي لوسائل الإعلام، وعدم التَّمييز بين ما هو أصلٌ، ويجب التمسُّك به، وما هو طارئٌ لا يجب الالتفات إليه.
تضارب المواقف عند الجيل النَّاشئ بسبب التَّعارض الفكريِّ والثقافي الذي يَبْرز بشدَّة في وسائل الإعلام، حتَّى يُضْحي أحَدُهم لا ينكر منكَرًا، ولا يعرف معروفًا نتيجةً لهذا الذي ذكر، ولسان الحال يقول:
تَكَاثَرَثِ الظِّبَاءُ عَلَى خِدَاشٍ ![]()
فَمَا يَدْرِي خِدَاشٌ مَا يَصِيدُ ![]()
|
• زَرْع بذور الخوف والقلق في نفوس أطفالِنا بِما يعرف من أفلام مرعِبة، تخيف الكبيرَ قبل الصَّغير كأفلام الخيال، وغَزو الفضاء، ورجال الفضاء والقَصص التي تدور أحداثُها حول الجنِّ والشَّياطين والخيال، وكلُّها تُوقِع الفزع والخوفَ في نفوسهم، إلى جانب أنَّها لا تَحمل قيمًا أو فائدة علميَّة، وينعكس أثر ذلك على أمن الطِّفل وثقته بنفسه؛ مما يُشاهده من مناظر مفزعة، تَجعله يعيش في خوف وقلق، وأحلام مزعجة.
الجانب الصحي:
• ضعف البصَر؛ بسبب الإضرار به عن طريق كثرة تعريض العين للأشعَّة التي تبعثها وسائلُ الإعلام المرئية؛ مثل: الحاسوب والتلفاز؛ وذلك ما أكَّده الأطِبَّاءُ والواقع، إذْ إنَّ أغلب الذين يعانون من ضعف في البصر يحصل لهم ذلك بسبب كثرة الإدمان على مُشاهدة وسائل الإعلام المرئيَّة فتراتٍ طويلة، خصوصًا في الفترة اللَّيلية التي تحتاج فيها العين إلى جهد مضاعَف؛ من أجل النظر.
• الإصابة بالأَرَقِ وَالسُّهاد، والإحساس بأوجاع على مستوى الرأس؛ بسبب السَّهر، والمداومةِ على مشاهدة بعض هذه الوسائل خلال ساعات متأخِّرة من الليل.
• كثرة النِّسيان وعدم التركيز أثناء حضور حصة أو مناقشة؛ بسبب الإعياء الشديد الذي تُسبِّبه قلة النَّوم، وعدم تمكين الجسم من حقِّه الطبيعي من هذا النوم.
• تأخُّر الطفل في النوم، والجلوس أمام التلفاز لساعاتٍ طويلة؛ مما يؤدِّي إلى اعتلال صحة الجسم، ويتسبَّب أيضًا في الخمول الذهني، وتعطيل ذكاء الطفل.
• الانصراف عن مُمارسة الرِّياضة البدنيَّة، والإصابة بالكسل والخمول والسِّمنة؛ لقلَّة الحركة، واكتساب العادات السيِّئة، وتدهور الصحة العامة.
خلاصة وخاتمة:
يمكن أن نخلص بعد هذه اللَّمحة البسيطة في هذا الموضوع أنَّ وسائل الإعلام بجميع أشكالِها وألوانها تلعب دورًا سلبيًّا خطيرًا، يجب الاحتياطُ منه، وتلعب في الآنِ نفسه دورًا إيجابيًّا عظيمًا لا يمكن إغفاله أو التنكُّر له؛ أيْ: إن هذه الوسائل باختصارٍ سلاحٌ ذو حدَّين، ومن أجل ذلك فالسُّؤال الذي يُطْرَحُ بشدة هو: كيف يمكن أن نستفيد منها والحالة هذه، دون أن نُصاب من الاقتراب منها بأيِّ أذى؟
وهذا ما سنلخصه في النقاط التالية:
1- البحث عن الوجه المشْرِق في هذه الوسائل من حيث الاستخدامُ؛ أيْ: نوظِّفها فيما يعود على الشخص والأُمَّة بالنَّفع في جميع الجوانب، فقد أثبت علماء التَّربية مثَلاً من الناحية التربوية أنَّ بعض وسائل الإعلام تؤدِّي إلى رفْعِ قُدرة الطفل على القراءة والكتابة، والتعبير الشَّفوي، والقدرة على الاستماع والتركيز، وتعلُّمِ الثقافة العامة، والعلوم واللُّغات الأجنبية، والتربية الفنِّية والرياضيات، كما أنَّها تقوِّي المقدرة على حلِّ المشكلات التي تُواجهه، وتُساعده على التوافُق الاجتماعي، وتطوير هواياته ومواهبه، واستغلال وقت فراغه.
2- أن يكون الشخص ذا حِسٍّ نَقْدي، يُميِّز بين الصَّالح والطالح؛ حتَّى ينخل الأفكار التي يتلقَّاها ويمحِّصها، ولا يكون عبدًا لها للمعرفة، دون تمييز، بل يجب عليه أن يتمعَّن، ويتدبَّر، ويُحِسَّ؛ حتَّى يأخذ ما هو أهلٌ للأخذ، ويطرح ما هو أهل للنُّفور والاشمئزاز.
3- الاهتمام بالتربية الدِّينية التي ترسِّخ في الإنسان مبادئه الأخلاقيَّة، وعقائدَه الإسلامية، وتوجهه الأخلاقي؛ حتَّى يُصان من كل انحراف، أو زيغ عقائديٍّ، أو ديني.
4- مراقبة الأبناء، وتوجيههم الوجهة الصحيحة أثناء استهلاك واستقبال ما تُنتجه هذه الوسائل.
5- تنمية الإحساس بالدِّين والوطن والانتماء؛ حتَّى يكون المتلقِّي ذا منَاعة قويةٍ أمام كلِّ ما من شأنه أن يجرِّده من انتمائه وأصوله، أو يخدش في عقيدته ودينه.
6- التَّقنين وتنظيم الوقت، وحُسْن توزيعه دون أن يغلب الوقت الذي يخصَّص لاستهلاكِ ما تطرحه هذه الوسائلُ على حساب الواجبات والالتزامات الأخرى.
↧
September 15, 2016, 4:19 pm
العيد اجتماع وفرحة
|
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف |
يستقبلُ المسلمونَ في كلِّ مكانٍ أعيادَهم الشرعيةَ جذلينَ فرحينَ بطاعةِ اللهِ وإتمامِ العباداتِ سائلينَ اللهَ قبولَ صيامِ وقيامِ رمضانَ وأعمالِ عشرِ ذي الحجةِ في مظهرٍ يعزُّ مثيلُه في الأممِ الأخرى التي تحتفلُ بأعيادٍ بشريةٍ غيرِ إلهيةٍ ترتبطُ بأشخاصٍ أوْ أسرٍ أوْ تحييَ ذكرى قصصٍ خرافيةٍ أوْ كهاناتٍ وحكاياتِ حبٍّ خادشةٍ للحياء. وأعيادُنا مليئةٌ بالفرحِ والسرورِ ولا مكانَ للحزنِ فيها خلافاً لبعضِ الأممِ كالأعيادِ الجنائزيةِ لدى الفراعنةِ وكعيدِ الغفرانِ اليهودي في الثامنِ منْ أغسطس وهوَ يومُ حزنٍ وبكاءٍ على حائطِ المبكى ومثلِ عيدِ تشينغمينغ الصيني الذي يجمعُ بينَ الحزنِ والفرح؛ حيثُ يزورُ أبناءُ قوميةِ هان وبعضُ الأقلياتِ القوميةِ قبورَ موتاهم ثمَّ يستمتعونَ بجمالِ الربيع؛ فالحمدُ للهِ الذي جعلَ عيدَنا يومَ زينةٍ وبسمة.
وليسَ لأعيادِنا صلةٌ قريبةٌ أوْ بعيدةٌ بقتلِ الإنسانِ وتهجيرِه وإفسادِ الأوطانِ وتدميرِها كما في عيدِ الشكرِ الأمريكي الذي تحتفلُ بهِ الأمةُ الأمريكيةُ في رابعِ خميسٍ منْ شهرِ نوفمبر كلِّ عامٍ وتأكلُ الدِّيكةَ الروميةَ لتتذكرَ جرائمَها الوحشيةَ وإبادتها للهنودِ الحمرِ في حكايةٍ جديرةٍ بأنْ تكونَ وصمةَ عارٍ وخزيٍ لا موسمَ احتفالٍ ولا عطلةً رسميةً أوْ ملتقىً بهيجاً للعائلةِ الأمريكيةِ يندرُ مثيلُه على مدارِ السنة؛ فأيُّ فطرةٍ تلكَ التي تحتفلُ بقتلِ مئةِ مليونِ إنسانٍ وسلخِ فراءِ رؤوسِهم وتخريبِ ديارهم[1]؟ ولدى اليهودِ عيدُ الأبوريم الذي يجبُ على اليهودي فيهِ السكرُ حتى الثمالةِ ويُسمَّى أيضاً عيدُ التماثيلِ المضحكةِ لأنَّهم يصنعونَ تماثيلَ منْ القشِ لمنْ يرونهم أعداءً ويعلِّقونها في المشنقةِ بطريقةٍ هزلية تفضحُ نفسيةَ القوم! فالحمدُ لله الذي سلَّم أفراحنَا من الجنايةِ ليكونَ عيدُنا خيراً وسلاما.
وأعيادُنا نحنُ أهلُ الإسلامِ فرصةٌ للاجتماعِ على عدَّةِ مستويات؛ إذْ تجتمعُ الأمةُ على انتظارِ العيدِ وفي الاستعدادِ له؛ وتضجُّ المساجدُ والأماكنُ بالتكبيرِ والتهليلِ قبلَه؛ ويشتركُ النَّاسُ في لبسِ الجديدِ خلالَه وفي التهاني والبسماتِ يومَه؛ ويؤدي المسلمونَ الصلاةَ في صباحهِ الباكرِ بمنظرٍ مهيبٍ تخرجُ لهُ الأمةُ برجالِها ونساءِها وأطفالِها ملتزمةً بالضوابطِ الشرعيةِ في منعِ الاختلاطِ بينَ الجنسينِ والفصلِ بينَ الذَّكرِ والأنثى في المحافلِ والمجامع؛ وفي كلِّ هذا رسالةٌ صريحةٌ للمصلحينَ مفادُها أنَّ هذهِ الأمةَ لا يجتمعُ شتاتهُا ولا يلتئمُ أمرُها إلاَّ على كتابِ اللهِ وسنَّةِ رسولِهِ -صلى الله عليه وسلم-، وفي هذا المعنى الكبيرِ الشريفِ تنغيصٌ على المجرمينَ الذينَ يريدونَ تفريقَ الأمَّةِ المحمَّديةِ وبعثرةَ شؤونِها والعبثَ بتأريخها وقواسمِها المشتركة، فالحمدُ للهِ الذي أبقى أعيادَنا رمزَ قوةٍ واستعلاءٍ ووحدة.
ومنْ أعظمِ مزايا عيدي الأمةِ الإسلاميةِ وضوحُ البعدِ الاجتماعيِ فيهما؛ فقدْ فرضَ اللهُ زكاةَ الفطرِ قبلَ يومِ الفطرِ وسنَّ النبيُ الكريمُ -صلى الله عليه وسلم- إهداءَ ثلثِ لحمِ الأضحيةِ للفقراءِ يومَ الأضحى؛ واعتادَ أغنياءُ المسلمينَ على إخراجِ زكواتِهم وصدقاتِهم في شهرِ رمضانَ وعشرِ ذي الحجةِ طلباً لمضاعفةِ الأجرِ واغتناماً لفضلِ الزمانينِ وإغناءً لفقراءِ المجتمعِ عنْ ذلِّ السؤال. وقدْ يختفي المعنى النبيلُ للعيدِ إنْ لمْ يسعَ الفردُ لإسعادِ غيرهِ وجلبِ الفرحِ والسرورِ لنفوسِ الآخرينَ بدءاً بالعائلةِ الصغيرةِ فالأسرةِ الكبيرةِ مروراً بالجيرانِ والأصدقاءِ دونَ إغفالٍ لفقراءِ المجتمعِ وأراملهِ وأيتامه، وقدْ درجتْ بعضُ العوائلِ الكريمةِ على استضافةِ أطفالٍ أيتامٍ في احتفالِها بالعيدِ ليشاركوهم الفرحةَ ويعوضوهم عنْ غيابِ أهلهم؛ فالعيدُ لليتيمِ المحرومِ يصدقُ عليهِ قولُ الشاعرِ المصري عبدِ الرحمن شكري:
إذا جاءه عيدٌ منْ الحولِ عاده
منْ الوجدِ دمعٌ هاطلٌ ووجيب
كأنَّ سرورَ النَّاسِ بالعيدِ قسوةٌ
عليهِ تُريقُ الدَّمعَ وهو صبيب
|
وفي العيدينِ فرصةٌ مواتيةٌ لابتداءِ الملتقياتِ العائليةِ وحلِّ الخلافاتِ الأسريةِ وإصلاحِ ذاتِ البين؛ إذْ العيدُ زمنُ التسامي عنْ الحقدِ والتحررِ منْ الأنانيةِ وتجاوزِ المصالحِ الفردية؛ فالحمدُ لله الذي شرعَ أعيادَنا موسماً للرحمةِ والتآلف.
والعيدُ يومٌ جديدٌ تشرقُ شمسُه الجميلةِ على بلادِ المسلمينَ وقدْ تجدَّدَ النَّاسُ في ملابسِهم وعاداتِهم وكلامهم بلْ وفي نفوسِهم التي خرجتْ منْ أوزارِها ترجو الفوزَ والرضوانَ وفي أرواحهِم المتعلقةِ بنفحاتِ اللهِ في الموسمِ المنصرم؛ وما أجملَ أنْ يدخلَ العيدُ على المسلمِ وقدْ اقتبسَ جذوةً منْ بركاتِ رمضانَ أوْ عشرِ ذي الحجةِ فغدا إنساناً جديداً في تعاملِه معْ ربهِ ومعْ نفسهِ ومعْ أهلِه ومجتمعِه وزملائه، وما أرقَّ مَنْ جعلَ العيدَ يوماً لتجديدِ علاقتِه بزوجاتِه ومؤانسةِ بنيهِ والتوسعةِ عليهم بالمعروفِ ومسامحةِ زملائِه وخدمةِ مجتمعِه الصغيرِ والكبير؛ وما أحسنَ خلقَ مَنْ صيَّرَ العيدَ فرحةً مضاعفةً للأطفال، فالحمدُ لله الذي جعل منْ العيدِ يوماً للتجديدِ والتسامي.
وحينَ ينتهي العيدُ وتمضي أيامُه الأنيسةِ يظلُّ في وجدانِ المسلمِ وشعورِه حنينٌ للعيدِ الكبيرِ والفوزِ العظيمِ برضوانِ اللهِ ورؤيةِ الرَّبِ جلَّ جلالهُ ودخولِ أعلى جنانِه؛ فذلكَ اليومُ هو عيدُ الأعيادِ كلِّها؛ ففيهِ السرورُ والحبورُ والبسمةُ والمباهجُ والمسرَّاتُ وما لا يخطرُ على قلبِ بشر؛ ونسألُ اللهَ أنْ يبلِّغنا هذهِ الفرحةَ وتلكَ البهجةَ فإنَّ للمؤمنِ عيداً ينتظرُه كما قالَ الشاعرُ الكويتيُ يوسفُ القناعي:
خرجَ النَّاسُ يومَ عيدٍ وراحوا
رافلينَ بزينةٍ وسرورِ
وأرى العيدَ في رضى اللهِ عنِّي
فهو عيدي وبهجتي وحبوري
|
فاللهمَّ بلغنا ذلكَ الموضعَ الطاهرَ ونحنُ نحمدُكَ على النِّعمةِ بتمامِ الصالحات.
والحمدُ للهِ الذي هدانا لهذا بفضلهِ وكرمه.
