Quantcast
Channel: منتدى فرسان الحق فرسان السُـنة خير الناس أنفعهم للناس
Viewing all 1343 articles
Browse latest View live

شذرات في فقد الولد (3)

$
0
0
شذرات في فقد الولد (3)
د. عبدالحكيم الأنيس


ولدي أحمد:
قدومُك جعلني شاكرا.
ومرضُك جعلني ذاكرا.
ورحيلُك جعلني صابرا.
فما أكبرَ فضلك علي!
♦♦♦♦
قرأتُ قولَ الله تعالى مُتفضلًا على مكيٍّ غني: ﴿ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا ﴾ فبكيتُ "أحمد" إذ باتَ مشهودًا ولم يعد شاهدًا.

♦♦♦♦
أشدُّ الحنينِ إلى غائبٍ ترَكَ من حنانهِ صورةً لا تغيب.

♦♦♦♦
قد يبتليك ربُّك ليجعلَ في قلبِك خشوعًا، وفي نفسِك خضوعًا، وفي عينيك دموعًا...

♦♦♦♦
طائر جريح:
في (25) من رمضان سنة (1433هـ) دخل بيتنا طائرٌ جميلٌ، أنسنا به، وسررنا بدخوله، وسعدنا بوجوده.
كان يمتعُنا بصوته، ويسلينا برفرفة جناحه، ويدخلُ البهجةَ علينا بنظراته...
وذات يوم هبَّتْ ريح عاصفة فنالتْ منه، وشعرنا كأنَّ جناحه قد كُسِرَ، وأنَّ ألمًا سكنَ نفسه، فلم يعد ذلك الطائر البهيج...
وحملناه إلى كل مَنْ رجونا عنده دواء يقضي على الداء، فما وجدَ عندهم ما يشفي العلة، ويصرفُ الألم، ويعيدُ للجناحِ الكسيرِ القوة على التحليق والطيران...
وكانت نظراتُ ذلك الطائر الجميل تحملُ الكثير من معاني الامتنان، والحزن والدموع...
وكنا نشاطرُه المعاني ذاتها...
وأخيرًا تقرَّرَ أنْ تحملَ ذلك الطائرَ طائرةٌ تقطعُ الآفاقَ إلى حيث مظنة الترياق...
وكانت الرحلة بجناحي الأمل والرجاء، مصحوبين بالبسمة والبكاء...
وهناك وبعد خمسة عشر أسبوعًا تزاحمتْ فيها الآمالُ والآلامُ نهضَ الطائرُ من بيننا، وحطَّ على غصنِ شجرة، وبدأ ينظر إلينا مُودِّعًا... وفهمنا مِنْ نظراته الحانية أنه يقول:
أشكركم وأستأذنكم.
لقد شاء اللهُ أنْ يلحقني بجواره وهو خيرٌ لي...
لا تنسوني وأنا لن أنساكم... وسأنتظرُكم على بابِ جنةٍ هي خيرٌ من كل ما في الدنيا مِنْ كنوزٍ ورموزٍ...
وذهب مُحلقًا في السماء...
كان ذلك ليلة الجمعة (12) من رجب سنة (1436هـ)...
♦♦♦♦
قال ابن نباتة: محمد بن محمد بن محمد بن الحسن الجذامي الفارقي المصري، أبو بكر، جمال الدين (المتوفى سنة 768هـ) وقد مات له طفل:
يا راحلًا مِنْ بعد ما أقبلتْ
مخائلٌ للخيرِ مرجوَّه

لم تكتملْ "حولًا" وأورثتَني
ضعفًا فلا حولَ ولا قوَّه[1]


♦♦♦♦
وقال الشهاب المنصوري (ت: 887هـ) يرثي ولدَه:
قضى ولدي ولم يمْسَسْهُ سوءٌ
وفازَ من الكريمِ بما لديهِ

فيا فرَحي بما أفضى إليهِ
من الحُسنى ويا حُزني عليهِ[2]


♦♦♦♦
بنت الأستاذ الشيخ عبدالكريم الدبان رحمه الله.
حدَّثني الأخ السيد صهيب بن الشيخ جمال بن الشيخ عبدالكريم الدَّبان التكريتي قال:
كان لجدي بنتٌ ذات سبع سنين، وكانتْ وردةَ المنزل، جميلةً مبتسمةً دائمًا، وقد أصابها يومًا وهنٌ شديدٌ، وسخونةُ جسدٍ، فحملوها إلى المعالجين، وبعد أيامٍ تدهورتْ صحتُها كثيرًا، وقرَّر المعالجون إجراء عملية جراحية، وعندما بلغَ جدِّي الأمرُ وأنَّ وضعها أصبح خطيرًا تكدَّر وجهُه، وأصبحَ الهمُّ والألمُ مُحيطًا به، وخاف أولادُه عليه من شدة الحزن
حدَّثني والدي الشيخ جمال قال: وما دخلتْ صغيرتنا الجميلة غرفة العمليات إلا قليلًا ولحقتْ بجوار ربها، وقد استجمعتُ قواي لأخبر الوالد، وكنتُ أخشى عليه مِنْ شدة وقع الخبر، ودخلتُ عليه فوجدتُه متوجهًا إلى القبلة، الهمُّ أثقلَ كاهلَه، والحزنُ والتعبُ باديان عليه، فأخبرته أن ابنته الغالية على قلبه تُوفيتْ، وإذا بالهم يزول، والحزن يغادره، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وكأنما لم يؤلمه الخبر، بل حصل العكس، وصرتُ في حيرة مع نفسي...
وبعد مضي أسابيع قلتُ له: لقد كنتُ خشيتُ أنْ أخبرَك بوفاة شقيقتي فيصيبك مكروهٌ؛ لما رأيتُ من اهتمامِك وحُزنك، ولما أعرفُ من حنانك، لكن كأنما لم يؤثر الخبرُ فيك! فتبسَّم وقال: كانتْ عندي فخشيتُ التقصيرَ، وأنْ أُسألَ عنها، فلما انتقلتْ إلى جوارِ الكريم لم أعدْ أخشى عليها شيئًا، وهي تُعينني في آخرتي.

♦♦♦♦
توأم:
كتبَ إليَّ الأخ الدكتور أنس مهدي العران السامرائي:

في عام (1997م) رزقني الله بتوأم: براء وبهاء، وبعد شهرين ونصفٍ تُوفي بهاء، -أسأل الله أنْ يسقيني وأمَّه بيدهِ يوم العطش الأكبر-.
والآن كلما رأيتُ براء –وقد أصبح شابًا والحمدُ لله- أتذكرُ أخاه بهاء الذي كان يشبهه تمامًا.
والحمد لله على نعمهِ التي لا يسعنا شكرُها مهما شكرنا.


[1] ذكرهما السيوطي في الجزء السابع من "تذكرته": "الفلك المشحون".

[2] ذكرهما السيوطي في الجزء السابع من "تذكرته": "الفلك المشحون".






رجل يشبه أبي

$
0
0
رجل يشبه أبي
أ. رفيقة فيصل دخان





السؤال



ملخص السؤال:

فتاة مات والدها منذ 10 سنوات وهي ما زالت متعلقة به، تعرفتْ إلى شاب في العمل ورأتْ فيه شبهًا لوالدِها، مما جعلها تُطيل النظر إليه، وهو يظن أنها تُحبه!



تفاصيل السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا فتاة في الثلاثين مِن عمري، تُوُفِّيَ والدي منذ 10 سنوات، وكنتُ أحبُّه كثيرًا أكثر مِن أمي التي كانتْ دائمًا عصبية! كان والدي رحمه الله حنونًا ومتفهِّمًا ومؤمنًا، وفي الوقتِ نفسه كان شخصيةً اجتماعيةً ومحبوبةً لدى الجميع.




أعمل موظفة في شركة كبيرة، وأتمتَّع ولله الحمدُ بالعقل والرزانة، لكنني مؤخرًا تعرفتُ إلى شخصٍ في إطار العمل، وهو بعيدٌ عن العَيِّنة التي يُمكن أن أحبَّها، غيرَ أنه يُشبه أبي في نواحٍ كثيرة؛ في الهيئة وطريقة الكلام، فأتخيَّل دائمًا كأنَّ أبي يُكلمني، مما يشغل انتباهي، وأطيل النظَر إليه بغير إرادةٍ مني، وهذا يجعلني أشعُر بالإحراج!




المشكلة الآن أنَّ هذا الشخص يَتصرَّف بغرورٍ لأنه يعتقد أنني وقعتُ في حبِّه، مع أنَّ هذا لم يَحدُثْ!


الجواب



أهلًا بك أختي في شبكة الألوكة قسم الاستشارات.

