September 21, 2016, 9:30 am
العراق وصناعة المليشيات الأمريكية
. أحمد أبو دقة
العراق وصناعة المليشيات الأمريكية
تلعب المنظمات الشيعية في العراق دوراً هاماً في الحفاظ على استمرار الوصاية الأمريكية على البلاد، بالإضافة إلى ضمان إستمرار إيران كحليف قوي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، هذا الامر خلص إليه تقرير أعده الباحث في معهد واشنطن لدراسات الشأن الأدنى فيليب سميث، وجاء فيه أن من أبرز المنظمات الشيعية تقرباً من إيران "الحشد الشعبي" الذي اعتبره التقرير حليفاً جيداً لواشنطن كونه لاينخرط في أي نشاطات "جهادية" على حد وصفه.
وأشار التقرير إلى " المجلس الأعلى الإسلامي العراقي، الذي يرأسه عمار الحكيم، و تأسست المنظمة في أوائل ثمانينيات القرن الماضي على يد مجموعة من المنفيين الشيعة العراقيين.
وكانت هذه الجماعة، التي أنشئت في إيران تحت وصاية طهران، تُعرَف آنذاك باسم "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق".
وفي عام 1982، شكلت جناحاً عسكرياً يدعى "فيلق بدر".
وبعد غزو قوات الائتلاف للعراق واحتلالها البلاد في عام 2003، تمكن أعضاء "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق" من العودة إلى بلادهم.
وفي شهر آب/أغسطس من ذلك العام، تم اغتيال مؤسس المجلس وزعيمه لفترة طويلة محمد باقر الحكيم، فخلفه في الحكم أخوه عبدالعزيز الحكيم. وفي عام 2007، غيّرت الجماعة اسمها إلى "المجلس الأعلى الإسلامي العراقي".
وبعد وفاة عبدالعزيز الحكيم في عام 2009، خلفه ابنه عمّار الحكيم الذي أصبح منذ ذلك الحين زعيم "المجلس الأعلى الإسلامي العراقي".
وخلال فترة قيادته، انتهج «المجلس» مواقف انتخابية واجتماعية أكثر تماشياً مع سياسات رجال الدين التقليديين النافذين مثل آية الله علي السيستاني.
ومع ذلك، نشأ انشقاق داخلي نتيجة معارضة الحكيم لبعض السياسات الإيرانية، وفي عام 2012، دفع ذلك الانشقاق بـ "فيلق بدر" التابع لـ "المجلس الأعلى" تحت قيادة هادي العامري إلى الانفصال وتشكيل مجموعة إصلاحية جديدة باسم "منظمة بدر"، وهي جماعة سياسية تضم ميليشيات من أشد أنصار إيران.
في عام 2014، عندما اجتاح تنظيم "داعش" مدينة الموصل وسيطر عليها ومع تقدّمه بوتيرة سريعة باتجاه أقسام أخرى من العراق، عمد "المجلس الأعلى"، وتماشياً مع الحملة التي قادتها الولايات المتحدة لمحاربة التنظيم في العراق إلى تشكيل ميليشيا خاصة به باسم "سرايا عاشوراء".
وتشمل هذه القوة عدداً من المقاتلين السابقين في "فيلق بدر" وتحرص بانتظام على استعراض أسلحتها التي تلقتها من إيران.
على الرغم من العلاقات المتوترة بين الحكيم وبعض وكلاء إيران، حافظ "المجلس الأعلى الإسلامي العراقي" على صلات عميقة مع باقي الجماعات المدعومة من إيران.
وفي عام 2014، تأسست كتلة "المواطن" البرلمانية بقيادة "المجلس الأعلى" وشملت ما يقرب من 20 مجموعة مختلفة، بعضها تحافظ على روابط وثيقة مع إيران.
في عام 2011 تأسست "حركة الجهاد والبناء" كإحدى الجماعات الحليفة والمقربة من «المجلس الأعلى الإسلامي العراقي» ولها ممثلون في كل من البرلمان العراقي والمنظمة الأم غير الرسمية التي تعمل تحت مظلتها ميليشيات «المجلس الأعلى».
ويشغل عضو البرلمان حسن الساري، منصب الأمين العام للجماعة، وكان سابقاً قائد «حركة حزب الله في العراق» وعضواً في مجلس الشورى التابع لـ «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق».
وتحت قيادته، قاتلت «حركة حزب الله في العراق» قوات صدام حسين في منطقة الأهوار في جنوب العراق؛ وكانت عائلة الساري تعيش في إيران في ذلك الوقت.
وفي الآونة الأخيرة، دعا الساري إلى دعم الوجود الإيراني المسلّح في العراق.
في عام 2014، التمس الحكيم مساعدة حركة الجهاد والبناء من أجل تجنيد أعضاء لميليشيا، سرايا الجهاد وأظهرت هذه الجماعة استعداداً أكبر شأناً بأشواط للاستجابة لمطالب المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي.
أرسلت حركة الجهاد والبناء العديد من المقاتلين إلى ذلك البلد بناءً على طلب طهران.
ومن بين أولئك المقاتلين صالح جبر البخاتي، نائب الأمين العام لـسرايا الجهاد» الذي قُتِل في معركة الفلوجة في حزيران/يونيو 2016.
وسابقاً، شارك البخاتي في معارك في سوريا والتُقِطت صور له في العراق وهو يناقش خطط المعارك مع قاسم سليماني، قائد قوة القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني.
استخدم المجلس الأعلى مليشياته لشن حرب تطهير عرقي على سنة العراق، وكان أبرز قيادته جلال الدين الصغير، إمام في "جامع براثا" في بغداد وعضو سابق في مجلس الشورى المجلس الأعلى ويشغل منصب الأمين العام لميليشيا سرايا أنصار العقيد» الشيعية التي استخدمت "جامع براثا" كقاعدة لفرق الموت الشيعية التي استهدفت السنة.
مع استمرار الولايات المتحدة في تشكيل تحالفات مع مختلف وحدات الحشد الشعبي، لا بدّ للإدارة الأمريكية أن تعتمد نهجاً دقيقاً وحذراً، يتمثّل في عدم اعتبار الميليشيات نفسها وعناصرها التشكيلية ككيان موحَّد، ففي ظل الضغوط الخارجية التي تواجهها مجموعة المظلة الأم وعدم قدرتها على بسط السيطرة الكاملة على العديد من مجموعاتها الحليفة، تمرّ هذه المنظمة الأم اليوم بمرحلة معقدة، لاسيما مع محاولتها اللعب على جميع الأطراف والتطرّق إلى العديد من المصالح المتنافسة في كثير من الأحيان.
وفي الوقت نفسه، يقول التقرير "هناك بعض الفرص في متناول الولايات المتحدة قد تساعدها في التأثير في مواقف المجلس الأعلى الإسلامي العراقي إزاء إيران وعملائها من الشيعة العراقيين، ولذلك، لا بد من مواصلة جهود التعاون مع المجلس الأعلى".
ومن هذا المنطلق بحسب التقرير فإن، إدارة أوباما تستحق الثناء لإشادتها بالإجراءات الإصلاحية التي اتخذها الحكيم ومساعيه الرامية إلى صد التنامي الجامح لنفوذ وحدات الحشد الشعبي التي تهيمن عليها إيران.
ومع ذلك، لا ينبغي تجاهل سياسة المجلس الأعلى القائمة على التعاون الوثيق مع الجهات الفاعلة الطائفية بشكل متطرف والمجموعات المناهضة بشدة للولايات المتحدة الخاضعة لسيطرة إيران.
↧
September 21, 2016, 12:49 pm
↧
↧
September 21, 2016, 3:18 pm
↧
September 21, 2016, 3:20 pm
↧
September 21, 2016, 9:10 pm
مقالات الشيعة في أمصار المسلمين
أ.د. ناصر بن عبد الله القفاري
أعني بالشيعة هنا طائفة الإمامية الإثنى عشرية التي شاع إطلاق لقب الشيعة عليها في عصرنا، والتي هي أكثر فرق الشيعة في زماننا عدداً وأكثرها جمعاً وأعظمها خطراً.
ومصادرها هي المعتمدة عند الحديث عن التشيع اليوم؛ لأن ما سواها زيدية أو إسماعيلية، والزيدية يلتقون مع الأمة في مصادر التلقي - من حيث الجملة -، والإسماعيلية لهم مصادرهم السرية التي لا يطلع عليها إلا خواصهم. وقد جاء في نصوصهم - أعني من يسمون اليوم بالشيعة - البراءة العامة من أمصار المسلمين وبلدانهم، ولا يستثنون إلا من أخذ بمعتقدهم ودان بنحلتهم، وتأتي في مقدمة أمصار المسلمين مكة المكرمة والمدينة المنورة، ثم ما دونهما من بلاد المسلمين، وإليك الأمثلة على ذلك من واقع كتبهم المعتمدة عندهم[1]:
مكة والمدينة: يقولون في مصادرهم المعتمدة: «إن أهل مكة ليكفرون بالله جهرة، وإن أهل المدينة أخبث منهم سبعين ضعفاً»[2].
هذا النص ورد في أصول الكافي أهم مصدر وأوثقه في دينهم، وتاريخ صدور هذا الحكم هو منتصف القرن الثاني بمقتضى نسبة الرواية إلى جعفر الصادق[3] المتوفى سنة 148هـ، أي إن هذا حكم على مكة المكرمة بأنها دار كفر في فترة القرون الثلاثة المفضلة، ويعلق على ذلك أحد شيوخهم المعاصرين بقوله: «لعل هذا الكلام في زمن بني أمية وأتباعهم، كانوا منافقين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، والمنافقون شر من الكفار، وهم في الدرك الأسفل من النار... ويحتمل أن يكون هذا مبنياً على أن المخالفين غير المستضعفين مطلقاً شر من سائر الكفار كما يظهر من كثير من الأخبار»[4].
فهو يرى أن هذا التكفير حق، ويوجه هذا الحكم عليهم بأنهم شر من الكفار بأحد أمرين: إما باتباعهم للأمويين، أي بمقتضى مبايعتهم لخلفاء المسلمين من الأمويين[5]، وهذا نفاق أكبر عندهم. أو لأن المخالف (يعني المخالف للشيعة من سنة وغيرهم من الفرق الإسلامية) شر من الكفار[6].
فاسمع وتعجب! حيث ترى أن المعاصرين يقرون ويؤيدون هذا الحكم الجائر الظالم الذي صدر من الزنادقة الغابرين في حق أهالي مكة والمدينة المجاورين للحرمين في فترة القرون المفضلة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية في قوله: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» رواه البخاري وغيره.
ولقد كان أهل المدينة ولاسيما في القرون المفضلة يمثلون الصفوة المختارة من المسلمين، حيث كانوا يتأسون بأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من سائر الأمصار، ولهذا لم يذهب أحد من علماء المسلمين إلى أن إجماع أهل مدينة من المدائن حجة يجب اتباعها غير المدينة[7].
وقد ظل أهل المدينة متمسكين بمذهبهم القديم، منتسبين إلى مذهب مالك إلى أوائل المائة السادسة أو قبل ذلك أو بعد ذلك، فإنهم قدم إليهم من رافضة المشرق من أفسد مذهب كثير منهم[8].
ويبدو أن التزام أهل المدينة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الفترة الذهبية من تاريخ الإسلام قد أغاظ هؤلاء الزنادقة الأقزام، فعبروا عن بالغ حقدهم بهذه الكلمات، وما تخفي صدورهم أكبر.
وإذا كان هذا حكمهم على خيار التابعين المجاورين للحرمين المشهود لهم بالفضل والخيرية فحكمهم على من جاء بعدهم أشد وأنكى، كما قال بعض السلف: «لا يغل قلب أحد على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كان قلبه على المسلمين أغل»[9].
ولذلك فإن المعاصرين على أثرهم يهرعون يلعنون ويكفرون ويتبرؤون، ولا ينفكون عن ذلك إلا في ظل التقية التي أصبحت لهم ديناً ومسلكاً. ومن لا يسير معهم في سب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والوقيعة فيهم ويتبرأ من أفضل الخلق بعد النبيين فهو في عداد الظالمين[10].
ويبدو أن مجرد خلو مكة والمدينة من مظاهر الشرك ورموزه يغيظ هؤلاء الروافض ويملأ قلوبهم حقداً، ولذلك فإن التاريخ يعيد نفسه، ففي هذا العصر وفي احتفال رسمي وجماهيري أقيم في عبادان في 17/3/1979م تأييداً لإقامة «الجمهورية الإسلامية» في إيران، ألقى د. محمد مهدي صادقي خطبة في هذا الاحتفال سجلت باللغتين العربية والفارسية ووصفتها الإذاعة بأنها مهمة، ومما جاء في هذه الخطبة: «أصرح يا إخوتي المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن مكة المكرمة حرم الله الآمن يحتلها شرذمة أشر من اليهود»، وذكر أنه حين تثبت ثورتهم سينتقلون إلى القدس ومكة المكرمة وأفغانستان[11].
فأنت ترى أنه يساوي بين مكة التي يحكمها المسلمون وبين القدس التي يحتلها اليهود، وأفغانستان التي كان يحتلها الشيوعيون. وقد نشرت مجلة الشهيد - لسان علماء الشيعة في قم - في العدد 46 الصادر بتاريخ 16 شوال 1400هـ صورة تمثل الكعبة المشرفة وإلى جانبها صورة تمثل المسجد الأقصى المبارك وبينهما يد قابضة على بندقية وتحتها تعليق نصه: «سنحرر القبلتين»[12].
وفي هذا الاتجاه يرون أن حكم الكفار للديار الإسلامية أولى من حكم المسلمين. وقد نقل الشيخ رشيد رضا أن الرافضي أبا بكر العطاس قال: إنه يفضل أن يكون الإنجليز حكاماً في الأراضي المقدسة على ابن سعود[13].
وقد كشف لنا آيتهم حسين الخرساني أن كل شيعي يتمنى فتح مكة والمدينة، وقال: «إن طوائف الشيعة يترقبون من حين وآخر أن يوماً قريباً آت يفتح الله لهم تلك الأراضي المقدسة لمرة أخرى [كذا] ليدخلوها آمنين مطمئنين، فيطوفوا بيت ربهم، ويؤدوا مناسكهم، ويزوروا قبور ساداتهم ومشايخهم.. ولا يكون هناك سلطان جائر يتجاوز عليهم بهتك أعراضهم، وذهاب حرمة إسلامهم، وسفك دمائهم المحقونة، ونهب أموالهم المحترمة ظلماً وعدواناً، حقق الله تعالى آمالنا»[14].
هكذا يتمنى هذا الرافضي فتح الديار المقدسة، وكأنها بيد كفار، ويعلل هذا التمني بأنه يريد الحج والزيارة، وكأنه وطائفته قد منعوا من ذلك، والواقع أنه يريد إقامة الشرك وهدم التوحيد في الحرمين الطاهرين.
ب - مصر وأهلها: قد حظيت مصر وأهلها بنصيب وافر من سبهم، فقالوا في نصوص لهم مدونة في مصادرهم المعتمدة لديهم: «بئس البلاد مصر، أما أنها سجن من سخط الله عليه من بني إسرائيل، ولم يكن دخل بنو إسرائيل مصر إلا من سخطة ومعصية منهم لله..
إني أكره أن آكل شيئاً طبخ في فخار مصر، وما أحب أن أغسل رأسي من طينها، مخافة أن تورثني تربتها الذل وتذهب بغيرتي»[15].
وقالوا: «مالك ومصر؟ أما علمت أنها مصر الحتوف.. يساق إليها أقصر الناس أعماراً»[16].
وقالوا: «انتحوا مصر ولا تطلبوا المكث فيها.. هو يورث الدياثة»[17].
وقالوا: «ما غضب الله على بني إسرائيل إلا أدخلهم مصر، ولا رضي عنهم إلا أخرجهم منها إلى غيرها، ولقد أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى - عليه السلام - أن يخرج عظام يوسف منها، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تغسلوا رؤوسكم بطينها ولا تأكلوا في فخارها، فإنه يورث الذل ويذهب الغيرة»[18].
وقاولوا أيضاً: «أبناء مصر لعنوا على لسان داود - عليه السلام - فجعل الله منهم القردة والخنازير»[19].
وهذه الروايات وغيرها في ذم مصر وهجاء أهلها والتحذير من سكناها منسوبة إلى بعض آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كمحمد الباقر، وعلي الرضا[20]، وفي حقيقة الأمر هي محاولة للطعن فيهم بنسبة هذا الكذب إليهم، وقد عقب المجلسي على هذه النصوص بقوله: «مصر صارت من شر البلاد في تلك الأزمنة؛ لأن أهلها صاروا من أشقى الناس وأكفرهم»[21].
فهذا رأي الروافض في مصر في تلك العصور الإسلامية الزاهرة، كل ذلك لأنها لم تأخذ بنهج الروافض، ويحتمل أن هذه الروايات قبل الحقبة الإسماعيلية من تاريخ مصر؛ لأن من يشاركهم في رفضهم، ويقيم دولة تسمح بكفرهم لا ينالون منه بمثل هذا.
كما لا يبعد أن هذه النصوص بعد الحقبة الإسماعيلية وهي تعبير عن حقد الرافضة وغيظهم على مصر وأهلها بسبب سقوط دولة إخوانهم الإسماعيليين على يد القائد العظيم صلاح الدين، الذي طهر أرض الكنانة من دنسهم ورجسهم، وأين هذه الكلمات المظلمة في حق مصر وأهلها مما جاء في صحيح مسلم تحت باب: «وصية النبي صلى الله عليه وسلم بمصر وأهلها»، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: «إنكم ستفتحون مصر وهي أرض يسمى فيها القيراط[22]، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها فإن لهم ذمة[23] ورحماً»[24]، أو قال: «ذمة وصهراً»[25][26].
والحقيقة أن ذمهم لمصر وأهلها مدح وثناء، كما قال الشاعر: وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل
جـ - الشام وأهلها: جاء في الكافي: «أهل الشام شر من أهل الروم»[27] يعني شر من النصارى.
وجاء في مصادرهم: «لا تقولوا: من أهل الشام، ولكن قولوا: من أهل الشؤم، هم أبناء شر (يعني بلد) لعنوا على لسان داود عليه السلام فجعل الله منهم القردة والخنازير»[28].
أين هذه الكلمات الحاقدة على الشام وأهلها مما ورد في كتب السنة في فضل الشام[29]!
وقد قال الإمام ابن القيم: «أرض الشام وصفها الله سبحانه بالبركة في أربعة مواضع من كتابه أو خمسة»[30]، وقد جاء في صحيح البخاري عن معاذ مرفوعاً: «أن الطائفة المنصورة بالشام»، وورد في فضل أهلها أحاديث، منها قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم»[31]، وقد صنف في فضل الشام بعض أهل العلم كتباً خاصة كالإمام الربعي[32] وابن الجوزي.
البراءة من بلدان المسلمين كلها إلا واحدة: هذا وجاء عندهم ذم كثير من بلدان الإسلام وأهلها[33]، ولا يستثنون من أمصار المسلمين - في العصور الذهبية من تاريخ المسلمين وهو عصر القرون الثلاثة المفضلة - لا يستثنون سوى بلدة واحدة فقط، أما ما عداها من بلاد المسلمين في شرق الأرض وغربها فليس لها ولا لأهلها في ولايتهم نصيب، بل يتبرؤون منها ويعدونها في عداد بلاد المغضوب عليهم والضالين، بل أعظم وأشد.
جاء في البحار - لتقرير هذا الأمر - قولهم: «إن الله عرض ولايتنا على أهل الأمصار فلم يقبلها إلا أهل الكوفة»[34]، أي لم يقبل دينهم من بلاد المسلمين سوى «الكوفة»، ذلك أن بلاد الإسلام لقربها من العلم والإيمان لم تقبل مادة «الرفض الخبيثة» سوى الكوفة التي بليت بها بتأثير ابن سبأ اليهودي، الذي طاف الأمصار فلم يجد من يقبل دعوته إلا في ذلك المكان القاصي البعيد في تلك الفترة عن نور العلم والإيمان؛ إذ البدعة لا تنمو وتنتشر إلا في ظل الجهل وغيبة أهل العلم والإيمان، ولهذا «خرج التشيع من الكوفة»[35]، كما ظهر الإرجاء أيضاً من الكوفة، وظهر القدر والاعتزال والنسك الفاسد من البصرة، وظهر التجهم من ناحية خراسان، وكان ظهور هذه البدع كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية بحسب البعد عن الدار النبوية[36]، ذلك أن «سبب ظهور البدع في كل أمة هو خفاء سنن المرسلين فيهم، وبهذا يقع الهلاك، ولهذا كانوا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة»[37].
هذه النصوص المظلمة والمقالات الضالة في بلدان المسلمين ثابتة في مصادرهم المعتمدة لديهم والتي قرر مراجعهم منذ العصر الصفوي إلى اليوم أنها مصادر التلقي التي عليها المدار في جميع الأعصار، وعليها اعتمد الدستور الإيراني في مادته الثانية وسماها «سنة المعصومين».
وهذا التوجه في ذم أمصار المسلمين على العموم يعود إلى أصل أصيل عندهم وضعه متأخروهم، وهو أن أهل السنة أو أهل الإسلام الذين لا يؤمنون بمعتقدهم ولا يؤمنون بإمامة الاثني عشر وانتظار مهديهم أكفر عندهم من اليهود والنصارى، وقد قرر شيخهم ابن المطهر الحلي - الذي إذا أطلق لقب العلامة عندهم انصرف إليه - أن «الإمامة لطف عام والنبوة لطف خاص، لإمكان خلو الزمان من نبي حي بخلاف الإمام، وإنكار اللطف العام شر من إنكار اللطف الخاص»[38]؛ يعني أن من لا يؤمن بوجود إمامهم المنتظر وحياته وإمامته[39] فهو عندهم بحسب اعتقادهم أشد كفراً ممن ينكر نبوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ووردت روايـات كثيرة عندهم تكفر من أنكر إمـامة الأئمة الاثني عشر، وهذا التكفير يشمل خلفاء المسلمين من أبي بكر رضي الله عنه إلى أن تقوم الساعة - ما عدا حكم علي والحسن رضي الله عنهما - لأنهم ادعـوا الإمـامة بغير حق، كما يشمل الشعوب الإسـلامية التي بـايعت خلفاء المسلمين من عهد أبي بكر إلى أن تقـوم السـاعة، لأنهـا بـايعت إمـاماً ليس من عند الله.
ومن رواياتهم في ذلك: عـن أبي عبدالله قال: «من ادعى الإمامة وليس من أهلها فهو كـافر»[40] وأهـلهـا هـم - بزعمهم - الأئمـة الاثنا عشر أو من ينوب عنهم من فقهاء الشيعة.
وعن أبي عبدالله قال: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم من ادعى إمامة من الله ليست له، ومن جحد إماماً من الله، ومن زعم أن لهما[41] في الإسلام نصيباً»[42].
فهذا تكفير للأمة شنيع لم يبلغ الخوارج مبلغه، تكفير للأحياء والأموات، وحقد عظيم على أمة الإسلام وخلفاء المسلمين. والعبادة عندهم لا قبول لها إلا بالإيمان بولاية الاثني عشر، ففي «البحار» للمجلسي: «لو أن عبداً عبد الله ألف سنة وجاء بعمل 72 نبياً ما تقبل الله منه حتى يعرف ولايتنا أهل البيت، وإلا أكبه الله على منخريه في نار جهنم»[43].
وعن الصادق - كما يفترون - قال: «الجاحد لولاية علي كعابد الوثن»[44].
بل أعلنوا - على لسان شيخهم نعمة الله الجزائري - انفصالهم الكامل عن المسلمين وبراءتهم التامة من أمة محمدصلى الله عليه وسلم فقالوا: لم نجتمع معهم على إله ولا نبي ولا إمام، وذلك أنهم يقولون: إن ربهم هو الذي كان محمد صلى الله عليه وسلم نبيه وخليفته بعده أبو بكر، ونحن لا نقول بهذا الرب ولا بذلك النبي، بل نقول: إن الرب الذي خليفة نبيه أبو بكر ليس ربنا، ولا ذلك النبي نبينا»[45].
والتكفير يشمل كل من لم يوافقهم على شذوذهم العقدي وانحرافهم السلوكي. ففي دين هؤلاء الروافض - مثلاً - من لا يدفع خمس أرباحه وأمواله وممتلكاته لآياتهم ومراجعهم فهو من الظالمين لآل محمد الخالدين في نار جهنم، بل عدوا من يستحل منعهم درهماً منه في عداد الكافرين، حتى قالوا: «ومن منع منه درهماً أو أقل كان مندرجاً في الظالمين لهم (أي لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم) والغاصبين لحقهم، بل حكموا بالكفر على من استحل منع درهم منه[46]، قال د. علي السالوس في السخرية بهذا المبدأ: «إن مسلمي اليوم إن أردوا ألا يحكم عليهم الجعفرية بالكفر فعليهم أن يجعلوا خمس مكاسبهم ورؤوس أموالهم ويبعثوا به إلى علماء الجعفرية»[47].