ــــــــــــــــــ
[1] للمزيد حول هذه الفضيحة ينظر: كتاب أمريكا والإبادات الجماعية(حق التضحية بالآخر) لمنير العكش.
↧
September 15, 2016, 4:24 pm
العيد.. شعيرة ومودة
العيد في الإسلام مظهرٌ من مظاهر الفرح بفضْل الله ورحمته، وفرصة عظيمة لصفاء النفوس، ووحدة الكلمة، وتجديد الحياة، وهو لا يَعني أبدًا الانفلات من التكاليف، والتحلُّل من الأخلاق والآداب، بل لا بُدَّ فيه من الانضباط بالضوابط الشرعيَّة والآداب المرعية.
وهناك جملة من الأحْكام والسُّنن والآداب المتعلِّقة بالعيد، ينبغي للمسلم أن يراعيها ويحرصَ عليها، وكلُّها تنطلق من المقاصد والغايات التي شُرعتْ لأجلها الأعيادُ في الإسلام، ولا تخرج عن دائرة التعبُّد لله ربِّ العالمين، في كلِّ وقتٍ وحين.
فمن هذه الأحكام:
حُرْمة صوم يوم العيد؛ لما ثَبَتَ عن عمر - رضي الله عنه - أنه صلَّى قبل الخطبة، ثم خطب الناس فقال: "يا أيُّها الناس، إن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد نهاكم عن صيام هذين العيدين؛ أمَّا أحدُهما فيوم فِطْركم من صيامكم، وأمَّا الآخرُ فيوم تأكلون نُسُكَكم"؛ رواه البخاري.
كما يُستحبُّ في العيد الإكثارُ من التكبير، فيكبر في عيد الفِطْر من غروب شمسِ آخر يوم من رمضان، ويستمر حتى صلاة العيد؛ لقول الله - تعالى -: ﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ﴾ [البقرة: 185]، ويتأكَّد التكبيرُ عند الخروج إلى المصلَّى وانتظار الصلاة.
وأمَّا في الأضحى، فإنَّ التكبير المطْلَق مشروعٌ من أول أيام ذي الحجة؛ لقوله - تعالى -: ﴿ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ﴾ [الحج: 28]، والأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، وثبتَ في الصحيح أنَّ ابن عمر وأبا هريرة - رضي الله عنهما - كانا يخرجان إلى السوق في أيام عشر ذي الحجة يُكبِّران، ويُكبِّر الناس بتكبيرهما.
ولذا؛ فإنه يُسَنُّ إظهار التكبير في هذه الأيام، ورفْعُ الصوت به في المساجد والدور، والطرق والأسواق، وأماكن تجمُّع الناس؛ إظهارًا لهذه الشعيرة، وإحياءً للسُّنَّة، واقتداءً بسلف الأُمَّة.
وأمَّا التكبير المقيَّد بعد الصلوات المفروضة، فيبدأ من فجر يوم عَرَفة بالنسبة لغير الحاج، وأمَّا الحاج فيبدأ من صلاة الظهر يوم العيد؛ لأنه مشغولٌ قبل ذلك بالتلبية.
ويستمر التكبير المطلق - في كل وقتٍ - مع التكبير المقيَّد إلى عصر آخر يومٍ من أيام التشريق، وهو رابع أيام العيد؛ لقوله - تعالى -: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾ [البقرة: 203]، ولقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((أيَّام التشريق أيَّام أكل ٍوشرْبٍ وذِكْر لله))؛ رواه مسلم.
وصفة التكبير أن يقول: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد"، وإنْ كبَّر ثلاثًا فهو حسنٌ، والأمر في ذلك واسعٌ.
آداب الخروج لصلاة العيد:
الإسلام دينُ النظافة، حيث يأمر في كلِّ اجتماعٍ بأن يتزيا الإنسان بأجمل ما عنده من ثياب وزينة، فمِن الآداب المستحبَّة في يوم العيد الاغتسالُ والتجمُّل، والتطيُّب، ولبس أحسن الثياب؛ لأنه يومٌ يجتمع الناس فيه، وقد ثبَتَ أنَّ ابن عمر - رضي الله عنه - كان يغتسل يوم الفِطْر قبل أن يغدوَ إلى المصلى، وأقرَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عمر بن الخطاب، ولم ينكرْ عليه التجمُّل للعيد، حين رأى عمر جُبَّة من إستبرق، فقال: يا رسول الله، ابتعْ هذه، تجمَّل بها للعيد والوفود، فقال له - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنما هذه لباس مَن لا خَلاق له))؛ رواه البخاري.
مما يدلُّ على مشروعيَّة أصْل التجمُّل والتزيُّن للعيد.
فالذي ينبغي على المسلم أن يكونَ في هذا اليوم على أحسن مَظهر، وأَتَمِّ هيئة؛ وذلك إظهارًا لنعمة الله عليه، وشكرًا له على ما تفضَّل به، فإن الله - عزَّ وجلَّ - يحب أن يَرَى أثرَ نعمته على عبده.
والسُّنَّة في عيد الفِطْر أن يأكلَ قبل الصلاة، وأنْ يأكلَ تمراتٍ وترًا ثلاثًا أو سبعًا أو تسعًا، وأمَّا في الأضحى فلا يأكل حتى يذبح أُضْحيته؛ ليأكلَ منها؛ فعن بريدة - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا يخرج يوم الفطر حتى يأكلَ، ولا يأكل يوم الأضحى حتى يرجع فيأكل من أُضْحيته"؛ رواه الإمام أحمد.
تعظيم شعائر الله:
لا بدَّ من تعظيم شعائر الله - جل وعلا - مصداقًا لقوله - تعالى -: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32].
فيُستحبُّ أن يخرجَ إلى المصلى ماشيًا؛ لقول علي - رضي الله عنه -: "من السُّنَّة أن تخرجَ إلى العيد ماشيًا، وأنْ تأكلَ شيئًا قبل أن تخرجَ"؛ رواه الترمذي.
ويُستحبُّ كذلك أن يخالفَ الطريق؛ ذهابًا وإيابًا، فيذهب من طريق ويعود من غيره؛ لحديث جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا كان يوم العيد خَالفَ الطريق"؛ رواه البخاري.
والمقصد من ذلك بعضُ الحِكَم، مثل: إظهار شعائر الإسلام بالذهاب والإياب، ومنها السلام على أهْل الطريقين، ومنها شهادة بقاع الأرض، ومنها التفاؤل بتغيُّر الحال إلى المغْفرة، ومنها قضاء حاجة مَن له حاجة في الطريقين.
العيد تهنئة ومودة:
والتهنئة بالعيد من العادات الحسنة التي تعارَفَ عليها الناس، مع ما فيها من تأليفٍ للقلوب، وجَلْبٍ للمودة والأُلفة؛ فعن مجاهد قال: "إذا الْتَقَى الرجلُ الرجلَ، فضحك في وجْهه تحاتَّتْ عنهما الذنوبُ، كما ينثُرُ الريحُ الورقَ اليابس من الشجر"؛ "المصنف"؛ لابن أبي شيبة، ج (10)، ص (301)، وعن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم فأخذ بيده، تحاتَّتْ عنهما ذنوبُهما، كما يتحات الورقُ من الشجرة اليابسة في يوم ريحٍ عاصفٍ، وإلاَّ غُفِرَ لهما ولو كانتْ ذنوبُهما مثل زَبَد البحر))؛ "المعجم الكبير"؛ الطبراني، ج (6)، ص (256).
وعليه؛ فلا حَرَج في التهنئة بأيِّ لفظٍ من الألفاظ المباحة، كأن يُقال: "تقبَّل الله منَّا ومنكم"، "عيد مبارك"، أو " كل عام وأنتم بخير"، أو نحو ذلك من العبارات، وقد كان أصحابُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا التقوا يوم العيد، يقول بعضُهم لبعض: "تقبَّل الله منَّا ومنك".
وإظْهار السرور والفرح في الأعياد من شعائر الدين، فلا بأْسَ من اللعب واللهو المباح، وفِعْل كلِّ ما يُدخِل البهجة في النفوس، مع مراعاة الحدود الشرعيَّة، من غير إفراطٍ ولا تفريط؛ فقد قَدِمَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ((ما هذان اليومان؟)) قالوا: كنَّا نلعب فيهما في الجاهليَّة، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما؛ يوم الأضحى ويوم الفِطْر))؛ رواه أبو داود.
لا للتبذير والاختلاط المحرَّم:
ولا بد أن يحذرَ المسلمون مما يحدث من البعض في أيام الأعياد من تبذير وإسراف، وتبديد للأموال والأوقات، وجُرْأة على محارم الله بالاختلاط وغيره، ونحو ذلك من الأمور التي تنافي التعبُّد لله الواحد الأحد في الأعياد وغيرها، وتعود بالضَّرر والخسران على أصحابها في الدنيا والآخرة.
مقاصد العيد:
الإسلام دينُ الفِطرة جاء بما يناسبها وما ترتاح إليه وتسكن، واقتضتْ سُنة الله في خَلْقه ألاَّ تسيرَ وقائع الحياة على وتيرة واحدة، وألاَّ تستمرَّ في رتابة ثابتة، بل جعلَ التغيير والتنويع من السُّنن التي فَطَر عليها الحياة والأحياء، فكان في تشريع الأعياد ما يلبِّي حاجات الناس، ويتجاوب مع فِطَرهم؛ من حبٍّ للترويح والتغيير، ونزوعٍ إلى التجديد والتنويع، فشرع لهم عيد الفطر عقْب ما فَرَضَ عليهم من الصيام، وشرع لهم عيد الأضحى بعد ما أوجَبَ عليهم من فريضة الحَج.
إنَّ الأعياد وإن كانتْ من الشعائر التي توجد لدى جميع الأمم والشعوب، فإنَّ الأعياد في الإسلام تختلف في مقاصدها ومعانيها، وقد قَدِمَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، قال: ((ما هذان اليومان؟)) قالوا: كنَّا نلعب فيهما في الجاهليَّة، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((إنَّ الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما؛ يوم الأضحى ويوم الفطر))؛ رواه أبو داود.
لا بد أن نعلم أنه من المقاصد العظيمة التي شُرعتْ لأجْلها الأعياد في الإسلام تعميق التلاحُم بين أفراد الأُمَّة الواحدة، وتوثيق الرابطة الإيمانيَّة، وترسيخ الأخوَّة الدينيَّة بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ مصداقًا لقول المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشدُّ بعضه بعضًا))؛ رواه البخاري.
فالعيد في الإسلام لا يختص به بلدٌ دون آخر، ولا أُناس في مكان ما دون غيرهم، بل يشترك فيه المسلمون جميعُهم في شتى البقاع والأماكن، حيثما كانوا وحيثما وجدوا، طالما انتسبوا لهذا الدين، وكانوا في عِداد المؤمنين.
ولهذا شُرِعَ في يوم العيد الخروجُ إلى المصلى، وألا يُتركَ أحدٌ من أهل البيت؛ صغيرًا أو كبيرًا، ذكرًا أو أنثى، حتى المرأة الحائض؛ ليلتقي الجميع، مهللين مكبِّرين ذاكرين لله؛ تحقيقًا لهذه الغاية.
كذلك من مقاصد العيد تغييرُ نمط الحياة المعتادة، وكسْر رتابتها الثابتة، ذلك أنَّ مِن طبيعة النفْس البشريَّة حبَّها وتطلُّعَها إلى تغيير ما اعتادته من أعمال، فكان العيد مناسبة للتغيير، وفرصة للترويح؛ لتستريحَ بعد التعب، وتفرحَ بعد الجد والنَّصَب، وتأخذ حظَّها من الاستجمام وما أباحَ الله، فتعود أكثر عملاً ونشاطًا، ولهذا - والله أعلم - جاء النهي عن صيام يوم العيد، وثبتَ عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((أيام التشريق أيام أكْلٍ وشرب وذِكْر))؛ رواه مسلم.
العيد فرح وسرور:
ومن مقاصده أيضًا مباسطة الأهل ومداعبتهم والتوسعة عليهم في غير إسراف، وخصوصًا بعد أن باعدتْ تكاليف الحياة ومشاغلها بين الأب وأبنائه، وبين الزوج وزوجته، وبين الإنسان وأرحامه، وقد ثبَتَ عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالتْ: "دخَلَ عليَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعندي جاريتان تغنِّيان بغناء بُعَاث، فاضطجع على الفراش وحوَّل وجْهه، فدخل أبو بكر، فانتهرني وقال: مزمار الشيطان عند رسول الله؟! فأقبلَ عليه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((دَعْهما؛ فإنه يوم عيد، فلمَّا غفلَ غمزتُهما فخرجتا، وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق (الترس) والحِراب، فإمَّا سألتُ رسول الله، وإمَّا قال: ((تشتهين تنظرين؟ فقلتُ: نعم، فأقامني وراءَه، ورأْسي على منكبه، وخَدِّي على خَدِّه، حتى إذا مللتُ قال: حسبُك؟)) قلتُ: نعم"، وفي رواية: "فدعاني النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فوضعتُ رأْسي على منكبه، فجعلتُ أنظر إلى لعبهم، حتى كنتُ أنا التي أنصرفُ عن النظر إليهم"؛ متفق عليه.
فهذا الحديث يدل على أن العيدَ فيه من الانبساط ما ليس في غيره، وأنَّ من مقاصده الترويح عن النفوس، والتبسُّط مع الأهل والأصحاب، في حدود ما أباحَ الله؛ قال الحافظ ابن حجر: "وفي هذا الحديث من الفوائد: مشروعيَّة التوسِعة على العيال في أيام الأعياد بأنواع ما يحصلُ لهم بسط النفْس، وترويح البدن من كلَفِ العبادة، وفيه أن إظهار السرور في الأعياد من شعار الدِّين".
وينبغي أن نعلمَ أن الانبساط واللهو المباحَ لا يَعني أبدًا الانفلات من القيود، والتحلُّل من الآداب، وإطلاق العنَان للشهوات، لتسترسلَ النفوس في الآثام واللذات، وتنساق مع دواعي الهوى والشيطان، دون رادعٍ من دينٍ أو وازعٍ من حياءٍ بدعوى التبسُّط والترويح يوم العيد.
كذلك فإنَّه من مقاصد العيد الأساسيَّة التذكيرُ بحقِّ الضعفاء والعاجزين، ومواساة أهل الفاقة والمحتاجين، وإغناؤهم عن ذلِّ السؤال في هذا اليوم؛ حتى تشملَ الفرحةُ كلَّ بيتٍ، وتعمَّ كل أسرة، ومن أجل ذلك شُرِعت الأُضْحية وصدقة الفِطْر.
فشعيرة العيد فرصة لتتصافَى النفوس وتلتقي وتتآلف القلوبُ، وتتوطد الصلاتُ والعلاقات، وتزول الضغائنُ والأحقاد، فتُوصَلُ الأرحام بعد القطيعة، ويجتمعُ الأحباب بعد طول غياب، وتتصافح الأفئدة والقلوب قبل الأيدي، ويعم الودُّ والصفاء المجتمعَ.
فلا بد أن نعلمَ أن العيدَ في حقيقته شُكْرٌ للمنعم على توفيقه للعبادة وإعانته على تمامها؛ كما قال - سبحانه -: ﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185]؛ لأن قضاء العبادة والطاعة يقتضي من المسلم أن يشكرَ الله - تعالى - الذي أعانه على ذلك، فإنه ما صلَّى ولا صامَ إلا بِمَنِّه وتوفيقه - سبحانه وتعالى - تقبَّل الله منَّا ومنكم، وأعاده علينا بالخير والبركات.
↧
↧
September 15, 2016, 4:28 pm
خطبة عيد النحر
|
الشيخ عبدالعزيز بن محمد العقيل |
الله أكبر عدد ما أحرَمَ الحجاج من الميقات، الله أكبر عدد ما لبوا وزِيدَ في الحسنات، اللهُ أكبرُ عدد ما دخَلوا فجاجَ مكَّة آمِنين، اللهُ أكبرُ عدد ما طافوا بالبيت الحرام.