غفَر الله لوالدك ورَحِمه وربَط على قلبك بفَقْدِه، رغم أنَّ وفاته رحمه الله منذ عشر سنوات، لكن تعلقك به وإنكارك الداخلي لوفاته هو سببُ ما تعانين منه الآن، وكذلك الفراغ العاطفي يُولِّد مثل هذه الحالة.




والحل عزيزتي:

أولًا: إنا لله وإنا إليه راجعون: استرجعي كلما تذكرتِ والدك بقولك: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلفْ لي خيرًا منها، فبذلك يتجدَّد لك الأجر، ويَقوى عندك الصبر، ويُعوِّضك الله بمَن يكون في حنان والدك وحبه وزيادة.




ثانيا: أبعدي نفسك عن هذا الشخص، كي لا يستغلَّكِ بشكل سيئ ما دمتِ لا تستطيعين السيطرة على نفسك أمامه، وإنْ كان ولا بد فأخْبِريه بشكلٍ مباشرٍ وصريحٍ أنه يُشبه والدك المتوفى، واعتذري عن نظراتك وتصرفك تجاهه.




ثالثًا: اكتبي لوالدك رسالةً تبثين مِن خلالها ما يختلج في صدرك تجاهه، وعديه أنك على العهد الذي ربَّاك عليه مِن الخُلُق والعفاف.




رابعًا: املئي فراغك بالنافع المفيد لك في الدنيا والآخرة، ولا تتعلقي بالخَلْق؛ فهُمْ جميعًا إلى زوال، ويبقى وجهُ ربك ذي الجلال والإكرام.




خامسًا: كلما اعتراكِ شيءٌ مِن مَشاعر التشابُه بين هذا الشخص ووالدك، ردِّدي بينك وبين نفسك أنه ليس والدي عدة مرات، أو اكتبي هذا عدة مرات كي تُؤكِّدي لنفسك.





• سادسًا: أكثري مِن الدعاء والتضرُّع لله أن يحفظك ويثبتك، وأن يرزقك الزوج الذي يُسعدك في الدنيا والآخرة ليكون أبًا صالحًا لأطفالك.




وفقك الله ويَسَّر لك هداه






كيف أجمع بين رضا أمي وأبي ؟

$
0
0
كيف أجمع بين رضا أمي وأبي ؟


د. رحمة الغامدي





السؤال



ملخص السؤال:

فتاة عمرها 16 عامًا، تشكو مِن التوتر الشديد بين والديها، وعدم استقرار حياتها بسببهما، وتسأل: كيف أجمع بين رضا أمي وأبي؟!



تفاصيل السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا فتاة في السادسة عشرة مِن العمر، مشكلتي أن العلاقة بين والديَّ شديدة التوتر، وربما لم تستمر علاقتهما إلا مِن أجلي أنا وإخوتي!




أشعر بالحيرة، فأبي يَغضب كلما رآني أُحدِّث أمي، ويقول: أنت تسمعين كلام أمك فقط، وتقتنعين بكلامها فقط، ولا تسمعين كلامي!




إذا طلبتُ منه شيئًا يرى أن الطلب خاص بأمي، ويسأل: هل أمك هي التي طلبتْ منك هذا؟!




وأمي تفعل ذلك أيضًا، فإذا تحدثتُ مع أبي تسحبني بعيدًا وتقول لي: أخبِريني ماذا دار بينكما ولا تكذبي!




ومِن جهتي أحاول التهرُّب مِن الإجابة، وإذا لم أُجِبْ عليها إجابة صريحة تقول لي: أنت تسمعين كلام أبيك، وأنا لا، وبينكما أسرارٌ وأمور تخصني.




وهذا كله غيرُ صحيح، فأنا لا أميل لأحدهما على حساب الآخر، ولا أفضِّل أحدهما على الآخر، بل لكليهما معزةٌ وحب خاص في قلبي.




فأخبروني كيف أرضيهما معًا؟!


الجواب



الحمدُ لله رب العالمين، وبه نستعين.

بدايةً أشكر ثقتك في شبكة الألوكة، ويُسعدني أنك في مثل هذا السن وتبحثين بطريقةٍ سليمة عن حلول للمشكلات التي تُواجهك، فأنتِ بذلك شخصية إيجابية.




بُنيتي، كثير من المشكلات التي حولنا ليس لنا دخلٌ أو سببٌ في حدوثها، ولسنا مُجْبَرين أو حتى مطالبين بالبحث عن حلولٍ لها؛ لأنها ليستْ مِن مهامنا، فالمشاكلُ بين الأم والأب لسنا - نحن الأبناء - مطالَبين بحلها، إلا إذا كانتْ تُؤثِّر علينا وعلى إخوتنا، وهذا لا شك أنه موجودٌ؛ لذا من الأفضل أن تحاولي مع والديك أن يطلُبَا الاستشارة مِن مختصين وهم كُثرٌ والحمد لله، فمِن الممكن من خلال الهاتف، أو الذهاب لهم، أو التواصل معهم إلكترونيًّا، ويُفَضَّل أن يقول ذلك لهم أحدٌ ممن تثقين فيه وفي علمه وأخلاقه.




كما أنه لا يمنع أن تكتبي رسالة لكلٍّ منهما على حدةٍ تُبَيِّنين فيها أهمية الاستقرار الأسري في حياة الأبناء، وحاولي أن تنقلي بينهما كلمات الحب والاحترام.




غاليتي، لا شك أنه مِن الصعب العيش مع والدين يتعاملان في كثير مِن الأحيان بالأنانية، وكأنهما أطفال، ولكن أريدك أن تنظري للإيجابيات التي في كلٍّ منهما، ومحاولة إيصالها للطرف الآخر.





قولي لهم: أنا وإخوتي مِن حقنا أن نعيش في جوٍّ مطمئنٍ، فأخفوا مشاجرتكم عنا، وأعطونا حقنا، قبل أن ينحرفَ أحدنا!




كوني صريحة، فربما تُصلحين شيئًا ما، مع اللجوء إلى الله والإكثار مِن الدعاء والاستغفار




هذا؛ وأسأل الله لك السداد والتوفيق






حماتي وحياتنا الزوجية

$
0
0
حماتي وحياتنا الزوجية


الشيخ خالد بن عبدالمنعم الرفاعي


السؤال

ملخص السؤال:
رجلٌ متزوجٌ يشكو مِن زوجته بسبب طاعتها العمياء لأمِّها، مما أدى إلى ترك بيت الزوجية وأخذ أغراضه الخاصة، ويسأل: هل أطلقها أو أتزوج عليها؟!

تفاصيل السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا شابٌّ متزوجٌ، مشكلتي هي: تدخُّل حماتي في حياتي الزوجية بصورة غير معقولة، وتأثيرها السلبي على زوجتي، وطاعة زوجتي لها طاعة عمياء؛ مما أدَّى إلى تركي لبيت الزوجية منذ أكثر مِن شهر، ومقاطعة زوجتي وأولادي.


كانتْ حياتي هادئةً تمامًا، إلى أن أقنعتْ حماتي زوجتي بأنْ تبحثَ عن وظيفةٍ، وبالفعل بحثتْ زوجتي عن وظيفةٍ، واشتغلتْ وأنا غير موافق على عمَلِها، لأننا لا نحتاج إلى عملِها، فالحمد لله الأمور المادية جيدة في بيتي.


عملُ زوجتي أدى إلى وجود مشكلات كثيرة؛ مثل: طلبها المشاركة في مصروف البيت مع رفضي من جهة، وإصرارها من جهة أخرى، وإهمال حياتها الزوجية والأولاد!


تكلمتُ كثيرًا مع والدها وأهلها لتتركَ الوظيفة، ولكن بدون جدوى، وكان الرد: هذا حقُّ ابنتي أن يكونَ لها مستقبلٌ مثلك!


تحمَّلتُ مع عدم رضائي لتسيرَ الحياةُ الزوجية، لكن تغيَّرتْ زوجتي، وأصبحتْ عصبيةً، وترد على كلامي، مع المشكلات اليومية التي لا تنتهي.


قرَّرتُ ترْكَ البيت، وأخذتُ أغراضي الخاصة، ولا أعلم أي شيءٍ عنهم منذ شهر، وأتتْ والدة زوجتي وسبَّتني أمام زملاء العمل، وأخبَرتني أنها سترفع قضية نفقة ضدي؛ لأني لا أُنفق على زوجتي وأولادي.


لا أعرف ماذا أفعل هل أتزوَّج عليها؟ أو أتركها مُعلَّقةً؟!