ومن لا يوافقهم مثلاً على الفوضى الجنسية المسماة بالمتعة عندهم فهو ليس منهم، حتى قالوا: «ليس منَّا من لم يؤمن بكرتنا ويقُل بمتعتنا»[48].
ومن لا يؤمن بخرافة مهديهم المنتظر فهو كافر كفر إبليس[49].
والتفصيل في هذا الباب لا يحتمله هذا المقال. فهل يعي أهل الأمصار قدر الحقد الذي يحمله هؤلاء الباطنية تجاههم؟!
ومتى يدركون أن التشيع لآل البيت شعار كاذب ينتحله هؤلاء الباطنيون لتحقيق أغراضهم الدنيئة وتنفيذ مخططاتهم الخطيرة؟! وها نحن نرى اليوم وتنفيذاً لهذه المقالات والمعتقدات في أمصار المسلمين أنهم ما دخلوا بلداً إلا بدَّلوا أمنه خوفاً، واجتماعه فرقة، وتقدمه تخلفاً، وغناه فقراً، وسعادة أهله بؤساً وشقاء، كما هو واقع اليوم في العراق واليمن والشام وغيرها من بلاد الإسلام، وهو ثمرة هذا الحقد الدفين على أهل الإسلام: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
[1] بينت مصادرهم المعتمدة في مقدمة كتابي: أصول مذهب الشيعة 1/ 17-23. [2] أصول الكافي 2/410. [3] ونبرئ الإمام من هذا الافتراء، ومثل هذه المقالات جزء من عدوانهم وعدائهم لأهل البيت، فهم يطعنون فيهم باسم التشيع والمحبة لهم. [4] علي أكبر الغفاري في تعليقه على أصول الكافي 2/409 - 410 (الهامش). [5] مما يتعين التنبيه عليه هنا: أن مصطلح الأمويين عندهم يشمل الخلفاء الراشدين الثلاثة ثم خلفاء بني أمية، ولذلك عدوا أول الظالمين أبا بكر ثم عمر! قاتلهم الله أنى يؤفكون. [6] أصول الشيعة 2/470. [7] اشتهر عن الإمام مالك وأصحابه أن إجماع أهل المدينة حجة، وإن كان بقية الأئمة ينازعونهم في ذلك، والمراد إجماعهم في تلك الأعصار المفضلة، أما بعد ذلك فقد اتفق الناس على أن إجماعهم ليس بحجة [مجموع فتاوى شيخ الإسلام 20/300]. [8] ينظر: الفتاوى 20/299-300. [9] انظر: الإبانة لابن بطة 165. [10] سيأتي ذكر النص. [11] أذيعت هذه الخطبة من صوت الثورة الإسلامية من عبادان الساعة 12 ظهراً يوم 16/3/ 1979م، وانظر: «وجاء دور المجوس» 344-247. [12] انظر: مجلة الشهيد العدد المذكور، وانظر: جريدة المدينة السعودية الصادرة في 27 ذي القعدة 1400هـ، وانظر: ما كتبه الشيخ محمد عبد القادر آزاد: رئيس مجلس علماء باكستان عما شاهده في أثناء زيارته لإيران حتى قال إنه رأى على جدران فندق هيلتون في طهران، الذي يقيمون فيه، شعارات مكتوباً عليها: «سنحرر الكعبة والقدس وفلسطين من أيدي الكفار»، وانظر: الفتنة الخمينية للشيخ محمد آزاد ص9. [13] المنار - المجلد (9) ص 605. [14] الإسلام على ضوء التشيع ص132-133. [15] بحار الأنوار 60/ 210، تفسير العياشي 1/305، والبرهان 4571. [16] بحار الأنوار 60/211. [17] الموضع نفسه من المصدر السابق. [18] قرب الإسناد ص220، وبحار الأنوار 60/208-209، تفسير العياشي 1/304، والبرهان 1/456. [19] بحار الأنوار 57/ 208. [20] انظر: المصادر السابقة، وتفسير القمي 996، وبحار الأنوار 60/208. [21] انظر: بحار الأنوار 57/208. [22] القيراط: جزء من أجزاء الدينار والدرهم وغيرها، وكان أهل مصر - في ذلك الزمان - يكثرون من استعماله والتكلم به. [23] الذمة: هي الحرية والحق. [24] الرحم: لكون هاجر أم إسماعيل منهم. [25] الصهر: لكون مارية أم إبراهيم (ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم) منهم. [26] صحيح مسلم 2/1970 (ح227). [27] أصول الكافي 2/409. [28] تفسير القمي 596، وبحار الأنوار 60/208. [29] انظر: كتاب فضائل الشام لأبي الحسن الربعي، مطبعة الترقي بدمشق، تحقيق صلاح الدين المنجد. [30] بدائع الفوائد 2/187. [31] أخرجه الترمذي (ح2192)، وقال: «حسن صحيح»، وأحمد في «المسند» (ح15596). [32] هو علي بن محمد بن صافي بن شجاع الربعي، أبو الحسن، ويعرف بابن أبي الهول (المتوفى: 444هـ). [33] انظر: بحار الأنوار 60/ 208 وما بعدها. [34] المصدر السابق 100/ 259. [35] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 20/300-301. [36] انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام 20/ 300-301. [37] المصدر السابق 4/ 137. [38] الألفين لابن المطهر 3. [39] وهو مجرد وهم لا وجود له إلا في أذهان الروافض، فقد قرر علماء التاريخ والنسب ونقيب الطالبيين من آل البيت وسائر بني هاشم أن الحسن العسكري مات عقيمًا، وأن دعوى وجود ولد له اختفى فور ولادته خوفاً لا سند لها في الواقع، وراجع في هذه المسألة منهاج السنة النبوية 2/164، والمنتقى ص31، وأصول مذهب الشيعة 2/899. [40] «الكافي»، كتاب الحجة، باب من ادعى الإمامة وليس لها بأهل: (1/372). [41] يعنون بهما اللذين أقاما دولة الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم ونشرا دينه، الخليفتين الراشدين أبا بكر وعمر. [42] «الكافي»، كتاب الحجة، باب من ادعى الإمامة وليس لها بأهل إلخ: (1/373)، وانظر: «تفسير العياشي»: (1/178)، «تفسير البرهان»: (1/293)، «البحار»: (8/218). [43] «البحار»: (27/197). [44] المصدر السابق: (27/181). [45] الأنوار النعمانية 2/279. [46] انظر: اليزدي، العروى الوثقى، الموثق من مراجعهم في هذا العصر 2/366. [47] علي السالوس، أثر الإمامة في الفقه الجعفري ص394 (الهامش). [48] من لا يحضره الفقيه، لابن بابويه 2/ 128، وسائل الشيعة 7/438، تفسير الصافي 1/ 347. [49] انظر: إكمال الدين لابن بابويه ص13.
↧
↧
September 21, 2016, 9:19 pm
سورية: لم تكن أي فرصة للاتفاق
. إعداد مجلة البيان
سورية: لم تكن أي فرصة للاتفاق
د. رؤوبين باركو/ "يسرائيل هيوم"
إن اتفاق وقف اطلاق النار الذي تم توقيعه بين الامريكيين والروس لم يكن يساوي الورق المكتوب عليه.
كان يمكن نسب التصعيد لحقيقة مواصلة الامريكيين، حسب المتفق عليه، لعمليات قصف داعش وفتح الشام كتنظيمات ارهابية لا تلتزم بوقف إطلاق النار، من خلال "خرق السيادة السورية" (حسب ادعاءات الاسد).
في المقابل واصل الروس والسوريين معا، وعلى الرغم من الاتفاق، قصف مواقع المعارضة، بما في ذلك التجمعات الاسكانية، بادعاء ان المعارضين يستعدون للهجوم، وان الامريكيين فشلوا في التمييز بين جهات المعارضة المعتدلة وتنظيمات "الارهاب الاسلامي".
أضف الى ذلك، ان النظام السوري و رعاته استغلوا الاتفاق لتحسين مواقعهم، قصفوا قوافل المساعدات الانسانية ومنعوا وصولها الى المناطق المحاصرة، خلافا للاتفاق. هذا الأمر جعل جون كيري خلال محادثاته مع لافروف، يشجب التأخير في وصول المساعدات الانسانية الى المحاصرين، والتي كان يفترض ان تشكل، في حال صمود اتفاق وقف اطلاق النار لأسبوع واحد، شرطا للبدء بعمليات هجوم امريكية – روسية مشتركة ضد داعش.
لقد ادعى الروس ان الامريكيين يساعدون داعش.
وكلاعب تتعاظم قوته على الساحة، يجد الروس صعوبة في اخفاء استهتارهم بالقوة العظمى الأمريكية "الحاضرة – الغائبة" في الشرق الأوسط. ويمكن القول لصالح كيري انه يصدق، كما يبدو، الناس والاتفاقيات.
هكذا جرت مفاوضاته الساذجة والمثيرة للقلق مع الايرانيين ومع الفلسطينيين، على سبيل المثال.
بعد ان تبين بأن الأسد يواصل استخدام الغاز ضد مواطنيه، كان يجب على وزير الخارجية الفهم بأن عقلية القيم هذه تناسب هوليود وليس الشرق الاوسط.
على سبيل الطرفة يقال بأن الامريكيين "اخطأوا" وقصفوا جيش النظام، والا فان سذاجة كيري في الاتفاق الأخير كانت ستصل الى السحاب.
لبالغ الحظ وفي اعقاب الخروقات الروسية والسورية، جاء قصف التحالف "المؤسف" على قاعدة الجيش السوري في دير الزور، والذي قتل خلاله عشرات الجنود.
عن ذلك قال المثل العربي "رب صدفة خير من الف ميعاد".
فالرسالة "الخاطئة" كانت افضل من الف شجب صدر عن كيري طوال سلسلة التصعيد، وكان يبدو ان الامريكيين اجتازوا عملية لزرع عامود فقري.
والحقيقة انه "نتيجة "للخطأ" طالب الروس بإجراء نقاش في مجلس الامن، وبدأوا بأخذ الامريكيين في الاعتبار.
الامريكيون ينشغلون في الانتخابات، ولذلك يشكلون "لاعب تعزيز" مرتبك في الشرق الاوسط العاصف.
التوجه الايراني – السوري – الروسي واضح لهم، لكن البديل العربي – الإسلامي السني ضعيف، وممزق بشكل يفوق امكانية اعتباره الخيار الاستراتيجي.
خلافا للأمريكيين الضائعين في تعقيدات محاولة صياغة خطة منظمة على اساس رؤية سياسية، يحسن لاعبو الخصوم بواسطة التضليل، مكانتهم في شباك الفرص الحالي، وهم يدركون انه في كانون الثاني القريب، ستقف قيادة امريكية جديدة وراء المقود.
في هذه الأثناء يتقاسم الايرانيون والروس "شهر عسل" المصالح المؤقتة، كعكة التأثير في المنطقة التي تتفكك فيها دول سايكس بيكو الى اجزاء.
الاردن ودول الخليج موسومة كهدف قادم، ومصر فضلت الاسد على الإسلاميين.
وسيكون على اسرائيل الاختيار، في مرحلة ما، ما هو المرض المزمن الملائم للمفهوم الامني والردع الاقليمي لدينا: مسار الشر ايران، سورية، روسيا وحزب الله، ام تنظيمات "الارهاب الإسلامي" شبه الدولية.
↧
September 21, 2016, 9:23 pm
البرنامج الإذاعي
الموسوعات الثقافية المدرسية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله كم أعطى من النعيم، الحمد لله كم منح من الخير العميم، الحمد لله كم تفضل به من النوال الجسيم، الحمد لله عمَّت نعمُه، وانصرفت نقمُه، وتضاعف كرمُه.
والصلاة والسلام على محمد الأمين، وآله وصحبه أجمعين، ومن هم على النهج القويم إلى يوم الدين. ثم أما بعد:
مع إشراقة شمس هذا الصباح، ومن منبر إذاعتكم الصداح، نقدم لكم ما يشرح الصدور، وينير العقول، ويظهر البسمة، هاهي صفحة التقويم تشير إلى أن هذا اليوم (.............) الموافق (.............) من شهر (.............) لعام ألف وأربعمائة و(.............) من الهجرة النبوية.
ونستمع إلى آيات بينات نيرات عطرات، من كلام الرحيم الرحمن:
القرآن الكريم
قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ * وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴾ [فاطر: 29 - 35].
ونزيد من محبة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم في قلوبنا بسماع أحاديثه الشريفة:
الحديث
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حسدَ إلا في اثنتَين: رجلٍ آتاه اللهُ القرآنَ. فهو يقوم به آناءَ الليلِ. وآناءَ النهارِ. ورجلٍ آتاه الله مالاً. فهو ينفقُه آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ" رواه مسلم.
ونستفيد من حكم الحكماء، الخبرة والتجارب:
الحكمة
♦ لا تعتبر السعادة سعادة إلا إذا اشترك فيها أكثر من شخص.
وننتقل إلى فقرة مختارة بعنوان:
لماذا؟
لماذا أعضاء النصف الأيمن من جسم الإنسان أقوى من أعضاء النصف الأيسر؟
لأن الدماغ البشري عند معظم الناس يعمل بطريقة معينة، فالدماغ يتكون من نصفين؛ كل نصف منهما يتحكم ويسيطر على النصف الآخر.
فالنصف الأيسر من الدماغ يضبط عمل أعضاء الجسم اليمنى، والعكس؛ فإن النصف الأيمن من الدماغ يضبط عمل أعضاء الجسم اليسرى.
ولأن النصف الأيسر من الدماغ يسيطر على النصف الأيمن من الجسم، فإن الطرف الأيمن من أجسامنا أكثر مهارة وقوة على إنجاز الأشياء. وقد نرى بعض الناس يستعمل اليد اليسرى أكثر من اليد اليمنى، ويسمي الأعسر؛ النصف الأيمن من الدماغ قد نما أسرع من النصف الأيسر، وهذا قليل.
ونختار لكم الآن هذه الفقرة:
الزرافة
أعلى الحيوانات وأطولها رقابًا، يصل طول الذكر منها حوالي (5) أمتار، ورجلاها الأماميتان أطول من الخلفيتين، لهذا عندما تشرب تضطر لفتح قدميها، حتى تختبر مسافة الوصول إلى الماء. ورقبة الزرافة تمثل نصف طولها تقريبًا، وطولها يسمح لها ببلوغ الأوراق المرتفعة بعيدًا عند قمم الأشجار، حيث تلتقط هذه الأوراق بلسانها الخشن. وتعيش في البراري الإفريقية، يساعدها ارتفاعها على رصد الأخطار قبل أن تقترب منها، لكنها لو تعرضت لهجوم من حيوان مفترس، أو حتى من البشر، تضطر للدفاع عن نفسها بركلات تكون في معظم الأحيان قاضية.
وقبل الختام لابد من هذه الفقرة:
شروط الطالب المثالي
1 - أن يكون محافظًا على الصلاة في أوقاتها ومطيعًا لوالديه.
2 - أن يكون حسن السيرة والسلوك.
3 - أن يحترم مدرسيه وزملاءه داخل المدرسة وخارجها.
4 - أن يكون محافظًا على نظافة ملابسه ومدرسته وفصله.
5 - أن يحافظ على المظهر الإسلامي في مظهره وشخصيته.
6 - أن يحل واجباته ويحفظ دروسه.
7 - أن يكون متفوقًا في مستواه الدراسي.
8 - أن يشارك زملاءه في الأنشطة المدرسية داخل وخارج المدرسة.
وفي الختام نقول:
مَن ذا الذي ما سَاءَ قَطُّ ♦♦♦ ومَن لهُ الحُسنى فقطْ؟
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
↧
September 21, 2016, 9:33 pm
الخيول العربية صديقة العربي في سلمه وحربه
عدنان الأبرش
مكانة الخيل في الإسلام
لقد عرف العرب الخيل منذ أقدم العصور، وهم يروون عن شيخ الإسلام تقي الدين السبكي أن الله سبحانه وتعالى خلق الخيل قبل آدم عليه السلام بيوم أو يومين. وأخرج الواقدي عن مسلم بن جندب، قال:"أول من ركب الخيل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام؛ وإنما كانت وحشاً لا تطاق حتى سخّرت له وبذلك سميت العراب" [1].
وظل ذكر الخيل مقروناً بالعرب، فإذا ذكر العرب ذكرت الخيل وإذا ذكرت الخيل ذكر العرب، وهي عندهم رمز ترتبط به أسمى المثل العليا من كرم ومروءة وشجاعة ووفاء، وهي القوة العربية التي أرهبت الأعداء. أرهبت الفرس والروم، وعلى ظهورها فتح العرب الأمصار والبلدان ووصلوا إلى الصين شرقاً وإلى الأندلس غرباً، وهذا عقبة بن نافع الفهري القائد العربي الشجاع يخوض بفرسه المحيط؛ ويقول: "والله لو علمت أرضاً وراء هذا البحر لخضته إليها".
ولا أدل على مكانتها العالية عند العربي من أن الله -سبحانه وتعالى- أقسم بها في كتابه العزيز في قوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [العاديات:1- 5].
وقد جاء ذكر الخيل في القرآن الكريم في خمس سور؛ فضلاً عن تسميته سورة باسمها وهي سورة "العاديات" وقد أقسم الله بها، وذكرها لما فيها من المنافع الكثيرة، سواء في السلم أم في الحرب، ولما فيها من جمالية، وصورة محببة إلى نفس الإنسان العربي وغير العربي، وجاء ذكرها في أحاديث كثيرة تحث على إكرامها وعدم إذلالها وإطعامها والاعتناء بتربيتها؛ لأن في نواصيها الخير، وفيها البركة، روى البخاري ومسلم عن ابن عمر وعروة بن الجعد رضي الله عنهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة".
وقد أمر صلى الله عليه وسلم بالإنفاق على الخيل، روى ابن ماجة عن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ارتبط فرساً في سبيل الله ثم عالج علفه فله بكل حبة حسنة".
ونهى صلى الله عليه وسلم عن إذلالها: وروى أبو داوود في المراسيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقودوا الخيل بنواصيها فتذلّوها"، وقد جعل صلى الله عليه وسلم للفرس سهمين، ولصاحبه سهماً واحداً. وما ذلك إلا تكريماً لها ولأنها تجاهد في سبيل الله مثلما يجاهد المسلمون، فتطعن وتقتل، وتحزن وتفرح بالنصر، وتبكي إذا قُتل فارسها، وكثيرة هي الروايات التي تحدثنا عن بكاء الخيل العربية الأصيلة على فرسانها، إذا ما سقطوا قتلى في ساحات الوغى.
وهذا مالك بن الريب، حينما رثى نفسه، تذكر الثلاثة الذين سيفتقدونه، ويبكون عليه فلم ينس فرسه وصديقه في وقت الشدة، واحتدام المعركة، فقال:
تذكرت من يبكي عليَّ فلم أجد *** سوى السيف والرمح الرديني باكيا
وأشقــر خنــذيــذ يجـرّ عـنانه *** إلى الـماء لم يتــرك له الدهر ساقيا
مكانة الخيل السامية عند العرب
خلقت الخيل عربية، وقد وجدت أول ما وجدت في الجزيرة العربية، فهي عربية أصلاً ونسباً وموطناً فقد حظيت باهتمام الكتاب والأدباء والشعراء والمؤرخين والنسابة فأفردوا لها كتباً اهتمت بخلقها وخُلقها وصفاتها وأمراضها وأدوائها، وأسمائها، وأنسابها، وأنواعها، وفرسانها، ومن أهم تلك الكتب كتاب أنساب الخيل لابن الكلبي المتوفى 204 هـ، وجر الذيل في علم الخيل لجلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 هـ...
لقد أحب العرب الخيل، وفتنوا بها واستهواهم منظرها الجميل، فأسرت قلوبهم، فاتخذوها صديقة في سلمهم وحربهم، في حلهم وترحالهم، في جدهم ولهوهم، وصيدهم لما فيها من خصال الشرف والأصالة، والمنافع والزينة والبهاء، قال الله تعالى:"والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون".لقد أنزلها العربي من نفسه منزلة الأهل والأبناء، فحدبوا عليها وربما فضلوها على أولادهم حتى كان الرجل يبيت طاوياً ويُشبع فرسه، ويؤثره على نفسه وأهله في الطعام والشراب والكساء والمسكن، يقول عبيد بن ربيعة:
مُفدّاة مكرّمة علينا *** يُجاع لها العيال ولا تُجاع
وكان العرب في الجاهلية يحتفلون بها، وبمولدها، ويهنئ بعضهم بعضاً إذا ولدت له الفرس؛ وكانوا لا يهنئون إلاّ بغلام يولد، أو شاعر ينبغ أو فرس تنتج.
أول من ركب الخيل
ذكر ابن الكلبي في كتاب أنساب الخيل إن أول من ركب الخيل هو سيدنا إسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام، وأول من عدا بفرسه في سبيل الله هو المقداد بن الأسود –رضي الله عنه.
أشهر خيل العرب
يذكر ابن عبد ربه من مشاهير خيل العرب:
الوجيه ولاحق: لبني أسد، الصريح لبني نهشل، ذو العقال: لبني رباح، النعامة: فرس للحارث بن عباد الربعي، الأبجر: لعنترة العبسي وهو ابن النعامة، داحس: فحل لقيس بن زهير، والغبراء: أنثى لحذيفة بن بدر: وقصتهما معروفة ومشهورة قامت من أجلها "حرب داحس والغبراء" التي دامت أربعين عاماً [2].
الخيل في الأمثال العربية
لما للخيل من مكانة عظيمة في نفوس العرب فقد قالوا فيها أقوالاً ومآثر كثيرة منها:
عليكم بإناث الخيل فإن ظهورها عز وبطونها كنز.
وقولهم: ثلاثة من نعم الله: زوجة صالحة وحصان أصيل وسيف بتار.
ثلاثة أنواع من الخدمة لا تعيب المرء: خدمته لبيته وخدمته لفرسه وخدمته لضيفه.
ثلاثة لا تعار: الزوجة- والسلاح- والفرس.
سلالات الخيول
للخيول العربية سلالات وأنواع لكل منها اسم يتميز به ولكل سلالة أو نوع عدة فروع فمنها:
أولاً: كحيلان (كحيلة): ويتفرع عنها العديد من السلالات من أهمها كحيلة العجوز والكحيلة الثامرية، والكحيلة الجازية، والكحيلة الخدلية، والكحيلة العافصية، وكحيلة المريوم، وكحيلة العبيسة، وكحيلة الخرس، وكحيلة الجلالة، وكحيلة الفجري، وكحيلات النواق،وكحيلات أبو عرقوب، وكحيلات أبو جنوب، وكحيلات الفداوي، وجلفة، وكحيلة المطرفية وتعرف بكحيلة أم معارف.
ثانياً: الصقلاوي (صقلاوية): ويتفرع منها الصقلاوية القدرانية، والصقلاويات الوبيريات والصقلاوي الأرحبي وصقلاويات ابن سودان (السودانيات)، والصقلاويات المريغيات، والصقلاويات القميصيات، وصقلاوية نجمة الصبح، والصقلاويات عموماً أقرب الخيل للكحيلات فقد تزاوجت هذه الفروع بفروع كحيلان.
ثالثاً: الحمداني (حمدانية): ويتفرع عنها الحمدانية السمرية وحمدانية ابن غراب وهذه الخيول تعد من أكبر بيوت الخيل وأعرقها.
رابعاً: عبيان(العبية): ويتفرع منه عبية الشراك، والعبية الخبيزية، وشرايد امه، والهنيديسية، وأم جريص، وعبية الديدب، والعبيات تمتاز بجمالها إلا أنها صغيرة الحجم.
خامساً: دهيمان (الدهمة): ومنها الدهم الشهوانيات، ودهم النجيب، ودهم كنيهر.
سادساً: شويمان(الشويمة): ومنها شويمة السباح، وشويمة الودج.
سابعاً: المعنقي والمعنقية: ومنها المعنقية الحدرجية، ومعنقية السبيني، والمعنقيات السلجّيات، ومعنقية الشلاقي، والمعنقيات لا تمتاز بالجمال ولا التناسق إلا أنها قوية التحمل.
ثامناً: طويسان (طويسية): ويقال إنها فرع من العبيات، وفي قول آخر إنها تتفرع من كحيلة العجوز.
تاسعاً: هدبان (هدبه): ويتفرع عنه: هدبان النزاحي وهدب المشيطيب وهدب البردويل.
عاشراً: كروشان(كروش): ومنها كروش الغندور، ويقال إن أصلها كحيلة العجوز.
تنقسم سلالات الخيل حسب موطنها وبيئتها التي تعيش فيها والتي تمنحها صفات خاصة فمثلاً:
الخيول النجدية: وهي من أعرق السلالات، طويلة العنق، صغيرة الرأس، جميلة القوام، قليلة لحم الوجه والخدين، دقيقة الآذان، عريضة الأكفال، رحبة البطون، غليظة الأفخاذ قوية جداً وسريعة، تلوح على وجهها علامات الجِّد.