اللهُ أكبرُ عدد ما سعَوْا بين الصَّفا والمروة ذاكرين مُكبِّرين، اللهُ أكبرُ عدد ما خرَجُوا إلى منى، اللهُ أكبرُ عدد ما وقَفُوا بعرفة خاضعين مخبتين منيبين إلى ربهم ومُهلِّلين.
اللهُ أكبرُ عدد ما وقَفُوا بالمشعر الحرام طالبين راغبين.
اللهُ أكبرُ عدد ما عادوا إلى منى وعدد ما رموا الجمرات، اللهُ أكبرُ عدد ما أراقوا من الدماء، وحلقوا رؤوسهم وقصَّرُوا تعظيمًا لربِّ الأرض والسماوات.
اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ لا إله إلا الله، اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ ولله الحمد.
الحمدُ لله الذي خلق آدم بيده من صلصالٍ كالفخَّار، وأسجَدَ له ملائكته المقرَّبين الأطهار، فسجَدُوا إلا إبليس أبى فباء باللعنة والصَّغار، مسح - تبارك وتعالى - ظهرَ آدم بيده فاستَخرَج ذريَّته كالذرِّ ونفَّذ فيهم الأقدار، قبَض قبضةً إلى الجنَّة وقبَض قبضةً إلى النار، لا تنفَعُه طاعةُ المطيع، ولا تضرُّه معصيةُ العاصي بل هو النافع الضار.
أحمده - سبحانه - على نِعَمِه الغزار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله أفضل مَن صلَّى ونحر، وحج واعتمر، وجاهد المنافقين والكفار، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه البرَرَة الأخيار وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ ولله الحمد.
أمَّا بعدُ:
فيا عباد الله، اتَّقوا الله حقَّ التقوى ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون، واعلَمُوا أنَّ يومكم هذا يومٌ عظيم وعيدٌ جليل، رفع الله قدرَه وسمَّاه يوم الحج الأكبر، خطب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في هذا اليوم فقال في خطبته: ((أيها الناس اعبُدوا ربَّكم، وصلُّوا خمسَكم، وصُوموا شهرَكم، وأطيعوا إذا أمرَكم، تدخلوا جنَّة ربِّكم))[1].
وقال: ((لا تَرجِعوا بعدي كُفَّارًا يضرب بعضُكم رِقابَ بعض))[2].
وفي هذا اليوم يجتَمِع الحجاج بمنًى يستكملون مناسِكَ الحج، ويتقرَّبون إلى الله بالعجِّ والثجِّ، يحيُون سنَّة أبيهم إبراهيم بإهراق الدماء في هذا اليوم العظيم، فإنَّ الله ابتلاه بأنْ أمَرَه بذبح ولده وفلذَةِ كبده؛ ليسلم قلبه لله، ولا يكون فيه شركة لسواه، فإنَّ العباد لذلك خُلِقوا، وبه أُمِروا فامتَثَل أمر به طائعًا، وخرج بابنه مسارعًا.
وقال: يا بني، إني أرى في المنام إني أذبحك فانظر ماذا ترى؟! فقال: يا أبت، افعل ما تُؤمَر، لا متوقفًا ولا متفكرًا، فاستَسلَما جميعًا للقضاء المحتوم، وسلَّما أمرهما للحيِّ القيُّوم، فلما تَلَّهُ للجبين، وأهوى إلى حلقه بالسكين، أدركَتْه رحمةُ أرحم الراحمين، ونُودِي أنْ يا إبراهيم، قد صدَّقت الرؤيا إنَّا كذلك نجزي المحسنين، إنَّ هذا لهو البلاء المبين، وأتى بكبشٍ فذبحه فداء ولده، فأحيا نبيُّنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذه السنة وعظَّمها فأهدى في حجَّته مائة بدنة، وضحَّى - صلَّى الله عليه وسلَّم - بكبشين أملحين أقرنين؛ أحدهما عن محمد وآل محمد، والآخَر عن أمَّة محمد.
فبادِرُوا - رحمكم الله - إلى إحياء هذه السنَّة الجليلة ولا تبخَلُوا بالمال الذي أنعَمَ الله به عليكم؛ فإنَّ صرفه في هذا الطريق إحياءٌ لسنَّة مؤكَّدة، وفي ذلك ثواب عظيم، ومن العلماء مَن يقول بوجوبها مع اليسار، والبعض على أنها مستحبَّة، وأفضلها أكرمها وأسمنها وأغلاها ثمنًا، وفي ذلك تعظيمٌ لشعائر الله، وتجزئ الشاة عن الرجل وأهل بيته، والبدنة تقومُ مقام سبع شِياة، والبقرة تقومُ مقام سبع شياة.
المجزئ من الضأن ما تمَّ له ستة أشهر، ومن المعز ما تمَّ له سنة، ومن الإبل ما تمَّ له خمس سنين، ومن البقر ما تم له سنتان، ولا تجزئ العوراء البيِّن عورها، ولا العَرجاء البيِّن ضلعها، ولا المريضة البيِّن مرضها، ولا الهزيلة التي تنقي، ولا العضباء التي قُطِعَ أكثر أذنها أو قرنها، ولا الهتماء التي ذهبت ثَناياها من أصلها، ولا الجدباء التي نشف ضرعها ويبس من الكبر.
والسنَّة نحرُ الإبل قائمةً معقولة يدها اليُسرَى، وذبح البقر والغنم على جنبها الأيسر موجَّهة إلى القبلة، ويجب أنْ يقول عند الذبح: بسم الله، ويستحب أنْ يقول: اللهُ أكبرُ.
والسنَّة أنْ يأكل منها ثلثًا ويتصدَّق بثلث ويهدي ثلثًا، ولا يبيع جلدها ولا شيئًا منها، ولا يعطى الجزار أجرته منها، ووقت الذبح من انقِضاء صلاة العيد إلى آخِر اليوم الثالث من أيَّام التشريق.
اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ لا إله إلا الله، اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ ولله الحمد.
فيا عباد الله:
حافِظُوا على هذه السنَّة، ولا تحرموا أنفُسَكم فضلَ الله؛ ففي الحديث عن زيد بن أرقم - رضِي الله عنه - أنَّهم قالوا: يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال: ((سنَّة إبراهيم))، قالوا: فما لنا فيها؟ قال: ((بكلِّ شعرةٍ حسنة))[3] ، فحافِظُوا على الفضائل وأوقاتها، وحقِّقوا إيمانكم بالأعمال الصالحة الخالصة لله.
حافِظُوا على الصلوات في أوقاتها مع الجماعة؛ فإنها عمود الإسلام، والركن الثاني من أركانه، مَن حَفِظَها وحافَظ عليها حَفِظ دِينَه، ومَن ضيَّعها فهو لما سِواها أضيع، فاحذَرُوا عُقوبات التساهُل بها، وأدُّوا زكاةَ أموالكم طيِّبة بها نفوسُكم إلى مُستحقِّيها ممَّن نوَّه الله عنهم في كتابه، فإنها الركن الثالث من أركان الإسلام، فمَن منَع زكاة ماله فقد هدَم ركنًا من أركان الإسلام، وصُوموا شهر رمضان واحفَظوا له حُرمته، وحجُّوا البيت الحرام من المال الحلال السالم من الشوائب؛ فإنَّ ذلك من أسباب قبول الدعاء والأعمال.
وعليكم ببرِّ الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الفقراء والأيتام، واحذَرُوا من العُقوق وقطيعة الأرحام والإساءة إلى المسلمين وأذيَّتهم؛ فإنَّ في ذلك خَراب الدِّيار وقطع الأعمار وخسارة الدنيا والآخرة، وأوفوا المكاييل والموازين؛ فقد توعَّد الله المطفِّفين بويلٍ؛ وهو وادٍ في جهنم، واجتنبوا الكذب والغيبة والنميمة، وقولَ الزور وشهادة الزور، واجتنبوا شرب المسكرات وتعاطي المخدِّرات التي فشَتْ لدى كثيرٍ من الناس ورضي لنفسه بمشاركة المجانين، وجنى على عقله وماله وجسمه وأطاع شيطانه وهواه، حتى امتلأت السجون من أولئك، خُصوصًا مَن يتَعاطى الحبوب التي غزا بها أعداء الإسلام أبناء المسلمين للقضاء عليهم بعد أنْ عجزوا عنهم بالنار والحديد.
واجتنبوا الرِّبا في المعاملات فإنَّه من السبع الموبقات، واحذَرُوا من التحايُل على أكله وأكل المال الباطل؛ فإنَّ الله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وقد ورد أنَّ أكَلَة الربا يجرون في صور الكلاب والخنازير من أجل حيلهم على أكل الربا.
وأمروا بالمعروف وانهَوْا عن المنكر؛ فإنَّهما من واجبات الإسلام، وما قام دينٌ إلا بذلك ولا استقام.
ويا مَن جنى على لحيته وأطالَ شاربه، احذَرْ عُقوبة مخالفة هدْي رسول الله؛ فقد نهى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن حلق اللِّحَى وإطالة الشوارب، واحذَرُوا يا عباد الله من الاستماع إلى الأصوات المحرَّمة، والنظر إلى ما لا يحلُّ النظر إليه من النساء الأجنبيَّات والمردان، سواء مباشرةً أو في تلفاز أو صُوَر؛ فإنَّ في ذلك الدمار، وفَساد الأخلاق وانتشار الرذائل، وضَياع الأموال والأوقات؛ قال - تعالى -: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [لقمان: 6].
واحذَرُوا تبرُّج النساء واختلاطهنَّ بالرجال الأجانب وخلوتهنَّ مع غير محارم؛ فإنَّ في ذلك أخطارًا عظيمة، ومن البليَّات ما أُصِيب به الكثيرُ من شُرب المسكرات وتَعاطي المخدِّرات التي أذهبَت العقول وقضَتْ على الشِّيَم والغيرة، والتي غَزا بها الأعداء أبناء المسلمين، فقد تنوَّعت أساليب غَزْوِ الأعداء؛ فتارةً بفساد الأخلاق وتحسين الباطل، وتارةً بالقضاء على العُقول والأجسام.
فيا أمَّة الإسلام:
ويا شباب المسلمين، انتَبِهُوا لأنفُسكم، واحذَروا أعداءَكم، فقد آنَ لكم أنْ تفيقوا، كفى هذا النوم والسُّبات، والغفلة والانغماس في الملذَّات، والانخِداع بما يمليه الأعداء؛ فقد ظهرت الحقائق، وعرَف المخدوع كيف خُدِعَ، ولم يبقَ له إلا أنْ يَعُود إلى رشده ويأخُذ الحيطة لأعدائه، فإنَّ أعداء المسلمين أعداء عقيدة، وإنَّ الكفر ملة واحدة.
ومَن خالَف عقيدةَ الإسلام فهو عدوٌّ للمسلمين، يجبُ عليهم أنْ يحذَرُوه، كما أنَّ على المسلمين شُعوبًا وولاةً أنْ يجتَمِعوا ويتَّحِدوا ويكونوا صفًّا واحدًا، ويلتَزِموا عقيدتَه الصافية التي لا يَشُوبها كدَر ولا زيف، وأنْ يُحكِّمُوا كتابَ الله في القليل والكثير والنقير والقطمير؛ فإنَّ الإسلام كُلٌّ لا يتجزَّأ، ولن يُنصَر المسلمون حتى يلتزموا الإسلامَ حقيقةً، ويتركوا المذاهب الهدَّامة والآراء المتشعِّبة، فطريق الحق واحدٌ، وما بعدَ الحق إلا الضلال!
يقول - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153].
لقد زهد الكثيرُ من المسلمين في تعاليم الإسلام، وحكَّموه في بعضٍ وحكَّموا الأهواء والآراء في بعضٍ، والله يقول: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ [البقرة: 85].
ويقول: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ [آل عمران: 85].
فأين الإسلام؟ وأين حقيقة الادِّعاء؟ وكيف يُرجَى النصرُ ممَّن لا يلتزم الإسلام أو يلتزم ببعضه دون البعض؟ إنَّ البشرية اليوم في حاجةٍ إلى مُنقذٍ لها ممَّا تعيشُ فيه من خوفٍ ورعب وتهديد من الأسلحة الفتَّاكة والمواد المحرقة، والبحار المنتنة والأجواء المتعكِّرة، ولا منقذ لها إلا الإسلام وتعاليمه السمحة السامية، فأين رجاله المخلصون الذين حملوا الأمانة في أعناقهم؟ أين الذين أنقَذُوا الأمم الكافرة بالإسلام؛ حتى أصبح الأعداء أنصارًا وعاش الجميع في ظله الوافر وتحت رايته الخفَّاقة؛ راية لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له؟!
رفَع الجميع رؤوسهم، ولم يخضَعوا إلا لله الواحد القهَّار، غزوا أكبر الأمم في وقتِهم؛ فارس والروم، وأخضَعُوهم وسلَبوا أموالهم مع قلَّة عددهم وضعف عُدَّتهم، وكثرة أعدائهم وقوَّة عُدَّتهم.
لقد غزا المسلمون الأعداءَ بالإيمان الصادق، بالعقيدة الصافية، بلا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، فلا قوميَّة ولا اشتراكيَّة ولا حزبيَّة يُملِيها الأعداء، وإنما عقيدة الإسلام ولا شيء غير الإسلام.
وإنَّ الإسلام في ذاك الوقت هو الإسلام في هذا الوقت، فإنَّه الدين الخالد الصالح لكلِّ زمان ومكان؛ فقد أكمَلَ لله الدِّين وأتمَّ النعمة؛ بقول - سبحانه وتعالى -: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].
فلا مجال لعقول الرجال، ولا حاجة لزبالة الأفكار، وإنما الحاجة إلى رجال الإسلام الذين يُطبِّقون تعاليمَه ويُحكِّمون شريعتَه كما كان سلفهم الصالح فأين أولئك؟ لقد حانَ وقتُهم، فلا بُدَّ من اليقظة والرُّجوع إلى الله؛ فقد تطاول أعداءُ الإسلام على المسلمين، وأخذوا يتوسَّعون في بلادهم ويُدنسون مُقدَّساتهم ويفتكون بأطفالهم ونسائهم وشيوخهم بعد أنْ سمَّموا أفكارهم وشعَّبوا مذاهبهم وأمنوا سطوتهم وانتقامهم، ولم يُفد المسلمين احتجاجاتُهم، وعرض قَضاياهم في المحافل الدولية التي سَيْطَرَ عليها أعداء الإسلام والمسلمين، بل وأعداء البشرية رؤوس الكفر والإلحاد.
إنَّ ما أُصِيبَ به المسلمون من تفكُّك وتخاذُل وابتعاد الكثير عن منهج الله وصراطه المستقيم قد آلَ بهم إلى أنْ وصَلُوا ما وصَلُوا إليه من ذلَّة ومَهانة وسَيْطرة الشرذمة القليلة؛ اليهود الذين ضُرِبت عليهم الذلة، وأنَّ أعداد المسلمين الهائلة مَن يَتسمونَ بالإسلام لم تفدهم شيئًا أمامَ شرذمة اليهود، أولئك العدد القليل المحصور في مكان، فإذًا لا بُدَّ من الرُّجوع إلى الله بصدقٍ وإخلاص ومحاسبة النُّفوس وإصلاح البواطن والظواهر، والاجتماع على العقيدة الصافية، والالتفاف تحت راية الإسلام والاجتماع صفًّا واحدًا، إنَّ الله يحبُّ الذين يقاتلون في سبيله صفًّا كأنهم بُنيانٌ مرصوص.
لا بُدَّ من هذا أولًا حتى لا نخاف الأعداء مهما كثٌر عددهم واستٍعدادهم، وحتى يحصل لنا النَّصر من الله كما حصل لأسلافنا الصالحين ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ﴾ [الحج: 40].
ولا بُدَّ من الإقلاع عن الذنوب والمعاصي ومعالجة الأمراض الفتَّاكة التي حَلَّتْ بمجتمعنا، ومن أعظمها خطرًا وأشدها ضررًا الانغماسُ في الملذَّات الضارَّة، والعُكوف على آلات اللهو والمجون وشُرب المسكرات وتعاطي المخدرات، وتبرُّج النساء وسفورهن واختلاطهن بالرجال الأجانب، ونظر الرجال إليهن ونظرهنَّ إلى الرجال.