الجواب

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فأخي الكريم، لن أقفَ طويلًا عند أخطاء زوجتك وأمِّها وعنادهما، فإنَّ خطأهما في حقك يُعلَم ببديهة العقل، كما أنَّ طاعة الزوج في المعروف مِن الواجبات الشرعية التي يعلمها كلُّ أحد، كما يعلم الجميع أن للرجل القوامة، وهي درجةٌ ومنزلة على الزوجة، يُصاحبها مسؤوليات وعطفٌ ورعاية، وصيانة وحماية، وتكاليف في نفسه وماله، وآداب في سلوكه مع زوجه وعياله، فهو رئيسُ الأسرة الذي يقوم بمصالحها؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 228]، وقال: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾[النساء: 34].


وتمرُّد الزوجات على حقِّ الزوج لا يعني نهايةَ المطاف وتقويض أركان الأسرة، والحُكمَ عليها بالانهيار واللجوء للطلاق، وإنما يتطلَّب وسائلَ أخرى وصفات تتحلَّى بها؛ مِن أهمها: البُطء في الاستجابة والانفعال بوجه عامٍّ، واستخدام الوعي والتفكير قبل الحركة والاستجابة، وقدرٌ كبير مِن التروي وإعمال الفكر قبل الإقدام، وهذه الخصائصُ تجعلك أقدرَ على إدارة المشكلة، ثم ابحث عن أصحاب العقول مِن الأقارب أو غيرهم، ووسِّطهم ليحكموا بينكما بعيدًا عن الانفعالات النفسية، والرواسب الشعورية.



فإذا لم تُجْدِ هذه الوساطات، وأصرَّتْ زوجتك على موقفها، فمِن الحكمة التسليمُ للقدَر، والإقرار بأنَّ الشقاق قد بلَغ حدًّا لا تستقيم معه هذه الحياةُ، ولا يستقر لها قرارٌ، فاتفقَا على الطلاق وإن غالتْ في طلباتها، فلك أن تتركها فترة دون طلاق، حتى تقبلَ أخذ حقِّها فقط؛ قال الله تعالى:﴿ وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 130].


وأسأل الله أن يقدرَ لكما الخير حيث كان، وأن يُصلح أحوال المسلمين






لا أريد الزواج من أبناء بلدي

$
0
0
لا أريد الزواج من أبناء بلدي


أ. لولوة السجا






السؤال



ملخص السؤال:

فتاة لا تريد الزواج من أبناء بلدها وعائلتها، لكن أهلَها أجبَروها على الزواج مِن قريبٍ لها، وهي ترفُض وتريد الخطبة أولًا، وأهلها يريدون الزواجَ مباشرة.



تفاصيل السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا فتاةٌ طَموحٌ، والحمدُ لله ملتزمة بالدين، لكن فكرة الزواج تَقتلني؛ فأنا أكره رجال بلادي، وبصفة خاصة رجال عائلتي، وقد تقدَّم لخطبتي الكثير، لكني أرفض وأبحث عن مُبَرِّرات.




اتَّفق أبي وأحد أقاربه على أن يُزَوِّجوني، لكنني رفضتُ، فحاوَلوا إقناعي، لكنني أصررتُ، فهددني أبي بأنه سيتبرأ مني إذا لم أوافقْ، وانزعج مني، وضغطوا عليَّ وحرموني مِن الدراسة، وللأسف اضطررتُ للموافَقة حتى لا يَحرموني مِن دراستي.




المشكلة الكبرى أن أهلي غير مُقتنعين بالخطبة، ويريدون عقد الزواج مباشرة؛ لأن الخطبة في نظرهم شيء سيئ، أمَّا أنا فأريد الخطبة حتى أتعرَّف أكثر على الشابِّ، ولعلي أقتَنِع به، رغم أن الفرقَ بيننا كبيرٌ في العمر وفي المستوى الدراسي.




أرجو منكم النُّصح والمشورة


الجواب



الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:

أختي الكريمة، لِمَ لَمْ تذكري لي أسبابَ انصرافك ونفورك من أبناء بلدك، فهل هناك أسبابٌ مُحددة؟




فقد عجبتُ مما ذكرتِ، وإني أخشى أن يكونَ مِن أسباب ذلك أمورٌ لا قيمة لها، وإنما هي مجرد شكوكٍ ووساوس تكوَّنتْ لديك كردة فِعل فقط لا غير!




كما أظن أنَّ مِن أسباب ذلك أيضًا: ما تبثُّه وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي مِن مُغريات ومظاهر خادعة، كان لها تأثيرٌ سلبيٌّ على نظرتك تجاه أبناء بلدك، ألستِ معي في ذلك؟




تبقى مسألةُ ذلك الخاطب الذي تَقَدَّم لك وأنت بهذه الحالة، وتسألين: ما العمل؟!




أقول: إن هناك معيارينِ أسسهما لنا الشرعُ لنتعامَل بهما حين اختيار الزوج، وأخبَرنا بها نبينا صلوات الله وسلامه عليه، وهما (الدينُ والخلُق)، فإنْ وجدتِ أنَّ ذلك المتقدِّم تتوفَّر فيه الصفتان فلا تتردَّدي في القَبول، ولا يعني ذلك أن تُجبري نفسك على ذلك، حتى وإن كنتِ كارهةً، أو كان هناك شيءٌ مِن النفور، وإنما هي نصيحة لك بألا تستسلمي لمشاعر الرفض بلا سبب، ولك أن تجلسي معه بعد العقد عليه (وليس الخطبة)؛ لتتعرفي عليه عن قُربٍ لتزولَ تلك الوحشة، ويمكن إقناع أهلك بذلك عن طريق بعض الأقارب مُراعاةً لحالتك النفسية، أو عن طريق الحديث المباشر لوالديك، ومحاولة تفهيهما ضرورة الأمر وحاجتك إليه.




وكما ذكرت لك بشرط أن يكونَ ذلك بعد العقدِ؛ حيث يُصبح زوجًا، بحيث يُمكنك الجلوس معه والحديث إليه.




وإن كان ذلك أمرًا مستحيلًا، فلك أن تُحادثيه بالهاتف محادثةً رسميةً بحضور أحد أفراد العائلة، وذلك حذرًا مِن الوقوع في المحذور.




أختي، الرجلُ لا يُقاس بشكله أو مَظهره، وإنما بدينه وخُلُقِه، والرجلُ الخَلوقُ هو الذي تحتاجه المرأةُ حقًّا؛ حيث إنه يحنو عليها، ويكون لها عونًا وسندًا بعد الله حين تَضيق بها الحال ويصبر عليها حين تحتاج هي لذلك، فيكون لها زوجًا ووالدًا وأخًا.




لا تتعجَّلي في الحكم، وتعامَلي مع الموقف بحكمةٍ وعقلانيةٍ، وقبل ذلك كله استعيني بربك في صلاح حالك وفي اختياره لك وفي الرضا بأقدارِه.




أعانك الله وهداك سبيل الرشاد، وشرَح صدرك، ويَسَّرَ أمرك، إنه سميعٌ قريب مجيبٌ






تربية الأطفال بعد الطلاق

$
0
0
تربية الأطفال بعد الطلاق


أ. سحر عبدالقادر اللبان


السؤال

ملخص السؤال:
رجل طلق زوجته ولديه طفلة عمرها 5 سنوات، ويخشى على مستقبل ابنته من سوء تربية أمها لها، ولا يدري ماذا يفعل!

تفاصيل السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا شابٌّ طلقتُ زوجتي، ولديَّ منها طفلة عمرها ٥ سنوات ونصف، وآلتْ حضانة هذه الطفلة لأمها بموجب حكم المحكمة، وبسبب المشاكل التي بيني وبين طليقتي وأهلها حُرمْتُ من زيارة ابنتي ورؤيتها لمدة ٤ سنوات، والآن حصلتُ على حكمٍ بزيارتها، والحمدُ لله على كل حالٍ.


عند زيارة ابنتي تأتي معي برُفقة بنات أختي - وهن في نفس عمرها - فآخذها إلى محلات الألعاب، وأذهب بها إلى الأسواق لتشتري ما تُريد، لكن المشكلة أنني ألاحظ على طفلتي بعض التصرفات العدوانية والعصبية والخَوف مني ومِن والدتي.


ويقلقني على طفلتي أيضًا الحالة النفسية السيئة التي تكون بها، وملابسها الرثة التي ترتديها، وتأتأتها في الكلام، وأنها لا تعرف أي شيء مِن الآداب، لا آداب الكلام، ولا آداب الطعام، ولا آداب النوم!


أيضًا صارتْ ألفاظ ابنتي بذيئة جدًّا، وسلوكها صار عدوانيًّا، فتضرب هذا، وتكسر هذا، وتتلفَّظ على هذا، بل ولا تقبل مني أو من والدتي الألعاب والهدايا، أو حتى ترضى بالاحتضان والتقبيل!