الخيول الحِجّازية: صلبة الحوافر، متينة الأرساغ ( الرِّسغ الموضع المُستدَق بين الحافر والساق)، وذات أحداق حسناء سوداء.
الخيول اليمنِيّة: غليظة القوائم، تميل أعناقها إلى القصر، وهي مدورة الأبدان، خشنة، خفيفة الأجناب، ذات حدة في أكفالها، ولا توجد باليمن أنواع جيدة إلا الخيول المجلوبة من نجد، ويُعتقد أن مناخ اليمن غير مناسب لتربية الخيل.
الخيول المصرِية: دقيقة القوائم، طويلة الأعناق والأرساغ، جيدة الحوافر، قليلة الشعر، حديدة الآذان، ويحتفظ عرب بني رشيد ومعزّى في صعيد مصر بخيول من السلالات الخمس.
الخيول الشَّامية: وهي جميلة الألوان، واسعة العيون، كبيرة الأحداق، لينة الحوافر، جباهها صلعاء، ويُعتقد أنها من أفضل السّلالات وأنقاها اليوم.
الخيول المغربية: عظيمة الأعناق، عالية الوجوه، ضيقة المنخرين، غليظة القوائم، مدورة الأوظفة، طويلة السبيب.
ألوان الخيول العربية وأصواتها
من ألوانها الأدهم: وهو الأسود الخالص السواد، والأشهب: الأبيض إذا خالطه سواد، ورد: الأحمر الخالص، كميت: إذا كانت حمرته في سواد، الأبلق: لاشية ولا وضوح فيه غير مرغوب، كثير الحرن، الأجرد: قليل الشعر، الغرة: ذو بياض في الجبين، ألمظ: إذا كانت الشفة السفلى بيضاء، وأثم: إذا كانت الشفة العليا بيضاء، التحجيل: بياض في قوائم الفرس.
أما أصواتها فمنها: الأجش: أكثر صهيله من منخريه، الحمحمة:صوته إذا طلب العلف أو رأى صاحبه، الضبح: صوت نفسه إذا عدا وركض، القبع: صوت يردده من منخره إلى حلقه إذا نفر من شيء.
ويعتبر الحصان العربي بلا منازع أجمل الخيول الموجودة على الإطلاق. وقد ذكر الأنباري حين قال: "إن أفضلها مركباً وأكرمها عندنا وأشرفها بالإضافة إلى أن يكون حديد النفس جريء المقدم أن يكون:
قصير الثلاث: العسيب والظهر والرسغ.
طويل الثلاث: الأذن والخد والعنق.
رحب الثلاث: الجوف والمنخر واللبب.
عريض الثلاث: الجبهة والصدر والكفل.
صافي الثلاث: اللون واللسان والعين.
أسود الثلاث: الحدقة والجحفلة والحافر.
غليظ الثلاث: الفخذ والوظيف والرسغ.
فشكل جسمه يعد روعة في الجمال والتناسق. إذ يتراوح ارتفاعه من 150إلى 160سم. ولونه إما رمادي، أو أشهب، أو بني، أو أسمر، أو أشقر، أو أدهم، أو أبيض، أوكميت. الرأس نحيف وصغير نسبياً ويدل على الرشاقة والأصالة وتزيده جمالاً. قصبة الأنف المقعرة بعض الشيء. المنخران واسعان.
والجبهة العريضة. تباعد بين العينين السوداويتين البراقتين. وتعتلي الرأس أذنان قصيرتان نهايتهما رفيعة.
الرقبة طويلة ومتناسبة مع بقية أجزاء الجسم تملؤها العضلات. أما الظهر فهو قصير مكتنز. والذيل مرتفع بشكل واضح.
العمود الفقري عند الحصان العربي يتميز عن غيره من الخيول بوجود سبعة عشر زوجاً من الأضلع وخمس فقرات قطنية وست عشرة فقره ذيلية مقارنة بثمانية عشر زوجاً من الأضلع وست فقرات قطنية وثماني عشرة فقرة ذيليه للخيول الأخرى مما يساهم في ارتفاع ذيله بخلاف سلالات الخيول الأخرى.
يتسم الحصان العربي كذلك بقدرته الهائلة على الصبر وتحمل الجوع والعطش والتأقلم مع حرارة الجو.
إضافة إلى سرعته الفائقة في العدو. ونظراً لميزته ونقاوة سلالته استخدم في إضفاء صفات حميدة ومرغوبة على أغلب سلالات الخيول العالمية والتي أكسبها شهرة وجمالاً.
الخيول في التاريخ
لقد ساهم فتح المسلمين أرض مصر عام 20 هـ في دخول سلالة الخيول العربية شمال إفريقيا. ومن المعتقد كذلك بأن القبائل العربية مثل بني هلال وبني سليم وغيرهما عندما نزحوا من الجزيرة العربية إلى إفريقيا في هجرتهم الكبرى إلى مصر سنة 109 هـ أخذوا معهم خيولهم العربية فزاد من انتشار هذه السلالة في مصر وشمال إفريقيا.
من ناحية أخرى يعتقد أن الفينيقيين هم أول من أدخلوا الخيول العربية إلى أوروبا، إلا أنه كان للفتوحات الإسلامية دور بارز في إدخال الخيول العربية إلى سلالات الخيول الأوروبية. ففي القرن السابع عشر والثامن عشر تم استيراد ثلاثة من الجياد العربية الأصيلة إلى إنجلترا وهي:
بيرلي تورك في عام 1689م، دارلي أرابيان في عام 1706م، غودولفين أرابيان في عام 1706م.
ونتج عن تلقيح الجياد الثلاثة لخيول من السلالة الإنجليزية بروز سلالة خليط جديدة تدعى thoroughbred، وهي من أغلى خيول العالم الآن لكونها الخيول المستخدمة في السباقات العالمية المعروفة في داربي ببريطانيا وكذلك في أمريكا.
من ناحية أخرى نتج عن تزاوج الخيول العربية والسلالة الخليط سلالة أخرى تعرف اليوم بالأنجلو عرب Anglo Arab ولها شهرتها في بريطانيا وفرنسا وتستخدم خيول هذه السلالة في استعراضات القفز (Show Jumping).
الشعراء والخيل
وجاء العرب ليخلدوا بأشعارهم، ويتغنوا بمفاتنها ويفخروا بشجاعتها وإقدامها، فوصفوا الجيل بأجمل الأوصاف ولم يدعوا عضواً من أعضائها إلاّ وصفوه حتى عرف الكثير منهم بوصّافي الخيل، كامرئ القيس، وأبي دؤاد الإيادي، وطفيل الغنوي، وزيد الخيل.
ونسمع لجعفر بن كلاب قوله وهو يساوي حصانه "حذفة" بنفسه إذ يقول:
فمن يك سائلاً عني فإني *** وحذفة كالشجا تحت الوريد
أسويها بنفسـي أو بجزء *** فألحفها ردائي فـي الجليـد
أمرت الراعيين ليؤثراها *** لهـا لـبن الخلية والصعـود
والخلية: هي الناقة التي خليت للحلب، والصعود: الناقة التي ترجع إلى فصيلها فتدر.
أما عنترة فيقيها بنفسه، وهي تراثه:
أتقي دونه المنايا بنفسي *** وهــو يغشينا صـدور العوالي
فإذا مت كان ذاك تراثي *** وخصالاً محمودة من خصالـي
وجواد عنترة هو صاحبه وصديقه الذي يقيه بنفسه ويصله على أية حال من سحيل ومبرم:
أقيه بنفسي في الحروب *** وأتقي بهاديه إني للخيل وصول
وتبقى الخيل بعد هذا وقبل هذا مكّرمة معززة لدى الإنسان العربي، وهي –عنده- من الذخر الذي لا يباع ولايعار لأنها رمز أضمر كل المثل العربية السامية، ثم إن إكرامها والعناية بها يعني إكراماً لنفسه ووقاية لها، وإهانتها وإهمالها؛ دليل على هوان صاحبها وضعفه وضعته.
يقول شاعر بني عامر بن صعصعة:
بنـي عامر إن الخيـول وقايــــة *** لأنفسكـم والموت وقت مؤجـل
أهينــوا لها ما تكرمون وباشروا *** صيانتها والصون للخيل أجمل
متى تكرموها يكرم المرء نفسـه *** وكل امرئ من قومه حيث ينزل
فهو إذن حريص عليها، لا يضيعها ولا يبيعها ولا يهينها كما يقول الأخطل:
إذا ما الخيل ضيعها أناس *** ربطناها فشاركت العيالا
نهين لها الطعام إذا شتونا *** ونكسوها البراقع والجلالا
ويبقى امرؤ القيس أكثر الشعراء افتتاناً بالخيل وعشقاً لها إذ يجد نفسه وصورته في صورتها، وهو فارس وملك وابن ملك؛ ولهذا نراه ينثر كل صفات الفروسية والشجاعة والإقدام على حصانه نثراً:
الْخَيْر مَا طلعت شمسٌ وَمَا غربت *** مطلبٌ بنواصي الْخَيل معصوب
قد أشهد الْغَارة الشّعواء تحملنِــي ***جرداء معروقة اللّحيين سرحوب
وأبياته في وصف حصانه المنتصر معروفة ومشهورة:
وقد أغتَدي والطّيرُ في وُكُناتِها *** بمُنجَـردِ قَيْــدِ الأوابِــدِ هَيْكَلِ
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِـرٍ مَعـاً *** كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ
المصدر:مجلة الباحثون -العدد 26 - أغسطس 2009م
[1] هشام بن السائب الكلبي: أنساب الخيل في الجاهلية والإسلام وأخبارها، تحقيق: حاتم صالح الضامن، الناشر: دار البشائر، دمشق – سورية، الطبعة: الأولى، 1423 هـ - 2003م، 1/ 26.
[2] انظر: ابن رشيق: العمدة في محاسن الشعر، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، الناشر: دار الجيل، الطبعة: الخامسة، 1401 هـ - 1981م، 2/ 234- 236.
↧
September 21, 2016, 9:44 pm
سوق المربد .. عكاظ الإسلام
سعيد بن محمد الأفغاني
لم تستجد في الإسلام سوق لم تكن في الجاهلية، إلا ما كان من أمر المربد الذي ورث عكاظ، وقضى على ما كانت تتمتع به من ميزات، منذ عصر الراشدين، وأخذ أمر المربد "عكاظ الإسلام" بالازدياد حين بدأ شأن عكاظ الجاهلية بالخمول فالانتقاص فالموت.
موقع سوق المربد
نزلت العرب البصرة سنة 14هـ, ومصَّرتها سنة 17هـ على تخطيط وضعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرسل من يقف على تنفيذه، وكان المربد على الجهة الغربية من البصرة إلى البادية, ليكون أول ما ينزلون إذا قصدوا البصرة، وآخر ما يتركون إذا رحلوا عنها؛ ليقضوا فيه متاعا لهم ومرافق يتبلغون بها في ظعنهم وإقامتهم.
ومعنى المِرْبَد [1]: محبِس الإبل ومربطها، والمربد أيضا: بيدر التمر؛ لأنه يربد فيه فيشمس. والرُّبدة: لون إلى الغبرة.
سوق المربد واتساع شهرته
ومربد البصرة هذا متسع للإبل تربد فيه للبيع، وكان في الأصل سوقا للإبل، حتى إذا كان عهد الأمويين صار سوقا عامة تتخذ فيه المجالس ويخرج إليها الناس كل يوم، كل إلى فريقه وحلقته وشاعره، وتتعدد فيه الحلقات يتوسطها الشعراء والرجاز ويؤمها الأشراف, وسائر الناس يتناشدون ويتفاخرون ويتهاجون ويتشاورون، وقد وجدوا فيه مستجما لأبدانهم وأرواحهم التي نهكتها الفتوحات، وحنت إلى سابق عهدها في عكاظ فجددت منه ما سمح به الدين الجديد.
بل غضت النظر فتسامحت أحيانا وأحيت ما أمات الإسلام من حمية جاهلية وإحن وثارات وأثارت عداوات، كان يبعثها الناس من تلقاء أنفسهم، أو بتشجيع خفي من بعض خلفاء الدولة الأموية؛ ليشغلوا الناس بعضهم ببعض عن الخلافة وما يأتي الخلفاء من هنوات.
فسوق المربد معرض لكل قبيلة تعرض فيه شعرها ومفاخرها كما تعرض عروضها، وهو مجتمع العرب ومتحدثهم ومتنزه البصريين، يؤمه منهم من عاف رخاوة المدن، وما زال يعلو شأنه وتستجيب له أسباب الكمال, حتى اشتد ولوع الناس به وارتيادهم له.
ويظهر أن الأمر زاد على ما نعرف للمنازه اليوم من خطر، فقد بنيت فيه الدور الجميلة، وتفاقم أمره حتى صار من الضروري لكل أحد في عصر العباسيين أن يغشى المربد، إن لم يكن لحاجة فلترويح النفس وتمتيع البصر وترويض البدن، وحتى قال جعفر بن سليمان الهاشمي جملته المشهورة: "العراق عين الدنيا، والبصرة عين العراق, والمربد عين البصرة، وداري عين المربد" [2].
المربد وما حل به من الخراب
وما زال المربد في مجده هذا حتى خرب وخربت البصرة وتقلص العمران بينهما، إلى أن صار بين المربد والبصرة ثلاثة أميال خراب على عهد ياقوت الحموي (626هـ) الذي ذكره في معجمه, فقال: "مربد البصرة من أشهر محالها، وكان يكون سوق الإبل فيه قديما ثم صار محلة عظيمة سكنها الناس، وبه كانت مفاخرات الشعراء والخطباء، وهو الآن بائن عن البصرة نحو ثلاثة أميال وكان ما بين ذلك كله عامرا وهو الآن خراب, فصار المربد كالبلدة المنفردة في وسط البرية".
نقلت قول ياقوت الحموي في البصرة ومربدها؛ لأقول: إن الذي طرأ عليها من الخراب والتأخر طرأ على العراق كله؛ فمن يقرأ وصف العراق وبلدانه وجنانه ونعيمه وسكانه وعمرانه وخيراته في كتب الأدب، وخاصة في المائة الثانية والثالثة والرابعة للهجرة، ثم يرحل إليه أول هذا القرن، لا يجد وصفا للعراق أصدق من قول ياقوت في تلك الأميال الثلاثة التي كانت عمرانا متصلا بين البصرة ومربدها, وأصبحت على عهده خرابا يبابا أفرد المربد من أمه وكان سوقا من أسواقها، وجعله قرية بائنة لا خطر لها.
المربد وأثره في اللغة العربية
ولئن كان لسوق عكاظ ذلك الأثر في اللغة العربية: ألفاظها وأساليبها، فإن المربد كان له أيضا في اللغة أثر بعيد يختلف بعض الاختلاف عن أثر عكاظ؛ لما بين الزمانين والمكانين من التباين، فعكاظ في قلب الجزيرة العربية يحج إليها أشراف العرب وفصحاؤها، لا عجمة فيها ولا أثر لأعجميين البتة.
والأمر في المربد على العكس: هو في طرف الجزيرة على الخليج الفارسي, وبينه وبين الفرس قرب قريب، وزاد الإسلام والفتوح اختلاط العرب بالعجم فتطرق إلى اللغة الفساد والعجمة واللحن وغشي هذا الضعف مجالس الخاصة من العرب, وأزرى بلهجات الفصحاء حتى صرت تسمع الأمير على المنبر في المواسم يلحن على ملأ من الأعراب والبلغاء والأشراف، فعِيب على الحجاج بن يوسف لحن وأُثر عن عبيد الله بن زياد مثله، وكذلك نقلت لحنات عن أشراف العرب [3].
فكان المربد يعجُّ بأعلام اللغة والأدب والشعر والنحو، معهم محابرهم ودفاترهم يكتبون عن فصحاء الأعراب فيه، وهذه الظاهرة لم تكن في عكاظ قط، فهذا أبو عمرو بن العلاء يسأل الأصمعي: "من أين أقبلت؟ " فيجيبه: "جئت من المربد"، فيقول: "هات ما معك"، فيقرأ عليه الأصمعي ما كتب في ألواحه، فإذا ستة أحرف "كلمات" لم يعرفها أبو عمرو، فيخرج يعدو في الدرجة ويقول للأصمعي: "شمَّرت في الغريب" أي: غلبتني [4].
المربد وحلقات الشعر والشعراء
ويشبه المربد عكاظ في أمر الشعر وحلقاته، بل يزيد عليه, فلكل شاعر حلقة، ولكل متهاجيين مجلس، ولكل قبيلة نادٍ وشاعر يذود عنها, ويرد عدوان قريعه من القبيلة الثانية، فللعجاج ولرؤبة حلقة، ولأبي النجم العجلي حلقة، ولجرير والفرزدق وراعي الإبل وذي الرمة، لكل منهم حلقة.
وكثر هذا المحصول من الرجز والشعر والنكات الأدبية كثرة ملأت أمهات كتب الأدب بأخبارها، ولا شك في أن المربد في هذا فاق عكاظ مراحل واسعة, وفاته بعدد الشعراء والرجَّاز وكثرة الروَّاد وطلاب الأدب.
وفي المربد أطفئت ثالثة جمرات العرب، أطفأها جرير بقصيدته الدمَّاغة، وكان لكل من الشعراء رواة ينقلون له ما قاله خصمه وينشرون في الناس جواب شاعرهم عليه، وكان اهتمام الناس بالشعر والأدب من أقوى الأسباب العاملة في غزارته, وكثرة المقبلين على تعلمه وروايته.
المربد وأثره في النحو العربي
ويتفرد المربد بأمر علمي محض لم يكن له في عكاظ من أثر، وهو أنه أرفد اللغة بمادة كثيرة، عليها أسس النحاة قواعدهم وأصلحوها، وذلك بما كانوا يقصدون له فصحاء الأعراب يسألونهم فيما فيه يختلفون، ويأخذون عنهم مستفيدين ومتعلمين، وحسبك أن تقرأ أيا شئت من كتب الأدب الأصول كالأغاني والأمالي والبيان والتبيين والكامل، ولتجد أن أكثر مادتها فيما يتعلق بالعصر الأول والثاني للهجرة، كان المربد ميدانه وينبوعه.
وخذ إن أردت كتب التاريخ الكبرى كتاريخ الطبري مثلا ثم أبلغ في فهرس أماكنه إلى المربد، يأخذك العجب من كثرة المواطن التي ورد ذكر المربد فيها مع أن الكتاب كتاب سياسة وأخبار ملوك لا كتاب عامة وأدب.
فمن المربد, وعلى هامشه غُذِّي الأدب بقصص وأساطير كما غذي التاريخ بالأخبار الواقعة، ووضع من وضع من الرواة والأخباريين أحاديث حاكوا بها ما وقع، وفي حلقاته اصطرعت الأهواء المتباينة والنزعات المتضاربة، استغلها الشعوبيون والمنافحون عن الحقائق على السواء، وشهدت هجوما من أولئك ودفاعا من هؤلاء.
المربد كذلك ميدان سياسة وحرب
والغريب أن هذا المربد لم يكتف بأن يستأثر بكل ميزة كانت لعكاظ، بل جمعها وضم إليها ميزات جديدة أفادها من خصائص عصره وطبيعة اجتماعه، فإن كانت في عكاظ حروب موضعية بين قبيلتين, فإن المربد كان ميدانا لأكبر فتنة وأشد حرب داخلية وقف فيها المسلم أمام المسلم يكافحه بسيفه ويشرع إليه رمحه.
كان المربد ميدانا لإحدى مواقع الجمل، أول حرب فرقت كلمة هذه الأمة المخيفة وجعلت بأسها بينها، وكانت حلقة أولى في هذه السلسلة الطويلة التي نخرت الجسم الإسلامي ومكنت عدوه منه, وكانت أفتك به من كل حرب صليبية وغارة تترية ووحشية أوروبية.
في المربد أو مواقع معركة الجمل
وهذه الحادثة شهدت قدوم السيدة عائشة رضي الله عنها -وفي جيشها طلحة والزبير رضي الله عنهما- إلى سوق المربد، في مواجهة جيش أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه،, واستمرت حتى انتهت حرب الجمل باندحار أصحاب عائشة رضي الله عنها.
فقد كانت مأساة فادحة كانت وما بعدها سببا في فُرقة المسلمين وحدوث طوائف ونحل يلعن بعضها بعضا ويحمل بعضها على بعض، تتناكر وتتقاذف وترى كل منها أن غير المسلم أقرب إليها من أهل الطائفة الثانية، وكثيرا ما استعان بعضها على بعض بالأجنبي عدوهما معا، بل كثيرا ما عمل الدخيل على توسيع الشقة بينهما وقوَّى بعضا على بعض وأمد الفريقين من وراء وراء، بالسلاح والمال ليفنيا جميعا.
سطوة الحجاج بن يوسف
وتمضي عشرات السنين ويصلى العراق بسطوة الحجاج بن يوسف الثقفي وإرهابه، وتشتد الوطأة فلا يكون المتنفس إلا في المربد، حيث يخطب الناسَ الزعيمُ الثائر عبد الرحمن بن الأشعث قائلا:
"أيها الناس! إنه لم يبق من عدوكم إلا كما يبقى من ذَنَب الوَزَغة، تضرب به يمينا وشمالا فلا تلبث أن تموت"، فتقوى بهذا الكلام نفوس الثائرين إلا رجلا من بني قشير لا يعجبه كلام ابن الأشعث فيقول: "قبَّح الله هذا، يأمر أصحابه بقلة الاحتراس من عدوهم ويعدهم الغرور" [5]، فيكون أشد على الحجاج من ابن الأشعث، إذ أراد التي هي أحزم.
المربد في عصور الإسلام
كان في المربد إذن أدب وتجارة وحرب [6] وسياسة كما كان في عكاظ، وأستطيع أن أقسم الكلام على المربد أقساما ثلاثة كان شأنه في كل منها مختلفا.
المربد في عهد الراشدين
أما الأول فعلى عهد الراشدين, إذ كان يقتصر أمره على التجارة غالبا، وإن لم يعدم يوما أن كان ساحة حرب ومسرح مآسٍ، وقد عرفنا مما ذكر الطبري أن به موضعا للدباغين، فالمربد إذن سوق البصرة أيام الراشدين وأغلب ما يتاجر فيه التمر وما إليه والإبل والسلاح والغنائم مما كان يقسم على المحاربين، فيبيعه هؤلاء في المربد.
المربد في عهد الأمويين
ثم يأتي العهد الثاني أيام الأمويين وقد اتسعت السوق وكثر قاصدوها من الأطراف, وازدهت بالشعراء والأدباء والعلماء ووفود القبائل، مما لم يكن في العهد الأول؛ لانشغال الناس آنئذ بالجهاد والفتوح، وعدم فراغ لهذه الألوان من الأدب التي لا تغزر وتتهيأ إلا بعد استتباب حال الدولة، ولم نعهد حركة أدبية نشأت إبان الفتوح حين تتأسس الدول.
وازدان هذا العهد بأفحل رجاز وشعراء أخرجهم العهد الأموي, وأخص بالذكر جريرا والفرزدق والأخطل والبعيث وراعي الإبل وذا الرمة، ومن الرجاز رؤبة وأباه العجاج وأبا النجم العجلي وهذا الفريق.
المربد في القرن الثاني الهجري
أما في العهد الثالث, أي: بين آخر العصر الأموي والقرن الثاني للهجرة، فقد نضجت حركة المربد الأدبية والعلمية نضجا يتسق هو وما وصلت إليه الدولة من حسن الحال وسعة الأفق ومرافق الحضارة وبسطة العلم وسعة السلطان، وكان من أبطال المربد أكابر النحاة ورواة الشعر والأدب والشعراء.
والذي كان جديدا في هذا العهد ولم يكن قبل، الناحية العلمية, وأعني بها ما كان يصنعه أبو عمرو بن العلاء والأصمعي وقبيلهما من غشيان لفصحاء [7] الأعراب وصبر على لوثتهم وجفائهم، وتلقف لما ينطقون به وإثبات له في الصحف، يروونه ليبنى عليه الأساس في وضع القواعد العربية.
قال صاحب ضحى الإسلام، وفي قوله إجمال ما قدمت:
"كان المربد في عصر الخلفاء الراشدين والأمويين مركزا سياسيا وأدبيا، نزلت فيه عائشة أم المؤمنين بعد مقتل عثمان تطالب بدمه وتؤلِّب الناس على عليٍّ، وكان المربد مركزا للمهاجاة بين جرير والأخطل والفرزدق، وأنتج ذلك نوعا من أقوى الشعر الهجائي كالذي نقرؤه في النقائض، وكان لكل من هؤلاء الشعراء حلقة ينشد فيها شعره، وحوله الناس يسمعون، جاء في الأغاني: "وكان لراعي الإبل والفرزدق وجلسائهما حلقة بأعلى المربد في البصرة".