وقد قال نبيُّنا - صلوات الله وسلامه عليه -: ((ما تركتُ بعدي فتنةً هي أضرُّ على الرجال من النساء))[4] ، فلا يحلُّ للرجل أنْ ينظُر إلى المرأة الأجنبيَّة، ولا يحلُّ لها أنْ تنظُر إليه.
ففي الحديث عن أم سلمة - رضِي الله عنها - قالت: كنتُ عند رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعنده ميمونة، فأقبل ابن أمِّ مكتوم وذلك بعد أنْ أُمِرنا بالحجاب، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((احتجبا منه))، فقلنا: يا رسول الله، أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أفعمياوان أنتما؟ ألستُما تنظرانه؟))[5].
وعن جرير بن عبدالله - رضِي الله عنه - قال: ((سألتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن نظر الفجاءة فأمرني أنْ أصرِفَ بصري))[6].
وعن بريدة مرفوعًا قال: ((يا علي، لا تتبع النَّظرة النَّظرة؛ فإنَّ لك الأولى وليست لك الآخِرة))[7].
فأمَر بصرف النظر عند وُقوعه على المرأة فجأةً، ومن المأسوف له أنَّ بعض المغرورين بدُعاة الشرِّ والرَّذيلة يُطالِبون بسُفور المرأة واختلاطها بالرجال، ويَزعُمون أنهم بذلك ينصرونها ويُطالبون بحقٍّ لها كانت قد هُضمَتْه ولا شكَّ أنَّ هذا مغالطة إنْ كانوا عارفين، أو سذاجةً إنْ كانوا جاهلين.
فلو رجعوا إلى ما قبلَ الإسلام لعرفوا أنَّ المرأة مهضومةٌ ومُهانة، فلمَّا جاء الإسلام أعزَّها ورفع قدرَها، وجعل لها التصرُّف في مالها وحَفِظَها في نفسها، وجعَلَها راعية ومدبِّرة في بيت زوجها؛ كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المرأة راعيةٌ في بيت زواجها ومسؤولةٌ عن رعيَّتها)).
فكما أنَّ الرجل راعٍ ومسؤولٌ فهي كذلك راعية ومسؤولة، ولا شك أنَّ لهذه الرعاية شأنًا ومنزلة في المجتمع.
فمتى قام كلٌّ من الرجل والمرأة بواجبه على ما فطَرَه الله عليه فإنَّ الأمور تستَقِيم بذلك، ومتى ضعُف الرجل عن واجبه وطلَب من المرأة أن تُشاركه وتُعِينَه على عمله، فإنَّ ميزان الحياة سيختلُّ، فإنَّ للمرأة أعمالًا لا تتَّفق وطبيعتها لا يمكن أن يُشاركها الرجل فيها، وبذلك تكون المرأة قد هُضِمت وحملت ما لا تتحمَّله؛ حيث شاركت الرجل في عِلمه ولم يُشارِكها في عملها، ولكنَّ دعاة السوء لم يريدوا نفْع المرأة ولا نصرَها، وإنما أرادوا إشباعَ رغباتهم الحيوانية بالتلذُّذ برؤيتها ومحادثتها والاحتكاك بها؛ محاكاةً للغرب وتقليدًا لبلاد أوربا، تلك البلاد التي عانَتِ الويلات من الاختلاط وفَساد الأخلاق وتمزُّق الأُسَر، وشَتات البيوت، وأصبحوا يُحارِبون الاختلاطَ ويُكافِحون شُربَ الخمور وتناول المسكِرات وتَعاطِي المخدِّرات، والعارف المنصِف الذي يَقرَأ عنهم أو ذهَب إلى بلادهم يَعرِف ذلك.
فيا عباد الله:
إنَّنا في نعمةٍ ونحن محسودون عليها، نعمة الإسلام وتقاليده السامية الذي من ثمرات التمسُّك به الأمنُ والاستقرارُ، ورغد العيش وصحَّة الأبدان، إنها نعمةٌ عظيمة حسَدَنا عليها الأعداء فغزَوْنا باسم الحرية والمدنية الزائفة التي كسوها لباسًا برَّاقًا انخَدَع به الكثير من أبناء المسلمين وحسَّنَه مَن في قلبه مرض.
ولكن سرعان ما ظهَر الزيف وتطايَرت القشور البرَّاقة وظهرت النار المحرقة، وتطاير شررها وارتفع لهبها واستعرَتْ فيما حولها، ولعلَّه يكفي واعظًا ما حصل للبنان وما كان عليه وما حصل به، فقد كان مضربَ المثل في الاستِقرار ورغَد العيش ومصيف القاصدين إليه من مسلمين وغير مسلمين، وقد وصَل إلى الحضيض في المجون وفساد الأخلاق، فلمَّا تَمادَى أكثر أهله في غيِّهم وضَلالهم وابتعَدُوا عن تعاليم ربهم، عاقَبهم الله بأنْ سلَّط بعضهم على بعض وقيَّض لهم عدوًّا دخَل بينهم، فقتل بعضهم بعضًا وخربوا ديارهم، وأهلكوا حروثهم وأشجارهم، فساعةً بأيديهم وفيما بينهم، وساعةً بيد عدوِّهم، وبقوا على هذه الحال منذُ ما يزيدُ على عشر سنين، وما زالوا - والله أعلم - متى تنتهي حربهم ويقف دمارهم؟
إنها مواعظ لو صادفت قلوبًا واعية وآذانًا مصغية، فيا مَن وقَع فيما وقَع فيه من عواقب وعمَّ عقابه، اتَّقِ الله في نفسك وفي أمَّتك قبل أنْ يعمَّ عقابك الصالح والطالح.
فيا أمَّة الإسلام عامَّة، ويا شعب هذه البلاد خاصَّة، اتَّقوا الله في أنفُسكم وفي أمَّتكم وفي بلادكم، عالجوا الأمراض المنتشرة بها، وأقلعوا عمَّا وقعتم فيه من ذُنوبٍ ومعاصٍ، حصِّنوا بلادكم بالإيمان الصادق والأعمال الصالحة، وتعاوَنُوا مع ولاة أمركم بإصلاح ما فسَد وعلاج من مرض وقمع مَن تُسوِّل له نفسه العبث بأمنها واستِقرارها، حصِّنوا بلادكم بالسياج الحصين بتعاليم دِينكم، كونوا يدًا واحة مع ولاة الأمر على أعداء دِينكم وبلادكم ومَن غاظهم ما تعيشونه من أمن ورخاء، فإنَّكم محسودون ومُستَهدَفون ولن تنجوا إلا بحصن الإسلام المنيع وقوَّته الرادعة.
فاتَّقوا الله في أنفُسكم، وهبُّوا من رقدتكم، واتَّعظوا بغيركم، واحذَروا التفريط والإهمال ما دُمتُم في زمن الإمهال، أعادَ الله علينا هذا العيد بعزِّ الإسلام ونصر المسلمين، وجنَّبَنا تقليد أعداء الدِّين، ووفَّقنا لاتِّباع هدي سيِّد المرسلين نبينا محمد، عليه أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الحج: 34 - 37].
اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ لا إله إلا الله، اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ ولله الحمد.
الخطبة الأخيرة للعيد
الحمدُ لله مُعِيد الجُمَع والأعياد، رافع السماوات بغير عمَدٍ ترونها، وباسط الأرض ومُرسِيها بالأطوار، أحمَدُه - سبحانه - على نِعَمِه التي لا يُحصَى لها تعداد، وأشكُره وبالشكر تحلو النِّعَم وتزداد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، شهادةً أعدُّها ليوم التناد، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله الهادي إلى سبيل الرشاد، الداعي إلى الله على بصيرةٍ حتى دانَتْ لدعوته العِباد، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه البرَرَة الأمجاد، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعدُ:
فيا عباد الله، اتَّقوا الله - تعالى - واعلَمُوا أنَّه ليس السعيد مَن أدرك العيد، ولبس الجديد، وركب المراكب الفاخرة وأشادَ المباني بالحجر والأسمنت والحديد، ولكنَّ السعيد مَن أطاع مولاه فيما يحبُّه ويرضاه، وانتهى عمَّا عنه نهى، ففار بجنَّة عرضها السماوات والأرض، فهذا هو السعيد.
ثم اعلَمُوا أنَّ الله - سبحانه وتعالى - أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه فقال - جلَّ من قائل -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمَّد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهمَّ عن الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمَّة المهديين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يَعدِلون؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقيَّة أصحاب نبيِّك أجمعين، وعن التابعين وتابعي التابعين، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين، اللهمَّ أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذَّل الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدِّين، وانصُر عبادَك المؤمنين.
اللهم آمنَّا في دُورنا وأصلحْ ولاة أمورنا، وارزُقهم البطانة الصالحة الناصحة، اللهمَّ اسلُك بهم صراطك المستقيم، اللهمَّ اجعلهم هُداةً مُهتدين موفَّقين للخير أينما كانوا.
اللهم انصُرهم على عدوِّك وعدوِّهم، اللهمَّ ارفَع بهم راية الإسلام، اللهمَّ مَن أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فاشغله بنفسه، اللهمَّ مَن كاد الإسلام كيدًا فاجعَلْ كيده في نحره، اللهمَّ شتِّت أمره، وانقُضْ ما أبرمه، اللهمَّ ادفَع عنَّا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمِحَن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصَّة وعن سائر بلاد المسلمين عامَّة يا رب العالمين.
﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201].
﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23].
عباد الله:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].
فاذكُروا الله العظيم الجليل يذكُركم، واشكُروه على نِعَمِه يزدكم، ولذكرُ الله أكبرُ، والله يعلم ما تصنعون.
[1] أخرجه أحمد في المسند: 5/251.
[2] أخرجه البخاري رقم (7077) ـ الفتح: 13/29.
[3] سنن ابن ماجه (3127)، المسند (4/368)، والسنن الكبرى؛ للبيهقي (9/261)، المستدرك؛ للحاكم (2/389).
[4] أخرجه البخاري رقم (5096) ـ الفتح: 9/41، ومسلم (2740).
[5] أخرجه أبو داود (4112)، والترمذي (2778)، قال الحافظ في الفتح (9/294): إسناده قوي.
[6] أخرجه مسلم (2159).
[7] أخرجه الترمذي (2777). أبو داود (2149)، وقال الأرناؤوط: الحديث حسن بطرقه.
↧
September 15, 2016, 4:34 pm
وطني والعيد
وَطَنُ الأَمْجَادِ وَالدُّنْيَا لَهُ
مُهَجٌ تَبْنِيهِ أَرْضًا وَسَمَا
هَتَفَ المَاضِي بِهِ مِنْ كَعْبَةٍ
عَانَقَتْهُ فَتَسَامَى وَسَمَا
إِنَّهُ لِلْعُرْبِ وَالإِسْلامِ بَلْ
لِبَنِي الإِنْسَانِ بَيْتٌ وَحِمَى
سُوَرُ التَّنْزِيلِ فِي أَرْجَائِهِ
عَمَّرَتْهُ مِنْ شُمُوخِ العُظَمَا
نَشَرَ الأُمِّيُّ فِي أَنْحَائِهِ
دَعْوَةَ الحَقِّ تَوَالَتْ قِيَمَا
غَرَسَ التَّارِيخَ فِي هِجْرَتِهِ
وَحَّدَ العُرْبَ يَدًا وَالعَجَمَا
ذَلِكَ العَهْدُ الَّذِي فَازَتْ بِهِ
أُمَّةٌ بِالشَّرْعِ تَبْنِي المُسْلِمَا
وَطَنِي مَهْدُ الإِبَا فَيْضُ العَطَا
أَنْجَبَ الصِّدِّيقَ رُوحًا وَدَمَا
وَمَشَى الفَارُوقُ فِي أَرْجَائِهِ
مَلَكَ الدُّنْيَا وَصَانَ الحُرُمَا
• • •
أَيْقَظَ التَّارِيخَ فِي حَاضِرِهِ
قَرَّبَ القَاصِي وَلَمَّ الأُمَمَا
وَطَنِي وَالعِيدُ مِنْ أَفْرَاحِهِ
كُلَّمَا جَدَّتْ رُؤَاهُ ابْتَسَمَا
وَحَّدَ الشَّمْلَ بِحُبٍّ مُفْعَمٍ
وَيَدٍ تَزْرَعُ خَيْرًا وَنَمَا
أَيُّهَا السَّارِي إِلَى كَعْبَتِهِ
وَالعُلا يَسْمُو بِهَا مَنْ حَكَمَا
هَذِهِ الأَرْكَانُ مَنْ شَيَّدَهَا
رَاسِيَاتٍ وَبَنَاهَا قِمَمَا؟
إِنَّهُ سَيْفُ الإِبَا رُكْنُ البِنَا
أَسَدُ الصَّحْرَا لِوَاءُ الزُّعَمَا
إِنَّهُ عَبْدُالعَزِيزِ المُهْتَدِي
بِالهُدَى حُكْمًا وَرَأْيِ الحُكَمَا
نَشَرَ الأَمْنَ عَلَى أَرْجَائِنَا
وَحَّدَ الشَّمْلَ وَأَبْلَى وَحَمَى
فَإِذَا العُرْبُ سَلامٌ يُحْتَذَى ![]()
وَالجِبَاهُ السُّمْرُ تَرْعَى الذِّمَمَا
وَإِذَا الأَوْطَانُ أَمْنٌ شَامِلٌ
وَاليَدُ العُلْيَا تَفِيضُ النِّعَمَا
فَهْدُنَا وَالأُسْدُ فِي عَلْيَائِهِمْ
كُلُّهُمْ رَاعٍ يَبَرُّ القَسَمَا
أَيُّهَا القَاطِنُ فِي أَوْطَانِنَا
عِشْ كَرِيمًا فِي رُبُوعِ الكُرَمَا
↧
September 15, 2016, 4:38 pm
فرحة العيد
فَرْحَةٌ تَنْسَابُ فِي اللَّحْنِ الأَغَنِّ ![]()
وَالأَهَازِيجُ تُنَاغِي كُلَّ فَنِّ
سَامِرَ العِيدِ الْتَقَى حَيٌّ بِحَيٍّ
يَصِلُ المَاضِي بِخَطْوٍ مُطْمَئِنِّ
رَدَّدَتْ أَفْرَاحُنَا عِيدًا سَعِيدًا
شَنَّفَ الأَسْمَاعَ فَالدُّنْيَا تُغَنِّي
وَطَنِي فِي صَفْحَةِ المَاضِي عَرِيقٌ
أَصَّلَ السَّيْفُ بِهِ مَشْيَ التَّثَنِّي
قَارِعًا لِلطَّبْلِ فِي غَيْرِ مُجُونٍ
هَاتِفًا بِالمَجْدِ لا هَزْلِ المُغَنِّي
التَّحَايَا زَفَّهَا لِلصَّيْدِ تَتْرَى
مِنْ قُلُوبٍ كُلُّهَا حُبٌّ يُغَنِّي
وَعَلَى شُطْآنِنَا قَلْبٌ كَبِيرٌ ![]()
فَهْدُنَا رُوحٌ فَيَا دَارُ اطْمَئِنِّي
وَافْرَحِي بِالعِيدِ نَشْوَى وَأَعِيدِي
أَنَا مِنْ فَهْدٍ وَفَهْدُ الحُرُّ مِنِّي
رَدِّدِي الأَنْغَامَ تَطْرِيبًا وَقُولِي
هَا هُنَا فَيْضُ العَطَا مِنْ غَيْرِ مَنِّ
شَيِّدِي الأَمْجَادَ لا تَخْشَيْ عَدُوًّا
قَلَّبَ الدَّهْرُ لَهُ ظَهْرَ المِجَنِّ
↧
September 15, 2016, 4:51 pm
الأزهر .. جامعا وجامعة
أحمد تمام
![]()
يعد جامع الأزهر أول عمل معماري أقامه الفاطميون في مصر، وأول مسجد أنشئ في مدينة القاهرة التي أسسها جوهر الصقلي لتكون عاصمة للدولة الفاطمية، وقد بدأ جوهر في إنشائه في (24 من جمادى الأولى 359هـ/ 4 من إبريل 970م)، ولما تم بناؤه افتتح للصلاة في (7 من رمضان 361هـ/ 22 من يونيو 971م).