تكلمتْ أختي مع الطِّفلة فأخبرتها الطفلة أن أمَّها تَضربها وتُعنِّفها وتُعاقبها ببعض العقوبات التي هي أشبه بالجزاء العسكري، وتخوِّفها بالحَرامي وبالأعداء الذين سيَخطفونها، وأخبرتها أن أمها تقول لها: لا تذهبي مع والدك؛ فهو يكرهك ولا يُحبُّك، وهو شرير، ودائمًا يضرب الأطفال ويُعذِّبهم، وكذلك جدَّتك لا تقتربي منها، وتحذرها أمها أن تأخذ منا أي شيء، بل وصل الأمر بابنتي إلى أنها حين أمسك يدَها أو أقترب منها تنفِر مني، وكذلك تفعل مع أمي، وعندما أعطيها الألعاب والهدايا لا تأخذها مني ولا مِن والدتي، وتقول لأختي: إن أخذت شيئًا ستضربني أمي وتعاقبني!


تحدثت مع خال طفلتي فأنكر ما قالته البنتُ جملةً وتفصيلًا، ثم رجع عن كلامه وقال: إن أمها تضربها وتُعاقبها، وصارت نفسيتها مُتعبة، وصارت عصبية تتعصَّب على أتفه الأشياء!


أخشى على مستقبل طفلتي ونفسيتها، ورغم أنني ضد فكرة حضانتي لطفلتي؛ لاعتقادي أن أفضل مكان للطفل هو حضن أمه، ورغم أنني متزوِّج ولديَّ ابن، إلا أنني أستطيع بل أتمنَّى حضانتها والقيام على رعايتها وتربيتها تربية سليمة، بعيدًا عن التعنيف والضرب والتخويف؛ لما له من آثار سيئة، ولكنَّ أمها ترفض أن تُسلِّمني حضانة الطفلة، وأن تَتنازل عن حضانتها.


أشعر بضياع ابنتي، ولا أَعرِف ماذا أفعل!

الجواب

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرحِّب بك أخي في قسم استشارات شبكة الألوكة، وبعدُ:
فأسأل الله العظيم أن يحفظ لك ابنتك مِن كلِّ سوء، وأن يُجنِّبها الضياع النفسي، فكما يقول المثل: "الآباء يأكلون الحصرَم"، والأبناء يضرسون، لا ذنب لهذه الصغيرة في اختلافك مع والدتها، فجنِّبوها ما استطعتم ذلك.


أخي الكريم، قلتَ: إنك بقيتَ أربع سنوات من حياة ابنتك ذات السنوات الخمس لا تراها، وبعيدًا كليًّا عنها، وهي مع والدتها وأهلها، ثم دخلتَ حياتَها، فكيف تُريدها في يوم أو يومين أن تُعاملَك كأبٍ؟ مهما اشتريتَ لها مِن ألعاب، فأنت بالنسبة لها غريب، لكن هذا لن يَدوم، إن أنت اعتمدت لقاءها أسبوعيًّا، فهي مع الوقت ستَعتاد عليك وتُحبُّك، وتُصبح لها أبًا وهي لك ابنة، هذا إن سلمنا أن أمها ساعدتك في هذا الأمر؛ تجنيبًا لابنتِها من الضَّياع النفسيِّ، فالأم الطبيعية التي تُريد لابنتها حياةً طبيعية سليمة، حتى لو كان هناك طلاق ومَشاكل تعمد إلى تَجنيب ابنتها كل هذا، ولا تَذكر أباها أمامها إلا بكلِّ خير، وكذلك الأب طبعًا، أما لو كانت الأم - كما تقول - ليست بالوعي الكافي، ولا يُهمُّها صحة ابنتها النفسية، وأنها تعمد إلى تخويفها منك، وتُحاول تشويه صورتك أمامها، فهذا سيكون أصعب عليك في كسب ثقة البنت في هذا السن، ولكن عندما تَكبُر وتَفهم يُمكن أن تتغيَّر هذه الصورة.


أخي الكريم، حاول توسيط مَن تَحترمه طليقتُك وتقبَل رأيه ونصيحته بتغيير معاملتها لابنتها، وتجنيب البنت كل ما يُؤدِّي إلى اهتزاز صورتك عندها، ناهيك عن ضربها أو تخويفها، أو عدم تربيتها تربية سليمة، فإن فشلَت الوساطات وبقيَت المعاملة كما هي، وكان باستطاعتك توفير جوٍّ أفضل للبنت إن كان معك أو مع زوجتك، أو في رعاية والدتك، فعليكَ بالمحكمة، اطلبها وبيِّن الأسباب، وأنك تسعى لما هو أفضل لابنتك.



أخي الكريم، أكثِر مِن الدعاء لله تعالى أن ييسِّر لابنتك الخير، وأن يحفظها من كل سوء، والتمس ساعات الإجابة، التي منها الثلث الأخير من الليل.


والله الموفِّق


والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته






خطيبي بخيل فكيف أتعامل معه ؟

$
0
0
خطيبي بخيل فكيف أتعامل معه ؟


أ. أسماء حما






السؤال



ملخص السؤال:

فتاة مخطوبة، تشكو من بخل خطيبَها الذي يريد الاعتماد على مالها بعد الزواج، وتسأل: هل أستمر معه أو لا؟



تفاصيل السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا فتاة عمري 26 عامًا، تقدم شابٌّ لخطبتي، ولم يكنْ ميسورًا ماديًّا، فوافقتُ لعل الله يُوسِّع علينا بعد ذلك.




أخبرني أنني سأسكن في غرفة واحدة، فحاولتُ مساعدته ووقفتُ معه، وأعطيتُه جزءًا من مالٍ كنتُ ادَّخَرْتُه مِن عملي لشراء أثاث البيت، لكن وجدته اعتاد مساعدتي له، وبدأ يطلب مني أموالًا باستمرار، فهددته بالانفصال إذا طلب مني مالًا مرة أخرى، وبالفعل لم يكرر الطلب مرة أخرى!




أشعر أنه بخيل بصورةٍ مزعجة، فهو لا يأخذني لمطعم مثلًا للأكل فيه، وأقصى ما نأكلُه الخبز والجبن! وإذا سألتُه عن سبب تضييقِه هذا يقول: أدَّخِر المال لشراء منزلٍ!




هو يَعملُ عملَين ويُجَهِّز للزواج، وأنا مُتخوِّفة مِن هذا البُخل، خاصة أنه أخبَرَني بأنه سيتوقف عن العمل الثاني بعد زواجنا؛ لأنني سوف أُساعده في مصروف المنزل.




فما رأيكم: هل أستمر معه أو أفسخ الخطبة؟!


الجواب



السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الأخت الفاضلة، نُرحِّب بك في شبكة الألوكة، وأسأل الله أن يبارك لك وعليك.

يعتبر البخلُ مِن نواقص النفس الإنسانية وآفاتها، وهو من الصفات الذميمة المكروهة، فالبخيلُ له سماتٌ وصفاتٌ يُعرَف بها بين الناس، فهو يُحب المال حبًّا كبيرًا، وإذا ذُكرتْ أمامه سيرة إنفاق المال توتَّر لذلك، وتلعثَم لسانه، كما أن صفة البُخل تظهر عادةً بين مَن يمتلكون المال مِن الأغنياء؛ ذلك بأن الفقير لا يتوافر عنده المال الذي هو مظنة البخل.




ومن ثَم أقترح عليك أن تجلسي مع خطيبك جلسة حوار، وأن تتفقَا على النقاط الأساسية الآتية:

عمل المرأة مِن حقها، وهذا رأي الشرع، وهي إنْ أحبَّت المساهمة في مصروف البيت فهذا اختيارُها الشخصي، ولا تُجبَر عليه.




الرجلُ هو المسؤولُ عن الإنفاق على البيت، وبناءً عليه يجب أن يعملَ ليُؤَمِّنَ حاجة زوجته وعياله.




إذا كان يَدَّخِر لشراء بيت فعلًا، فعليه أن يكمل في العمل الثاني، لا أن يَتقاعَد وينتظرَ مَعونة زوجته.




هل هو كريم على نفسه مثلًا، يرتدي الجميل من الثياب؟ هل هو بخيل في عواطفه أو كريم؟




البخيل قد يكون بخيلًا في العاطفة والكلمة وأدق التفاصيل الصغيرة، فهناك من نعتقد أنها كريمة، لكنها تبذر مالها وتُبعثره على أشياء تافهةٍ، وتقضي عمرها على ذات الحال لا تتطور أبدًا.