المربد في العصر العباسي
واستمر المربد في العصر العباسي، ولكنه كان يؤدي غرضا آخر غير الذي كان يؤديه في العهد الأموي؛ ذلك أن العصبية القبلية ضعفت في العصر العباسي بمهاجمة الفرس للعرب، وأحس العرب بما هم فيه جميعا من خطر من حيث هم أمة لا فرق بين عدنانيهم وقحطانيهم، ولكنهم لم يستطيعوا المقاومة، فقوي نفوذ الفرس وغلبوا العرب على أمرهم.
وبدأ الناس في المدن كالبصرة يحيون حياة اجتماعية هي أقرب إلى حياة الفرس منها إلى حياة العرب، وانصرف الخلفاء والأمراء عن مثل النزاع الذي كان يتنازعه جرير والفرزدق والأخطل، وظهرت العلوم تزاحم الأدب والشعر، وفشا اللحن بين الموالي الذين دخلوا في الإسلام، وأفسدوا حتى على العرب الخالصة لغتهم، فتحول المربد يؤدي غرضا يتفق "هو" وهذه الحياة الجديدة.
أصبح المربد غرضا يقصده الشعراء لا ليتهاجوا، ولكن ليأخذوا عن أعراب المربد الملكة الشعرية يحتذونهم ويسيرون على منوالهم، فيخرج إلى المربد بشار وأبو نواس وأمثالهما، ويخرج إلى المربد اللغويون يأخذون عن أهله ويدوِّنون ما يسمعون.
روى القالي في الأمالي عن الأصمعي، قال: "جئت إلى أبي عمرو بن العلاء فقال لي: "من أين أقبلت يا أصمعي؟ " قلت: "جئت من المربد"، قال: "هات ما معك" فقرأت عليه ما كتبت في ألواحي، فمر به ستة أحرف لم يعرفها، فخرج يعدو في الدرجة وقال: "شمَّرت في الغريب" أي: غلبتني.
والنحويون يخرجون إلى المربد يسمعون من أهله ما يصحح قواعدهم ويؤيد مذاهبهم؛ فقد اشتد الخلف بين مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة في النحو وتعصب كل لمذهبه، وكان أهم مدد لمدرسة البصرة هو المربد [8].
وفي تراجم النحاة نجد كثيرا منهم كان يذهب إلى المربد يأخذ عن أهله. ويخرج الأدباء إلى المربد يأخذون الأدب، من جمل بليغة وشعر رصين وأمثال وحكم، مما خلفه عرب البادية وتوارثوه عن آبائهم، كما فعل الجاحظ: "إن الجاحظ أخذ النحو عن الأخفش، وأخذ الكلام عن النظَّام، وتلقَّف الفصاحة من الأعراب شفاها بالمربد" ا. هـ.
وكما كانت عكاظ يؤمُّها كل من أراد أن يفتخر أو يعلن أمرا تفرد به أو يشيع في الناس مأثرة أو خبرا، كان المربد كذلك منشرة للمحامد والمساوئ، مسرة الصديق وغيظ العدو، فكل من أراد أن يكبت خصما أو يحقر قبيلة أو يشهر محمدة طلب لها المربد يجعلها فيه؛ لتكون أشيع وأسير وأبلغ في الإرضاء والإغاظة، وقد كان المربد مسرحا لدعوات سياسية ودينية واستغاثات وشكوى ورثاء وفخر كما كانت عكاظ.
وأحفل ما كان المربد، في النصف الثاني لعهد الأمويين والثلث الأول لعهد العباسيين.
[1] المربد على وزن منبر, هذا هو المشهور، وكان الأخفش يقول: المربد كمسجد. انظر شرح مقصورة ابن دريد، الطبعة الثانية، مصر 1328هـ، ص41. هذا وللكوفة سوق تعرف بـ "الكناسة" ليس لها ذلك الشأن.
[2] الثعالبي: ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، ص128.
[3] انظر كتابنا في أصول النحو، مطبعة الجامعة السورية سنة 1957م، ص8- 14.
[4] أبو علي القالي: الأمالي - شذور الأمالي - النوادر، ص182.
[5] المبرد: الكامل في اللغة والأدب، 1/ 159.
[6] ثم كان مسرحا لفتن قبلية, يذكر إحداها الفرزدق مفتخرا:
عشية سال المربدان كلاهما *** عجاجة موت بالسيوف الصوارم
والمربد واحد لا اثنان, وإنما أراد الفرزدق: المربد وما يليه مما جرى مجراه, والعرب تفعل هذا في الشيئين جريا في باب مجرى واحدا. المبرد: الكامل، طبعة ليدن، ص82.
[7] كان المربد مدرسة عملية تعلم الفصاحة, ويُهرع إليه طلابها من كل وجه ونبغ منهم عدد غير قليل, والنظام والجاحظ من مشهوريهم, فقد ذكر المؤرخون أن الثاني تلقف الفصاحة شفاها بالمربد، وأهل البصرة في الجملة من أفصح أهل الأمصار.
بل إن الجاحظ ليذهب أبعد من ذلك, فيزعم أنهم أفصح أهل الأمصار عامة، ولسنا نستطيع أن ننسب هذا منه إلى عصبية لبلده. جاء في كتابه البيان والتبيين (1/ 33): "قال أهل مكة لمحمد بن مناذر الشاعر: "ليست لكم -معاشر أهل البصرة- لغة فصيحة، إنما الفصاحة لنا أهل مكة" فقال ابن مناذر: "أما ألفاظنا فأحكى الألفاظ للقرآن، وأكثرها له موافقة، فضعوا القرآن بعد هذا حيث شئتم: أنتم تسمون القدر: بُرمة، وتجمعون البرمة على برام، ونحن نقول: قدر ونجمعها على قدور، وقال الله عز وجل: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13]، وأنتم تسمون البيت إذا كان فوق البيت علية، وتجمعون هذا الاسم على علالي ونحن نسميه غرفة ونجمعها على غرفات وغرف، وقال الله تبارك وتعالى: {غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر: 20]، وقال: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37]، وأنتم تسمون الطلع: الكافور والإغريض، ونحن نسميه الطلع, وقال الله عز وجل: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [الشعراء: 148]، "فعدَّ عشر كلمات, ولم أحفظ أنا منها إلا هذا".
[8] قلت: أقام الكوفيون "سوق كُناسة" بالكوفة؛ لتقوم لهم بما يقوم المربد للبصريين, فلم يفلحوا ولم تذكر سوقهم قط ولا قصدها مثل من يقصد البصرة من فصحاء العرب وخطبائهم وشعرائهم ورجازهم، بل كانت إلى إفساد اللغة أقرب. انظر كتابي: في أصول النحو، طبعة ثانية، ص190.
↧
↧
September 21, 2016, 9:50 pm
ابن العديم .. مؤرخ يعشق حلب
يسري عبد الغني
![]()
هو كمال الدين أبو القاسم عمر بن أحمد بن هيبة الله بن أبي جرادة العقيلي.
من مؤلفاته التاريخية بل من أهمها كتابه (زبدة الحلب من تاريخ حلب)، وقام بتحقيقه الأستاذ سامي الدهان. وصدر في دمشق السورية عن المعهد الفرنسي، الجزء الأول منه 1951م، والجزء الثاني 1954م.
ينتمي ابن العديم إلى أسرة بني جرادة، التي هاجر رئيسها مع سائر أفراد قبيلة عقيل في القرن التاسع الميلادي الموافق القرن الثالث الهجري، بعد وقوع الوباء في البصرة العراقية، فنزلوا بحلب السورية، ومارس جدُّه التجارة بها.
ولد ابن العديم سنة 588هـ/ 1192م، وكان أبوه القاضي الحنفيّ بها.
وبعد أن درس في حلب وبيت المقدس الشريف ودمشق والحجاز والعراق، تولى التدريس بحلب سنة 516هـ/ 1219م، ثم وَلِيَ وظيفة القضاء بها، ودخل في خدمة أميرَيْن أيوبيين فيها وهما العزيز والناصر، وتولى لهما السفارة في بغداد والقاهرة. ثم هرب إلى القاهرة بعد استيلاء التتار على حلب السورية سنة 658هـ/ 1260م، ومات بها 660هـ/ 1262م.
وأهم مؤلفاته التاريخية كتابه المعروف باسم (بغية الطلب في تاريخ حلب)، الذي يتضمن أخبار ملوكها وابتداء عمارتها، ومَن كان بها من العلماء، ومن دخلها من أهل الحديث والرواية والدراية والملوك والأمراء والكُتّاب، رتّبه على حروف المعجم، ووفقًا لمعلوماتي فهو يقع في أربعين جزءًا كاملة، أو عشرة مجلدات.
ومن هذا الكتاب الضخم ألّف ابن العديم موجزًا جرى فيه على حسب السنوات، وهذا الكتاب هو المعروف باسم (زبدة الحلب من تاريخ حلب)، مضى به إلى سنة 641هـ/ 1243م، ومات ابن العديم قبل أن ينجز هذا المُؤلَّف.
صوَّر ابن العديم أهمية مدينة حلب السورية منذ عصورها الإسلامية الأولى، تتنازعها الدول المختلفة، والتزم الإنصاف فيما أورده من حقائق عن المسلمين بفضائلهم وعيوبهم، وعن الروم والإفرنج في كل ما قاموا به من أعمال، وأشار بعض المؤرخين إلى ما كان من مطابقة بين نصوصه ورواياته، وبين ما أورده المنصفون من المؤرخين المسلمين، بل أخذ عن بعض المؤرخين المسيحيين، أمثال يحيى بن سعيد الأنطاكي والينجي. وعمد مؤرخنا إلى الأوراق القديمة والسجلات العتيقة والنقود الأثرية والأبواب والقناطر والأسوار والجدران، فقرأ نقوشها وكتاباتها ونقلها في أمانة.
وتناول الجزء الأول الأحداث من السنة الأولى للهجرة حتى سنة 457هـ، أما الجزء الثاني فاستهله بسنة 457هـ وانتهى فيه إلى سنة 569هـ.
وما تعلق بـ"الحروب الصليبية" نشره دي سيلان مع ترجمة فرنسية في مجموعة مؤرخي الحروب الصليبية، المؤرخين الشرقيين، الجزء الثالث.
المصدر: كتاب (معجم المؤرخين المسلمين حتى القرن الثاني عشر الهجري).
↧
September 22, 2016, 7:06 am
وجوب الإنكار على الذين يؤذون الله ورسوله
|
الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع |
وقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ﴾ [فصلت: 40]
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة المؤمنون، إنَّ الله جل وعلا قد افترض علينا تعظيمه وإجلاله، وأن نقوم بحقه سبحانه؛ من توحيده وعبادته، وتعظيمه وإجلاله جل جلاله؛ ولذلك كان من منهج عباد الله المؤمنين الذين اصطفاهم رب العالمين أن يَكونوا معظِّمين لله حقَّ تعظيمه، موقِّرين لله حق توقيره، يَحرصون على أن يكونوا قائمين بهذا الواجب العظيم، مُتباعِدين عما يُخلُّ به، والعبد كلما قام في قلبه تعظيم الله وإجلاله دلَّ ذلك على عمق الإيمان ورسوخه في قلبه، وعلى قربه من ربه سبحانه.
ولذلك كان المقدَّمون في هذا الأمر العظيم هم الأنبياءَ والرسلَ صلوات الله وسلامه عليهم؛ ولذلك مَن تأمل في سِيَرهم - وبخاصة خاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم - رأى من تعظيمهم لله وتوقيرهم له سبحانه ما ينبغي أن يكون قدوة للعباد جميعًا.
وقد تكاثرَت نصوص الكتاب والسنة، وزخَر القرآن العظيم، واستفاض في سُنَّة النبي الأمين ما يدل على وجوب تعظيم الله، والحذَرِ مما يُخلُّ بهذا الواجب العظيم الذي افترضَه رب العالمين، ومِن دلائل هذا الأصل العظيم ما جاء في سورة الأعراف من قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 180].
ففي هذه الآية الكريمة تعليمٌ من الله جل وعلا لعباده، بما له سبحانه من الأسماء الحسنى التي ينبغي أن يعظموه ويوقروه بدعائه جل وعلا بها، وأن لا يَستعيضوا بغيرها عنها، وأن لا يَنسبوا له جل وعلا ما لا يَليق من الأسماء والصفات؛ فالله سبحانه - كما قرَّر في هذه الآية الكريمة - له أسماء حُسنى، منها ما علَّمَناه في هذا الكتاب العزيز، وعلمَنا إياه نبيُّه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها ما لا نَعلَمه مما له من الأسماء العظيمة، والصفات الكريمة.
وقد ثبَت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن لله تسعة وتسعين اسمًا - مائة إلا واحدًا - من أحصاها دخل الجنة، وهو وترٌ يحب الوتر))، فدلَّ هذا الحديث العظيم على أن مِن جملة أسماء الله تسعةً وتسعين اسمًا، اختصَّها الله جل وعلا بأن من أحصاها دخل الجنة.
وقد تنوعت أقوالُ العلماء رحمهم الله في مدلول قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مَن أحصاها))، والذي يَظهر - والعلم عند الله - أن المعنى: مَن عَلِم بها؛ بحفظها والعمل بمقتضاها دخل الجنة، لأن علم العبد بهذه الأسماء وعمله بمقتضاها يجعله من عِباد الله الشاكرين، الذين يَحرصون على أن يتعرَّضوا لرحمة الله، ولإحسانه وعفوه ومغفرته وهداه، وغير ذلك من أنواع إنعامه؛ لأن أسماء الله جل وعلا كلَّها حسنى، وكلَّها دالٌّ على معانٍ عظيمة توجب على العبد تعظيمَ الله، وعبادتَه وتوحيده تعالى وتقدس.
قال العلماء: وأسماء الله الحسنى غيرُ منحصِرة في تسعةٍ وتسعين اسمًا، وقد جاء تعدادها في رواية الإمام الترمذي رحمه الله لهذا الحديث المخرَّج في الصحيح؛ فإن الإمام الترمذيَّ رحمه الله بعد أن أسنَد في كتابه "الجامع" هذا الحديث: ((إن لله تسعة وتسعين اسمًا - مائة إلا واحدًا - مَن أحصاها دخل الجنة))، جاء بعدها ذِكرُ هذه الأسماء المعروفة المشهورة عند المسلمين، وعامةُ هذه الأسماء ممَّا ورد في كتاب الله، أو في سُنَّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
لكن الصحيح - كما تقدَّم - أن أسماء الله جل وعلا غيرُ منحصرة في هذه الأسماء التسعة والتسعين، ويدل على هذا ما رواه الإمام أحمدُ رحمه الله في "مسنده" من حديث عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ما أصاب أحدًا همٌّ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمَتِك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك؛ سميتَ به نفسك، أو أنزلتَه في كتابك، أو علمتَه أحدًا من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندَك أن تجعل القرآن العظيم ربيعَ قلبي ونور صدري وجِلاء حُزني وذَهاب همي، إلا أذهَب الله حُزنه وهمَّه، وأبدله مكانه فرحًا))، فقيل: يا رسول الله، أفلا نتعلَّمُها؟ فقال: ((بلى، ينبغي لكلِّ مَن سمعها أن يتعلمها)).
فقولهم: "أفلا نتعلمُها؟" يَعنون رضي الله عنهم هذه الكلماتِ التي وردَت في هذا الدعاء ((اللهم إني عبدك ابن عبدك...)) إلى آخره؛ قالوا: هل نتعلم هذا الدعاء؟ قال: نعم، ينبغي لكل من سمعه أن يتعلمه؛ لأنه لا أحدَ ينفكُّ من أن يتعرَّض لهذه الأحوال التي تَعرِض له من الحزن والهم والغم وغير ذلك، ولا مخرج من هذه الأمور إلا باللجوء إلى ربِّ العزة تعالى وتقدس.
والشاهد من هذا الحديث أن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم - وهو أعلم الخلق بربِّ الخلق جل وعلا - أورَد فيه قولَه: ((أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك))؛ فإن من أسماء الله ما لا يَعلمه الخلق، مما استأثر به الله جل وعلا، ولم يُخبر به أحدًا من عباده.
ولذلك فالله جل وعلا حينما يخبرنا: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [الأعراف: 180] فهذا تعظيمٌ منه جل وعلا، تعظيم منه لنفسه، وتعليمٌ منه لعباده؛ كيف يدعونه؟ وكيف يسألونه جل وعلا؟ وما الذي يُطلق عليه من الأسماء والصفات؟ فإنه ليس لأحدٍ من الناس أن يَصِف الله بما لم يَصِف به نفسَه، أو يصفْه به أعلمُ الخلق به نبيُّه محمد عليه الصلاة والسلام، وليس لأحدٍ من الخلق أن يسمي الله باسمٍ لم يأت في كتابه ولا في سنة نبيه محمدٍ عليه الصلاة والسلام، وليس لأحد من الخلق أن يَنسب إلى الله شيئًا من المخلوقات نسبةً أو إضافة تَقتضي التشريفَ أو الاختصاص، مما لم يَرِد في كتاب الله تعالى وسُنَّة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام.
وقد عُنِي العلماء رحمهم الله بتَعْداد هذه الأسماء الحسنى، حتى إنَّ الإمام القاضيَ أبا بكر ابن العربي الأندلسي رحمه الله، وهو أحد أئمة العلماء المالكيين، قال في كتابه "الأحوذي في شرح جامع الترمذي": إن بعض العلماء جمَع من الكتاب والسنة من أسماء الله ألفَ اسم، والله أعلم بذلك. والمقصود أن أسماء الله جل وعلا أسماء كريمة عظيمة، لا يُحصيها العباد، والواجبُ عليهم أن يَقِفوا وأن يَقتصِروا على ما سمَّى الله تعالى به نفسَه، وعلى ما وصَف به نفسه.
وفي باب الصفات ضلَّ كثيرٌ من الناس، وزاغوا عن الحق والهدى؛ وذلك أن الله جل وعلا أثبت لنفسه صفاتٍ تليق بجلاله وعظمته؛ ربًّا عظيمًا، وخالقًا جليلًا، ليس فيها ما يُشبهه فيه خلقُه؛ لأنه جل وعلا يقول في كتابه الكريم: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، فنَفى الله جل وعلا أن يُماثله أيُّ شيء من خلقه؛ لا في أسمائه، ولا في صفاته، وأثبَت لنفسه أنه جل وعلا سميعٌ بصير.
ولذلك قرَّر العلماء رحمهم الله في هذا الباب أنَّ الواجب هو الإثبات؛ إثباتُ ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، لكن من غير تشبيه؛ لأن التشبيه محال على الله سبحانه، وهذا أمر تُدركه العقول الصحيحة والفِطَر المستقيمة.
فالكل يَعلم أننا نحن العباد لنا حياة، فأي إنسان منا يوصف بالحياة، والله جل وعلا أيضًا يوصَف بالحياة؛ فهو الحيُّ القيوم، لكن بالتأكيد أن ثمَّة فرقًا بين حياة الله وحياة عباده؛ لأن حياة الخلق يَسبقها العدم ويَعقُبها الموتُ والفناء، أما الله جل وعلا فهو الحي القيوم، القائم بنفسه، والذي قامت به عبادُه وخلائقه، وهكذا في صفات الله الأخرى؛ فإنه من المقطوع به أنه لا يُشبهه جل وعلا شيءٌ من خلقه في صفاته العظيمة؛ ولذلك حذَّر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة ممَّن ألحَدوا في أسمائه وألحدوا في صفاته، وقال: ﴿ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ﴾ بعد أن قرر الله جل وعلا وعلم عباده أنَّ له الأسماء الحسنى، وحثَّهم على أن يدعوه بها: ﴿ فَادْعُوهُ بِهَا ﴾.
ومِن فقه العبد أن يتخيَّر من الأسماء والصفات ما يَسأل الله جل وعلا فيه حاجته؛ فإنه من اللائق بالمؤمن والدال على علمه وعلى تعظيمه لله جل وعلا أن يُكثر بين يدي دعائه من ثنائه على ربه جل وعلا، وأن يكون هذا الثناء والدعاء مناسبًا لما يدعو به؛ فهو حينما يسأل رزقًا يقول: يا رزاق ارزقني، وحينما يسأل رحمة يدعو الله بأنه الرحيم، وحينما يَسأل مغفرة يدعو الله بأنه الغفور، وإذا سأل الله عفوًا يصفُه بأنه العفو، وإذا سأل الله نصرًا وتأييدًا فإنه يصِفه ويَدعوه بالقويِّ العزيز... إلى غير ذلك.
فهذا كما نصَّ العلماء من مقتضى ما دلت عليه هذه الآية الكريمة: ﴿ فَادْعُوهُ بِهَا ﴾، وحذر الله من مسلك الزائغين وقال: ﴿ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ﴾، والإلحاد معناه وضعُ الشيء في غير موضعه، والخروجُ به عما أمر الله جل وعلا، فهو الميل عن الصراط المستقيم والمنهج الصحيح، وهذا ما وقع فيه أعداء الله ممَّن زاغت قلوبهم، واستولى عليهم الشيطان، زاغوا فأزاغ الله قلوبَهم؛ وذلك بأنهم نسَبوا إلى الله جل وعلا ما لا يليق به من الأسماء والصفات، وشبَّهوه بخلقه؛ ولذلك نجد في أحوال المشركين الأوائلِ أنهم من إلحادهم جعَلوا من أسماء أصنامهم ما أرادوا أن يُشبِّهوا الله تعالى به، فقالوا لبعض أصنامهم: (اللات) من (الله)، أخذوها مِن لفظ ومن اسم (الله)، و(العزى) من (العزيز)، و(مناة) من (المنان)، وهكذا ما يلحد به غيرهم من أن ينسب إلى الله جل وعلا ما لا يليق به؛ كما فعل أهل الكتاب الزائغون بأن نسبوا إلى الله جل وعلا الصاحبة والولد، ودعَوُا الملائكة بأنهم بنات الله تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، ﴿ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ﴾ [مريم: 90، 91].
والمقصود أيها الأخوة المؤمنون، أن الواجب على المؤمن أن يكون معظِّمًا لله، وأنه له من الأسماء والصفات ما يَليق بجلاله وعظمته، وأنَّ الواجب على العباد أن يَكونوا معظِّمين لله موقِّرين له سبحانه وتعالى، مُحاذرين من أن يُلحدوا في أسمائه وصفاته، وفي عبادته جل وعلا؛ فإن الله توعَّد في هذه الآية فقال: ﴿ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 180]، وهذا فيه وعيد عظيم، وتهديدٌ أكيد لمن سلك مسلك أهل الزيغ والضلال والإلحاد؛ كما قال سبحانه في الآية الأخرى من سورة فصلت؛ قال جل وعلا: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [فصلت: 40]، فلا يُظَنَّ أن أولئك الذين يُلحدون في أسماء الله وصفاته، ويُشركون في عبادته، أن هذا الأمرَ والإمهالَ لهم سيمرُّ مرورًا عابرًا؛ فإنما هو إمهالٌ وتأجيل لهم، ثم يأخذهم جل وعلا أخذَ عزيز مقتدر، فلا يُظن أن هذا الإمهال هو غفلةٌ عنهم، ولكن الله جل وعلا كما أخبر نبيُّنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله ليُملي للظالم)) يُملي: يمهل، ((حتى إذا أخذه لم يُفلِته))، ثم تلا عليه الصلاة والسلام قولَ الله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بهديِ النبي الكريم.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانيةالحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله، نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 180]، إن الإلحاد في أسماء الله قد تنوَّع في تاريخ البشرية؛ ما بين اتخاذ الأصنام والأوثان والأنداد، وعبادتها من دون الله، وإطلاق الأسماء المعظِّمة لها؛ مما يَجعلونها بهذه الأسماء أندادًا تُدعى من دون الله جل وعلا.
ولئن كان هذا الإلحاد في أسماء الله تعالى على هذه الشاكلة في تاريخ الأولين؛ فإنه في زماننا يَتَّخذ صورًا متعددة؛ سواءٌ ما كان يَصدر من أهل الإشراك والكفران، والذين يُجاهرون بإلحادهم، ونَفْيهم ربوبيةَ الله جل وعلا وألوهيتَه، ويجاهرون بوصف الله بمقذع الصفات وسيئ الأسماء - إلا أن الأمر أعظم حينما يكون ذلك صادرًا ممن ينتسب إلى الإسلام.
وإنه - مع الثورة المعلوماتية، والتواصل الإعلامي الكبير - فإنه ربما مُرِّر على كثير من المسلمين هذا الإلحادُ، وظنوه أمرًا سائغًا ولبَّسوه بلَبوس مما يُلبَّس به الضلال؛ من قَبيل أن هذا من الحرية، أو من الثقافة، أو من غير ذلك، مما يُطلَق على ضلالهم وزيغهم وإلحادهم؛ فإنه إذا مُرِّر هذا الأمر على كثيرٍ من الناس واستساغوه، كان في ذلك خطرٌ على المجتمعات بعامة.