ولم يكن يُعرف منذ إنشائه بالجامع الأزهر، وإنما أطلق عليه اسم جامع القاهرة، وظلت هذه التسمية غالبة عليه معظم سنوات الحكم الفاطمي، ثم توارى هذا الاسم واستأثر اسم الأزهر بالمسجد فأصبح يُعرف بالجامع الأزهر، وظلت هذه التسمية إلى وقتنا الحاضر، وغدا من أشهر المؤسسات الإسلامية على وجه الأرض.
ويردد المؤرخون أسبابًا مختلفة لإطلاق اسم الأزهر على جامع الفاطميين الأول في مصر، ولعل أقواها وأقربها إلى الصواب أن لفظة الأزهر مشتقة من الزهراء لقب السيدة فاطمة بنت رسول الله
، التي كانت الدولة الفاطمية تنتسب إليها، ومن ثَمَّ أطلق على جامع القاهرة اسم الأزهر؛ تيمنًا باسم السيدة فاطمة الزهراء.
بناء جامع الأزهر
وكان تصميم الأزهر وقت إنشائه يتألف من صحن تحفُّه ثلاثة أروقة، أكبرها رواق القبلة، وعلى الجانبين الرواقان الآخران، وكانت مساحته وقت إنشائه تقترب من نصف مسطحه الحالي، ثم ما لبث أن أضيفت مجموعة من الأبنية شملت أروقة جديدة، ومدارس ومحاريب ومآذن، غيَّرت من معالمه الأولى، وأصبح معرضًا لفن العمارة الإسلامية منذ بداية العصر الفاطمي.
ولعل أول عمارة أدخلت على الأزهر هي التي قام بها الخليفة الفاطمي الحافظ لدين الله، حيث زاد في مساحة الأروقة؛ وأقام قبة حافلة بالنقوش الجصّية البارزة لا تزال قائمة حتى اليوم. وفي العصر المملوكي اعتنى السلاطين بالأزهر بعد الإهمال الذي لحقه في العصر الأيوبي، وكان الأمير "عز الدين أيدمر" أول من اهتم بالأزهر، فقام بتجديد الأجزاء التي تصدعت منه، ورد ما اغتصبه الأهالي من ساحته، وجمع التبرعات التي تعينه على تجديده، فعاد للأزهر رونقه وبهاؤه ودبت فيه الحياة بعد انقطاع، واحتفل الناس بإقامة صلاة الجمعة فيه في يوم (18 من ربيع الأول سنة 665هـ/ 19 من نوفمبر 1266م).
ثم قام الأمير "علاء الدين طيبرس" نقيب الجيوش في عهد الناصر محمد قلاوون بإنشاء المدرسة الطيبرسية سنة (709هـ/ 1309م)، وألحقها بالجامع الأزهر، وقرر بها دروسًا للعلم، وقد عني هذا الأمير بمدرسته، فجاءت غاية في الروعة والإبداع المعماري.
ولم تكد تمضي ثلاثون سنة على هذه العمارة حتى أنشأ الأمير علاء الدين آقبغا سنة (740هـ/ 1340م) -وهو من أمراء السلطان الناصر محمد بن قلاوون- المدرسة الأقبغاوية، وهي على يسار الداخل من باب المزينين، وأنفق عليها أموالاً طائلة حتى جاءت آية في الجمال والإبداع، وبخاصة محرابها البديع، وجعل لها منارة رشيقة.
ثم أنشأ الأمير جوهر القنقبائي خازندار السلطان الأشرف برسباي مدرسة ثالثة عُرفت باسم المدرسة الجوهرية، وتقع في الطرف الشرقي من المسجد، وتشتمل على أربعة إيوانات على الرغم من صغر مساحتها، أكبرها الإيوان الشرقي، وبه محراب دقيق الصنع، وتعلو المدرسة قبة جميلة.
ولم تتوقف العمارة في الجامع الأزهر في عهد المماليك الجراكسة، حيث قام السلطان قايتباي المحمودي سنة (873هـ/ 1468م) بهدم الباب الواقع في الجهة الشمالية الغربية للجامع، وشيده من جديد على ما هو عليه الآن، وأقام على يمينه مئذنة رشيقة من أجمل مآذن القاهرة، ثم قام السلطان قانصوه الغوري ببناء المئذنة ذات الرأسين، وهي أعلى مآذن الأزهر، وهي طراز فريد من المآذن يندر وجوده في العالم الإسلامي.
غير أن أكبر عمارة أجريت للجامع الأزهر هي ما قام بها "عبد الرحمن بن كتخدا" سنة (1167هـ/ 1753م) وكان مولعًا بالبناء والتشييد، فأضاف إلى رواق القبلة مقصورة جديدة للصلاة يفصل بينها وبين المقصورة الأصلية دعائم من الحجر، وترتفع عنها ثلاث درجات، وبها ثلاثة محاريب، وأنشأ من الناحية الشمالية الغربية المطلة حاليًا على ميدان الأزهر بابًا كبيرًا، يتكون من بابين متجاورين، عُرف باسم باب المزينين، كما استحدث بابًا جديدًا يسمى باب الصعايدة، وأنشأ بجواره مئذنة لا تزال قائمة حتى الآن، ويؤدي هذا الباب إلى رواق الصعايدة أشهر أروقة الأزهر.
وفي عهد أسرة محمد علي عني الخديوي عباس حلمي الثاني بالأزهر، فجدد المدرسة الطيبرسية، وأنشأ لها بابًا من الخارج، وأضاف إلى أروقة الأزهر رواقًا جديدًا هو الرواق العباسي نسبة إليه، وهو أحدث الأروقة وأكبرها، وافتتح في (شوال 1315هـ/ يناير 1897م).
وقد أدخلت الآن تجديدات على الأزهر وتحسينات على عمارته بعد حادث الزلزال الذي أصاب الجامع بأضرار بالغة في سنة (1413هـ/ 1992م).
الأزهر جامعة
قام الأزهر بوظيفته التعليمية عقب الانتهاء من بنائه بسنوات قليلة؛ فشهد في (صفر 365هـ/ أكتوبر 975م) أول درس علمي، حين جلس قاضي القضاة "أبو الحسن علي بن النعمان" وقرأ في وسط حشد من الناس مختصر أبيه في فقه آل البيت، فكانت هذه أول حلقة علمية بالجامع الأزهر، ثم قام الوزير "يعقوب بن كلس" الفاطمي بتعيين جماعة من الفقهاء للتدريس بالأزهر، وجعل لهم رواتب مجزية، وأنشأ لهم دورًا للسكنى بالقرب من المسجد، وبهذا اكتسب الأزهر لأول مرة صفته العلمية باعتباره معهدًا للدراسة المنظمة.
غير أن الأزهر شهد انتكاسة في العصر الأيوبي، وفَقَد بريقه الذي لازمه في عهد الفاطميين، وكان الأيوبيون يعملون على إلغاء المذهب الشيعي، وتقوية المذهب السني بإنشاء مدارس لتدريس الحديث والفقه، فاجتذبت الشيوخ والأساتذة وطلاب العلم، في الوقت الذي قلَّ الإقبال فيه على الأزهر، وأصيبت الحركة العلمية فيه بالشلل، فانزوى بعد أن أهمله الأيوبيون القائمون على الحكم، غير أن هذه العلة التي أصابته لم تدم كثيرًا، فاسترد الأزهر عافيته في العصر المملوكي، واستعاد مكانته السامقة باعتباره معهدًا علميًّا راقيًا، وأصبحت تدرس فيه المذاهب السنية، وانقطعت صلته بما كان يدرس فيه من قبلُ.
ولقي الأزهر عناية فائقة من سلاطين المماليك منذ عهد الظاهر بيبرس، وتوالت عليه عمليات التجديد، وإلحاق المدارس به، وظل الجامع الأزهر في العهد العثماني (923-1213هـ/ 1517-1789م) موضع عناية الخلفاء وولاتهم في مصر، فجُدّد في بنائه، ووسعت مساحته، وأضيفت إليه مبان جديدة، وشهد إقبالاً على الالتحاق به، فازدحم بالعلماء والدارسين، وبحلقات العلم التي لم تقتصر على العلوم الشرعية واللغوية، بل شملت أيضًا علم الهيئة والفلك والرياضيات من حساب وجبر وهندسة.
نظام التعليم بالأزهر
كان الطالب يلتحق بالأزهر بعد أن يتعلم القراءة والكتابة ومبادئ الحساب ويحفظ القرآن الكريم، دون التزام بسن معينة للطالب، ثم يتردد الطالب على حلقات العلماء ويختار منها من يريد من العلماء القائمين على التدريس، وكانوا يدرسون العلوم الشرعية من فقه وحديث وآداب وتوحيد ومنطق وعلم الكلام.
وكان طلاب الأزهر غير ملتزمين بالانتظام في الدراسة؛ فقد ينقطع عنها لفترة ثم يعاود الكرة مرة أخرى في الانتظام، ولم تكن هناك لوائح تنظم سير العمل، وتحدد مناهج الدراسة، والفرق الدراسية، وسنوات الدراسة، بل الأمر متروك للطالب الذي يتردد على حلقات العلم المختلفة، حتى إذا آنس في نفسه أنه أصبح أهلاً للتدريس والجلوس موقع الشيوخ والأساتذة استأذنهم وقعد للدرس، فإذا لم يجد فيه الطلاب ما يرغبون من علم، انفضوا عنه وتركوا حلقته، أما إذا التفوا حوله، ولزموا درسه، ووثقوا فيه، فتلك شهادة منهم بصلاحيته للتدريس وجدارته بالقعود موضع الأساتذة، وحينئذٍ يجيزه شيخ الأزهر.
شيخ الأزهر
ولم يعرف الأزهر منصب شيخ الأزهر إلا في العهد العثماني، إذ لم يجر النظام على تعيين شيخ له، تعيينًا رسميًّا، وكان المعروف أن للأزهر ناظرًا يتولى شئونه المالية والإدارية ولا علاقة له بالنواحي العلمية، وهذا المنصب أنشئ في العصر المملوكي، وكان هذا الناظر يرأس الجهاز الإداري للجامع من الموظفين والخدم. ويكاد يجمع المؤرخون على أن أول من تقلد المشيخة في تاريخ الأزهر هو الشيخ "محمد بن عبد الله الخرشي المالكي" المتوفى سنة (1101هـ/ 1690م)، ثم توالى شيوخ الجامع الأزهر حتى يومنا هذا.
تطوير الأزهر
وظلت نظم التعليم في الأزهر تجري دون تغيير أو تطوير حتى تولى محمد علي حكم مصر، وعني بالتعليم واتبع سياسات جديدة من شأنها أن أعرض عن الأزهر، وانتزع أملاكه التي كانت موقوفة عليه، فساءت أحواله، وظهرت دعوات جادة لإصلاح شئونه وتطوير نظمه ومناهجه التعليمية، فصدر أول قانون في سنة (1288هـ/ 1872) في عهد الخديوي إسماعيل لتنظيم حصول الطلاب على الشهادة العالمية، وحدد المواد التي يُمتحن فيها الطالب بإحدى عشرة مادة دراسية شملت الفقه والأصول والحديث والتفسير والتوحيد والنحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والمنطق.
وكانت طريقة الامتحان تقوم على أن يكون الطالب في موضع المدرس، والممتحنون أعضاء اللجنة في وضع الطلبة، فيلقي الطالب درسه، ويقوم الشيوخ بمناقشته بما يلقون عليه من أسئلة في مختلف فروع العلم، وقد يستمر الامتحان لساعات طويلة لا تقطعها اللجنة إلا لتناول طعام أو لأداء الصلاة، حتى إذا اطمأنت اللجنة إلى رسوخ الطالب أجازته، وحددت مستواه بدرجات تعطيها لها، فالدرجة الأولى تمنح للطالب الذي يجتاز جميع المواد أو معظمها، والدرجة الثانية للذي يقل مستواه العلمي عن صاحب الدرجة الأولى، ولا يسمح له إلا بتدريس الكتب المتوسطة، أما الدرجة الثالثة فلا يُسمح لحاملها إلا بتدريس الكتب الصغيرة للمبتدئين، ومن يخفق في الامتحان فله أن يعاود الكرة مرة أخرى أو أكثر دون التزام بعدد من المحاولات، ويحق لمن حصل على الدرجة الثانية أو الثالثة أن يتقدم مرة أخرى للحصول على الدرجة الأعلى. ويعدُّ صدور هذا القانون أول خطوة عملية في تنظيم الحياة الدراسية بالجامع الأزهر، غير أنها لم تكن كافية لتحقيق الإصلاح المنشود.
وفي عهد الخديوي عباس حلمي الثاني صدرت عدة قوانين لإصلاح الأزهر؛ كان أهمها القانون الذي صدر في سنة (1314هـ/ 1896م) في عهد الشيخ "حسونة النواوي"، وكان للشيخ محمد عبده يد طولى في صدور هذا القانون، حيث كان يقود حركة إصلاحية لتطوير الأزهر، وقد حدد القانون سن قبول التلاميذ بخمسة عشر عامًا مع ضرورة معرفة القراءة والكتابة، وحفظ القرآن وحدد أيضًا المقررات التي تُدرس بالأزهر مع إضافة طائفة جديدة من المواد تشمل الأخلاق ومصطلح الحديث والحساب والجبر والعروض والقافية والتاريخ الإسلامي، والإنشاء ومتن اللغة، ومبادئ الهندسة وتقويم البلدان، وأنشأ هذا القانون شهادة تسمى "الأهلية" يتقدم إليها من قضى بالأزهر ثماني سنوات، ويحق لحاملها شغل وظائف الإمامة والخطابة بالمساجد، وشهادة أخرى تسمى "العالمية"، ويتقدم إليها من قضى بالأزهر اثني عشر عامًا على الأقل، ويكون من حق الحاصلين عليها التدريس بالأزهر.
ظهور جماعة كبار العلماء
وفي سنة (1239هـ/ 1911م)، صدر القانون رقم 1 لسنة 1911م وذلك في أثناء المشيخة الثانية للإمام "سليم البشري"، وبمقتضى هذا القانون أنشئت "هيئة كبار العلماء"، وتتكون من ثلاثين عالمًا من صفوة علماء الأزهر، واشتُرط فيمن ينتخب عضوًا بهذه الهيئة، ألا تكون سنُّه أقل من خمسة وأربعين عامًا، وأن يكون مضى عليه وهو مدرس بالجامع الأزهر والمعاهد الأخرى عشر سنوات على الأقل، منها أربع على الأقل في القسم العالي، وأن يكون معروفًا بالورع والتقوى، وليس في ماضيه ما يشينه، ثم تغير الاسم في عهد مشيخة المراغي إلى "جماعة كبار العلماء".
ظهور الجامعة الأزهرية
وتضمنت مواد القانون السابقة زيادة مدة الدراسة بالأزهر إلى خمسة عشر عامًا، مقسمة على ثلاث مراحل، لكل منها نظام ومواد خاصة، وتوالت على هذا القانون تعديلات كان آخرها ما ظهر في سنة (1349هـ/ 1930م) في عهد الشيخ "محمد الأحمدي الظواهري"، وكان خطوة كبيرة نحو استكمال الإصلاح، وجعل هذا القانون الدراسة بالأزهر أربع سنوات للمرحلة الابتدائية، وخمس سنوات للمرحلة الثانوية، وأنشأ ثلاث كليات هي: كلية أصول الدين، وكلية الشريعة، وكلية اللغة العربية.
ثم صدر القانون 103 في (11 من المحرم 1381هـ/ 5 من يوليو 1961م) الذي أصبح الأزهر بمقتضاه جامعة كبرى تشمل إلى كلياته الثلاثة القديمة كليات مدنية، تضم: كلية المعاملات والإدارة، وكلية الهندسة، وكلية الطب، وكلية الزراعة، وكلية البنات التي جعلت بمنزلة جامعة خاصة تشتمل على أقسام الطب والعلوم والتجارة والدراسات الإسلامية والدراسات العربية، والدراسات الاجتماعية والنفسية.