لا أستطيع أن أحكمَ لك ببخله أو عدمه، فربما الرجل حريص جدًّا أن يبني لكما حياة كريمة، وهو يَدَّخِر كل قرش يأتيه حتى يجمعَ حاجته لشراء البيت بأسرع وقت.





المرأةُ الصالحة تُقَدِّر وَضْعَ زوجها، ولا تُكَلِّفه فوق طاقته، وتقبل اليسير لتُعمر البيت الكبير.




خُذي رأي أهلك فقد تستفيدين مِن خبرتهم ورأيهم، واستخيري الله، واسأليه تعالى أن يختارَ لك الخير مِن حيث لا تحتسبين.




وأسأل الله لك الخير والرشاد






علام البكاء؟!!

$
0
0
علام البكاء؟!!


د. خاطر الشافعي







على مدار الساعة يُغادر الحياة من يغادر، وقليلٌ من يُبادر!

هذا مَن كان بيننا بجاهه وعزِّه، صار محمولًا على الأعناق، وقليلٌ من يتذكر؛ ﴿ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴾ [القيامة: 30]!

عن البراء بن عازب، قال: كنا مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذ أبصَر بجماعة فقال: علامَ اجتمع هؤلاء؟ قيل: على قبرٍ يحفرونه؟ قال: ففزِع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فذهَب مسرعًا حتى انتهى إلى القبر، فبكى حتى بلَّ الثَّرى من دموعه، ثم أقبَل علينا فقال: ((أي إخواني، لمثلِ هذا فأعدوا؟))؛ أخرجه ابن ماجه، 4195، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أكثروا ذِكْرَ هاذم اللذات))؛ الترمذي وحسنه.


لنتأمل الحديث، ولنتخيل المشهد، ولنخجل!

هل أحسنَّا الاستعداد؟! ولماذا يغلِبُ علينا البكاءُ عند فِراق الأحباب؟!

أنبكيهم أم نبكي أنفسنا؟!

كان بالبصرة عابدٌ حضرته الوفاة، فجلس أهله يبكون حوله، فقال لهم: أجلِسوني، فأجلَسوه، فأقبَل عليهم وقال لأبيه:يا أبتِ ما الذي أبكاكَ؟


قال: يا بني، ذكرتُ فَقْدَك وانفرادي بعدك.
فالتفتَ إلى أمه، وقال: يا أماه، ما الذي أبكاكِ؟


قالت:لتجرُّعي مرارةَ ثكلك.
فالتفت إلى الزوجة، وقال: ما الذي أبكاكِ؟


قالت:لفَقْد بِرِّك وحاجتي لغيرك.
فالتفت إلى أولاده، وقال: ما الذي أبكاكم؟
قالوا: لذلِّ اليُتم والهوان من بعدك.


فعند ذلك نظَر إليهم وبكى.


فقالوا له: ما يبكيكَ أنت؟
قال: أبكي لأني رأيتُ كلاًّ منكم يبكي لنفسه لا لي.


أمَا فيكم مَن بكى لطول سفري؟


أما فيكم مَن بكى لقلَّة زادي؟


أما فيكم مَن بكى لمضجعي في التراب؟


أما فيكم من بكى لِما ألقاه من سوء الحساب؟


أما فيكم من بكى لموقفي بين يدي ربِّ الأرباب؟ثم سقط على وجهِه فحرَّكوه، فإذا هو ميت.


ولما سئل - صلى الله عليه وسلم - عن أحزم الناس؟قال: ((أكثرهم ذكرًا للموت، وأكثرهم استعدادًا للموت، أولئك الأكياس، ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة))؛الطبراني، وحسنه المنذري.


نعم، إنه شرفُ الدنيا، وكرامة الآخرة.

مرَّ إبراهيمُ بن أدهم بسوق البصرة يومًا فالتف الناس حوله، وقالوا: يا أبا إسحاق، يرحمك الله، ما لنا ندعو اللهَ فلا يستجاب لنا؟فقال إبراهيم:لأنكم أمَتُّم قلوبَكم بعشرة أشياء: عرَفتم الله فلم تؤدُّوا حقوقه، وزعمتم حبَّ رسوله ولم تعمَلوا بسنته، وقرأتمالقرآن ولم تعمَلوا به، وأكلتم نِعَم الله ولم تؤدُّوا شكرها، وقلتم: إن الشيطان لكم عدوٌّ ولم تخالفوه، وقلتم: إن الجنة حق ولم تعمَلوا لها، وقلتم: إن النار حقٌّ ولم تهربوا منها، وقلتم:إن الموت حق ولم تستعدوا له، ودفنتم موتاكم ولم تعتبروا بهم، وانتبهتم مِننومكم فانشغلتم بعيوب الناس ونسيتم عيوبكم.


رهيبٌ هو مشهدُ الموت!

أتخيَّلُني وقد وُضعتُ في التراب، وتخلَّى عني الأهل والأحباب، وقد أكلني الدود، وصِرْتُ أسيرًا للّحود، وقد نساني كل الوجود، فأبكي بشدة، لم يعُدْ أحدٌ يتذكرني، الكل يتذكر فقط نفسه, يزداد بكائي، وأنا رهين أعمالي، فقد أدركتُ أخيرًا.. لماذا نبكي عند موت عزيز؟! أدركت أننا نبكي أنفسنا!


اللَّهم ارزقنا قبل الموت توبةً نصوحًا.






قراءة مختصرة لكتاب طريقنا للقلوب لفيصل بن عبده الحاشدي (2)

$
0
0
قراءة مختصرة لكتاب طريقنا للقلوب لفيصل بن عبده الحاشدي (2)
حسن عبدالحي






ذكرنا في "المقال السابق" عشْر وسائل في طريقِنا للقلوب، ونستَكمِل حديثَنا - بعَوْنِ الله تعالى - فمن الوسائل أيضًا:



11- حُسْنُ الاستِماع:



إذا أردتَ أن تَسلُك أقصر طريقٍ إلى قلوب الناس، فأحسن الاستَماع لحديثهم إذا حدَّثوك، وذلك بالأذنين وطرف العين، وحضور القلب وإشراقة الوجه، فإنَّ إقبالَك على محدِّثِك دليلٌ على ارتِياحك لِمُجالَستِه، وتقديرك لشخصيته، وشغفك بحديثه، وعُظَماء الرجال يقضون بهذا الحقِّ.







قال ابن عباس - رضِي الله عنه -: "لِجَليسي عليَّ ثلاث: أن أرميه بطرفي إذا أقبل، وأن أُوَسِّع له في المجلس إذا جلس، وأن أُصغِي إليه إذا تحدَّث"؛ "عيون الأخبار".







وترْك الإصغاء للمُتحدِّث سُوء أدب، وقلَّة مروءة؛ لما في ذلك من استِجلاب الضغينة، واحتِقار المتحدِّث، قال معاذ بن سعد الأعور: "كنت جالسًا عند عَطاء بن أبي رباح، فحدَّث رجلٌ بحديث، فعرض رجلٌ من القوم في حديثه، قال: فغضب - أي: عطاء - وقال: ما هذه الطِّباع؟ إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به، فأُرِيه كأنِّي لا أحسن منه شيئًا!"؛ "روضة العقلاء".







12- لُزُوم السَّكِينة والوَقار:



الوَقار يُكسِب صاحبَه المَهابَةَ وحبَّ الناس، والوَقُور يُدرِك ما لا يُدرِكه غيره من معاني العزِّ والشرف والرِّئاسة.







والرسول - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ لأمَّته التحلِّي بخُلق السكينة والوَقار حتى وهم في طريقهم إلى الصلاة؛ فعن أبي هريرة - رضِي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سمعتم الإقامة، فامشوا إلى الصلاة، وعليكم بالسَّكِينة والوَقار))؛ رواه البخاري ومسلم.







وقال بشير بن كعب - رحمه الله تعالى -: "مكتوبٌ في الحكمة: إن من الحياء وقارًا، وإن من الحياء سكينة"؛ رواه البخاري.







13- لُزُوم المُرُوءة:



المُرُوءة تبعث على إجلال صاحبها، وامتِلاء القلب بمحبَّته، والأعينِ بمهابته، وهي جِماع الطرق الموصلة إلى القلوب؛ لاشتِمالها على مَكارِم الأخلاق، ومَحاسِن الآداب، وكمال الرُّجولة.







والمُرُوءة: "قوَّة للنفس، مبدأٌ لصدور الأفعال الجميلة عنها، المُستَتْبِعَة للمدح شرعًا وعقلاً وعرفًا"؛ "التعريفات"؛ للجرجاني.