فإن الله سبحانه ليس بينه وبين أحد من خلقه مِن نسَب، إنما هو أن يُعظموه جل وعلا ويشكروه، فيَشكُر لهم وهو الودود الشكور، فيُنعم عليهم ويبارك لهم، وإما أن يَستسهلوا ما يُنسَب إلى الله جل وعلا وما يُلحَد به في أسمائه، فحينئذ يكون الأمر كما قال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الناس إذا رأَوُا المنكر فلم يأخذوا على يد صاحبه أوشَك الله أن يعمَّهم بعقاب))، وهل ضاقت الأرزاق، واختلَّ الأمن، وانتشرت الفوضى، وحلَّ بالناس أنواعٌ من النكبات إلا بسبب ما يَكون من الإعراض عن دين الله، والتساهل بحدوده جل وعلا؟!
ألم يَقُل نبي الهدى محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ((لحَدٌّ يُقام في الأرض خيرٌ لأهلها من أن يُمطروا أربعين يومًا))؟! ألم يقل ربُّ العزة سبحانه: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96]؟!
ألم يقُل رب العزة سبحانه: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41]؛ ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ بما يكون من ضيق المعايش واختلال مَوازين الحياة، والسبب في ذلك: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30]... إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى.
ومن الأمثلة التي تُمرَّر في المجتمعات مما يكون فيه الإلحادُ في أسماء الله: ما تتناقله بعضُ وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي ممَّن ينتسبون ويَعيشون في المجتمعات الإسلامية؛ فعلى سبيل المثال من ذلك فلم كرتوني، يُذاع على عددٍ من القنوات، ومسمَّاه (الشخصيات التسعة والتسعون)؛ شخصيات كرتونية، نُسِبت ووُصفت بأسماء الله، شخصية كرتونية يُطلَق عليها اسم الصَّمَد، والقوي، والعزيز، والقهار... تسعة وتسعين اسمًا أُطلقت على هذه الشخصيات، ويُمارَس في سيناريو وأحداث هذا الفلم الكرتوني ما ينسب إلى هذه الأسماء؛ من الأوصاف المقذعة والظلم والبغي والعدوان والانتقاص؛ عياذًا بالله من كل ذلك.
هذا لا يُبثُّ في قنوات صِهْيَونية أو نصرانية أو يهودية؛ بل في بلاد إسلامية، كما بثَّته قناة الـ(mbc)، وتُرجم إلى عددٍ من اللغات، فيُنشر في بلاد المسلمين في إندونيسيا وفي غيرها؛ ليتربى الأطفال على الإلحاد برب الأرباب؛ عياذًا بالله من ذلك!
وكمثالٍ آخر ما قد يُطلِقه مَن ينتسب إلى المثقَّفين من بعض الأوصاف التي يُنزَّه الله جل وعلا عنها؛ كما قالت قائلةٌ وكتبت كاتبةٌ حينما تقول: إني إذا سمعتُ المغني فلانًا؛ هل أني أسمعه، أم أني أسمع الله؟! تعالى الله عما قالت علوًّا كبيرًا.
أو كما يقول أحدهم ممن ينتسب إلى الثقافة أيضًا بأننا نحتاج إلى تجديدِ شريعة محمد! وكما يقول أحدُهم مِن نسبة بعض الأوصاف إلى الله جل وعلا، والنسبة إلى الله نسبةُ الأشياء بابٌ شرعي واضح، لا يجوز أن يُنسَب إلى الله إلا ما نسَبه إلى نفسه.
فالله جل وعلا نسَب على سبيل المثال في كتابه العزيز على لسان نبيِّه صالح الآيةَ التي أخرجها لقومه وهي الناقة؛ قال: ﴿ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ﴾ [الشمس: 13]، وكما ينسب الله جل وعلا إلى نفسه: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾ [الجن: 18]، والمساجد بيوت الله، وكما يَنسب الله إلى نفسه بعضَ عباده: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ﴾ [الإسراء: 1].
فأما أن يُنسَب إلى الله شيءٌ من المخلوقات على الأهواء والأمزجة تحتَ ستار الثقافة والحرية والمجاز؛ فهذا نوع من الإلحاد؛ لأن النسبة توقيفية، إنما يُقتصَر على ما جاء به القرآن والسنة، ومَن زاد فقد ألحد؛ ﴿ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 180].
ولا شك أن هذا مما يوجب على أهل الاسلام إنكارَه أشد النكير؛ فهذا واجب الناس لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما ثبت في صحيح مسلم: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)).
فالواجب على عامة الناس هو الإنكار القلبيُّ، والإنكار القوليُّ أيضًا:
الإنكار بالقلب، وهذا ليس وراءه مِثقال حبَّة خردل من إيمان.
والإنكار القولي، وهذا بالنسبة لمن بلَغَه هذا الأمر، فيُعظِّم الله ويُنزِّهه عن هذا القول العظيم، ومَن كان ذا قلم أو مجال إعلام، فواجبٌ عليه أن ينكر ذلك.
وأما الإنكار باليد فمردُّه إلى ولي الأمر ومن أنابه؛ بأن يُؤخذ على أيدي السفهاء، وأن يرفعوا إلى القضاء ليُقام فيهم حكم الله، وما لم يكن كذلك بين الناس من الغيرة لله فهذا مما يؤذِن بحلول العقوبات، وبضيق المعايش، وتسليط الله جل وعلا على عباده ما لا طاقة لهم به.
وقد قال نبي الله نوحٌ عليه السلام لقومه لما تكاثر فُحشهم وذنوبهم: ﴿ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ﴾ [نوح: 13]؟! ما لكم لا تعظِّمون الله حق تعظيمه، والله جل وعلا يقول عن عباده الذين لم يقوموا بهذا الواجب العظيم: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ [الأنعام: 91]؟!
فمَن عظَّم الله ووقَّره كان واجبًا أن يكون في قلبه من الغيرة لله جل وعلا ما يُنكِر به هذا الأمر العظيم، أمَّا من تساهل به واعتذَر بأنواع الأعذار، تحت مسمَّيات فضفاضة مزيفة، واستسهل أذيَّة الله جل وعلا، فهذا دليل على ضعف الإيمان وغوره من القلوب؛ عياذًا بالله من ذلك، والله سبحانه يقول: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾ [الأنفال: 24].
ومِن مظاهر ذلك أن يَضعُف تعظيمُ الله في قلب العبد، حتى لا يَستنكِر هذه المنكرات العظيمة التي هي أكبرُ من الكبائر، هذه المنكَرات التي فيها الإلحادُ بأسماء الله أعظمُ من الزِّنى ومن الخمر ومن أكل الربى، وغيرِه من الكبائر؛ فهذا الإلحاد قنطرةٌ إلى الضلال الذي هو أعظمُ من الشرك؛ فإن الله يقول في كتابه العزيز: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ ﴾... تأمَّلوا أنه في هذه الآية تدرج في ذِكْر المنكرات من العظيم إلى ما هو أعظم؛ ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 33].
فنسأل الله ألَّا يُؤاخذَنا بما فعل السفهاء منا؛ اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم إنا نعوذ بك من الزَّيغ والضلال والإلحاد.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمعهم على كتابك وسنة نبيِّك محمد عليه الصلاة والسلام، اللهم إنَّ بأمة نبيك محمد عليه الصلاة والسلام من الفُرْقة واللَّأواء، ومن الجهل والبعد عن كتابك وسنة نبيك، ما لا نشكوه إلا إليك، وما لا نَسأل كشفه إلا منك، فنسألك اللهم فرَجًا من كل هذا الضلال، ومن كل هذا البلاء.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين، ونفِّس كرب المكروبين، واقض الدَّين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل بلدنا هذا آمنًا مطمئنًّا وسائرَ بلاد المسلمين، اللهم أصلح أئمَّتنا وولاة أمورنا، اللهم وفِّقهم لكل خير وهدًى، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، وأبعِد عنهم بطانة السوء يا رب العالمين.
اللهم آتِنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربَّونا صِغارًا.
عباد الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].
↧
September 22, 2016, 7:08 am
خطبة عن الرحمة
الخطبة الأولى
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى
الحمد لله الذي تغمدنا برحمته فجعلنا مسلمين
الحمد لله الذي جعل لنا القرآن والسنة مناراً للهدى والرحمة
ونرجوه رحمة تعمنا ولا نطمع في سواها بدلاً.
و نسأله العافية فيما هو آت والعفو عما قد حصل.
وطوبى لنا بمن بعث للعالمين رحمة وهو في الآخرة خير شافع.
اللهم صل وسلم وبارك عليه ما دام للنجوم مغارب ومطالع.
أما بعد:
فموضوع خطبتنا اليوم عن الرحمة والتي تدور مادّتها على معنى الرّقّة والعطف والرّأفة، قال الجرجانيّ: هي إرادة إيصال الخير.
وقد أمرنا الله في مواطن كثيرة أن نقول بسم الله الرحمن الرحيم فلم الرحمن ولم الرحيم؟ قال الخطّابيّ: ذهب الجمهور إلى أنّ «الرّحمن» مأخوذ من الرّحمة. ومعناه ذو الرّحمة لا نظير له فيها. ثمّ قال: فالرّحمن ذو الرّحمة الشّاملة للخلق، والرّحيم خاصّ بالمؤمنين.
• وإن من أعظم وأجل رحمات ربنا عز وجل علينا ما ورد في قوله تعالى: ﴿ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [البقرة: 105]
قال ابن القيّم - رحمه الله تعالى -: الرّحمة سبب واصل بين الله عزّ وجلّ - وبين عباده، بها أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبها هداهم، وبها يسكنهم دار ثوابه، وبها رزقهم وعافاهم وأنعم عليهم، فبينهم وبينه سبب العبوديّة، وبينه وبينهم سبب الرّحمة )) ا.هـ.
• ولكي يصل العبد المؤمن إلى الدرجات العلى من الرحمة فلا بد من درجات من الإحسان قال تعالى: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 55، 56]
• وقد قيل أن الرحمة المذكورة في الآية هي الجنة فما كنت محسناً إلا وقد اقتربت من الجنة فتجد ريحها في الدنيا ولذتها إيماناً يباشر قلبك وتجدها في الآخرة حق اليقين.
ولا بد أن يكون في طريق الرحمة شيء من البذل ومن العطاء لأن الدين مراتب ولا يصعد فيه إلا من أعطى واتقى قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 218]
قال ابن القيّم: ومن رحمته سبحانه: ابتلاء الخلق بالأوامر والنّواهي رحمة لهم وحميّة لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به. ومن رحمته: أن نغّص عليهم الدّنيا وكدّرها؛ لئلّا يسكنوا إليها ولا يطمئنّوا إليها ويرغبوا عن النّعيم المقيم في داره وجواره. )) أ.هـ.
(قال سفيان بن عيينة - رحمه الله تعالى -:«خلق الله النار رحمة يخوّف بها عباده لينتهوا»).
والرحمة عماد الدعوة إلى الله وأعظم السبل لإيصال الخير للغير قال تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159].
• فالدعوة لن ولا تنتشر بالقوة التي خلاف الرحمة والرأفة الحقيقية وهذا ليس إنكارا للجهاد فإنه من الرحمة لكثير من عباده إذ أن أعداء الله قد يقفون لصد الناس عن رحمة الله.
وتفضل الله وقدم رحمته (عند عصيان عباده) على غضبه ليصنع لهم مطمعاً في التوبة وحتى لا يصل بهم الأمر إلى القنوط فلا يتوبون.
(عن أبي هريرة - رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لمّا خلق الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: إنّ رحمتي تغلب غضبي») البخاري ومسلم.
ومن رحمته سبحانه وتعالى أن عدد الرحمات ففي الدنيا جعل لها رحمة واحدة من باب الابتلاء فلا يذهب إليها إلا مؤمن، وأما الآخرة فقد انتهى العمل وعظم الخطب وبلغت القلوب الحناجر ولم تبقى إلا رحمة أرحم الراحمين فكانت تسعة وتسعون رحمة فمن لمي يصب منها شيئاً فهو شقي.
(عن سلمان الفارسيّ - رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله خلق يوم خلق السّماوات والأرض مائة رحمة، كلّ رحمة طباق ما بين السّماء والأرض. فجعل منها في الأرض رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطّير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرّحمة») مسلم.
• فلا نامت أعين الجبناء والخاملين والفجرة والمنحرفين إذ كيف لا ينالوا رحمة من رحماته.
ومن رحمة الله عليك أن يضع الله في قلبك رحمة على الضعفاء فإن هذا علامة الإيمان (عن أبي هريرة - رضي الله عنه قال: سمعت أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تنزع الرّحمة إلّا من شقيّ» الترمذي والحديث حسن.
ولذا لما أتى الإعرابي وتفاجأ أن نبي الرحمة يقبل صبياً، صرح بأنه ليس لهم عندنا مثل ذلك فكان الرد كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: جاء أعرابيّ إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: تقبّلون الصّبيان فما نقبّلهم، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرّحمة») البخاري ومسلم.
• فمن لم يكن له ميل إلى رحمة الضعفة والمساكين فقد نزع منه رحمة ربما لا تدركه بعدها رحمة الله لا في الدنيا ولا في الآخرة بل أن الأمر أبعد من ذلك فقد ربط الله رحمته وتحققها للمرء بأن يحققها هو مع الناس.
(عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يرحم الله من لا يرحم النّاس» البخاري ومسلم.
وقد كان صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين فكان أمر العصاة في دائرة اهتمامه ويفرح كما يفرح الله بتوبة عبده ولذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أحبّ أنّ لي الدّنيا وما فيها بهذه الآية ﴿ قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 53].رواه أحمد وإسناده حسن.
• الكل تحت رحمة الله فما تبقى غير العمل والعمل والتوفيق إليه من رحمة الله.
بل إن الرحمة لتدرك لمن أحسن إلى حيوان يوصف عندنا بالنجاسة العينية ولكنها عبودية الرحمة كيف توصل الإنسان إلى الرحمة العظمى يوم الدين.
(فعن أبي هريرة - رضي الله عنه أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بينما كلب يطيف بركيّة كاد يقتله العطش، إذ رأته بغيّ من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فسقته فغفر لها به») البخاري ومسلم.
• أسقت نجساً، فيا أهل المال والاقتدار اسقوا بشراً رحمة تقدمها بين يديك يوم الظمأ والحر والفزع الأكبر.
عباد الله:
لقد علم البشر بل حتى الحيوان أن الرحمة لتفيض من النبي صلى الله عليه وسلم على كل من حوله فهذه حمرة طائر فجعت بفراخها فلم تجد من يغمد جراحها إلا المصطفى.
(عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه قال: كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر، فانطلق لحاجته فرأينا حمّرة معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمّرة فجعلت تفرّش جاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «من فجع هذه بولدها؟ ردّوا ولدها إليها» ورأى قرية نمل قد حرّقناها، فقال: «من حرّق هذه؟». قلنا: نحن، قال: «إنّه لا ينبغي أن يعذّب بالنّار إلّا ربّ النّار») أبو داود صحيح.
• من علمها أن هذا إمام البشر جميعاً عطفاً ورحمة إنه البارئ عز وجل.
بل أنه صلى الله عليه وسلم ليقدم عبودية الرحمة حتى وإن كان على حساب عبوديات أخر إذ أن الرحمة قد يكون لها حالتها الطارئة في الغالب.
(عن أبي قتادة - رضي الله عنه أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّي لأقوم في الصّلاة أريد أن أطوّل فيها. فأسمع بكاء الصّبيّ فأتجوّز في صلاتي كراهية أن أشقّ على أمّه») البخاري ومسلم.
(يقول عمر بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى -: «اللهمّ إن لم أكن أهلا أن أبلغ رحمتك، فإنّ رحمتك أهل أن تبلغني، رحمتك وسعت كلّ شيء وأنا شيء، فلتسعني رحمتك يا أرحم الرّاحمين. اللهمّ إنّك خلقت قوما فأطاعوك فيما أمرتهم، وعملوا في الّذي خلقتهم له، فرحمتك إيّاهم كانت قبل طاعتهم لك يا أرحم الرّاحمين».
أقول ما سمعتم واستغفروا الله إن الله غفور رحيم.
♦ ♦ ♦
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ويزداد بها الخير والبركات والصلاة والسلام من جعله ربه رحمة للعالمين أما بعد:
قال ابن القيّم - رحمه الله تعالى-: (( إنّ الرّحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كرهتها نفسه وشقّت عليها. فهذه هي الرّحمة الحقيقيّة. فأرحم النّاس من شقّ عليك في إيصال مصالحك ودفع المضارّ عنك. فمن رحمة الأب بولده: أن يكرهه على التّأدّب بالعلم والعمل، ويشقّ عليه في ذلك بالضّرب وغيره، ويمنعه شهواته الّتي تعود بضرره، ومتى أهمل ذلك من ولده كان لقلّة رحمته به، وإن ظنّ أنّه يرحمه ويرفّهه ويريحه. فهذه رحمة مقرونة بجهل)) أ.هـ.
وإذا أردنا أن سطر الرحمة فيمكن ان نجعلها في سطور هي:
فوائد الرحمة:
1- لا يستحقّ رحمة الله تعالى إلّا الرّاحمون الموفّقون.
2- الرّحمة في الإسلام عامّة وشاملة لا تخصّ أحدا دون أحد، ولا نوعا دون نوع.
3- الاجتماع على الحقّ دليل الرّحمة والافتراق دليل الشّقاء.
4- إشاعة الرّحمة بين أفراد المجتمع ترفع من مستواه وتجمع شمله.
• ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8] وأصلح اللهم أحوالنا في الأمور كلها وبلغنا بما يرضيك أمالنا واختم.
• اللهم إنا نسألك صحة في إيمان وإيمان في حسن خلق ونجاح يتبعه فلاح ورحمة منك وعافية ومغفرة منك ورضوانا.
اللَّهُمَّ؛ أَعْطِنِا إِيمَانًا وَيَقِينًا لَيْسَ بَعْدَهُ كُفْرٌ، وَرَحْمَةً ننال بِهَا شَرَفَ كَرَامَتِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل ولايتَنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين ويا أرحم الراحمين.
• ونسألك اللهم التوفيق والسداد والهداية والرشاد وحسن العقبى وحسن الميعاد اللهم أسبغ علينا نعمتك وعلى جميع المسلمين وملء اللهم قلوبنا بالإيمان والقناعة والزم جوارحنا العبادة والطاعة واغفر اللهم لنا ولوالدنا ولإخواننا وأشياخنا ولجميع من سبقنا بالإيمان واتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من امرنا رشدا واتنا ربنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
↧
September 22, 2016, 7:13 am
خطبة عن تحويل القبلة
تحويل القبلة
العناصر:
1- قصة تحويل القبلة.
2- حال المؤمنين منها.
3- حال المنافقين والمشركين منها.
4- كيف فنَّد الله آراءهم، وبمَ ردَّ عليهم؟
5- الدروس المستفادة منها.
الموضوع
العنصر الأول: قصة تَحويل القبلة:
قال تعالى: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ [البقرة: 144].
وقال الله تعالى: ﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 149 - 152].
عن البَراء بن عازب قال: "صلَّيتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا، حتَّى نزلت الآية التي في البقرة: ﴿ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾، فنزلت بعدما صلى النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق رجل من القوم فمرَّ بناس من الأنصار وهم يُصلُّون، فحدَّثهم، فولَّوا وجوههم قِبَلَ البيت"؛ رواه البخاري ومسلم.
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان أوَّل ما قدم المدينة نزل على أجداده - أو قال: أخواله - من الأنصار، وإنه صلى الله عليه وسلم صلَّى قِبَلَ بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يُعجبه أن تكون قبلتُه قِبَل البَيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها - صلاة العصر - وصلَّى معه قوم، فخرَج رجلٌ ممَّن صلى معه، فمرَّ على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله، لقد صلَّيتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَلَ مكة، فدارُوا كما هم قِبَلَ البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قِبَل بيت المقدس، وأهل الكتاب، فلما ولى وجهَه قِبَل البيت، أنكروا ذلك"؛ الحاكم.
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: "بينا الناسُ يُصلُّون الصبح في مسجد قباء؛ إذ جاء رجل فقال: قد أُنزِلَ على النبي صلى الله عليه وسلم قرآنٌ، وقد أُمرَ أن يَستقبلَ الكعبة فاستقبِلوها، فتوجهوا إلى الكعبة"؛ الترمذي.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما وجِّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، قالوا: يا رسول الله، كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزَلَ الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ [البقرة: 143]؛ يعني: صلاتكم".
العنصر الثاني: حال المؤمنين منها:
قال تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ [البقرة: 143].
وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون ﴾ [النور: 51].
وقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 36].
العنصر الثالث: حال المنافقين والمشركين منها:
لقد قلقَ هؤلاء من مصير مَن مات من المسلمين قبل تحويل القِبلة، هل تُقبل صلاتُهم أو لا؟ كما تساءلوا عن جزاء صلاتهم السابقة نحو بيت المقدس، وكأنهم ظنوا أن الصلاة إلى القِبلة السابقة كانت اجتهادًا من رسول الله بغير وحي من الله؛ لذا لن يُثابوا عليه بل قد يُعاقَبون، وهذه الفئة تظهَر دائمًا في المجتمع المسلم وقت المِحَن، إذ تزيغ الأبصار، وتبلُغ القلوب الحناجر؛ فيبدأ هؤلاء في التشكُّك والظن في الثوابت.
قال اليهود: ما لمحمَّد يَعيب دينَنا ويتبع قبلتَنا؟ ثم قالوا: انتظروا قليلًا، فكما اتبع قبلتنا سيتبع ديننا.
قال المشركون: ما لمحمَّد يزعم أنه على ملة إبراهيم ثم يترك قبلتَه؟
فلما تحوَّلت القبلة، قالوا: لو كانت الأولى صحيحةً، فلماذا تحوَّل عنها؟ وإن كانت باطلةً، فلماذا صلى على الباطل وترك الحق؟ وما مصير من صلى إلى القِبلة الأولى ومات؟
قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ [النساء: 60].
ويقول الله تعالى: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 142].
وقال تعالى: ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 144].
وقال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 145].
وقال تعالى: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120].
العنصر الرابع: كيف فنَّد الله آراءهم، وبمَ رد عليهم؟
الله يعلَم ما هو كائن وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، ولتَمام علمِه اقتضتْ حكمتُه ألا يُحاسب الخلقَ على مقتضى علمه فيهم، ولكن ليُحاسبهم على ما يَصدُر منهم مِن أقوال وأفعال، ثمَّ ليُظهر الصادقين من الكاذبين.
1- حكم الله عليهم بالسفه، فقال تعالى: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ ﴾، والسَّفيه هو ناقص العقل والعلم، أو مَن لا عقل له أصلًا.
2- كرر الأمر بالتوجه للقبلة ثلاث مرات؛ فقال تعالى:
• ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 144].
• ﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 149].
• ﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 150].
3- أمر المسلمين كذلك بالتوجه إلى المسجد الحرام، مع أنه كان يُمكن أن يكتفي بأمره للنبي فقط، فهو أمر له وللمسلمين، ولكن أمر معه المسلمين للتأكيد، ولأن ذلك أول نسْخٍ في القرآن.
4- أنَّ المشرق والمغرب هو ملك لله، ومِن حقِّ المالك أن يتصرَّف في ملكه كيف شاء، فقال تعالى:
• ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 142].
• ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26].
5- أن الناس لا يملكون نفعًا ولا ضرًّا، وليس بيدهم شيء، فقال تعالى: ﴿ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 150].
6- بيان أن أهل الكتاب لن يتبعوا القبلة مهما حدث، فقال تعالى: ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 144 - 148].
العنصر الخامس: الدروس المستفادة منها:
1- الطاعة الدائمة للمؤمنين، والتَّكذيب الدائم من المشركين والمنافقين واليهود وغيرهم.
2- دلالة على نبوَّة النبي صلى الله عليه وسلم.
أخبر الله تعالى بما سيقوله اليهود عند تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؛ من إثارة الشكوك والتساؤلات قبل وقوع الأمر، ولهذا دلالتُه؛ فهو يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو أمر غيبي، فأخبر به قبل وقوعه، ثم وقع، فدل ذلك على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول يخبره الوحي بما سبق، وهو يدل أيضًا على علاج المشكلات قبل وقوعها؛ حتى يستعد المسلمون ويُهيئوا أنفسهم لهذه المشاكل للتغلب عليها والرد عليها ودفْعها؛ فإن مفاجأة المكروه على النفس أشق وأشد، والجواب العتيد لشغب الخصم الألد.
3- مكانة النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته عند ربه سبحانه وتعالى:
قال تعالى: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة: 144].
فقد كان صلى الله عليه وسلم يقلِّب وجهه في السماء، يحبُّ أن يصرفه الله عز وجل إلى الكعبة، حتى صرَفه الله إليها.
4- تعريف الأمة بأعدائها:
• قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ﴾ [النساء: 51، 52]، وقد أمرنا الله تعالى بعدم الأمن لهم وعدم الولاء لهم، فقال تعالى: ﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 73].
وقال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الحج: 11].
وقال تعالى عنهم: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [البقرة: 204 - 206].