وشمل القانون إنشاء مجلس أعلى للأزهر يترأسه شيخ الأزهر ويختص بالتخطيط ورسم السياسة العامة للأزهر، وإنشاء مجمع البحوث الإسلامية بديلاً عن جماعة كبار العلماء، ويتكون من خمسين عضوًا من كبار علماء الإسلام يمثلون جميع المذاهب الإسلامية، ويكون من بينهم عدد لا يزيد عن عشرين من غير العلماء المصريين.
هوامش ومصادر:
* عبد العزيز محمد الشناوي: الأزهر جامعًا وجامعة - مكتبة الأنجلو المصرية – القاهرة - 1913م.
* محمد عبد الله عنان: تاريخ الجامع الأزهر - مكتبة الخانجي - القاهرة - (1378هـ/ 1958م).
* علي عبد العظيم: مشيخة الأزهر - مطبوعات مجمع البحوث الإسلامية - القاهرة - (1398هـ/ 1978م).
* سعاد ماهر: مساجد مصر وأولياؤها الصالحون - المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – القاهرة - 1976م.
* عبد الرحمن زكي: الأزهر وما حوله من الآثار - الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر - القاهرة - 1970م.
المصدر: موقع إسلام أون لاين.
↧
↧
September 15, 2016, 4:55 pm
هكذا تحدث التاريخ عن الطغاة
مولاي البرجاوي
إشكالية الطُّغاة ليست وليدةَ اللَّحظة، كما قد يتخيَّل البعض من خلال تَجْرِبة تونُس ومِصر، لكنَّ جُذورها موغِلَة في القِدَم، ولعلَّ المثال البارز في هذا البابِ "فرعون" الذي اتَّبع نظامًا "ثيوقراطيًّا"؛ أيْ: إنَّه حاكِمٌ يَستمدُّ نظامه السِّياسيَّ من قدرات لاهوتيَّة؛ باعتباره إِلَهًا، أو ابْنَ الآلهة، أو "مبعوثَ العناية الإِلَهية".
كما استمرَّ الأمر كذلك في أوربا الغربِيَّة إبَّان النظام الفيودالي، بل وحتَّى العصر الذي يُسمُّونه عصر الأنوار مع "فولتير" و"جون جاك روسو"، الذي سنَّ ما يُسَمَّى بـ"العقد الاجتماعي"، الذي يفسر أنَّ العلاقة بين السُّلطة والشعب هي علاقة تعاقدية تتمُّ بِمُوجب واجبات وحقوق لِكَلا الطَّرفين، بناءً على عقد يلتزم به الجانبان، ومعايير سياسية واجتماعيَّة تتَّفِق مع رغبة الشَّعب، لكن -للأسف- هذه المعايير تعتمد قواعد علمانيَّة وديمقراطية بِمَفهومها الغربي؛ إذْ إنَّ الديمقراطية -على حدِّ تعبير "جورج كوك" GEORGE COQ-: "لا تُفْضِي إلى ظهور إنسان متميِّز، بل إنسان مُخاتل ومُخادع، وإلى استبدادٍ من نوع خاص".
لكنَّ الحبيب المصطفى
سنَّ عقدًا إيمانيًّا ربانيًّا، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، مبنِيٌّ على القاعدة التالية: "كلُّكم راعٍ، وكلكم مسئولٌ عن رعيته". وهو المبدأ الذي سار على دربه الخلفاءُ الرَّاشدون، والتزم به السَّلَفُ الصَّالح، لكن ما إنْ حاد حُكَّامُها وسلاطينها عن هذا النَّهج حتَّى شطَّت وتعسَّفت وطغَت.
في معنى الطاغية والطغيان:
يَحْمل هذا المصطلحُ معانِيَ متعدِّدة -حسب سياقات تاريخيَّة معينة، وبيئة معينة- من قَبِيل الاستبداد، والدكتاتورية، والتوليتارية، والفاشية، والنازية، والارستقراطيَّة، والظُّلم.
لكن الطغيان عمومًا هو وضع الشَّيء في غير مَحلِّه، باتِّفاق أئمة اللغة، وهو أيضًا: عبارة عن التعدِّي عن الحق إلى الباطل، وفيه نوعٌ من الْجَور؛ إذْ هو انحرافٌ عن العدل، كما عرَّف الرَّاغبُ الأصفهاني في كتابه (الْمُفردات في غريب القرآن) الطُّغيانَ بأنَّه: "تَجاوزُ الْحدِّ في العصيان، ويقال: "طَغى الماء" إذا جاوز الحدَّ المعقول المعروف، وقوله تعالى: {فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة: 5].
أمَّا الشوكانِيُّ -رحمه الله- فقال: الطَّاغية: الصَّيحة التي جاوزَت الحدَّ، وقيل: بِطُغيانِهم وكُفْرهم، وأصل الطُّغيان مُجاوزة الحد.
ويذهب الأستاذ "بدر خضر" في كتابه "القهر الإنساني في هندسة الطَّاغية" إلى أنَّ الطاغية مَن أسرف في المعاصي والقهر، وقد يَتَّخِذ من القوانين -خاصَّةً الوضعية- ما يُتِيح له ارتكابَ الفظائع.
أما الدكتور "أحمد القديدي" في مقالاته الرائقة "الطُّغاة والطغيان في نص القرآن" المنشورة في نشرة تونس نيوز 05/01/2004م أن الطَّاغوت عبارة ليس لَها -على ما أعلم- رديفٌ أو نظير أو ترجمة في أيَّة لُغَة من لغات العالَم؛ فهي إشارةٌ من إشارات الإعجاز القرآني الفريد، حَمَّلها الله -سبحانه- كلَّ معاني الطُّغيان (وهو اسم المصدر) إلى جانب مفهوم الْمُبالغة والتضخيم؛ لأنَّ الطاغوت هو الطُّغيان المعظَّم، مع معنى الشمول؛ أيْ: إن الطَّاغوت هو الطُّغيان إذا ما استفحل؛ للتَّعميم على كلِّ سلوكيات الناس، وطمْسِ حُرِّياتِهم، وحَبْس أنفاسهم، وعَدِّ حركاتِهم، ومراقبة سكناتهم، (وضرَب القرآنُ مثَلاً لذلك بفرعون حين قال لقومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى} [غافر: 29]).
كما أنَّ عبارة الطاغوت تَميَّزَت بكونها مفردًا وجمعًا في نفس الوقت، وأنَّها تستعمل لوصف طاغية أو لوصف طُغاة عديدين، وكذلك لِنَعت الصِّفة (الطُّغيان)، ونعت الفعل (طغَى يَطْغى)، إلى جانب تَحْميل المولى -عزَّ وعلا- لِهَذه العبارة معانِيَ الاستبداد المؤدِّي حتْمًا إلى الضَّلال ثُمَّ الكفر، واتِّخاذها أيضًا رمزًا مُضادًّا للإيمان، مُناقِضًا للإسلام.
أشهر الطغاة عبر التاريخ:
سجَّل التاريخُ نَماذج من الطُّغاة سعَتْ إلى فرْض هيمنتها وجبَروتِها على رعيَّتِها بشتَّى أنواع التنكيل والتقتيل والتجويع، فكان عاقبتها الخُسران المُبين، وخير ما نبدأ به هو النَّمُوذج الوارد في كتاب الله باعتباره المصدرَ الأوَّل في التشريع الإسلامي، يقول تعالى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} [العنكبوت: 39].
ثُمَّ لا يمر عصرٌ من العصور الْمُوالية إلاَّ ويطبع التاريخ بخراب الطغاة وظلمهم، ولكن تكون نِهايتهم مُخْزية ومهينة للعبرة والعظة، هيهاتَ هَيهات! أين الْمُتَّعِظون من طُغاة هذا العصر؟!
في عهد الإغريق كان الطُّغيان -حسب تعريف أرسطو قديمًا- هو صورةٌ للحُكم الفرديِّ في مُمارسة السُّلطة دون رقيبٍ ولا حسيب، حتَّى في أثينا التي قالوا عنها: إنَّها اتَّبعتْ نظامًا ديمقراطيًّا، أما أفلاطون فيُشبِّه الطاغية بالذِّئب؛ "لأنَّه يذوق بلسانه دمَ أهله بقتلهم وتشريدهم"، بينما شبَّه القديس "أوغسطين" التاريخَ الرُّومانِيَّ بتاريخ عصابة اللصوص والطُّغاة المتجبِّرين.
لكن الطُّغيان الأكثر فتْكًا بالعالَمِ الغربِيِّ ما مارسَتْه الكنيسةُ الكاثوليكيَّة في شخص الأكليروس (رجال الدِّين النَّصارى) من استعبادٍ واستغلال بأفرادها؛ من خلال ترويجٍ لِخُزعبلات، مستغلِّين سذاجةَ وجهل أهلها التامَّيْن بأمور دينهم؛ من خلال احتكار الكَنِيسة للكتب الدِّينية المُحَرَّفة، ومن أبرز تَجلِّيات ذلك ما يسمى بـ"صُكوك الغفران"، كما أوجب القديس "جريجوري" طاعةَ الْحكم المدَنِيِّ ولو كان طاغيةً؛ لأنَّ كل حكم له علاقة بالله[1].
لكن في المقابل، بإطلالة سريعةٍ على التَّاريخ الإسلاميِّ في أزهي مراحله -وهي الْمَرحلة التي بدأتْ فيها أوربا تغرق في ظلام حالكٍ على المستوى الدِّيني والمعرفي- يعطينا مثلاً أبو بكر الصديق
أروعَ النَّماذج في العدل، ونفْي صِفَة القداسة عن نفسه، بل يَعْتبر نفسه بشَرًا عُرْضة للخطأ، فلم يُنَصِّب نفسه
ملَكًا ولا نبيًّا مرسلاً، ولَم يُلْصِق بنفسه صفة العِصْمة؛ إذْ يقول: "لقد وُلِّيتُ عليكم، ولَسْت بِخَيركم، فإنْ أحسَنْتُ فأعينوني، وإن أسَأْت فقَوِّموني، أطيعوني ما أطعْتُ الله فيكم ورسولَه، فإنْ عصيتُ الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم".
والباحث والمدقِّق في تاريخ الصِّدِّيق
يرى أن تصرُّفه كان غايةً في الحرص على الالتزام بكتاب الله
والتأسِّي برسول الله
في الرَّعية، والتنَزُّه عن كل مطامع الدنيا وزينتها؛ ثِقَةً منه بأنَّ مَن ساس أمور الناس، فأفاد لِنَفسه منها، كان ظالِمًا لنفسه، وللناس جميعًا، ونفس الشيء ينطبق على باقي الخلفاء الرَّاشدين -رضوان الله عليهم- ومن سار على درْبِهم من السلف الصالح.
لكنْ مع انتشار العقائد الباطنية الفاسدة التي تَمَّ جلْبُها من التيَّارات الفلسفية القديمة، ظهر طُغاةٌ من أمثال المُعزِّ لدين الله الفاطميِّ، الذي اختزل مفهوم الحكم بصراحةٍ غيْر معهودة لَمَّا قال: "هذا حسَبِي" -مشيرًا إلى المال- "وهذا نسَبِي" مشيرًا إلى سيفه.
وفي العصر الحالِيِّ ابْتُلِي العالَمُ الإسلامي بِخُدَّام العلمانيَّة الغربية المتوحِّشة من أمثال الطَّاغية "زين العابدين بن علي"، الذي قضى على كلِّ ما يَمُتُّ للإسلام بِصَلةٍ؛ بدعوى مُحاربة الإرهاب؛ خدمةً للكيان الصِّهيو- أمريكي، وللأجندة الغربية.
عودًا إلى التاريخ الحديث، وبِتَصفُّحِنا للكتابات التاريخية الغربية، نجده مرسومًا بِثُلَّة من القادة الطُّغاة، الذين أبادوا ودمَّروا، وعاثوا في الأرض فسادًا، ولعلَّ من أبرزهم:
- أدولف هتلر (1889 – 1945م): وُلِد في النِّمسا، قاد شعبه الألماني إلى الهَاوية في الحرب العالمية الثانية، عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى انضمَّ هتلر إلى الجيش الألمانِيِّ كعريف في الخنادق، وقد هزَّه استسلامُ ألمانيا في عام 1918م، إلى الانخراط في العمل السياسيِّ، وتزعَّم حِزبًا متطرِّفًا "حزب العُمَّال الألماني الاشتراكي القومي"، ويسمَّى اختصارًا (الحزب النازي)، قاد مُحاولتَه الأولى للاستيلاء على السُّلطة فسُجِن، لكن ذلك كان فرصةً لتأليف كتابِه الْمُعنون بـ"كفاحي"، الذي تضمَّن فلسفتَه السياسية؛ إذْ كان يؤمن بِتَفوُّق العنصر الآريِّ الألماني على باقي الأجناس البشريَّة.
وبعد تَهاوي الاقتصاد الألمانِيِّ في عام 1929م -إبَّان الأزمة الاقتصادية العالمية، التي انطلقت من انهيار أسهم بورصة "وول ستريت"- صوَّت أغلبيةُ الشَّعب الألماني لِصَالح "هتلر"، وفي سنة 1932م أصبح الحزب النازيُّ الأكثر تمثيلاً في (البرلمان)، ثم انْتُخِب مستشارًا؛ إذْ عمل على سحق مُعارضيه لِيُعيِّن بعد ذلك نفْسَه قائدًا (الفوهرر) على ألمانيا.
وفي عام 1939م، أطلق الشرارة للحرب العالمية الثانيَّة بِضَمِّه النمسا والسويد وبولندا التي كانت السَّببَ الْمُباشر في اندلاع الْحَرب، لكنَّ انتصاره كان قصيرَ العمر؛ ففي 1945م انتحر "هتلر" بعد انهزامه أمام الرُّوس في معركة "ستالينجراد".
- جوزيف ستالين.. الطاغية الفولاذي: اسمه الكامل "جوزيف فيساريونوفيتش ستالين" (1953- 1879م)، بوصول ستالين للسُّلطة المُطلقة في 1930م، عمل على إبادة أعضاء اللجنة المركزية البلشفيَّة، وأعقبها بإبادة كلِّ مَن يعتنق فِكْرًا مُغايِرًا لفكر "ستالين"، أو مَن يَشُكُّ "ستالين" في مُعارضته!
تفاوتَت الأحكام الصَّادرة لِمُعارضي فكر "ستالين"؛ فتارةً يَنْفي مُعارضيه إلى معسكرات الأعمال الشَّاقة، وتارة يزجُّ بِمُعارضيه في السُّجون، وآخرون يتمُّ إعدامهم، بعد إجراء مُحاكمات هزليَّة، بل ومن أهمِّ استراتيجيَّاته "الطُّغيانية" تطبيقُ ما يُسَمَّى بالاغتيالات السِّياسية، ومِن ثَمَّ قَتلَ الآلاف من المواطنين السُّوفييت، وزَجَّ آلافًا آخرين في السُّجون لِمُجرَّد الشكِّ في معارضتهم لمبادئه الأيديولوجيَّة!
في الأول من مارس 1953، وخلال مأدبة عشاء بحضور وزير الداخلية السوفييتي "بيريا" و"خوروشوف" وآخرين، تدهورَتْ حالة "ستالين" الصحِّيَّة، ومات بعدها بأربعة أيام. وتَجْدر الإشارة إلى أنَّ المُذكِّرات السياسية لـ"مولوتوف"، والتي نُشرت في عام 1993م تقول: إن الوزير "بيريا" تفاخر لـ"مولوتوف" بأنَّه عمد إلى دسِّ السُّم لـ"ستالين" بِهَدف قتله.
- بنيتو موسوليني.. رمز الفاشية: ويُسمَّى أيضًا بالدوتشي، حكَم إيطاليا من 1922م إلى 1943م، وفرَّ إلى سويسرا بعد الهزيمة الألمانية، وتعرَّض له أنصاره، وقتَلوه رمْيًا بالرَّصاص في 28 نيسان/ إبريل 1945م.