قِيل لسفيان بن عُيَيْنَةَ: قد استنبطت من القرآن كلَّ شيء، فأين المُرُوءة؟ فقال: في قوله -تعالى-: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199].









إِنِّي لَتُطْرِبُنِي الْخِلاَلُ كَرِيمَةً

طَرَبَ الْغَرِيبِ بِأَوْبَةٍ وَتَلاَقِي


وَتَهُزُّنِي ذِكْرَى الْمُرُوءَةِ وَالنَّدَى

بَيْنَ الشَّمَائِلِ هِزَّةَ الْمُشْتَاقِ









14- المزاح المعتَدِل:



المِزاح سُنَّة مشروعة، وخلق يُحِبُّه كثيرٌ من الناس؛ بل ومن أعظم وسائِل التحبُّب إلى الناس، وهو الطريق السهل إلى قلوبهم، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُداعِب أصحابه، فيُدخِل عليهم السرورَ والبهجة؛ قال أبو هريرة: "قالوا: يا رسول الله، إنك تُداعِبنا! قال: ((إني لأداعبكم ولا أقول إلا حَقًّا))؛ (رواه أحمد والترمذي، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").







وعن أنسٍ - رضِي الله عنه -: "أنَّ رجلاً من البادية كان اسمه زاهر بن حرام، وكان يُهدِي للنبي - صلى الله عليه وسلم - الهديَّة من البادية، فيُجهِّزه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يَخرُج، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن زاهرًا باديتنا، ونحن حاضروه))؛ قال أنس: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّه، وكان - زاهر - دَمِيمًا، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا وهو يبيع متاعه، فاحتَضَنَه من خلفه وهو لا يُبصِره، فقال: أرسِلْنِي، مَن هذا؟ فالتَفَتَ، فعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل لا يألو ما ألزق ظهره بصدر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين عرَفَه، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَن يشتَرِي العبد؟))، فقال: يا رسول الله، إذًا تجدني كاسِدًا، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((لكن عند الله أنت غالٍ))؛ (رواه أحمد والترمذي، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").







ومن المزاح مزاح مَذموم، وهو الذي يُثِير العداوة، ويُذهِب البهاء، ويَقطَع الصداقة، ويُجرِّئ الدَّنِيء، ويحقد الشريف، فهذا تركه مُتَحتِّم على العاقل.







15- تجنُّب الغضب:



الذي يملك نفسه عند الغضب تجاه انفعالاته العَجُولة، تعلو مكانته في القلوب، ويَحظَى بحبِّ الناس له، ويَسعد بالقرب منهم، ومَن كان طبعه الغضب لا ينبل، ولا يَنال العلا، ولا يَحظى بحبِّ الناس له؛ بل لا يُطِيق بعض الناس النظر إليه، فضلاً عن محبَّتهم له.







وقد عدَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشديد مَن يملك نفسه عند الغضب، فقال: ((ليس الشديد بالصُّرَعة؛ وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب))؛ (رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه).







وقال رجلٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أوصِنِي، قال: ((لا تغضب))، فرَدَّد مِرارًا، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تغضب))؛ (رواه البخاري من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه).







وعلاج الغضب الاستِعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والسكوت، والجلوس أو الاضطجاع، مع استِحضار أجر الكاظِمين الغيظ والعافين عن الناس.







16- العدل:



الرجل الذي يَعدِل في حكمه بين أهله وأولاده ومَن له عليهم ولاية، تُحِبُّه قلوب الناس؛ بل ويَصدُرون عن رأيه عند النِّزاع، ويَرجِعون إليه عند الاختِلاف، فيحصل بعدله شفاء القلوب، وطمأنينة النفوس، وإن سخط عليه المُبطِل اليومَ، رضِي عنه غدًا.







وتمام العدل حين يكون مع الصديق والعدوِّ؛ كما قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8].







17- الرِّفق بالناس:



جُبِل الناس على حبِّ مَن يَرفق بهم، كما جُبِلوا على النُّفور من الفظِّ الغليظ، حتى ولو كان من خير عباد الله؛ قال الله -تعالى-: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159].







ويقول - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الرفق ما كان في شيءٍ إلا زانَه، وما نُزِع من شيءٍ إلا شانَه))؛ (رواه مسلم)، ويقول كذلك - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفق في الأمر كله))؛ (رواه البخاري ومسلم).







ودعا - صلى الله عليه وسلم - لِمَن رفق بأمَّته، كما دعا على مَن شقَّ عليهم، فقال: ((اللهم مَن ولِي من أمر أمَّتِي شيئًا فشَقَّ عليهم، فاشقق عليه، ومَن ولِي من أمر أمَّتي شيئًا فرفق بهم، فارفق به))؛ (مسلم من حديث عائشة - رضِي الله عنها).







18- تجنُّب الجِدال:



الجِدال من الآفات القاتِلة التي تشحن الصدور بالحقد، والقلوب بالكراهية لبعضها، والتعسُّف في ردِّ الحقِّ، وبخس الناس حقوقهم، والسرور بالغلبة والقهر.







والجدل المذموم هو الذي لا يهدف إلى الوصول للحقِّ والأخذ به؛ وإنما يصدر عن حبِّ التشفِّي والرغبة في اللَّدَد والخصومة، وهو الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: ((ما ضَلَّ قومٌ بعد هُدًى كانوا عليه إلا أُوتُوا الجدل))، ثم تلا - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: ﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ [الزخرف: 58]؛ (أخرجه الترمذي وابن ماجه، وصحَّحه الألباني في "صحيح الترمذي").







19- الألفة:



وهي الاجتِماع على الحبِّ في الله، وائتِلاف القلوب على طاعة الله، وخُلُوصها من نَوازِع الجاهليَّة، وهي من أعظم نِعَمِ الله -تعالى- على العِباد بعد نعمة الهدى والإيمان؛ قال الله - سبحانه -: ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [آل عمران: 103].







والألفة صفة من صفات أهل الإيمان؛ فعن ابن عمر - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المؤمنون هيِّنون ليِّنون، كالجَمَل الأَنِف؛ إنْ قِيدَ انقاد، وإذا أُنِيخ على صخرة استَناخ))؛ (رواه البيهقي في "الشُّعَب"، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع").







وعن جابر بن عبدالله - رضِي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المؤمن يَألَف ويُؤلَف، ولا خير فيمَن لا يَألَف ولا يُؤلَف))؛ (رواه الطبراني في "الكبير"، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").







20- المُدارَاة:



المُدارَاة من أعظَم وسائل كسْب القلوب المُتنافِرَة، وإطفاء العداوة، وقَلْبها إلى صَداقة ومحبَّة، وهي ترجع إلى القول الحسن، وحسن اللقاء، وتجنُّب ما يشعر بنُفور أو غضب في حقِّ مَن في خُلقه ودينه شيءٌ.







عن عائشة - رضِي الله عنها - أنَّ رجلاً استَأذَن على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ائذنوا له، فلبِئس ابن العشير، أو بئس رجل العشيرة))، فلمَّا دخل عليه ألان له القول، قالت عائشة - رضِي الله عنها -: فقلت: يا رسول الله، قلتَ الذي قلتَ، ثم ألنت له القول؟ قال: ((يا عائشة، إنَّ شرَّ الناس مَنزِلة عند الله يوم القيامة مَن ودعه - أي: ترَكَه - الناس اتِّقاء فحشه))؛ (البخاري ومسلم).







قال العتابي: "مُدارَاة الناس سياسة لطيفة، لا يستَغنِي عنها ملك ولا سُوقَة، يجتَلِبون بها المنافع، ويَدفَعُون بها المضارَّ، فمَن كَثُرَتْ مُدارَاته، كان في ذمَّة الحمد والسلامة"؛ "عين الأدب والسياسة".







21- السماحة:



وهي التسهيل والتيسير على الناس في المُعامَلَة، والرجل السَّمْح يَرتاح له الناس، وتُحِبُّه قلوبهم، وقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل السَّمْحِ، فقال: ((رَحِمَ الله رجلاً سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى))؛ رواه البخاري.







ومن صُوَرِ السماحة: إنظار المَدِين المُعسر أو العفو عنه، وعدم التضييق على الناس ووضعهم في حرَج، وكان الصحابي الجليل أبو اليسر "له على رجل قرض، فلمَّا ذهب لاستِيفاء حقِّه، اختَبَأ الغريم في داره؛ لئلاَّ يلقى أبا اليسر، وهو لا يملك السداد، فلمَّا عَلِمَ أبو اليسر أنَّ صاحِبَه يتخفَّى منه حَياءً لعدم تمكُّنه من أداء ما عليه، أتى بصحيفة القرض فمَحاه، وقال: إن وجدت قضاء فاقضِني، وإلا فأنت في حِلٍّ"؛ رواه مسلم.