5- أن الأمة هي خير الأمم وأنها أمة وسط:
قال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110].
وقال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143].
وعن أبي سعيد الخدري، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في قوله: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143]، قال: عدلاً"؛ صحيح.
والوسطية تعني الأفضلية والخيرية والرِّفعة؛ فالأمة وسط في كل شيء؛ في العقيدة والشريعة والأخلاق والمعاملات، وهذا واضح جدًّا لكل مَن درس تعاليم الدين الإسلامي بالتفصيل؛ فالله عز وجل اختارَ لهذه الأمة الخير في كل شيء، والأفضل في كلِّ حكم وأمْر، ومِن ذلك القِبلة، فاختار لهم قبلةَ إبراهيم عليه السلام.
وقد روى الإمام أحمد في مسنده (6 / 134 - 135) مِن حديث عائشة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في أهل الكتاب: ((إنهم لا يحسُدوننا على شيء كما يَحسدوننا على يوم الجمعة، التي هدانا الله لها وضلُّوا عنها، وعلى القِبلة التي هدانا الله لها وضلُّوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين))؛ صحيح.
6- تحديد وظيفة الأمة المحمَّدية وأنها خير الأمم:
قال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110].
قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143].
في الدنيا: عن أنس رضي الله عنه قال: مُرَّ بجنازة، فأُثني عليها خيرًا، فقال نبيُّ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((وجبَتْ، وجَبتْ، وجَبتْ))، ومُرَّ بجنازة، فأُثْنِي عليها شرًّا، فقال نبيُّ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((وجَبَت، وجَبَت، وجَبَت))، فقال عمر: فداك أبي وأمِّي، مُرَّ بجنازة، فأُثني عليها خيرًا، فقلتَ: ((وجبَتْ، وجَبتْ، وجَبتْ))، ومُرَّ بجنازة، فأُثنيَ عليها شرًّا، فقلتَ: ((وجَبَت، وجَبَت، وجَبَت))؟ فقال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَن أثنيتُم عليه خيرًا وجَبَتْ له الجنة، ومَن أثنيتم عليه شرًّا وجَبَتْ له النار؛ أنتم شهداءُ الله في الأرْض))؛ رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
في الآخرة: ((يَجيء النبيُّ يومَ القيامة ومعه الرجل، والنبيُّ ومعه الرجلان، والنبيُّ ومعه الثلاثة، وأكثر مِن ذلك، فيُقال له: هل بلَّغتَ قومك؟ فيقول: نعم، فيُدْعَى قومُه، فيقال لهم: هل بلَّغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيُقال له: مَن يشهد لك؟ فيقول: محمَّد وأمَّته، فيُدْعى محمَّد وأمَّته، فيقال لهم: هل بلَّغ هذا قومَه؟ فيقولون: نعم، فيقال: وما عِلمُكم بذلك؟ فيقولون: جاءنا نبيُّنا فأخبَرَنا أنَّ الرسل قد بلَّغوا فصدقْناه، فذلك قوله: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]؛ صحيح الجامع.
﴿ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ كيف؟
عن عبدِالله بن مسعود قال: "قال لي رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو على المِنْبَر: ((اقرأ عليَّ))، قلتُ: أقرأُ عليك وعليك أنزل؟! قال: ((إنِّي أُحبُّ أن أسمعَه من غيري))، فقرأتُ سورةَ النِّساء، حتى أتيتُ إلى هذه الآية: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41]، قال: ((حسْبُك الآن))، فالتفتُّ إليه، فإذا عيناه تذرِفان".
7- تحديد مصدر التلقي للأمة المسلمة:
قال تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ﴾ [النمل: 6].
وقال تعالى: ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾ [طه: 123 - 126]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [الحشر: 7]، وقال تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100].
وقد روى البخاريُّ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "أحسَنُ الحديث كتاب الله، وأحسن الهَدْي هدي محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، وشر الأمور مُحْدثاتها، وإنَّ ما توعدون لآتٍ وما أنتم بِمُعجزين".
وروى التِّرمذي عن المقدام بن معد يكرب، رفعَه: ((ألَا هل عسى رجل يَبْلُغه الحديث عنِّي وهو متَّكئٌ على أريكته، فيقول: بينَنا وبينكم كتاب الله؛ فما وجدنا فيه حلالًا استحلَلْناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرَّمْناه، وإن ما حرَّم رسولُ الله كما حرَّم اللهُ)).
8- التَّسليم المطلق والانقياد الكامل لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم:
فالمسلم عبدٌ لله تعالى؛ يسلِّم بأحكامه، وينقاد لأوامره بكل حبٍّ ورضا، ويستجيب لذلك، ويسارع للامتثال بكل ما أوتي من قوة وجهد، فأصْلُ الإسلام التسليم، وخلاصة الإيمان الانقياد، وأساس المحبَّة الطاعة؛ لذا كان عنوان صدق المسلم وقوة إيمانه هو فعل ما أمر الله والاستجابة لحكمه، والامتثال لأمره في جميع الأحوال، لا يوقفه عن الامتثال والطاعة معرفةُ الحكمة واقتناعه بها؛ لأنه يعلم علم اليقين أنه ما أمره الله تعالى بأمر ولا نهاه عن شيء إلا كان في مصلحتِه، سواء عَلِمَ ذلك أو لم يعلمْه.
قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 36]، هذه الطاعة وذلك التسليم هو الذي أقسم الله تعالى بنفسه على نفي الإيمان عمَّن لا يملكه في قوله تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
والصحابة الكرام رضي الله عنهم في أمر تحويل القِبلة: أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوجه في صلاتهم ناحية المسجد الأقصى فتوجَّهوا وانقادوا، ولَبِثوا على ذلك مدةَ سنةٍ وبضعة شهور، فلما أُمِروا بالتوجُّه ناحية المسجد الحرام سارعوا وامتثلوا، بل إنَّ بعضهم لما علم بتحويل القبلة وهم في صلاتهم، تحولوا وتوجهوا إلى القِبلة الجديدة؛ فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: "بينا الناس يصلُّون الصبح في مسجد قباء، إذ جاء رجل فقال: قد أُنزِلَ على النبي صلى الله عليه وسلم قرآن، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبِلوها، فتوجَّهوا إلى الكعبة"؛ البخاري ومسلم.
فكان تَحويل القِبلة اختبارًا وتربية للصحابة على السمع والطاعة، والتسليم لله ورسوله، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ [البقرة: 143]، فالله سبحانه لا يأمر العباد إلا بما فيه مصلحة لهم، ولا ينهاهم إلا عما فيه مضرَّة عليهم، وتَشريعاتُه سبحانه جميعها لحكمةٍ يعلمها سبحانه - وإن لم نعلمها - كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [الممتحنة: 10]، وله أن يكلِّف عباده بما شاء، وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامَّة، والحُجَّة البالغة في جميع ذلك، وما على المؤمن إلا الاستجابة والانقياد لأوامرِ الله وأَوامِرِ رَسولِه صلى الله عليه وسلم.
9- امتحان المؤمن الصادق واختباره:
فالمؤمن الصادق يقبل حكم الله جل وعلا، بخلاف غيره، وقد نبَّه الله على ذلك بقوله: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ﴾ [البقرة: 143]، لقد بيَّن سبحانه أن هذا التحويل كان بلاءً واختبارًا ليتميَّز عند الناس المؤمنون المخلصون من الشاكين المرتابين، والله تَعالى يبتلي من شاء من عباده بما يشاء من الأحوال، فأما من كان من أهل الإيمان، فسيقول: سمعنا وأطعنا، وأما أهل الزَّيغ، فسيقولون: سمعنا وعصينا.
فتحويل القبلة جلَّى وأظهر الإيمانَ في نفوس المؤمنين، والنِّفاقَ والشرك في نفوس أهله، فالمؤمنون قالوا: سمعْنا وأطعنا؛ كلٌّ من عند ربنا، أما اليهود، فقالوا: خالَفَ قِبلةَ الأنبياء، ولو كان نبيًّا لاستمرَّ على قِبلته، وأما المنافقون، فقالوا: ما يدري محمد أين يتَّجه في صلاته؛ إن كانت الأولى حقًّا فقد ترَكها، وإن كانت الثانية حقًّا فقد كان على الباطل! كبرتْ كلمةً تَخرُج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا.
10- كان العرب يعظِّمون البيت الحرام في جاهليتهم:
ولما كان الإسلام يريد استخلاص القلوب لله وتجريدها من التعلُّق بغيره، وتخليصها من كل نعرةٍ، وكل عصبيةٍ لغير منهج الله تعالى، فقد انتزعهم من الاتجاه إلى البيت الحرام، وشاء لهم الاتجاه إلى المسجد الأقصى لفترةٍ ليست بالقصيرة؛ وما ذاك إلا ليخلِّص نفوسهم من رواسب الجاهلية.
ثم لمَّا خلصت النفوس، وجَّهها الله تعالى إلى قبلةٍ خاصةٍ تُخالف قبلة أهل الديانات السماوية الأُخرى.
وقد وصَف الله تعالى هذه القدرة على تخليص النفوس بأنها "كبيرة"؛ ﴿ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ﴾ [البقرة: 143].
أي: وإن كان هذا الأمر عظيمًا في النفوس، إلا على الذين هدى الله قلوبهم، وأيقنوا بتصديق الرسول، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فمع الهدى لا مشقة ولا عسر في أن تخلع النفس عنها أي رداءٍ سوى الإسلام، وأن تنفض عنها رواسب الجاهلية، وأن تتجرد لله تعالى تسمع منه وتطيع، وحيثما وجَّهها الله تعالى تتجه.
11- أهمية الوَحدة في الإسلام:
المسلمون في الشرق والغرب يتجهون في الصلوات الخمس اليومية وفي فريضة الحج إلى بيت الله الحرام، رغم اختلاف الألسنة والجنسيات والألوان، يَجمعهم الدينُ الإسلامي الحنيف، وهذا ليعلم المسلم أنه لبنة في بناء كبير واحد مرصوص، وفي الحديث: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا))؛ متفق عليه.
فالمسلمون يتعلمون من وحدة القِبلة وحدةَ الأمة في الهدف والغاية، وأن الوحدة والاتحاد ضرورة في كل شؤون حياتهم الدينية والدنيوية.
12- وفيها دليل على جواز القطع بخبر الواحد:
وذلك أن استقبال بيت المقدس كان مقطوعًا به من الشريعة عندهم، ثم إنَّ أهل قباء لما أتاهم الآتي وأخبرهم أن القبلة قد حوِّلت إلى المسجد الحرام، قَبِلُوا قوله واستداروا نحو الكعبة، وقبول خبر الواحد مجمَع عليه من السلف، معلوم بالتواتر مِن عادة النبي صلى الله عليه وسلم في توجيهه ولاته ورسله آحادًا للآفاق، ليُعلِّموا الناس دينهم فيبلغوهم سنة رسولهم صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي.
13- دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به:
وإن تقدَّم نزوله وإبلاغه؛ لأنهم لم يُؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء.
14- أنَّ الله سبحانه وتعالى لا ينسخ حكمًا إلا إلى ما هو أفضل منه أو مثله؛ كما قال تبارك وتعالى: ﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 106].
15- كما أن ارتباط مناسك الحج بالبيت الحرام وبالكعبة المشرَّفة، فناسَبَه أن يكون التوجه بالصلاة إلى البيت الذي تكون فيه وحوله المناسك.
16- أظهَرَ تحويلُ القبلة حرصَ المؤمن على أخيه وحب الخير له؛ وذلك من خلال تساؤل المؤمنين عن مصير عبادة إخوانهم الذين ماتوا وقد صلَّوا نحو بيت المقدس، فأخبر الله عز وجل أن صلاتهم مقبولة؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما وجِّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، قالوا: يا رسول الله، كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يُصلُّون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ [البقرة: 143]؛ يعني: صلاتكم".
17- مخالفة أهل الكتاب:
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يتوجه في صلاته إلى الكعبة، وكان حريصًا على أن يكون متميزًا عن أهل الديانات السابقة، الذين حرَّفوا وبدَّلوا وغيَّروا؛ ولهذا كان ينهى عن تقليدهم والتشبه بهم، بل يأمر بمخالفتهم، ويحذر من الوقوع فيما وقعوا فيه من الزلل والانحراف، ومن ثم كان من مقتضى هذا الحرص أن يُخالفهم في قبلتهم، ويتوجه في صلاته بشكل دائم إلى قبلة أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو أول بيت وضع للناس، وهذا كان ما يتمناه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء تحويل القبلة يؤسِّس لمبدأ "التمايز"؛ أي: تمايز الأمَّة المسلِمة عن غيرها في كلِّ شيء؛ في الرِّسالة والتشريع والمنهج والأخلاق والسلوك، وقبلَ كلِّ ذلك التمايز في الاعتقاد.
18- مكانة النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته عند ربه سبحانه وتعالى:
قال تعالى: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة: 144]، فقد كان صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في السماء، يحب أن يصرفه الله عز وجل إلى الكعبة، حتى صرفه الله إليه.
وصلِّ اللهمَّ وسلِّم وبارِكْ على سيدنا محمد
↧
↧
September 22, 2016, 7:15 am
خطبة عن موقف أهل السنة من الصحابة رضي الله عنهم
الشيخ أحمد الزومان
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102] ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1] ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70 - 71].
أما بعد:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره". الحديث.. رواه مسلم (50).
فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام لهم أصحاب وأتباع هم خير الناس في عهد نبيهم فيقومون بمناصرة نبيهم المرسل إليهم بالدعوة إلى الله وتبليغ دين الله وجهاد الكفار والدفاع عن رسولهم ودينه ومن خير اتباع الرسل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فهم أتباع خير نبي صلى الله عليه وسلم ومن خير أمة أخرجت للناس وقد ضربوا أروع الأمثلة في نصرة هذا الدين وبذل الغالي في سبيله حتى بذلوا المهج رخيصة دون هذا الدين ودون رسول الله صلى الله عليه وسلم فتغربوا عن الأوطان وهاجروا لبلاد العجم والعرب فرارا بهذا الدين تركوا أولادهم وأموالهم طلباً لمرضاة الله وامتثالاً لأمره.
وكتاب ربنا عز وجل وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم يفيضان بالثناء على الصحابة رضي الله عنه المهاجرين والأنصار وتعديلهم ووعدهم بالجنة على سبيل العموم أو على سبيل الخصوص ومن ذلك قوله تعالى ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [سورة الأنفال: 74].
فامتدح الله المهاجرين والأنصار ووصفهم بأنهم مؤمنون كمل إيمانهم وهذا تعديل لهم من الله الذي يعلم السر وأخفى. وأنهم صادقون في إيمانهم وجهادهم وبذلهم مع رسول الله وليسوا بعد هذا التعديل العام من الله لهم بحاجة إلى تعديل البشر. وعدهم بالمغفرة والرزق الكريم في الجنة وهذا دليل على ثباتهم على الإيمان وأنهم يموتون على ما مات عليه النبي صلى الله عليه وسلم فالعبرة والأحكام بالخواتيم. فرضي الله عنهم عموما والسابقين الأولين خصوصا وكل من ترسم أثارهم وسلك طريقهم إلى يوم القيامة يقول ربنا تبارك وتعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [سورة التوبة: 100].
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلنا لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء قال فجلسنا فخرج علينا فقال ما زلتم هاهنا قلنا يا رسول الله صلينا معك المغرب ثم قلنا نجلس حتى نصلي معك العشاء قال أحسنتم أو أصبتم قال فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيرا مما يرفع رأسه إلى السماء فقال النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون رواه مسلم (2531).
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بقاء أصحابه رضي الله عنه بين الأمة أمنة لهم وحرزا من الشر وأسبابه فهم أمنة لأمته من الجور وظهور البدع في الدين وهذا تعديل لهم وأنهم على الحق وذكر أن نسبة اهتداء الناس بأصحابه رضي الله عنه إلى من بعدهم كنسبته إلى أصحابه رضي الله عنه وكنسبة النجوم إلى السماء.
فإذا كان الصحابة رضي الله عنه بهذا القدر في الفضل وبلغوا في التضحية لأجل هذا الدين ما لم يبلغ غيرهم فكان من حقهم الواجب على الأمة احترامهم وإجلالهم ومحبتهم فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب الأنصار أحبه الله ومن أبغض الأنصار أبغضه الله). رواه الإمام أحمد (10130) بإسناد حسن.
ويحرم التعرض لهم بالسوء وبخسهم حقهم الذي افترضه الله لهم فهم داخلون في عموم قوله تعالى ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ﴾ [سورة الأحزاب: 58].
فإذا كان هذا في عموم المؤمنين ففي الصحابة رضي الله عنه أعظم وأشد وعن أنس رضي الله عنه قال كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام فقال خالد لعبد الرحمن تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم رواه الإمام أحمد (13400) بإسناد صحيح.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى خالدا رضي الله عنه أن يسب من تقدم إسلامه وفضله عليه لسابقته في الإسلام على مسلمة الفتح فكيف بمن لم يحصل على شرف الصحبة ولم يكن له قدم صدق في الإسلام. قال ابن كثير في تفسيره (2/384): أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم ولاسيما سيد الصحابة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وخيرهم وأفضلهم أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم عياذاً بالله من ذلك وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة وقلوبهم منكوسة فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله عنهم وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه ويسبون من سبه الله ورسوله ويوالون من يوالي الله ويعادون من يعادي الله وهم متبعون لا مبتدعون ويقتدون ولا يبتدعون ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون.
فالرافضة لا يعرفون الاعتدال فغالوا في القدح فيمن عدلهم الله وغالوا في مدح من يوالون من الصحابة رضي الله عنه حتى جعلوهم معصومين وغلاتهم ألهوهم.
ومع الأسف أن بعض أهل السنة يتلقفون قدح الرافضة ويرددونه وإن كان هذا باسم البحث العلمي! فليتهم درسوا هذا القدح ونظروا في جواب أهل السنة عنه.
♦ ♦ ♦
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، وبعد:
الصحابة رضي الله عنه كغيرهم فهم بشر الواحد منهم غير معصوم فيقع منه الخطأ والذنب كما يقع من سائر المؤمنين. ومذهب أهل السنة والجماعة أنهم يذكرون محاسنَهم ويستغفرون لهم ويكفون عن مساوئهم، ويمسكون عمَّا شجر بينهم ففي الخوض في ذلك تتولد الإحن والحزازات ويقع في القلوب الحقد على بعضهم. وهم أحق الناس أن يلتمس لهم العذر، وأن يحسن بهم الظن عملا بقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].
فأهل السنة يوالون الصحابة رضي الله عنه كلهم وينزلونهم منازلهم التي يستحقونها بالعدل والإنصاف لا بالهوى والتعصب. وما ينقل عن الصحابة رضي الله عنه من المثالب فهو نوعان أحدهما ما هو كذب إما كذب كله وإما محرف قد دخله من الزيادة والنقصان ما يخرجه إلى الذم والطعن وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة في الصحابة رضي الله عنه هو من هذا الباب يرويها الكذابون المعروفون بالكذب والنوع الثاني ما هو صدق وأكثر هذه الأمور لهم فيها معاذير تخرجها عن أن تكون ذنوبا وتجعلها من موارد الاجتهاد التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران وإن أخطأ فله أجر وما قدر من هذه الأمور ذنبا محققا فإن ذلك لا يقدح فيما علم من فضائلهم وسوابقهم وكونهم من أهل الجنة لأن الذنب المحقق يرتفع عقابه في الآخرة بأسباب متعددة منها التوبة الماحية ومنها الحسنات الماحية للذنوب فإن الحسنات يذهبن السيئات ومنها المصائب المكفرة ومنها دعاء المؤمنين بعضم لبعض وشفاعة نبيهم فما من سبب يسقط به الذم والعقاب عن أحد من الأمة إلا والصحابة أحق بذلك فهم أحق بكل مدح ونفي كل ذم ممن بعدهم من الأمة.
والحروب التي كانت بينهم فكان لكل طائفة منهم شبهة اعتقدت بسببها أنها على الحق فهم متأولون في حروبهم معذورون في أقل الأحوال أو مأجورون على اجتهادهم وقد كانوا في هذه الحروب ثلاث طوائف طائفة رأت الحق مع أحد الطرفين فمالت لإحدى الطائفتين امتثلا لقوله تعالى: ﴿ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [سورة الحجرات: 9]. وطائفة ثالثة لم يظهر لها الحق فاعتزلت الفتنة ولم تناصر طرفا على الآخر.
الصحابة رضي الله عنه لا يساميهم في قدرهم أحد فليس عند أهل السنة من يكون قوله حجة إلا الصحابة رضي الله عنهم فالنبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بإتباع الخلفاء الراشدين رضي الله عنه ففي حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه " فإنه من يعش منكم يرى اختلافا كثيرا وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ رواه الترمذي (2676) وقال حديث حسن صحيح.
وبالأخص الصحابيان أبو بكر وعمر فاتّباعهما والعمل بأقوالهما فلاح ورشاد، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا " رواه مسلم (681) من حديث أبي قتادة.
وكذلك بقية الصحابة ممن اشتهروا بالعلم والفقه إذا قال قولا ولم يخالف نصا أو يخالفه صحابي آخر فقوله مقدم على القياس فهذا الإمام أبو حنيفة يقول اذا جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الثقات أخذنا به فاذا جاء عن الصحابة لم نخرج عن أقاويلهم فإذا جاء عن التابعين زاحمناهم.
ومن أصول الإمام أحمد ما أفتى به الصحابة فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعدها إلى غيرها. ولا زال أهل العلم يوجبون ويحرمون وعمدتهم فتاوى الصحابة فأهل العلم من فقهاء المذهب الأربعة وغيرها يفتون بفتاوى الصحابة فمثلا فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم يوجبون الدم على من ترك واجبا من واجبات الحج وحجتهم في ذلك قول ابن عباس: ((مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا فَلْيُهْرِقْ دَمًا)) رواه الإمام مالك (1 /419) والدارقطني (2 /244)، وغيرهما بإسناد صحيح.
↧
September 22, 2016, 7:18 am
خطبة عن حق الجوار
الخطبة الأولى
الحمد لله رب المشارق والمغارب... خلق الإنسان من طين لازب...
ثم جعله نطفة بين الصلب والترائب... خلق منه زوجه وجعل منهما الأبناء والأقارب...
تلطف به... فنوّع له المطاعم والمشارب...
نحمده تبارك وتعالى حمد الطامع في المزيد والطالب...
ونعوذ بنور وجهه الكريم من شر العواقب...
وندعوه دعاء المستغفر الوجل التائب... أن يحفظنا من كل شر حاضر أو غائب...
وأشهد أن لا إله إلا الله القوى الغالب...
شهادة متيقن بأن الوحدانية لله أمر حتم ولازم
وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسول
ما من عاقل إلا وعلم أن الإيمان به حق وواجب...
يا رب صل على الحبيب المصطفى أهل الفضائل والمواهب...
وعلى الصحب والآل ومن تبع عدد ما في الكون من عجائب وغرائب…
أما بعد: مشروعية حسن الجوار:
ففي الحديث: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت)) مسلم (48).
في الحديث ربط بين الإحسان للجار والإيمان فهذا فيه دلالة على عناية الإسلام بحق الجار.
فمن فعل وأحسن فإنما يفعله من منبع الإيمان بالله فصدق قوله وإيماناً باليوم الآخر فصدق أجره.
ومن ابتعد ولم يقيم للإحسان عملاً فهذه علامة على تقارب الزمان فعن سلمان الفارسي قال: (إن من اقتراب الساعة أن يظهر البناء على وجه الأرض، وأن تقطع الأرحام، وأن يؤذي الجار جاره).
وعندها تنسى وصايا النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم القائل في حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سيورثه".
هذه الوصية الغالية من نبينا أفلا يستحي المسيء لجاره فيخل بوصية من هو خير له من أبيه وإمه هذه الوصية التي جعلت من الجار في مقام قرابة النسب والمصاهرة والرحم.
وانظر إلى أي حد وإلى مدى بالغ في الوصية حتى اعتقد المصطفى أنه سيخالط جاره في ماله إرثا.
مراتب الجيران:
والجار له عليك حق حتم واجب فأنزل كلاً منزلته فقد يأتيك جار له ثلاثة حقوق وهو الجار القريب المسلم فله حق الجوار والقرابة والإسلام.
وقد يأتيك جار له حقان وهو الجار المسلم فله حق الجوار وحق الإسلام.
وقد يأتيك جار: له حق واحد وهو الجوار وهذا الجار الكافر.
فليس هناك جار بلا حق له أن يطابه منك في الدنيا أو في الآخرة.
فمن لم يؤدي الحق فهو آثم متعدي معرض للعقوبة.
وهنا يأتي السؤال: ما حق جاري عليَّ؟
مراتب الإحسان:
فالجواب نقول: مراتب الإحسان للجار ثلاث:
1- كف الأذى واحتماله:
• قال الحسن رحمه الله تعالى: "ليس حُسن الجوار كفّ الأذى، ولكن حسن الجوار احتمال الأذى.