يقول عنه المؤرخ "فيشر" في كتابه "تاريخ أوربا الحديث": "استقبَلَت دولُ أوربا الغربيَّةُ نَزعاتِ طُغيانِ الديكتاتور الإيطالِيِّ، وأساليبَ قمْعِه واضطهاده، بأحاسيس العداء والارتياع؛ فقد أنجبَتْ إيطاليا رجلاً مستبِدًّا من طراز قيصر، تُحِيطه هالةُ الخطيب الذَّرِب، وتُحَلِّيه مَكارِمُ رجلٍ من رجال الشعب، ولكنه حاكِمٌ مُستبد، يكدح ويجدُّ لكي يَجْعل أمته قوية متَّحِدة، فكان الثَّمَن الذي دفعه الإيطاليُّون للخيرات والمنافع التي جاءَتْهم على أيدي الدوتشي هو فقدانهم الحرية".
- فرانسيسكو فرانكو (1892- 1975م): رئيس الدولة الإسبانيَّة، وقد قلد "فرانكو هتلر" و"موسوليني" في أنه جعل نفْسَه زعيمًا وأبًا لإسبانيا، وسَمَّى نفسه "الكوديللو"؛ أيْ: زعيم الأُمَّة، كما سَمى "هتلر" نفسه "الفوهرر"، و"موسوليني" نفْسَه باسم "الدوتشي"، وهي كلمة إيطالية لا تختلف في معناها عن كلمة "الفوهرر" أو "الكوديللو" الإسبانية، كان من المفترض أنْ يَنهار نظامُ "فرانكو" مع انْهِيار "هتلر" و"موسوليني" بعد الْحَرب العالمية الثَّانية، ولكن "فرانكو" كان شديد الْحَذر، فأعلن حِيادَ إسبانيا أثناء الحرب، ومِمَّا سجَّله التاريخ ما ارتكبه في حقِّ أهل الريف المَغاربة من استعمال الغازات المَحْظورة دوليًّا.
وفي 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 1975م توُفِّي فرانكو عن 83 عامًا من العمر، بعد نزاعٍ دام 35 يومًا إثر مشكلات في القلب.
وما زال الطُّغاة يَطْفون على سطح العالَم الْمُعاصر، من أمثال "جورج بوش"، الذي أحدث مَحاكِمَ التَّفتيش الجديدة من خلال سجن "جوانتانمو"، و"شارون" الذي يعذَّب في الدُّنيا قبْلَ الآخرة؛ لِمَا مارسه في حقِّ الفلسطينيين الأبرياء.
عاقبة الطغاة الظلمة المتجبرين في الأرض:
ولنا في كتاب الله العِبْرة والعِظَة؛ فهو الْمُوجِّه والْمُخبِر عن مآل الظَّالِم والطَّاغي في الأرض، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 59]. وقال الله
: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 42، 43]. وقال سبحانه: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]. وقال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم: 44، 45]. وقال: {أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} [الشورى: 45].
والظُّلم من الْمَعاصي التي تُعَجَّل عقوبَتُها في الدُّنيا، فهو مُتعدٍّ للغير، وكيف تقوم للظَّالِم قائمةٌ إذا ارتفعَت أَكُفُّ الضَّراعة من الْمَظلوم فقال الله
: "وعزَّتي وجلالي لأنصُرنَّكِ ولو بعد حين"؟!
قال أبو العتاهية:
أَمَا وَاللَّـهِ إِنَّ الظُّلْمَ لُـؤْمٌ *** وَمَا زَالَ الْمُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ
إلى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضِي *** وَعِنْـدَ اللَّهِ تَجْتَمِعُ الْخُصُومُ
سَتَعْلَمُ فِي الْحِسَابِ إِذَا الْتَقَيْنَا *** غَـدًا عِنْدَ الإِلَهِ مَنِ الْمَلُومُ
وأكثر من هذا حذَّر الله -سبحانه- أشدَّ التحذير من الظُّلم؛ لِخُطورته الشديدة، يقول عزَّ مِن قائلٍ: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]؛ إذْ إنَّ ندم الظَّالِمِ وتَحسُّرَه بعد فوات الأوان لا ينفع؛ قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} [الفرقان: 27].
واللهَ نسأل أنْ يَحْفظنا من الظُّلم والظَّالِمين، ويَحْشرنا مع حبيبنا سيِّد المُرسلين محمَّدٍ -عليه أفضل الصَّلاة والسلام- والحمدُ لله ربِّ العالَمين.
↧
September 15, 2016, 5:02 pm
يوسف الشرق ويوسف الغرب
شريف عبد العزيز
![]()
عمل يوسف بن تاشفين من أول يوم له لقيادة المرابطين على تحويل الحركة المرابطية من حركة جهادية معنية بنشر الإسلام الصحيح إلى دولة كاملة الأركان، متينة الأسس بالمعنى الشامل لمفهوم الدولة، وذلك على أساس الجهاد لنشر الدين ومحاربة المرتدين وتوحيد بلاد المغرب الشاسعة تحت راية دولة واحدة على الكتاب والسنة.
عندما تذكر البطولة والشجاعة والأعمال العظيمة فإنه سوف يتبادر إلى ذهن معظم المسلمين عدة أسماء بعينها يحفظونها في كل موطن، فمن الصحابة مثلاً خالد بن الوليد، وحمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبى طالب،
أجمعين، وينسون أن جيل الصحابة كان في معظمه أبطالاً شجعانًا لا يثبت لهم العدو في القتال فواق ناقة، أما من بعد الصحابة فتجد الناس لا يعرفون إلا صلاح الدين الأيوبي، واسمه يوسف بن أيوب، وسيف الدين قطز، والظاهر بيبرس، ثم تنقطع بعدهم الأسماء ولا يذكرون أحدًا غيرهم إلا قليلاً..
وذلك على الرغم من أن هناك أبطالاً للمسلمين سجلوا أروع البطولات وقاموا بأعظم الأدوار في حماية الأمة، منهم صاحبنا يوسف بن تاشفين الذي أنقذ بلاد المغرب والأندلس من الضياع في فترة بالغة الحساسية، والعجيب أن الشهرة طارت كلها ليوسف الشرق الذي حرر بيت المقدس، والنسيان والإهمال كله كان من نصيب يوسف الغرب الذي كان له الدور الأكبر في إنقاذ دولة الإسلام في الأندلس من السقوط، وأجّل هذا السقوط لأربعة قرون كاملة.
بلاد المغرب الممزقة :
منذ أن انطلقت الحملة الجهادية المباركة لفتح بلاد المغرب العربي وبلاد المغرب الواحدة تلو الأخرى تفتح أمام جيوش الصحابة والتابعين، وقبائل البربر الكبيرة والضخمة تدخل في دين الله أفواجًا تاركة ما كانت عليه من كفر وضلال وعادات عرفيه تحكم حياتهم المظلمة، وأشرقت شمس الهداية على هذه القبائل الوثنية فتبدلت أخلاقهم وقلوبهم وسمت نفوسهم، وظلت بلاد المغرب العربي من ليبيا إلى الأطلسي ولاية تابعة للخلافة الأموية وشطرًا من الخلافة العباسية، ثم ظهر الطامعون واستبد المستبدون وقامت عدة دويلات من عباءة الخلافة العباسية منها دولة الأغالبة ودولة الأدارسة ودولة الخوارج والدولة الفاطمية الخبيثة والدولة الرستمية، ولولا ضعف الخلافة العباسية بعد عصر المتوكل ما كان لبعض هذه الدول أن تظهر أو تقوم.
وكانت قبائل البربر هي الضحية الأولى والكبرى لهذا التمزق الذي أصاب هذه البلاد الكبيرة من أمة الإسلام، إذ وجد البربر أنفسهم بعدما كانوا يدينون بالولاء لدولة الخلافة تمزقوا وتشرذموا وتفرقوا بين الدويلات العديدة التي ظهرت في بلادهم، وهذا أدى لتوقف عجلة تعليم البربر أصول الإسلام، فعاد الكثيرون منهم للعادات والأعراف البربرية القديمة وانتشر بينهم الجهل المطبق، ولم يعد لهم نصيب من الإسلام سوى الاسم فقط لا غير، والجميع غارق في الشركيات والضلالات والخرافات.
ظهور حركة المرابطين :
ظلت بلاد المغرب مسرحًا للخلافات الداخلية بين الدويلات القائمة بين بعضها البعض، وظلت قبائل البربر تنحدر في هاوية الجهل والضلال حتى كأنها عادت للجاهلية الأولى، وظل الوضع يسير من سيئ لأسوأ حتى ظهرت حركة المرابطين سنة 434 هجرية ـ 1042 ميلادية على يد فقيه ورع زاهد اسمه "عبد الله بن ياسين" عمل على نشر الدين الصحيح في صفوف البربر، فلم يجد استجابة منهم إلا القليل، فأنشأ رباطًا للعبادة في جزيرة بنهر النيجر، وانقطع فيه للعبادة والعلم هو ومجموعة صغيرة من تلاميذه الذين أخذوا في الازدياد يومًا بعد يوم حتى صاروا عدة آلاف، وعندها قرر "عبد الله بن ياسين" محاربة القبائل البربرية الخارجة عن تعاليم الإسلام، وذلك بمساعدة أمير قبيلة "لمتونة" البربرية وهى إحدى بطون قبيلة صنهاجة الكبرى الأمير يحيى بن عمر اللمتوني، وهكذا أصبحت حركة المرابطين حركة جهادية خالصة تقوم على نشر الإسلام ومحاربة الضلال والشركيات وتوحيد بلاد المغرب من جديد.
في هذه البيئة الجهادية والجو الإيماني وفى رباط نهر النيجر وعلى يد الشيخ الزاهد "عبد الله بن ياسين" ظهر بطلنا صاحب الدور الأروع في هذه الفترة من حياة الأمة "يوسف بن تاشفين اللمتونى"، فقد توفى الأمير يحيي بن عمر سنة 447 هجرية، وتولى مكانه أخوه أبو بكر بن عمر فواصل عمل أخيه من توحيد البلاد ومحاربة الضالين، وجعل قائد جيوشه ابن عمه الأمير المقدام يوسف بن تاشفين، وذلك سنة 448 هجرية، وكان وقتها في الثامنة والأربعين من العمر إذ إنه من مواليد سنة 400 هجرية
يوسف بن تاشفين مؤسس دولة المرابطين الكبرى :
استشهد "عبد الله بن ياسين" في قتاله ضد قبيلة "براغوطة" الوثنية سنة 451 هجرية ـ 1059 ميلادية، وآلت رياسة حركة المرابطين لأبى بكر بن عمر، الذي واصل السير على نهج ابن ياسين، فافتتح العديد من مدن المغرب وأعادها للإسلام الصحيح، ثم ما لبث أن اضطر للعودة إلى قلب الصحراء للإصلاح بين قبيلتي "لمتونة" و"مسوفة"، وهما عماد حركة المرابطين، وترك قيادة المرابطين لابن عمه وقائد جيوشه "يوسف بن تاشفين"، وذلك سنة 453 هجرية وقد وافق شيوخ المرابطين على هذا الاختيار لما يعلمونه عن يوسف من ديانة وشجاعة وفضل وحزم وعدل وورع وسداد رأي ويمن نقيبة.
عمل "يوسف بن تاشفين" من أول يوم له لقيادة المرابطين على تحويل الحركة المرابطية من حركة جهادية معنية بنشر الإسلام الصحيح إلى دولة كاملة الأركان، متينة الأسس بالمعنى الشامل لمفهوم الدولة، وذلك على أساس الجهاد لنشر الدين ومحاربة المرتدين وتوحيد بلاد المغرب الشاسعة تحت راية دولة واحدة على الكتاب والسنة.
اتبع يوسف بن تاشفين سياسة بارعة في إقامة الدولة، تقوم على تقسيم جيوشه البالغ عددها أربعين ألف مقاتل لعدة أقسام، يوجه كل قسم إلى جزء معين من بلاد المغرب، وشرع في بناء عاصمة للدولة المرابطية، وكانت مدينة "مراكش" الشهيرة هي عاصمة الدولة الجديدة سنة 454 هجرية، ومعناها بلغة قبيلة المصامدة أكثر قبائل المغرب قوة وعددًا وكانوا عماد جيش المرابطين.
واصل يوسف بن تاشفين مشروعه الكبير لتوحيد بلاد المغرب تحت راية واحدة هي الدولة المرابطية، فلم يهنأ براحة ولا عرف دعة أو سكونًا، ولا تنعّم بمأكل أو مسكن رغم اتساع ملكه، فلم يلبس طوال حياته إلا الصوف، ولم يأكل سوى الشعير ولحوم الإبل وألبانها، دائب التفقد لبلاده وثغوره وأحوال المسلمين، لا يحكم إلا بالشرع، وظل يوسف بن تاشفين مجاهدًا من أجل تحقيق حلمه منذ سنة 454 هجرية حتى سنة 474 هجرية أي عشرين سنة متصلة حتى أقام بالمغرب دولة واحدة كبيرة ممتدة من تونس شرقًا حتى الأطلنطي غربًا، ومن البحر المتوسط شمالاً حتى ثلث أفريقيا الشمالي تقريبًا "حدود مالي وتشاد والنيجر والسنغال"، وقد تم القضاء على سلطان سائر الأمراء المحليين الذين مزقوا المغرب تحت أطماعهم وأهوائهم وحولوها لدويلات ضعيفة هزيلة متفرقة.
بعد أن حقق "يوسف بن تاشفين" مشروعه الكبير بتوحيد بلاد المغرب العربي أشار عليه بعض الناس أن يتخذ سمة الخلافة بحكم أنه أقوى رجل في العالم الإسلامي وقتها وأكثره ملكًا، ولكن البطل رفض ذلك فهو على دين وورع وزهد لا يريد من جهاده دنيا ولا مناصب بل أصر على أن تكون ولايته على بلاد المغرب مدعومة بموافقة الخليفة العباسي وقتها "المستظهر بالله"، الذي أرسل إليه التقليد والعهد بالولاية، وتلقب "يوسف بن تاشفين" من يومها بـ "أمير المسلمين وناصر الدين".
من توحيد المغرب إلى إنقاذ الأندلس :
في الفترة التي كان يعمل فيها يوسف بن تاشفين على توحيد بلاد المغرب الممزقة وإعادة القبائل البربرية للإسلام الحق, كانت دولة الإسلام في الأندلس تمر بمرحلة دقيقة وخطرة في حياتها ووجودها؛ إذ أصابها ما أصاب بلاد المغرب من التشرذم والتفرق ولكن بصورة أكبر وأخطر, وهذه المرحلة المعروفة تاريخيًّا بعصر ملوك الطوائف، والتي تحوّلت فيه دولة الإسلام في الأندلس لعدة دويلات صغيرة على رأس كل دويلة منهن أسرة حاكمة يتوارث أبناؤها الحكم والرياسة، وكانت السمة الغالبة لملوك الطوائف هي ضعف الوازع الديني والانغماس في الشهوات والمفاسد والملذات والرتع في الدنيا مع رقة الدين، أضف لذلك كثرة الخلافات الجانبية بين الملوك؛ مما أدى لكثرة القتال الداخلي بينهم على الحدود أو الحصون أو النفوذ، وهذا أدى بدوره لنتيجة في غاية الخطورة وهى تسلط نصارى إسبانيا على مسلمي الأندلس واتساع رقعتهم على حساب دولة الإسلام بالأندلس.
ومع مرور الأيام واتساع الخرق في وضع المسلمين بالأندلس ازداد تسلط النصارى عليهم، وملوك الطوائف بلغ بهم الضعف والهوان لأن يدفعوا الجزية لملك إسبانيا الكبير ألفونسو السادس الذي كان يخطط لمشروعه الصليبي الكبير، والذي عرف تاريخيًّا باسم "حرب الاسترداد"، أي استرداد الأندلس من المسلمين، وقد حقق ألفونسو السادس قفزة كبيرة في مشروعه عندما استولى على مدينة (طليطلة) عاصمة إسبانيا القديمة وذلك سنة 476 هجرية، وعندها توجهت القلوب والأنظار كلها نحو عُدْوَة المغرب بحثًا عن المنقذ والمنجد بعد الله
.