وبالجملة: مَن أراد سلوك الطريق السهل إلى قلوب الناس، فليكن سمحًا في معاملته وفي دعوته، وفي حواره ومناظرته، سمحًا إذا ظُلِم أو جُهِل عليه، فالسَّماحة من الإيمان؛ لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((السماحة من الإيمان))؛ (رواه الطبراني في "المكارم" وأبو يعلى، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").







22- سلامة الصدر:



من نِعَمِ الله على العبد المسلم أن يجعل صدره سليمًا من الشحناء والبغضاء، نقيًّا من الغلِّ والحسد، صافيًا من الغدر والخيانة، مُعافًى من الضغينة والحقد، ولا يطوي في قلبه إلا المحبَّة والإشفاق على إخوانه المسلمين، فبذلك يعلو قدره، وتشرف منزلته في القلوب، وهذه مَنْقَبَةٌ وخلَّة كريمة، لا يَقْوَى عليها إلا ذوو الصدق والإخلاص، ولا يَصِلُ إلى أعتابها إلا مَن جاهَد نفسَه حقَّ الجهاد، ومتى كان المرء سليم الصدر، عذر الناس من أنفسهم، والتَمَس الأعذار لأغلاطهم، وأحسن إليهم ما أساؤوا إليه، فهو يهتَدِي بقول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 34، 35].







وسلامة الصدر هي الصفة البارزة في حياة الصحابة، والخلَّة العظيمة التي رفعَتْ من أقدارهم؛ فقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أحد الصحابة ثلاثًا إلى أنه من أهل الجنة، فذهب إليه عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - وبات عنده ثلاثَ ليالٍ؛ كي ينظر إلى العمل الذي بلَغ به هذه المنزلة، فلم يره يفعل كبير عمل، فعجب عبدالله من حاله، وسأله: "ما الذي بلغ بك ما قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيتَ، غير أنِّي لا أجد في نفسي لأحدٍ من المسلمين غشًّا، ولا أحسد أحدًا على خيرٍ أعطاه الله إيَّاه، فقال عبدالله: هذا الذي بلغ بك، وهي التي لا أطيق"؛ رواه أحمد بسند صحيح.








وللحديث بقيَّة - إن شاء الله تعالى.





من أسباب محبة الله تعالى عبدا ( التسمية بعبدالله وعبدالرحمن والحارث )

$
0
0
من أسباب محبة الله تعالى عبدا ( التسمية بعبدالله وعبدالرحمن والحارث )
محمد محمود صقر



فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى الله عبدالله وَعبدالرحمن"[1]، وعن أنسٍ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحب الأسماء إلى الله عبدالله وعبدالرحمن والحارث"[2].قال المناوي - رحمه الله تعالى -:"أحب الأسماء" وفي رواية لمسلم "إن أحب أسمائكم"، ومنه يعلم أن المراد أسماء الآدميين، "إلى الله"؛ أي: أحب ما يسمى به العبد إليه، "عبدالله وعبدالرحمن"؛ لأنه لم يقع في القرآن عبد إلى اسم من أسمائه تعالى غيرهما، ولأنهما أصول الأسماء الحسنى من حيث المعنى؛ فكان كل منهما يشتمل على الكل، ولأنهما لم يسمِّ اللهَ بهما أحدٌ غيره.. وذكر المصنف أن اسم عبدالله أشرف من عبدالرحمن، فإنه تعالى ذكر الأول في حق الأنبياء والثاني في حق المؤمنين، وأن التسمي بعبدالرحمن في حق الأمة أولى انتهى، وما ذكره لا يصفو عن كدر؛ فقد قال بعض العلماء الشافعية: التسمي بعبدالله أفضل مطلقا؛ لأن البداءة به هنا؛ فتقديمه على غيره يؤذن بمزيد الاهتمام، وذهب إلى ذلك صاحب المطامح من المالكية؛ فجزم بأن عبدالله أفضل، وعلله بأن اسم الله هو قطب الأسماء، وهو العلم الذي يرجع إليه جميع الأسماء ولا يرجع هو إلى شيء، فلا اشتراك في التسمية به البتة، والرحمة قد يتصف بها الخلق؛ فعبدالله أخص في النسبة من عبدالرحمن؛ فالتسمي به أفضل وأحب إلى الله مطلقا، وزعم بعضهم أن هذه أحبية مخصوصة؛ لأنهم كانوا يسمون عبد الدار وعبد العزى؛ فكأنه قيل لهم أحب الأسماء المضافة إلى العبودية هذان لا مطلقا؛ لأن أحبها إليه محمد وأحمد إذ لا يختار لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إلا الأفضل، رد بأن المفضول قد يؤثر لحكمة، وهي هنا الإيماء إلى حيازته مقام الحمد، وموافقته للحميد من أسمائه تعالى، على أن من أسمائه أيضا عبدالله كما في سورة الجن، وإنما سمى ابنه إبراهيم لبيان جواز التسمي بأسماء الأنبياء، وإحياء لاسم أبيه إبراهيم ومحبة فيه، وطلبا لاستعمال اسمه، وتكرره على لسانه، وإعلانا لشرف الخليل، وتذكيرا للأمة بمقامه الجليل، ولذلك ذهب بعضهم إلى أن أفضل الأسماء بعد ذينك إبراهيم؛ لكن قال ابن سبع: أفضلها بعدهما محمد وأحمد ثم إبراهيم[3].وقال النووي - رحمه الله تعالى -: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أحب الأسماء إلى الله تعالى عبدالله وعبدالرحمن" ليس بمانع من التسمية بغيرهما[4].خلاصة هذا السبب:أن هذه الأسماء، خاصة الأوَّلَيْن منها، هي أحب الأسماء قاطبةً إلى الله تعالى، وإن لم يكن حاملها محبوبًا إليه تعالى، وإن كان غير حاملها أحب إليه تعالى من حاملها.

[1] أخرجه مسلم في كِتَاب الْآدَابِ، بَاب/ النَّهْيِ عَنِ التَّكَنِّي بِأَبِي الْقَاسِمِ (ح3982) بإسناد "فيه عبد الله بن عمر العدوي وهو ضعيف الحديث"، لكن أخرجه الدارمي في "سننه" (2/204 ح2612) من حديث "مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا عَبَيْدُ الله بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -" الحديث بإسناد متصل رجاله ثقات على شرط مسلم. وأخرجه أيضا أبو داود (ح4949)، والترمذي (2/136)، وابن ماجه (ح3828)، وأحمد (2/24)، والحاكم (4/274)، والبغوي (12/333)، والبيهقي (9/306) وغيرهم الجميع من حديث ابن عمر، لكن بعضها لا يخلو من مقال.
[2] [حسن] أخرجه ابن عدي في "الكامل" (1/282) من طريق إسماعيل بن مسلم المكي عن الحسن وقتادة عن أنس به. قال ابن عدي: "وأحاديثه (أي إسماعيل) غير محفوظة عن أهل الحجاز والبصرة والكوفة إلا أنه ممن يكتب حديثه"، وله شاهد من حديث أبي هريرة مرفوعا "أحب الأسماء إلى الله ما سمي به له، والحارث وهمام، وأكذب الأسماء خالد ومالك، وأبغض الأسماء إلى الله ما سمي به لغيره، ويقظة ومرة والحباب وذلك اسم الشيطان" أخرجه ابن عدي (1/232) من طريق إبراهيم بن الفضل عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة... فذكره، وهو ضعيف، وآفته إبراهيم هذا. قال ابن عدي: "وهذا الحديث مع أحاديث سواها عن إبراهيم بن الفضل عن المقبري عن أبي هريرة مما لم أذكره فكل ذلك غير محفوظ، ولم أر في أحاديثه أفحش منها.. ومع ضعفه يكتب حديثه وعندي أنه لا يجوز الاحتجاج بحديثه"، وشاهد آخر من حديث عبد الله بن جراد وله صحبة -كما قال البخاري وابن حبان- أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (3/1/35)، وقال: "في إسناده نظر". وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (رقم 904) وفي "صحيح الجامع" (رقم 162).

[3] انظر: "فيض القدير" (ج1 ص218-219).
[4] انظر: "شرح النووي على مسلم" (ج14 ص125-126).




إلى الإيمان والاستقامة أيها الحائرون

$
0
0
إلى الإيمان والاستقامة أيها الحائرون


محمد حافظ سليمان






يقول الله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [سورة العصر 1 - 3].