2- تفقد أحوال الجار:
• اشترى عبد الله بن عامر من خالد بن عقبة داره التي في السوق بتسعين ألف درهم، فلما كان الليل سمع بكاء أهل خالد، فقال لأهله: ما لهؤلاء؟ قالوا: يبكون على دارهم، قال: يا غلام، ائتهم فأعلمهم أن الدار والمال لهم جميعًا
3- الإعانة عند الحاجة:
• جاءت امرأة إلى الحسن البصري تشكو الحاجة، فقالت: إني جارتك، قال: كم بيني وبينك؟ قال: سبع دور، أو قالت: عشر، فنظر تحت الفراش، فإذا ستّة دراهم أو سبعة، فأعطاها إياها، وقال: كدنا نهلك
بهذه الثلاث أحسنت وإن زدت زادك الله من فضله وخيره.
وبهذه الثلاث أمنك جارك وأثبت صدق إيمانك.
وبهذه الثلاث ساهمت في بناء مجتمعك الصالح.
وبهذه الثلاث أرضيت ربك وأخزيت شيطانك.
الاعتداء على الجار:
فإن أبيت إلا الأذى والتعدي على جارك فاسمع حديث الذي لا ينطق عن الهوى قال صلى الله عليه وسلم: ((واللَّهِ لا يؤمنُ واللَّهِ لا يؤمنُ واللَّهِ لا يؤمنُ قالوا وما ذاكَ يا رسولَ اللَّهِ قالَ الجارُ لا يأمنُ جارُهُ بوائقَهُ قالوا يا رسولَ اللَّهِ وما بَوائقُهُ قالَ شرُّهُ )) مسند أحمد ( صحيح ).
أمر عظيم يقدح في إيمان الرجل.
لا تقل جاري يؤذني فأنا أفعل مثله فمن لم يخاف الله فيك وجب عليك أن تخاف الله فيه. ولذا قال الفقهاء:
ليس للجار الإشراف على دار جاره إن كان ذلك يؤدّي إلى الإضرار به، ككشف داره ورؤية نسائه، وينبغي أن يمنع منه، سواء أكان ذلك من خلال سطحه، أو من خلال النوافذ التي في ملكه.
فالسطو والاعتداء على الجار ليس كمثل غيره من الناس لماذا ؟ لأنه يأمنك على عرضه وماله فنقض عهده أشد ولذا ورد في الحديث عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم أصحابه عن الزنى؟ قَالُوا: حرامٌ؛ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. فَقَالَ: " لِأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ " وَسَأَلَهُمْ عَنِ السرقة؟ قالوا: حرام؛ حرمه اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولُهُ. فَقَالَ: " لِأَنْ يَسْرِقَ مِنْ عَشَرَةِ أَهْلِ أبياتٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ بَيْتِ جَارِهِ".
من هذا الحديث وضع العلماء:
قاعدة: (( كل من أمن جانبه فأبدى القبح كان قبحه وآذاه أشد من غيره )).
فبيوت الجيران كالبيت الواحد يلزم كل أفراده المحافظة عليه منعاً للأذى وبذل للندى.
لماذا عظم الذنب؟ لعظم الخيانة.
مانع المعروف عن جاره:
ليس هذا فقط بل إذا لم تقدم معروفاً لجارك ولم تفتح له بابك في النوائب أوقفك الله يوم القيامة وقوفاً يصوره حديث:
ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَقَدْ أَتَى عَلَيْنَا زمانٌ - أَوْ قَالَ: حِينٌ - وَمَا أَحَدٌ أَحَقُّ بِدِينَارِهِ وَدِرْهَمِهِ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، ثُمَّ الْآنَ الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ أَحَبُّ إِلَى أَحَدِنَا مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " كَمْ مِنْ جَارٍ متعلقٍ بِجَارِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ، يَا رَبِّ! هَذَا أَغْلَقَ بَابَهُ دُونِي، فَمَنَعَ مَعْرُوفَهُ! ".
فقوة الإيمان تجعل المجتمع عضواً واحداً، فما في يدك هو في يدي أخيك والعكس.
ومن فقد حقه في الدنيا لم يفقده في الآخرة، ولا شك. ومشى على هذا السلف عناية فهذا أبو حنيفة قيل أنه كان له جار بالكوفة إسكاف، يعمل نهاره أجمع، حتى إذا جنه الليل رجع إلى منزله وقد حمل لحمًا فطبخه، أو سمكة فيشويها، ثم لا يزال يشرب، حتى إذا دبّ الشراب فيه غنى بصوت وهو يقول:
أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا ♦♦♦ ليوم كريهةٍ وسداد ثغر
فلا يزال يشرب ويردّد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وكان أبو حنيفة يسمع جلبته، وأبو حنيفة كان يصلّي الليل كلّه، ففقد أبو حنيفة صوته، فسأل عنه، فقيل: أخذه العسس منذ ليال، وهو محبوس، فصلّى أبو حنيفة صلاة الفجر من غد، وركب بغلته، واستأذن على الأمير، قال الأمير: ائذنوا له، وأقبلوا به راكبًا، ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط، ففُعل، ولم يزل الأمير يوسّع له من مجلسه، وقال: ما حاجتك؟ قال: لي جار إسكاف، أخذه العسس منذ ليال، يأمر الأمير بتخليته، فقال: نعم وكلّ من أخذه بتلك الليلة إلى يومنا هذا، فأمر بتخليتهم أجمعين، فركب أبو حنيفة، والإسكافي يمشي وراءه، فلمّا نزل أبو حنيفة مضى إليه فقال: يا فتى أضعناك؟ قال: لا، بل حفظت ورعيت، جزاك الله خيرًا عن حرمة الجوار ورعاية الحقّ، وتاب الرجل ولم يعد إلى ما كان يفعل.
ليس هذا فقط بل بلغ بهم المعروف الذي يحمل المعاني الواسعة العظيمة إلى ما تسمع من قصة أبي جهم العدوي قيل أنه: باع داره بمائة ألف درهم، ثم قال: فبكم تشترون جوار سعيد بن العاص؟ قالوا: وهل يشترى جوار قط؟ قال: ردوا عليّ داري، ثم خذوا مالكم، لا أدع جوار رجل إن قعدت سأل عني، وإن رآني رحّب بي، وإن غبت حفظني، وإن شهدتُ قرّبني، وإن سألته قضى حاجتي، وإن لم أسأله بدأني، وإن نابتني جائحة فرّج عني. فبلغ ذلك سعيدًا فبعث إليه بمائة ألف درهم.
بهذا كان الجيل الأول يترقى في الإيمان بجميع شعبه لينال زيادة الأجر ومكاسب في الخير ونشره في الأرض إعماراً لها كما أمرهم الباري عز وجل.
أقول ما سمعتم واستغفروا الله إن الله غفور رحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله ذي الرضى المرغوب... يعفو ويصفح ويغفر الذنوب...
يملى ويمهل لعل العاصي يتوب... يعطى ويرضى ويحقق المطلوب...
يطعم ويسقى ويستر العيوب... يغنى ويشفى ويكشف الكروب...
نحمده تبارك وتعالى حمد الشاكرين العارفين.
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين.
خير من صلى وقام وعبد ربه حتى أتاه اليقين.
أما بعد: جوار الكافر:
أخي المسلم لو بلغ أن جارك كافر فإن إيمانك وتمسك بإسلامك يملي عليك حسن الجوار.
فعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - وَغُلَامُهُ يَسْلُخُ شَاةً- فَقَالَ: يَا غُلَامُ! إِذَا فَرَغْتَ فَابْدَأْ بِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: الْيَهُودِيُّ أَصْلَحَكَ اللَّهُ؟! قَالَ: " إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوصِي بِالْجَارِ، حَتَّى خَشِينَا أَوْ رؤينا أنه سيورثه".
بلغ الإحسان للجار إلى أن تجاوز المعتقدات الفاسدة للجار، لأن لكل حق يجب تقديمه فقدم الصحابي التطبيق العملي للشرع ولم ينتظر حسن أو سوء ما يلقى من جاره.
وعلى هذا نقول: المسلم يبدأ بحقوق الآخرين أولاً حتى يبرئ ذمته، ثم يلتفت لنفسه.
• وقد روي في هذا المقام عن سهل بن عبد الله التستري رحمه الله أنه كان له جار ذمّي، وكان قد انبثق من كنيفه إلى بيت في دار سهل بثق، فكان سهل يضع كلّ يوم الجفنة تحت ذلك البثق، فيجتمع ما يسقط فيه من كنيف المجوسي، ويطرحه بالليل حيث لا يراه أحد، فمكث رحمه الله على هذه الحال زمانًا طويلاً إلى أن حضرت سهلاً الوفاة، فاستدعى جاره المجوسي، وقال له: ادخل ذلك البيت، وانظر ما فيه، فدخل، فرأى ذلك البثق والقذر يسقط منه في الجفنة، فقال: ما هذا الذي أرى؟ قال سهل: هذا منذ زمان طويل يسقط من دارك إلى هذا البيت، وأنا أتلقّاه بالنهار، وألقيه بالليل، ولولا أنه حضرني أجلي وأنا أخاف أن لا تتّسع أخلاق غيري لذلك وإلا لم أخبرك، فافعل ما ترى، فقال المجوسي: أيها الشيخ، أنت تعاملني بهذه المعاملة منذ زمان طويل وأنا مقيم على كفري؟! مدّ يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ثم مات سهل رحمه الله.
هكذا يصنع الإسلام النماذج الرائدة في الدعوة إلى الله علماء في جانب العلم وجانب العمل فرحمهم الله وجعلنا لهم بالأثر.
ثمرات حسن الجوار:
ووصلنا لخاتمة الحديث والحديث الطيب ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون وصلنا إلى ثمرات حسن الجوار، فمن أحسن الجوار كان:
1- دلالة على كمال إيمان الرجل.
2- ودلالة على حبه لطاعة لله واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- وقوة المساهمة في صنع المجتمع المسلم وربطه برباط المحبة والرحمة والألفة.
4- والجائزة العظمى بإذن الله حسن الخاتمة وحسن العاقبة كما نرى في هذه العبرة فهذه قصة من واقع الحياة ذكرها الشيخ محمد الفريح في كتابه النهر الجاري.
• كان هناك رجل صالح فكان يرى في المنام اسم رجل لا يعرفه ورقم جواله ويسمع صوت يقول له خذه للعمرة وتكررت الرؤيا أكثر من مرة فقال أحد المعبرين اتصل فقام بالاتصال بالرقم فقال له فلان قال نعم نفس اسم الرجل الذي كان في المنام فقال أريد مقابلتك فذهب إليه فوجده رجلاً بسيطاً فحكى له القصة قال نعم ولكن ترجعني في نفس اليوم فأخذه إلى مكة وأدى الرجل العمرة وخرج به فقال له الرجل أريد أن أرجع إلى الحرم لأركع ركعتين فرجع به وعند الكعبة وفي آخر سجده مات وعندما سأل أهله فقالت زوجته لنا جاره أرملة عندها أطفال فكان زوجي لا يطعم ولا يتعشى حتى يقدم لهم الطعام ويأكلوا فيتعشى وكانت الجارة تقول له قل آمين فيقول آمين فتقول له: أسأل الله أن يحسن خاتمتك.
الخاتمة بالدعاء:
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك العليا ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا واجعلهما الوارث منا ونحن عبيدك الضعفاء، فاقصف من يظلمنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
اللهم انصر من نصر الدين واخذل كل من خذل المسلمين اللهم انظر إلينا بعين رحمتك وادم علينا سوابغ نعمتك.
اللهم عرفنا نعمك بدوامها ولا تعرفنا نعمك بزوالها اللهم اختم بالصالحات أعمالنا وبالسعادة آجالنا واجعل إليك اعتمادنا ومآبنا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا واجعل الجنة هي دارنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
صلوا على الحبيب المصطفى والنبي المجتبى عليه أفضل الصلاة والسلام، اللهم أعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة يا رب العالمين.
﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
↧
September 22, 2016, 11:17 am
الصلاة خير من النوم
الشيخ عبدالله العسكرحفظه الله
رابـــ التحميل ـــط
↧
September 22, 2016, 7:14 pm
هل السعادة مشوار أم محطة؟ ولماذا؟!
كلنا يعيش المراحل الآتية:
وهو صغير يتمنى الكِبَر، وهو طالب يتمنَّى الانتهاء من الدراسة، وهو عزب يتمنى الزواج، وهو محتاج يتمنى الكفاية، وهو فقير يتمنى الغنى، وهو أب لأطفال صغار يتمنى أن يكبَروا، وهكذا...، وفي كل هذه (التحديات الحياتية) يرى السعادة ستتحقق بمجرد تحقق أمنيته، وكأن هناك محطة ما مكتوبًا عليها (محطة السعادة)! فإذا هو عن (السراب باحث)؛ إذ تسلِّمه المحطة لغيرها في خطى متتالية، فما يكاد يلتقط أنفاسه حتى يلهث، وهو مشغولٌ بمحطات (المستقبل السعيد)، صابٌّ جام غضبه على (الحاضر التعيس)!
وفي هذه النظرة خطأٌ كبير؛ إذ إن (السعادة) تسكن (مشوار الحياة)، وليست (محطة) يجاهد الجميع للوصول إليها، فلا هو أدركها، ولا هو استمتع باللحظة الحاضرة، وهذا ظلمٌ للنفس؛ إذ الصحيح أن السعادة (مشوار) وليست (محطة)، يشعُر بها الإنسان مع كل نجاح يحققه، ولا يقع فريسة الانشغال بالنجاح القادم، فيحرم نفسه الاستمتاع بما حقق من طموحات.
إذًا ما هو الوقت المناسب للسعادة؟
إنه الآن وليس غدًا!
فكل (تحدٍّ) ترى أنه (عقبة) في طريق السعادة، هو فرصة جيدة لـ: (الإحساس) بسعادة تخطِّيه والتغلب عليه، مهما كان حجم الجهد؛ فالحياة (تحديات)، (وطريق الحياة) مهما كانت عقباته، إلا أن (روح التحدي) و(القدرة على استنهاض الهمة) و(استشعار حكمة الخلق)، وتذكُّر - دائمًا - قول الحق - سبحانه وتعالى -: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4]، كل ذلك يضَعُ المرء على (مشوار الحياة بمفهومه الصحيح)، وبتقلباتها، وبالقدرة على تحقيق (الحكمة من الوجود).
في تفسير (الجامع لأحكام القرآن) قال الإمام شمس الدين القرطبي - رحمه الله تعالى -:
"قال علماؤنا: أول ما يكابد (أي الإنسان) قطعَ سُرَّته، ثم إذا قمط قماطًا[1]، وشدَّ رباطًا، يُكابدُ الضيق والتعب، ثم يكابدُ الارتضاع، ولو فاته لضاع، ثم يكابد نَبْت أسنانه، وتحرُّك لسانه، ثم يكابد الفِطام، الذي هو أشدُّ من اللطام، ثم يكابد الختان، والأوجاع والأحزان، ثم يكابد المعلِّم وصولته، والمؤدِّب وسياسته، والأستاذ وهيبتَه، ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه، ثم يكابد شغل الأولاد، والخدم والأجناد، ثم يكابد شغل الدور، وبناء القصور، ثم الكِبر والهرَم، وضعف الركبة والقدم، في مصائب يكثُر تعدادها، ونوائب يطول إيرادها، من صداع الرأس، ووجع الأضراس، ورمد العين، وغم الدَّين، ووجع السن، وألم الأُذن، ويكابد مِحَنًا في المال والنفس، مثل الضرب والحبس، ولا يمضي عليه يوم إلا يُقاسي فيه شدة، ولا يُكابد إلا مشقة، ثم الموت بعد ذلك كله، ثم مسألة المَلَك، وضغطة القبر وظلمته، ثم البعث والعرض على الله، إلى أن يستقرَّ به القرار، إما في الجنة وإما في النار، قال الله -تعالى-: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4]، فلو كان الأمر إليه لَمَا اختار هذه الشدائد، ودلَّ هذا على أن له خالقًا دبَّره، وقضى عليه بهذه الأحوال، فليمتثل أمره[2]".
إذًا هي المشقة التي لا تدع غنيًّا ولا فقيرًا، فاستمتع بـ: (طاعة الله)، واستشعر (السعادة)، واعلم أن الراحة كلها في ﴿ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].
وصلِّ اللَّهم وسلِّم على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
[1] أي ما يُشد به الصبيُّ الصغير من الملابس وغيرها وهو في مهده؛ ليستوي جسده، وتعتدلَ أعضاؤه.
[2] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 20/63، ط2، دار الكتب المصرية - القاهرة، 1964م.
↧
↧
September 22, 2016, 7:16 pm
الإصلاح بين الأكابر
عن أبي بَكْرة - رضي الله عنه - يقول: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يُقْبل على الناس مرة وعليه أخرى، ويقول:
((إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يُصلِح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين))؛ رواه البخاري[2].
الإصلاح بين السادة والكبراء:
شرحنا في مكان سابق؛ حديث الصحيحين: ((ليس الكذاب الذي يُصلِح بين الناس فيُنمي خيرًا أو يقول خيرًا))، وبيَّنَّا هنالك فضلَ الإصلاح بين الناس عامة، وإلى أيِّ مدى دعا الإسلام إليه، وأعدَّ لأهله الأجر العظيم والخير العميم، ثم قلنا في خاتمة الشرح: إنَّ الإصلاح بين الناس جزء من شرائع الأنبياء والمرسلين، بل إنه عماد دعوتهم، وأساس رسالاتهم، وما أحوجَ البشرَ - وقد اصطخبت بينهم المعارك، واشتعلت فيهن نيران الخصومة - إلى مَن يَنهَج في إصلاحهم منهجَ النبيين، ويسير فيهم سيرةَ الصادقين المخلصين، ﴿ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴾ [إبراهيم: 20].
حاجتنا إلى هذا الإصلاح:
ونريد أن نَقصُر القولَ في هذا الحديث على صِنفٍ خاص من هذا الإصلاح العام، نرى أن أممنا الإسلامية - التي كانت في أَوجِ مجدها أمة واحدة - أحوج ما تكون إليه، ونعني به الإصلاح بين سادة كل أمة وكبرائها وأولي العلم والأمر فيها، ثم الإصلاح بين أكابر الأمم وساداتهم، فإنهم الذين إذا صلحوا صَلَح الناس جميعًا، وإذا فسدوا فسد الناس جميعًا.
من الذي يضطلع به؟
وليس هذا الإصلاح الخاص الذي نَعنيه، وندعو إلى الاضطلاع بعبئه، ونمهِّد له منذ زمن بعيد - ليس بالأمر اليسير الهين، الذي يضطلع به كل فاضل وخيِّر، ولكنه أمر عظيم جد عظيم، لا يضطلع بخطره إلا السادةُ النُّجب، وإلا من أخذ من النبل والفضل، والهدى والتقى، والحزم والعزم بحظ عظيم.
قلة قليلة مباركة:
ولئن كان الحسن بن علي - رضي الله عنهما - نسيجَ وحدِه في السادة المصلحين، فإن من بعده قلة تَنهَج منهجه سدادًا ورشدًا، وتدعو بدعوته حقًّا وصدقًا؛ حقنًا للدماء، وصونًا للأموال والأعراض، وحرصًا على ذات البَيْن أن تَفسد؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة.
بهذه القلة الكريمة المباركة يُرجى للأمم صلاحُها ورَشادها، وإلى هذه القلة الكريمة المباركة نتوجَّه - أول ما نتوجَّه - ببيان هذه المنقبة العظمى: منقبة الإصلاح بين الأكابر التي بشَّر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - عَلَمًا من أعلام بيته، فانتدب لها، وكان أحق بها وأهلها، بل كان إمام الأئمة الذين جاؤوا من بعده من الهداة والمصلحين.
سيادة الحسن - رضي الله عنه -:
كل الناس يعلم مَن هو الحسن! وكل الناس يعلم مكانه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكثير منهم يَودُّ لو يتخلَّق بخلق الحسن - رضي الله عنه - ويقتدي به وبجدِّه - صلوات الله عليه وسلامه - ولكن القليل النادر الذي يُقدِّر هذه الأخلاق النبوية قدْرَها، وأقل من هذا القليل النادر يحتملها، ويصبر عليها ويوفِّيها حقها.
ومن ذا الذي يستطيع أن يرفض المُلْكَ والمُلْكُ يسعى إليه، أو يُعرِض عن الدنيا والدنيا مُقبِلة عليه، إلا الحسنُ وأمثاله من هذه الفئة القليلة النادرة، التي يصطفي الله الواحد بعد الواحد منها، فيُجدِّد به للأمة أمرَ دينها ويجمع به شملَها، ويحييها بعد موتها، من الألى يهبون الدنيا على خَصاصة وخبرة، ويرجون الآخرة على بيِّنة وعبرة، ويدعون إلى الله على هدى وبصيرة؟!
علم من أعلام النبوة:
وإذا آمنا إيمانًا لا ريب فيه بما بشَّر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أمَّتَه، من سيادة سِبْطه الحسن، وتحقيق مَنقبةِ الإصلاح الكبرى على يديه، ثم آمنا أن هذه البشارة العظمى ووقوعها علَمٌ من أعلام النبوة - فلنؤمن كذلك إيمانًا لا شكَّ فيه بتحقيق بشارته - صلوات الله وسلامه عليه - لمعاوية - رضي الله عنه - ودعائه له إذ قال: ((اللهم اجعله هاديًا مهديًّا واهده)) [3]، ((اللهم علِّمه الكتاب والحساب وقِهِ العذاب))[4].
وقد استجاب الله لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - فحدَّثَنا التاريخ المُنصِف الصدوقُ أنه كان بهديه وحِلمه ورِفقه وسياسته وكياسته - أجدر الناس بالخلافة والمُلْك طول ولايته، وأرعاهم للأمة، وأعظمهم بلاءً في دين الله، وأكبرهم شأنًا وسلطانًا في أعين عدو الله، وها هو ذا مَلك الروم يزحف إلى حدود الدولة الإسلامية بجند عظيم، ومعاوية في معمعة القتال مع علي بصِفِّين، فيكتب إليه معاويةُ منذرًا فيقول: "والله لئن لم تَنتهِ وترجع إلى بلادك، لأصطلحن أنا وابن عمي عليك، ولأخرجنَّك من جميع بلادك، ولأضيقنَّ عليك الأرض بما رَحُبت، فيخاف ملك الروم ويَنكف".
وإن تكن له أخطاء يُبالِغ فيها ويُجسِّمها من لا يبالي أن ينال من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالله يغفرها له بجانب ما قدَّم للإسلام والمسلمين من جهاد وفتح، وإعزاز وقوة[5].
نبذ الخصومة عند الشدائد:
وما لنا نؤمن ببِشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - للحسن بما أجرى الله على يديه من هدى وإصلاح، ولا نؤمن ببِشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاوية، وقد مهَّد لهذا الإصلاح نفسه، وكان شريكًا للحسن فيه؟ فقد حدَّثنا التاريخ أنه لما تهيَّأت الفئتان العظيمتان للقتال أو كادتا، أسِف معاوية أسفًا شديدًا وخاف على المسلمين الهلاك، وقال فيما قال: من لذراري المسلمين ونسائهم وضعفائهم؟! ثم أرسل رسولين من قريش من ذوي الشأن والرغبة في الإصلاح[6]، وفوَّض إليهما الأمر في كل ما يَريان، وفي كل ما يطلب الحسن من مال؛ لترضية الثائرين، وتعويض الغارمين، وتسكين فتن كقطع الليل المُظلِم، لقد روى المؤرِّخون أن معاوية أرسل رسوليه، ومعهما صحيفة بيضاءُ مختوم على أسفلها، وكتب إليه أن اكتب إلي في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها بما شئتَ، فهو لك، وما ذاك إلا لشفقته على المسلمين، ورحمةً بهم، وحقنًا لدمائهم، وقد تواتر أنه - رضي الله عنه - ما كان يضع سيفًا حيث يغني عنه سوط، وما كان يضع سوطًا حيث تغني عنه كلمة؛ لا جرم أنه لا يقاتل حتى لا يجد من القتال بدًّا.
حديث الصلح:
وها هو ذا البخاري يحدِّثنا بسنده حديثَ هذا الصلح فيقول: حدَّثنا عبدالله بن محمد، قال: حدَّثنا سفيان عن أبي موسى، قال سمِعتُ الحسن [البصري] يقول: استقبل - والله - الحسنُ بن علي معاويةَ بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص: والله إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها، فقال له معاوية - وكان واللهِ خيرَ الرجلين -: أيْ عمرو، إن قَتَل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء! من لي بأمور الناس؟! من لي بنسائهم؟! من لي بضيعتهم؟! فبعث إليه رجلين من قريش، من بني عبدشمس: عبدالرحمن بن سمرة، وعبدالله بن عامر بن كريز، فقال: اذهبا إلى هذا الرجل، فاعرضا عليه، وقولا له، واطلبا إليه، فأَتَياه فدخلا عليه، فتكلَّما وقالا له وطلبا إليه، فقال لهما الحسن بن علي: إنا بنو عبدالمطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها[7]، قالا: فإنه يَعرِض عليك كذا وكذا، ويَطلُب إليك ويسألك، قال: فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به.