الأمير مستجاب الدعوة :
انهالت الاستغاثات من أهل الأندلس وأيضًا من ملوكها على أمير المسلمين يوسف بن تاشفين الذي هالته الأخبار القادمة من هناك على وضع دولة الإسلام وتسلط الصليبيين على المسلمين، فجمع يوسف الفقهاء ومشايخ المرابطين واستشارهم في ذلك فأجابوه جميعًا بوجوب نصرة المسلمين فأرسل في بلاد المغرب مستنفرًا الناس للجهاد في سبيل الله ونجدة الدين.
في أوائل سنة 479 هجرية عبر أمير المسلمين بجيوشه البحر، وما إن ركب البحر حتى اضطرب وتعالت أمواجه وهدرت منذرة بصعوبة العبور، فنهض الأمير زعيم المرابطين وسط سفينته ورفع يديه إلى السماء مناجيًا ربه
قائلاً: "اللهم إن كنت تعلم أن في جوازنا هذا خيرة للمسلمين، فسهل علينا جواز هذا البحر، وإن كان غير ذلك فصعبه حتى لا أجوزه"، فما كاد أن يتم دعاءه حتى هدأ البحر وسكن الريح وعبرت الأساطيل بسهولة، وهكذا نرى هذا البطل العجوز المجاهد، المتوكل على ربه، المستعين به في الشدائد، ما يكون بينه وبين ربه إلا أن يقول: "يا رب" فيقول المولى
: "أجبتك عبدي".
بطل الزلاقة :
عبر زعيم المرابطين "يوسف بن تاشفين" بجيوشه الكبيرة المتحمسة للجهاد ضد أعداء الإسلام ونجدة المسلمين، وكان لنزوله على أرض الأندلس رجة كبيرة، إذ أعلن ألفونسو السادس هو الآخر النفير العام في صليبي إسبانيا وأوربا، فجاءه المتطوعون بالآلاف من أنحاء إسبانيا وفرنسا وإيطاليا بعدما استمد المعونة من بابا روما، ولما شعر ألفونسو السادس باجتماع قوة كبيرة عنده، أرسل برسالة طويلة للزعيم يوسف بن تاشفين يتهدده فيها ويتوعده ويصف له قوة جيوشه وكثرة جنوده، فرد عليه البطل المحنك برسالة مكونة من ثلاث كلمات كان لها وقع الصاعقة على ألفونسو، حيث كتب على ظهر رسالته الطويلة: "الذي يكون ستراه"، فارتاع ألفونسو بشدة وعلم أنه بلي برجل له عزم وحزم.
وفى يوم 12 رجب سنة 479 هجرية، وكان يوم جمعة، كانت بلاد الأندلس على موعد مع واحدة من أكبر وأعظم المعارك وواحدة من اللقاءات الحاسمة والمصيرية بين الإسلام والنصرانية، المسلمون من أندلسيين ومغاربة تحت قيادة البطل المجاهد يوسف بن تاشفين وقد بلغ الثمانين من العمر، وهو مع ذلك ما زال يجاهد من على صهوة جواده، شاهرًا سيفه، محمسًا لجنوده، والنصارى من إسبان وطليان وفرنسيين وغيرهم تحت قيادة ألفونسو السادس عاهل صليبي إسبانيا، وكانت معركة عارمة قاسية في منتهى العنف، ثبت كلا الفريقين في قتال لا فرار فيه, ولكن الخطة الذكية التي وضعها "يوسف بن تاشفين" والتي قامت على استدراج الجيش الصليبي ثم مهاجمة مؤخرة الجيش والنفاذ منها إلى قلب الجيش الصليبي والدفع بكتيبة الحرس الأسود شديدة الشراسة في القتال للقضاء على ما تبقى من مقاومة لدى الصليبيين، وانتهت المعركة بنصر خالد للمسلمين على الصليبيين، وذلك كله بفضل الله
ثم القيادة البارعة والحكيمة للبطل العجوز "يوسف بن تاشفين".
مصيبة البطل :
بعد النصر العظيم الذي حققه أمير المسلمين "يوسف بن تاشفين" على صليبي إسبانيا في الزلاقة, كان من المقرر أن يواصل الفتح حتى يستعيد مدينة "طليطلة" العريقة، ولكنه وفى نفس يوم الفتح والنصر العظيم بالزلاقة والبطل في قمة سعادته بنصر الإسلام والمسلمين، إذ بالخبر المفجع يقطع سعادته ويبدد فرحه، إذ جاءه خبر وفاة ولده الأكبر وولي عهده الأمير "أبي بكر"، وقد تركه أميرًا على بلاد المغرب.
وبعد مجيء هذا الخبر المفجع اضطر "يوسف بن تاشفين" أن يعود إلى المغرب ليضبط البلاد؛ حتى لا تضطرب بعد وفاة أميرها، فعاد إليها بعد أن ترك حامية مرابطية تقدر بثلاثة آلاف مقاتل تحت تصرف ملك إشبيلية "المعتمد بن عباد"، وبذلك توقفت سيرة فتح المرابطين والتقط الصليبيون أنفاسهم بعودة "يوسف بن تاشفين" إلى المغرب.
صرخات أندلسية :
بعد أن قام أمير المرابطين بمهمته المقدسة في نجدة المسلمين بالأندلس عاد إلى بلاده ومكث بها عدة شهور، ولكنه ما لبث أن جاءته رسائل استغاثة من أهل شرق الأندلس خاصة من أهل بلنسية ومرسية ولورقة الذين وقعوا تحت تهديد النصارى، ولقد علم المسلمون بالأندلس أنه لا ناصر لهم ولا منقذ لهم بعد الله
إلا الأمير المجاهد "يوسف بن تاشفين" فأرسلوا إليه بصرخاتهم وهم يعلمون أنه لن يتخلف أبدًا عن نجدتهم.
عاد "يوسف بن تاشفين" بجيوشه للأندلس في شهر ربيع الأول سنة 481 هجرية وأرسل إلى ملوك الطوائف يطلب منهم الاستعداد للجهاد، وكان الهدف تطهير منطقة شرق الأندلس من التهديدات الصليبية، ولكن اختلف أمراء الطوائف فيما بينهم وكثرت شكاواهم من بعضهم البعض، بل وصل الأمر أن تعاون بعضهم في السر مع ألفونسو السادس؛ من أجل إفشال هذه الحملة المباركة، وهذه الأمور أغضبت أمير المرابطين يوسف بن تاشفين الذي ساءه ضعف الوازع الديني لدى هؤلاء الأمراء الذين يفترض فيهم أن يكونوا أغير الناس على المسلمين وحرماتهم، وقرر "يوسف بن تاشفين" العودة إلى بلاد المغرب ولكنه كان يضمر شيئًا آخر.
أعظم أعمال البطل :
عاد "يوسف بن تاشفين" إلى المغرب سنة 482 هجرية، وقد اطلع أكثر فأكثر على أحوال الأندلس وأمرائها، ومن خلال النظرة الثاقبة للبطل المحنك الذي جاوز الثمانين، قرر "يوسف بن تاشفين" القيام بأعظم أعماله على الإطلاق وهو إسقاط دولة ملوك الطوائف الهزيلة وتوحيد الأندلس تحت راية واحدة قوية تمامًا مثلما فعل من قبل ببلاد المغرب الممزقة.
ولكن ما هي البواعث التي حملت "يوسف بن تاشفين" على اتخاذ هذا القرار الكبير الخطير؟
الباعث الأول والأهم :
الحفاظ على دولة الإسلام في الأندلس وإنقاذها من المحو والضياع، فلقد تأثر "يوسف بن تاشفين" منذ البداية بما شهده من اختلال أمراء الطوائف وضعف عقيدتهم، وانهماكهم في الترف والفسق، ورتعهم في الشهوات، وما يقتضيه ذلك من إرهاق شعوبهم بالمغارم الجائرة، وأدرك "يوسف" أن هذه الحياة الماجنة والعابثة التي انغمس فيها رؤساء الأندلس قد أثرت على شعوبهم فاقتدوا بهم وعمت الميوعة والترف حياة سائر الأندلسيين، وأن هذا الترف والنعومة هي التي قوضت منعتهم، وفتت في رجولتهم وعزائمهم وقعدت بهم عن متابعة الجهاد ومدافعة العدو المتربص بهم على الدوام، وأن الشقاق الذي استحكم بينهم ولم ينقطع حتى بعد الزلاقة، سوف يقضى عليهم جميعًا، وإذا تركت الأمور في مجراها فلسوف يستولي الصليبيون على الأندلس كلها ويعيدونها نصرانية مرة أخرى.
الباعث الثاني :
وهو استراتيجي تكتيكي يكشف عن عقلية عسكرية متقدمة وفائقة عند أمير المرابطين "يوسف بن تاشفين"، وهو في حالة سقوط الأندلس فسوف تمتد الأطماع الصليبية لعُدْوَة المغرب، والأندلس بالنسبة للمغرب بعدًا استراتيجيًّا دفاعيًّا في غاية الأهمية، وهذه فطنة غابت عن حكام المسلمين اليوم، وهم يتركون مكرهين أو راضين بلاد العراق وأفغانستان تسقط لقمة سائغة بيد الصليبيين، وقد كشفت الأيام عن خطورة هذا الترك، فها هي أمريكا تتهدد سوريا وتعد مشروعًا كبيرًا لاحتلالها والبقية تأتي، فيا ليتنا نقرأ التاريخ لنستفيد من تجارب السابقين.
وفى أوائل سنة 483 هجرية بدأ البطل العجوز في أعظم أعماله وإنجازاته :
توحيد الأندلس وإزاحة دولة الطوائف الذليلة الخانعة، فهل يدري المسلمون ما فعله أمراء الطوائف؟
ما فعلوه يؤكد على صدق توقع "يوسف بن تاشفين" وصدق عمله وأهمية وضرورة ما سيقدم عليه، لقد قام أمراء الطوائف بالتعاون والاتفاق مع زعيم الصليبيين ألفونسو السادس على حرب المرابطين، إخوانهم المسلمين، وذلك نظير أموال طائلة وبلاد ومدن وحصون يؤدونها إلى هذا العدو الصليبي، فهل يصلح هؤلاء الطغاة للبقاء، ولقد استفتى "يوسف بن تاشفين" علماء زمانه أمثال: الغزالي والطرطوشي وغيرهم فيما هو سيقدم عليه، فأجاب الجميع بوجوب قيامه بإزاحة ملوك الطوائف، بل إن علماء الأندلس وفقهاءها كتبوا بنفس المعنى ليوسف بن تاشفين.
وظل أمير المجاهدين يعمل على إزاحة ملوك الطوائف وإعادة الأندلس دولة واحدة من سنة 483هـ حتى سنة 495 هجرية تقريبًا أي اثنتي عشرة سنة متواصلة من العمل الدءوب لاستئصال هذا الورم السرطاني من جسد الأمة حتى تم له ذلك، واستقبلت الأندلس عهدًا جديدًا من القوة والوحدة، وانقمع الصليبيون حينًا من الدهر.
ولم يؤثر المجاهد الكبير، الذي أصبح على مشارف المائة، أن ينهي حياته بلا جولة جديدة مع كبير صليبي إسبانيا ألفونسو، وأراد أن يفتح مدينة "طليطلة" العريقة، فالتقى معه في معركة قوية سنة 491 هجرية وهزمه هزيمة فادحة، حطم بها قواه لفترة طويلة، ولكنه لم يفتح "طليطلة" للأسف الشديد، ثم آثر أن يولي ابنه وولي عهده من بعده الأمير "علي" إمارة الأندلس للتأكد من سلامة الأوضاع فيها.
رحيل البطل :
وفي 1 محرم سنة 500 هجرية أي وهو في المائة من العمر، قرنًا كاملاً من الزمان، رحل البطل، وترجّل الفارس الشجاع، وموحد الأمة بعد أن أتم أمير المرابطين عمله الذي عاش وجاهد من أجله، ووحد بلاد المغرب والأندلس تحت راية واحدة، وأعاد الإسلام الصحيح بربوع المغرب، وأزال الظلمة والطواغيت والمتسلطين على رقاب العباد، وصد الصليبيين عن مسلمي الأندلس، وأوقف حرب الاسترداد الإسبانية فترة من الزمان، ورفع شأن المسلمين بالمغرب في الوقت الذي كانت أمة الإسلام بالمشرق تعاني من الضعف ومن التفرق، وقد سقط بيت المقدس بيد الصليبيين، ولو قُدّر أن يكون "يوسف بن تاشفين" بأرض المشرق لتغيرت مسيرة الحملات الصليبية تمامًا.
ولربما تغيّرت الأمور كلها هناك لما يحمله هذا الرجل من مشروع كامل وقوي لوحدة المسلمين وإقامة الدولة الإسلامية على أساس الكتاب والسنة.
فرحمة الله الواسعة على هذا البطل المنقذ الذي حفظ الله
به أمة الإسلام في جزء كبير من أرضها وتاريخها.
المراجع والمصادر :
1- نفح الطيب.
2- الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى.
3- تاريخ ابن خلدون.
4- روض القرطاس.
5- الحلل الموشية.
6- المعجب في تلخيص أخبار المغرب.
7- دولة الإسلام في الأندلس.
8- البيان المغرب.
9- الكامل في التاريخ.
10- الروض المعطار.
11- أعمال الأعلام.
12- سير أعلام النبلاء.
13- وفيات الأعيان.
14- شذرات الذهب.
15- أيام الإسلام.
↧
September 15, 2016, 5:11 pm
أمي تتكلم عن زوجتي
أ. لولوة السجا
السؤال
♦ ملخص السؤال:
شاب متزوج منذ 5 أشهر، يشكو مِن أمِّه التي تتكلم عن زوجته بكلام غير صحيح، وتقول له: هذه الفتاةُ لا تَصلُح لك، فما كان منه إلا أن غضب مِن أمِّه وصرَخ فيها، ويريد حلًّا ليوفِّق بين أمه وزوجته.
♦ تفاصيل السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا شابٌّ تزوجتُ حديثًا منذ 5 أشهر، كنتُ قبل الزواج قريبًا مِن أمي، أجلِس معها باستمرار وأتودَّد إليها، وبعد الزواج بحُكم أن لي بيتًا فلم يكن الأمر كما كان قبلُ.
شعرتُ في هذه الأشهر أن زوجتي سرقتني مِن أمي، فبَدَا من أمي كرهٌ تجاه زوجتي؛ إذ كانتْ تتكلَّم عن زوجتي بكلام لا يَصحُّ، وتسبُّ أهلها، وتكثر الكلام عنها في غيابها، وتخبرني بأنها لا تصلُح زوجة لي!
وما كان رد فعلي إلا أن صرختُ وغضبتُ من أمي بسبب ما تقول.
فما الحلُّ في رأيكم فيما تفعل أمي؟
الجواب
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وبعدُ:
فأنصحك بأن تتغاضى وأن تتحمَّل والدتك، فالوالدُ مهما بلغتْ تصرُّفاته يبقى والدًا، واللهُ عز وحل أوصى بمُصاحَبة الوالدين الكافرين بالمعروف؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان: 15]، فكيف بالوالد المسلم، فلا شك أن حقه أعظم؟!
لذا فالمطلوبُ هو الإحسانُ إليها، وعلى أسوأ حال لُزوم الصمت، والبُعد عن مجادلتها، وعدم إدخال الحزن عليها بأيِّ تصرُّف.
ويَحْسُن بزوجتك أن تسعى في كَسْبِ ودها ورضاها، وذلك ببَذل الأخلاق الحسنة، ومُلاطفتها بلين القول ومهاداتها، ففي ذلك الأثرُ العظيم، مع الحرص على اختيار الهدية المناسبة التي تُحبها، وغير ذلك مما مِن شأنه أن يصلحَ العلاقة بينهما.
أكْثِرْ مِن زيارتها، والجلوس معها، وأشْعِرْها بأنها فوق الجميع، وأن رضاها هو مُبتغاك.
أعانك ربي، وهداك لأحسنِ الأعمال والأخلاق، فلا يهدي لأحسَنِها إلا هو، ورزقك برَّها ورضاها
↧