Quantcast
Channel: منتدى فرسان الحق فرسان السُـنة خير الناس أنفعهم للناس
Viewing all articles
Browse latest Browse all 1343

الواقع والقيم

$
0
0
الواقع والقيم
عبدربه رشيد بن صديق




تنتشر في أوساط النَّاس تصرُّفات كثيرة نابعة من أعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم، وهي مطابِقة للدِّين الإسلامي الذين يدينون الله به، وأخرى مُخالِفة لتعاليمه وأحكامه وإرشاداته، ومن خلال ذلك نتساءل: ما القيم؟ وما هي مقاصدها؟ وكيف يمكن أن تُنمَّى في الإنسان؟ ومن ثمَّ في المجتمع؟

فأعراف الناس ميَّالة بالفطرة إلى القيم المستقيمة؛ لأنَّ الجماعة لا تنزع إلى الشرِّ والرذيلة أبدًا، وخاصة الجماعة المستحضرة لتراثها وتاريخها، والتي لها دليل واضح يبصِّرها بالسبيل الصحيح، ولكن الناس قد ينسَون تلك القواعد التي تَحكُمهم قصد تحقيق مصالحهم، فتطغى الأنانية عليهم، أو يتجاهلونها، فيُعرِضون عنها مقبِلين على نصائح الآخر، تاركين الجوهر المكنون الذي يَمتلكونه، فيتيهون في الأرض ويعيثون فسادًا فيها، ويَضلُّون الطريق، فمثلًا: الابن يحترم والديه، وإخوته، والناس الذين يعيشون من حوله، لا يستسيغ أن يغشَّ في معاملته مع أقربائه ومع الآخرين؛ فالإنسان عنده واحد كيفما كان - الولد السَّوي المنشأ تنشئة صحيحة - وإن أخطأ يؤنِّبه الضمير كثيرًا ويرجع إلى صوابه تائبًا من خطئه، ويوجد في مقابل ذلك مَن يتعامل بصِدق مع المعارف، ومع الأجانب يدافع عن الغشِّ، ويحسبه من التفنُّن في العمل، والذي يتحايل على الناس يُنعت بالذكي.

فالصنف الأول، قد نشأ في بيئة سليمة أخلاقيًّا؛ فهو رأى في محيطه الانتصار للمظلوم، وشاهد الجماعةَ موحَّدة في كلِّ شيء، وحتى إن خرج عنها أحدهم، رجع بالقوَّة إلى قواعدها وضوابطها، وبناء على ذلك؛ فإنَّ هذه القيَم تورث ويربَّى عليها النَّشء في أسرته، ومؤسسته ومجتمعه.

أمَّا الصنف الثاني، وهو الموجود بكثرة في واقعنا، فإن مَن عاش وسط الظُّلم والاستهزاء بالآخرين، ورأى الكثيرَ من الناس يتعاملون بتقاليد وعادات فاسِدة، فإنَّ فطرته ستتغيَّر مع مرور الزمن، ويألف كلَّ المحرَّمات والأشياء القبيحة؛ لأنَّ نفسه دأبت على ذلك، ولن يشكِّل الاستثناء إلَّا من رحم ربي، فالكذب تجذَّر في الناس أفرادًا وجماعات، أسرًا ومؤسسات، آباء وأمهات.

فالولد سرُّ أبيه، ونسخة مطابقة لأصله، وصفحة نقيَّة مستقبِلة لكلِّ سهل يتماشى ورغبته، فالأب حينما يقول لولده: قل لطارق الباب: لستُ في البيت، فما هو الشيء الذي يُعلِّمه له غير الكذب؟ والتلميذ الذي يساعِده أستاذُه على الغشِّ في صغره، كيف يمكن أن نَمنعه منه في كبره؟ والمثل يقول: التربية في الصغر كالنَّقش على الحجر، من تربَّى على الفضيلة يحبُّها، ومن تربَّى على الرذيلة داوم عليها، ومن يجد الرِّشوةَ وخيانة الأمانة، والربا، والزنا، والتبرج، وغياب المسؤولية منتشرة في محيطه - فإنه يتبنَّاها ويدافع عنها من حيث يدرك أو لا يدرك، بل قد يعتقد أنَّ حقوقه لا يمكن أن يستفيد منها إلا بممارسة إحدى هذه الرذائل، وواجباته يستحقُّ عليها أكثر مما يُعطى له، فيفتح لنفسه سبيلًا يستحلُّ به أموالَ الناس.

وانطلاقًا من هذه المقارنة بين القيَم الإيجابية والسلبية، نقول: إنَّ القيم هي الموجِّه لسلوك الناس وتصرُّفاتهم؛ إمَّا إلى الخير والفضيلة، وإما إلى الشرِّ والرذيلة، وهي ضابط يردع النَّفس ويجعلها تدرك الصَّواب، وهي قيد يحدُّ من حريَّة الشخص فيعلمه أنَّ الناس سواسية لا يكون التفاضل بينهم إلَّا بالتقوى، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13].