فما سألهما شيئًا إلا قالا له: نحن لك به، فصالحه، فقال الحسن [البصري]: ولقد سمعت أبا بَكْرة يقول: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر.. إلخ الحديث[8].
هذا نص رواية البخاري في كتاب الصلح، ورواها في كتاب الفتن مُختصَرة[9]، وكلتا الروايتين - وناهيك بهما صحةً وقوةً ووثوقًا - شاهدٌ على صِدْق رغبة الحسن ومعاوية ورسوليه في الإصلاح بين الطائفتين، وأن اشتراكهم جميعًا في هذه المحمدة التي تَعاونوا عليها من أجلِّ المحامد التي تُدَّخر في صحائف المصلِحين، وتُسجَّل بمداد من النور والشرف في سجلات الخالدين.
عام الجماعة:
ولما سلَّم الحسنُ لمعاوية الأمر، بايعه على إقامة كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ودخل معاوية الكوفة، وبايعه الناس أفواجًا، وسمِّي عامُ هذه البيعة عامَ الجماعة؛ لاجتماع المسلمين بعد الفُرْقة، وائتلافهم بعد النُّفرة، وسلِّ سيوفهم لحماية الدعوة الإسلامية، بعد أن عطَّلها قتلةُ ذي النورين - رضي الله عنه - بضع سنين.
وبايع معاويةَ كلُّ من كان معتزلاً للقتال، من أمثال عبدالله بن عمر، وسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن أبي مسلمة - رضي الله عنهم.
وأجاز معاوية الحسنَ بثلاثمائة ألف، وألف ثوب، وثلاثين عبدًا، ومائة جمل، ولما تنازَل الحسن لمعاوية رجع إلى المدينة، وولَّى معاويةُ الكوفةَ المغيرةَ بن شعبة، والبصرةَ عبدَالله بن عامر، وهو أحد رسوليه إلى الحسن، ورجع هو إلى دمشق.
ولم يبالِ الحسن - رضي الله عنه - أن يجترئ عليه بعضُ السفهاء من دُعاة الفتنة، فيقول له وقد تَمَّ الصلح: يا عار المؤمنين! فيجيبه بجواب من قِبَس النبوة: "العار، خير من النار"[10].
ولئن كان لم الشمل، وجمع الكلمة، عارًا عند السفهاء، إننا لنرحب بهذا العار ونقرُّ به عينًا، ونطيب نفسًا.
أما بعد، فليس من شأننا في هذا المقام أن نُطيل بذكر الأحداث التي جرت في ذلك العهد، ولا أن نرجِّح بعض الروايات المتضاربة فيها على بعض، ولا أن نُفاضِل بين الحسن ومعاوية - رضي الله عنهما - في أمر الخلافة أو المُلْك، ثم نقضي لأحدهما بأنه أجدر به من صاحبه وأحق، فما إلى ذلك قصدْنا؛ وإنما الشأن كل الشأن أنهما اشتركا في الصلح بين المسلمين وتعاونا عليه؛ حقنًا للدماء، وصونًا للحرمات، وقصدًا إلى السداد والرشاد[11].
سياسة معاوية وكياسته:
وإذا كان من سيادة الحسن، وعظيم ورعه، ورغبته فيما عند الله - عز وجل - أن يدع الأمر لصاحبه وهو أحق به منه، بعد أن بايعه أربعون ألفًا على الموت - فمن سياسة معاوية وكياسته وجدارته باضطلاع هذا الأمر ألا يُعرِّض جيشه، وهو أطوع له من جيش الحسن له، لمعركة يسيل فيها دم، أو تُقطَع فيها رحم، أو يَشمت بالإسلام فيها خَصْمٌ، ولكل منهما مقام معلوم، لا يماري فيه من كان على حق.
سيد الحكماء وسيد الشهداء:
ولولا كتاب من الله سبَق باستشهاد الحسين - رضي الله عنه - لاستمع للناصحين له بألا يخرج، وعلى رأس نصحائه عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - ولنهج منهج أخيه الحسن في الأخذ بالحيطة، وإمعان التبصر في العاقبة! ولكن أبى الله إلا أن يكون الحسن في الرعيل الأول من سادة الحكماء، وأن يكون الحسين في الصف الأول من سادة الشهداء.
دعوة السادة إلى زكاة السيادة:
وفَصل الخطاب إلى ما ندعو إليه سادتنا وكبراءنا، وأولي الفضل والنبل منا - وهم من وصفْنا بالقلة الكريمة المُبارَكة - أن يؤدوا زكاة السيادة، كما أدَّاها الحسن كاملة؛ بالإصلاح النقي الجلي، وبالشفاعة الحسنى الخالصة، وبالدعوة الجادة الصادقة إليهما، ما استطاعوا إلى الجد والصدق سبيلاً.
المصدر: من ذخائر السنة النبوية؛ جمعها ورتبها وعلق عليها الأستاذ مجد بن أحمد مكي.
[1] مجلة الأزهر، العدد السادس، المجلد الخامس والعشرون 1373- 1954.
[2] أخرجه البخاري (2704) في كتاب الصلح، وفي المناقب (3629)، وفضائل الصحابة (3746)، والفتن (7109).
[3] أخرجه أحمد في "المسند" 4: 216 (17895)، والترمذي (3842) كلاهما من حديث عبدالرحمن بن أبي عميرة، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. والحديث رجاله ثقات رجال الصحيح، إلا أن سعيد بن عبدالعزيز - أحد رجال السند - الذي عليه مدار الحديث، اختلط في آخر عمره فيما قاله أبو مسهر ويحيى بن معين، وغمز في هذا الحديث ابن عبدالبر وابن حجر، كما في التعليق على " المسند" طبعة مؤسسة الرسالة.
[4] أخرجه أحمد في "المسند" 4: 127 (17152)، من حديث العرباض بن سارية، وإسناده ضعيف؛ لجهالة الحارث بن زياد الشامي؛ فقد تفرَّد يونس بن سيف بالرواية عنه، وقال الذهبي في الميزان: مجهول، وقال ابن عبدالبر: مجهول، منكر الحديث، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9: 356 وقال: "رواه البزار (977)، وأحمد، والطبراني 18 (628)، وفيه الحارث بن زياد، ولم أجد من وثَّقه، ولم يرو عنه إلا يونس بن سيف، وبقية رجاله ثقات، وفي بعضهم اختلاف".
[5] قال الحافظ الذهبي في" السير" 3: 279: "أعاذنا الله من الفتن، ورضي الله عن جميع الصحابة، فترضَّ عنهم يا شيعي تفلح، ولا تدخل بينهم، فالله حَكم عدل، يفعل فيهم سابق علمه، ورحمته وسعت كل شيء، وهو القائل: "إن رحمتي سبقت غضبي" و: ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23]، فنسأل الله أن يعفو عنا، وأن يثبِّتنا بالقول الثابت، آمين".
[6] وهما: عبدالرحمن بن سمرة، وعبدالله بن عامر بن كريز كما سيأتي.
[7] فيحتاج إرضاؤها في دمائها إلى مال كثير، وكان - رضي الله عنه - جوادًا لا يدَّخر شيئًا، وقد راعى هذا الكرم معاوية عند الصلح.
[8] أخرجه البخاري (2704) في كتاب الصلح.
[9] وروى الحديث مقصورًا على سيادة الحسن وإصلاح الله به في علامات النبوة (3629)، وفي فضل الحسن (3749)، والمناسبات في هذه المواضع الأربعة ظاهرة (طه).
[10] روى الترمذي (3408)، والحاكم 3: 170، والطبراني (2754) عن يوسف بن مازن قال: عرض للحسن رجل فقال: يا مسود وجوه المؤمنين! قال: لا تعذلني؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أريهم يثبون على منبره رجلاً رجلاً، وأورد الذهبي في " السير" 3: 272: قال: أتى مالك بن ضمرة الحسن، فقال: السلام عليك يا مسخم وجوه المؤمنين، فقال: لا تقل هذا، وذكر كلامًا يعتذر به - رضي الله عنه - وقال له آخر: يا مذل المؤمنين! فقال: لا، ولكن كرهت أن أقتلكم على الملك.
[11] من أهم مراجعنا في شرح هذا الحديث: كتاب العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة؛ للقاضي أبي بكر بن العربي، بتحقيق السيد محب الدين الخطيب (طه).
↧
September 22, 2016, 7:18 pm
لست في عهد عمر
كنت أخاف منهم دون أن أعرف سببًا ودون أن أحاول طرد هذا الخوف، أشكالهم تكاد تكون مُتطابِقة تُميِّزهم عن غيرهم من الناس، خطواتُهم الهادئة المطمئنة، وكأن الدنيا لا تُسابِقهم، ثيابهم منكمِشة على شكلِ طبقات كالياي المضغوط، وكأنها لم تُصادِف "مكواة" قط، حذاءٌ قاسٍ يتميَّز عن أحذية الآخرين بقسوته المُفرِطة، تَبرُز الأقدام أحيانًا وتَبرُز معها التصدعات العميقة اليابسة، وكأنها كتلة صخريَّة قد حلَّت محلَّ الأقدام الناعمة.
على الرأس عِمامة بالية كانت بيضاء اللون في أحد العصور الماضية، وكذلك بقيَّة الثياب عدا "السديرية" التي تُلبَس فوق الجلباب؛ فهي سوداء تزيِّنها الرُّقع والخروقات، ويخرج من العمامة قرص دائري أصلع يتطلَّع للشمس، وكأنه يختال أمام ناظِرَيها وشمس "كسلا" الحارقة تَضرِبه بأشعتها المُلتهبة، والناصية المتموِّجة بأخاديدها التي تركتها الأيام ذِكرى تتناسب مع بقية الوجه المتجعِّد، ويَحرُس الوجه الثغرَ الذي لم يجد مذاقَ الابتسامة منذ فقَد مذاق الطعام؛ كجندي الحدود يمنع أي تَسلُّل لكائنات تحمل شيئًا اسمه الفرح!!
الساق الثالثة تسير من الرجلين وأحيانًا توضَع خلف الرقبة وتلتف حولها اليدان.
خطواتهم البطيئة تضغطُ على الأرض بقسوة وتطوي القدمان الأرض زحفًا دون أن ترتفعا، واستغللت هذا الزحف البطيء لأهرب بعجل إلى البيت دون أن يَعبأ بي من أهرب منه!!
وبعد قليل يُطرق الباب فتضطرب نفسي وأُحِس أن أعمدة رُوحي تهتزُّ بقوة حتى يكاد قلبي ينخلع مع طرْق العصا الخشبية للباب الحديدي، ربما كان هذا هو سرَّ ملازمتهم للعصا.
يتردَّد الصوتُ الغليظ بالعبارات المحفوظة التي تُميِّزهم عن غيرهم من البشر الذين يسيرون على الأرض، وأنا أُخرِج صوتًا مُتقطِّعًا خائفًا من خلف الباب، وعيني على ثقب صغير أراقب به هذا الطارق، الله كريم، فقد علِمتَ بالمشاهدة أن هذه الكلمة تُزيحهم من الباب!
هكذا كنت أخاف من المتسوِّلين، ومع مرور الأيام كان الخوف يرحل ويَخلُفه الكره!
وكعادتهم يجوبون السوقَ يدخلون دكانًا ويخرجون من آخر، وأهل السوق مذاهب شتى في التعامل معهم، بعضهم يحضر الخبز وآخر صغار العملة، وبعضهم يردُّ بعبارات قاسية لا أظنُّها تُغيِّر شيئًا من واقع الحياة، والرد الأمثل والأكثر شيوعًا: الله كريم.
كنتُ أبحث عن أصغر قطع العملة فنصيبهم عشرة قروش - أو مائة جنيه كما هو لسان أهل السودان الشاذ في النقود - كانوا يُبادِلونني نفْسَ الكُرْه تكاد تُخرِجه الألسن.
أما هو فقد كان كبير السن، قصيرًا ينتعل شيئًا يُسمى تجوزًا حذاء، يَلبس كمًّا من الثياب أكثر مما يتعارف عليه أهل البلد، يُغطِّي رأسَه بـ "طاقية"، ويحمل على رأسه أحمالاً كأنه استقلَّ عدد السنين التي يحملها، وقد كادت تَقصِم ظهرَه الهزيل، شفتاه مطبقتان بشكل يدلُّ على فم فارغ من الأسنان، حليقَ اللحية والشارب، شاذًّا عن أقرانه؛ لعله هرب من الشيب الذي يحتل الوجه.
كغيره كان نصيبه عشرة قروش تناولها ونظر إليَّ نظراتٍ غاضبة، ووقف على رأسي لا يتحرَّك كأنه وحش يَستعِد للانقضاض، بادلتُه النظرات، فردَّ عليَّ بنبرة ساخطة: ما هذا؟
ماذا أفعل بهذه؟
وهنا انقلب الكره إلى غضبٍ، فرفضتُ أن أعطيه غيرها.
رماها بتكبُّر على الطاولة: خذها إن كانت تنفعك.. وانصرف!!
وكل يوم يمر أمامي، فإن رآني واصَل طريقه، وإلا أتى ليأخذ نصيبه، لكنه يَمُر بلا فائدة؛ فكل يوم أكون بانتظاره، وكل يوم يخيب رجاؤه أن يغور هذا اللعين.
حينها عاد وأَطلَق من فمه رصاصة استقرَّت في صدري، وتجعلني تحت تأثير المخدر الذي حُقِنت به، أتعطيني اليوم أم لا؟
ووجدتُ يدي تَمتدُّ إلى قطع العملة لتُخرِج عشرين قرشًا كما يريد ثم انصرف.
بعد عدة أيام سألته عن تصرُّفه ورفْضه الذي بدا لي غريبًا، فأجاب: أنا مرتبي معروف عند الجميع، لا آخذُ أقل من "مائتي جنيه".
نظرت إليه باستغراب شديد، وأَتْبَع: الآن نعيش غلاء والريال يرتفع ثمنه!
• الريال أم الدولار!!
• لا يُهِم.. فكل شيء لم يَعُد في متناول اليد.
• طيب.. لماذا تَفرِض على الناس هذا المرتب، أأنت عاملٌ عندهم؟
• إنه حقي!
نعم حقي، فأنا محتاج وواجب المجتمع أن يَعين الضعفاء والمحتاجين.
ما بين الإكبار والاستغراب يَقذِف هذا الشيخ كلماتِه كما قذف كلمتَه الأولى من قبل لتَعصِف برأسي، فلم نعتد سماع هذه الكلمات إلا في المواعظ الجوفاء التي لا تُثير القلبَ ولا تربِطه بما حوله.
• لكنه مالهم الخاص، لماذا تُنازِعهم؟ لماذا لا تذهب لديوان الزكاة؟
• قلت لك: عندي حق في مالهم هذا، ثم إني لا أعرف ديوان الزكاة!!
أما الأحمال التي يضعها في ظهره فقد آن أن أعرف سرَّها بعد أن سقط حجابُ الصمت من فمه، الذي كاد يتعفَّن بالصمت، وينهار بعد أن تساقطتْ أركانه.
لماذا تحملها؟
• لا أجد مكانًا أضعها فيه؛ فأصحاب المحلات يرفضونها وأخشى عليها السرقة!
سرقة!!
• وماذا فيها حتى تخاف عليها هذا الخوف الذي يدفعك لحمْلها طول النهار وكأنها جوهرة ثمينة؟
فيجيب بصوت قوي حازم، أيًّا كان ما فيها، لا يجب أن يمد أحدٌ يدَه على شيء ليس له!
حتى أنت تخاف اللصوص؟ حتى على هذه؟
لم أستطع أن أسأله: لماذا لا تتركها في البيت؟ لأني خشيتُ أن يجيب بابتسامة حارة تُغيِّر معالم وجهه الثابت على الكآبة والصمت: لا بيت لي، فآثرتُ أن أعتصِم بالصمت وأتركه يَنصرِف بهدوء؛ ليُعيد كلماتِه إلى قبرها، ويبحث عن تراب النسيان ليطمرها.
مسكين أنت، تشقى بين الأزقة والمحلات سعيًا، لست في عهد عمر، لن يجدك من يطوف المدينة في عتمة الليل يُفتِّش عن المعدات الخاوية التي تطحن بعضها كما تفعلُ النار إن لم تجد ما تقتات به، حتى تَخمُد وتَرقُد بصمت موضِع متمدِّدة على ظهر الأرض.
↧
September 22, 2016, 7:20 pm
الصمت ملاذ العالمين
الصمت ملاذ العالِمين
أنى يكون هذا؟!
فما ينبغي الصمت إلا لمَن لا يَدري خبرًا، أو يعلم نبأ، أو لا يعي مواطنَ المَعارف، ومجاهلَ المَفاوز؛ حتى يقال عنه بأنه عالم، وأن كلامه مُصدَّق وله أسانيد، وحتى لو تحقَّقت تلك الشروط؛ فإنَّ صِدقَ كلامِه غير مُطلَق، فما من حديث أصدق من كلام رب العالمين، والصادق المعصوم الأمين - صلى عليه ربى وسلم.
وما دامت الشروط مُلزِمة للأنام ومرتبِطة بمعايير وصدْق الراوي صاحب العُهْدة، كان لزامًا علينا أن نلزم الصمت كثيرًا، ونتفنَّن في كيفية اتِّخاذه ركنًا حصينًا للبعد عن مواطن الفِرية وجَني الذنوب التي نهش وقت حصادها متى اقترفت، وعلينا جُمِعت، ولا يَظلِم ربك أحدًا.
ولنُسلِّم بعض الوقت أن الصمت حِرْفةٌ، فلنمتَهِنها كمِهنة تَدُرُّ علينا المكاسب، وتَحجُب عنا الخسائر الفوادح وما نُبالِغ، وما يدفع اليوم بكلمة طيبة، أو التزام الصمت، فغدًا لا تنفَعُ معه الجبال من الذهب ولا التلال القناطير المُقَنطرة، وما رأى النبي الكريم في حادثة الإسراء والمعراج من مشاهد خير شاهد على عظمة الذنب.
ولكوننا في زمانٍ صارت فيه الفتنُ كقِطَع الليل المُبهَم يُمسي الناس بحال غير ما أصبحوا عليه، فعليك لسانك فاشدُد عليه حتى لا تقع في مجاهل الفِرى ومنافِذ الشرور، وتكون كمَن قال عنهم الرسول: ((كفى بالمرء كذبًا أن يُحدِّث بكل ما سمِع)).
وإذ لم تَجزِم بأنه آية، فَهب أنه كذلك، ولو لحين من الوقت، والتسرع في الجدال مِعوَل للهدم أكثر منه للبناء، أو قل: إنه حِرْفة الصمت التي تتطلَّب صاحب القلب السليم، والعقل الراجح ذا الأناة، واللسان العفِّ غير المُطلَق بلا داعٍ، يلسع ويَلدَغ وما يعود لجُحرِه إلا بعد أن يستوفي يومه ويدنو ميعاد نومه، وساعتَها نقول مقولة العامة: "نوم الظالم عِبادة".
الصمتُ مِن سمتِ النبيِّين وأخلاق الصالحين، وكبح جماح اللسان زكاة للنفس وعلوٌّ لشأنها بين الناس وعند ربِّ الأرباب، ولا يَضير الصامت العفَّ مِن الجُهال الظنُّ بأنه ضعيف غير قادر على الردِّ والصدِّ، فالصدِّيق أبو بكر، لما رد على سفيه يُهينه، ترك النبي الكريم المجلس، وقال: ((كان الملَكُ يردُّ عنك أبا بكر))، والأمثلة من الكتاب والسنَّة كثيرة، وما تعاظَمَ أمرٌ في الشريعة إلا بتعدُّد الكلام فيه؛ فرسول الله قد وصى زيد بن ثابت وقال: ((أمسِكْ عليك هذا))، وحديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: ((طوبى لمن ترك المراء ولو كان محقًّا))؛ لما في الترك من راحة، وفى الجدال من عنت وتعكير لصفاء النفوس وتُقى القلوب، ولئن تدع وتذر ما في قلبك تجاه الآخرين، لا تُبديه، خير من أن تلقيه إليهم على سواء فيَمقتوك وتُتَّهم بالحاقد أو الحاسد، وما أنت بالذي يَصِفون، إن أنتَ إلا غاضبٌ غلبك الغضبُ، وإنَّ اللهَ قادر على أن يُذهِب غيظ قلبك وتنقية سريرتك من عبث الشياطين.
وأقول لنفسي قبل القارئ - فما أنا بمقام الواعظ غير أنى مشارككم حالي وحال كثيرين مثلي - وسائل نفسي وإياكم عن محامد الصمت ومناقب القناعة، وكلامي ما دام لا يُغني ولا يُسمِنُ مِن جوع فلماذا أتكلم وأُقدِّم طبقًا من حسنات لعدوِّي ويذر من موبقاته علي؛ فما أنا بمن حافظ على رقم إيداعه للحسنات ولا بمَن سعى في محو السيئات؟!
وإنَّ للصمت لفوائدَ جمَّة لا يُدرِكها غير الكيِّس الفَطِن الذي شأنه من الناس التحوُّل والتغيُّر والتناوُب على ذي المَحامد متى انكَسروا، وأصحاب المقامات الرفيعة وقتَما انحسروا في أضيق المكامِن بعدما كانت كل الأماكن لهم مراتع ومراحب؛ فصار كظلٍّ لمَن يُظلُّه وعبدٍ لمن يُقلُّه سفينة النجاة؛ ظنًّا منه أنها النَّجاة، وما مِن ناج ولا هالك إلا بأمر الإله.
والصمت يقطَع على الحَمقى سبُل الإعياء للطيبين، والنَّيل من النبلاء الطيِّبين؛ فيَموتون غيظًا ويمرُّ الكرام عليهم مرورًا وصفَهم إياه ربُّ العالمين بقوله: ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63].
والصمتُ مِن سمْت النبيِّين، وشمائل الطائعين؛ فما أوتي نبيُّ الله زكريا آيةً أعظم من ثلاث ليال لا يُبِين ولا يكلم الناس، والصمتُ من الصبر الجميل، والصبر آية والصمتُ من آلائه الجميلة.
وصمتُ العارفين عبادة، وكلامهم طاعة إذا قطعوا العلائق التي تَشين فصُفيت نواياهم، وخَلُصت دُنياهم، ولا يخشى عليهم من الفتنة إلا بكونهم أحياء غير أموات، هذا ما كان من صمت العارفين والأولياء، وأصاب الشاعر حين قال:
فيا خبيرًا على الأسرار مطّلعًا ![]() اصمت ففي الصمت منجاة من الزلل ![]() |
ونحن نحتاج للصمتِ لإنجاز العمل، وتجديد الأمل؛ لأننا بشرٌ مَنوطٌ به استعمار الأرض وإخراج ما تحويه بطونها من خيرات، وكبح جماحِ الألسن الكثيرة المُتطرِّفة غير الجديرة بأن تتكلم، ومنع كلام يثير الفتن خير من إفشائه فيضير ويُغيِّر النفوس ويُعطِّل سفائن التقدُّم والرقي.
وإني لأرى الرجلين يتراشقان بالكلمات، مؤيد لفريق ومُناهِض على نفس الطريق، يتباريان تباري القرنَين وتساجل الخصمين، كما قالت العرب قديمًا، ولربما كانا بني عمومة أو جيران نُزلٍ ودار فيذهب الودُّ ذهاب اليابس مع الرياح.
فعُدْ أيها اللسان أدراجك، والزم بوابتين خلقهما الله كرامةً لك، وسماعتين عن يَمين وشمال، تتريث في السماع والاطِّلاع، وعينين كاشفتين تزيغ إحداهما فتَستبصِر الأخرى، وفوق كل هذا قلب بين الضلوع يكنُّ ما يكنُّ، ويظهر ما يظهر، فلا تكن فاضحًا لما يُهينه قدر ما يجب أن تكون ناشرًا لما يزينه وينعته بالسليم، وعقل يزن الكلام بميزان الصدق ومكايل الرجاحة والفطنة، فما وجد أن في امتناعه فائدة، نبّهك لمنعه، وما وجد أن إخراجه يرد حقًّا أو يُدلي بشهادة تُنقذ بريئًا أو تذكُر فضلاً، أوعز إليك أن تنطلق انطلاقًا غير مذموم، وما أبرئ نفسي مما أقول، ولكني أسأل الله العليَّ القدير أن يهَبَنا قلبًا نقيًّا وعقلاً راجحًا، ولسانًا عفيفًا، فإن كان القلب على تحوُّل وتغيُّر أوحى إليه العقل بدرء المفاسد، ولسان يصدق على المحامد، والله خير شاهد على ما قدمتُ، وسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون، وألسنتكم رطبة بذكره وشكره وحمده، وعلى الله قصد السبيل.
↧