والقيم بمثابة شَرط؛ إن وُجد تحقَّق معه الصَّلاح للفرد والمجتمع، وإن فُقد ضاع معه كلٌّ منهما، وبالمحافظة على القِيَم الإيجابية نسهم في تخليص الناس من عبوديَّة الهوى والشيطان، ونربِّيهم على الصِّدق والإحساس بالواجب؛ بل يؤدُّون ذلك طمعًا في رضوان الله عز وجل، فيَصِلون إلى أعلى الدرجات، فنحقِّق التضامن في المجتمع، فيكون التكافل هو السائد بدل الحِقد والحسد، ويتوحَّد المجتمع على المصلحة، ويقتنع الفرد بأنَّ الجماعة تَحمي الواحدَ وتوفِّر له متطلباته، وتعينه على نوائب الدَّهر التي من الممكن أن تَعترضه، فيُخلِص في العمل، ويتجنَّب طُرق الغشِّ والرشوة، ويبعد حب الذات من نفسه أو يخفف منه على الأقل، في حين يدرك إدراكًا تامًّا أنَّ الواحد لا يمكن أن يحقق شيئًا بمفرده، فالعِصِيُّ تقْوى إن اجتمعَت، وتضعُف إن تفرَّقَت.

وإنَّ هذه القيم تُنمَّى في المجتمع عن طريق ما شرَع الله من عبادات، وما أمر به من طاعات؛ فالقيم في الدين الإسلامي لها علاقة متينة بالمأمورات والمنهيات؛ حيث تنتشر وسط الناس الذين يداوِمون على هذه العبادات.

فالصَّلاة مثلًا وسيلة لطمْأنة القلب، وهي صِلة بين الإنسان وخالقه، وتجعل العبد ذاكرًا لربه في كلِّ حين، والمحافظ عليها يستحي من الله، ويخاف منه، ويتجنَّب المنهيات.

والصَّوم يعلِّم الصَّبرَ للإنسان، ويغرس في نفسه القناعة، بل هو وسيلة لتحصين النَّفس من الوقوع في الفواحش؛ ولذلك رغَّب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا يقدر على الزواج في الإقبال عليه.

والزَّكاة تحرِّر الإنسان من عبوديَّة المال، وتطهِّر النَّفس من البخل والشحِّ، وتغرس فيه السخاء والكرم.
لكن السؤال الذي يَطرح نفسه: لمَ لا توجد الفضائل في مُجتمع يقوم بهذه العبادات؟ ولماذا نجد بَونًا شاسعًا بين الواقع وهذه القيم؟ فالمعلِّم يَنصح، ولكنه لا يطبِّق ما يأمر به، والأب يربِّي وفعلُه مخالفٌ لقوله، والطبيب يَعرف أنَّ التدخين مضرٌّ وهو مدمن عليه، ونعلم جميعًا أن هذه المساوئ ضارَّة، وفعلها خيانة عظمى لنا ولأمَّتنا، ومع ذلك نقبِل عليها بصدر رحب؛ بل موجود فينا ومنَّا مَن يعتبرها حقًّا مشروعًا؛ وعلى سبيل المثال لا الحصر نجد طائفةً من الناس في رمضان يَنامون قسطًا مِن يومهم، ويتسلَّون بلعبة الشطرنج قسطًا من يومهم، ويجلسون في المقاهي أغلب ليلهم! هل مثل هذه التصرُّفات يمكن أن تغيِّر من سلوكياتنا المنحرفة، وتوقِظ الهمم في قلوب الغافلين، فتكون شعيرة الصيام وسيلة لبَعث وتنمية الفضيلة في نفوسهم؟ أم يزدادون بُعدًا عن جادَّة الصواب، فيكون نصيبهم الجوع والتعَب؟


ومجمل القول: إنَّ القيم هي مصباح يُنير للإنسان طريقَه؛ فبها يرى حقيقةَ الأشياء، ويحقِّق مرضاة الله عزَّ وجل، فيتلهف إلى تَحقيق الغاية التي وُجد من أجلها في هذا الكون؛ لأنَّ كلَّ ما مَنحه الله فهو من أجل أن يَعبده ولا يشرك به شيئًا، قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].

إخوتي في الله، أدرِكوا الأمَّةَ بنصيحتكم بالفعل قبل القول، واعلموا أنَّ واقعنا لن يتغيَّر إلَّا إذا حلَّت فيه الفضائل بدل الرَّذائل، فتقدُّم المجتمع يتجلَّى في حِفظه للأخلاق، وانحِطاطُه في ذَهابها وانسلاخِه منها، واتَّقوا الله ربَّكم في السرِّ والعلن، واسألوه النصر لأمَّتكم وإنقاذها من الضلال والجهل، فهو العزيز الحكيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، آمين.





Viewing all articles
Browse latest Browse all 1343

Trending Articles