لقد جاء الإسلام والناس في جاهليَّتهم قد ضلُّوا الطريق إلى الله؛ فعبَدوا الصَّنمَ والوَثنَ، واتخذ كلٌّ إلهه هواه، ويومئذ كانوا يَتفاخرون بالأنساب، ويتقاتلون لأتفه الأسباب؛ فكانت حياتهم مُضطرِبة.



لهذا كان الله لطيفًا بعباده، رحيمًا بخلقه؛ إذ بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويُهذِّبهم ويُرقِّيهم ويَهديهم إلى صراط مستقيم، ويُبدِّل ظلامَ حياتهم نورًا، وذُلَّهم عزًّا، فكانوا رحماء بينهم؛ قال الله تعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15، 16]، ﴿ فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ [الفتح: 27، 28].



لقد أرسل الله خاتَم رسلِه - صلى الله عليه وسلم - للناس كافة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وجعله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيرًا، وكان بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا، فنصرهم الله نصرًا مُبينًا، وصنع برسالته أمة القرآن التي قال عنها: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110].



لقد صار من بين رُعاة الإبل والغنم قادة الشعوب والأمم، فنشروا الإسلام بالقدوة وبالدعوة التي تُخاطِب العقل والرُّوح بالمنطق والوضوح، وترشدهم إلى الحق بالقرآن والبرهان، فالله - جل جلاله - يقول للناس في شتى العصور والدهور: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [لقمان: 33].



هذه سبيل ربك في دعوته الهادئة الهادفة بالبرهان الذي لا يُرهِق العقلَ في الاستدلال على سلامة عقيدة التوحيد من التعقيد، ولهذا دخل الناس في دين الله أفرادًا وأفواجًا.



الإسلام نعمة كبرى:

ولقد مَنَّ الله على العالم كله بنعمة الإيمان بالله وبالاستقامة في الحياة، فرفع بالإيمان شأنهم، وأعلى بالاستقامة قدْرَهم؛ ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11]؛ لأن الإيمان والاستقامة قاعدة البُنيان وأساس العمران؛ ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ﴾ [هود: 112]، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾ [مريم: 96].



والإسلام هو السبيل إلى حياة طيبة كريمة آمنة، مطمئنة في الدنيا، والجزاء الأوفى في الآخرة؛ ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].



وقد كرَّم الله بني آدم فخاطَبهم بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾، وأرسل محمدًا إلى الناس كافة، وجعل رسالته خالدة باقية إلى يوم الدين، تُرشِد إلى الحقِّ وإلى صراط مستقيم، وجعل القرآن محفوظًا ثابتًا لا يتبدَّل ولا يتغيَّر؛ ﴿ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ﴾ [يونس: 64]، فهو نورٌ يُضيء قلوب المؤمنين، يُخاطِب العقل والروح بالمنطق والوضوح، وسيظل إلى يوم الدين يهدي الحائرين، ويُقوِّم أخلاق المعوجِّين، وعنوانه: ﴿ الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [إبراهيم: 1].



فكان القرآن - ولا يزال - قادرًا على هِداية البشر للتي هي أقوم، قادرًا على أن يُصلِح بالهم وحالهم، ويُقدِّم الأمن لهم والسلام والاطمئنان والاستقرار، فهو يقول للناس:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾ [النساء: 174، 175].



إنه قادر على تطهير المجتمعات من رجس الذنوب والطمع والبغي وظُلم الإنسان لأخيه الإنسان، واتباع خُطوات الشيطان؛ لأن الله يقول للناس في سورة الحجرات:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13].



والناس في شتى العصور والدهور خلَقهم الله من نفْس واحدة، وخَلَق منها زوجها، وقال لهم: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].



وما أحوج الناسَ اليوم إلى القُدوة المُثلى والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة! ولنقرأ قول الله - تبارك وتعالى -:

﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾ [النساء: 66 - 68].



الإيمان والأخلاق:

الإيمان الصادق لا بد أن تَقترِن به مكارم الأخلاق التي هي ثمرة التوحيد الخالص، الذي يجعل المؤمن موصولاً بخالقه يعبده مُخلصًا له الدين وحده، لا شريك له:

﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ﴾ [الزمر: 11 - 14].



والإخلاص سرٌّ بين العبد وربه يجعله من: ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 18].



أما علاقة الإنسان بنفسه أو بغيره فتُنظّمها شريعة الإسلام، الذي أكمل الله به المِلَّة، وأتمَّ به النعمة وارتضاه ربنا لنا دينًا، فهو الدين الذي يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، فهو ينهى النفس عن الهوى، وعن كل نقيصة وخسيسة ورذيلة؛ والله يقول: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40، 41].



ورسالة الإسلام غايتها تربية النفوس على الفضائل وتنقيتها من رجس الرذائل؛ لتتَّجِه إلى الصفاء والسخاء وحبِّ الخير للغير، وبذْل الإحسان للوالدين وصِلة الأرحام، وتجنُّب الموبقات والمُحرَّمات، واستثمار الأوقات؛ بتأدية الواجبات، والصدق في القول والفعل مع الله ومع الناس ومع النفس، وإسداء النصح بأمانة وذمة.



وعلاقة الإنسان بنفسه تكون بأداء العبادات المُخلَصة والطاعات، وكل عملٍ دنيوي صالح نظيف نقيّ يصير عبادة لله، إذا كان صادرًا من نفس مطمئنة واثِقة بربها الذي يعلم ما تكسب كل نفس، والله يقول:

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 7 - 10].



احفظ الله يحفظك:

عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كنتُ خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا فقال: ((يا غلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تِجده تُجاهك، وإذا سألت فلتسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتَبه الله عليك، جَفَّت الأقلام وطُويت الصحف)).



اتقِ الله حيثما كنت:

إذا حفظ الناس حدود الله وشريعته حفِظهم الله؛ ﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ﴾ [يوسف: 64]، لمَن راقَبَه واتَّقاه أينما حَلَّ وأتى، وجد وسلك سبيل المؤمنين، واستقام على الصراط المستقيم، وأسلَم وجهه لله رب العالمين وهو مُحسِن - فقد صار بهذا في رعاية الله، فإذا سأل فلا يسأل أحدًا إلا الله ولا يستعين بأحد سواه، فإذا سأله أعطاه، وإذا استعان به أعانه؛ فهو المعطي المانع الضار النافع، والله بيده ملكوت كل شيء، والسموات مَطويَّات بيمينه؛ ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 54].



استجابة الدعاء:

والله يتقبَّل من المتقين الدعاء؛ لأنه يقول: ﴿ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: 60].



ويقول - جل شأنه -: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].



﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 2، 3].



إنه مَن يَتَّقِ الله يكون بمنجاة من كل شر؛ لأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون؛ وذلك لأن الله لا يُخلِف وعده، فهو وليُّهم في الدنيا والآخرة؛ ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [يونس: 62].



وفي الحديث الشريف الذي رواه الترمذي: ((لو أنكم كنتُم توكَّلون على الله حق توكُّله، لرُزقتم كما يُرزَق الطير، تغدو خِماصًا وتروح بِطانًا))، وللشاردين من ربهم المنحرفين عن صراطه المستقيم، نقول لهم: إن أردتم أن تتَّسِع أرزاقكم، وتستقيم أعمالكم، فتوبوا إلى الله توبة نصوحًا؛ لأن التوبة واجبة فورًا على العاصي، فمن أخَّرها تَكرَّرت ذنوبه وساء عمله، والتقوى تنفع الذرية وتُعمِّر الديار؛ ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96].



ومن الخير أن يُراقِب المرء ربه سرًّا وعلانية قبل فوات الأوان، والله - جل شأنه - يقول:

﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [النساء: 17، 18].



والله يَختصُّ برحمته من يشاء: فإذا أحبَّ الله عبده كان سَمْعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصِر به، ومن كان هذا شأنَه، لم يكن رجلاً عاديًّا، بل تراه يعبد ربه كأنه يراه، فينظر بنور الله الذي يَشِعُّ ضياؤه في قلوب الأبرار الأطهار العارفين بالله، المواظبين على بِرِّه وطاعته، البعيدين كل البُعد عن مُحرَّماته ومُخالَفة أمره.





المؤمنون رحماء بينهم:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11].



وبمقتضى الأخوَّة الإسلامية يجب على المسلمين أجمعين التعاون والتآزر، لا التهاجر والتشاجر.



والإسلام يقول للمسلمين: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا))، والمؤمنون أمتهم واحدة، وإن اختلفت الألوان والأوطان والله يقول: ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 92].



ورسول الله محمد - صلوات الله وسلامه عليه - بعثه ربُّه رحمة للعالمين؛ فهو خاتم رسل الله، وهو صاحب الخُلُق العظيم، وهو القائل: ((إنما بُعِثت لأتمم مكارم الأخلاق))، وبها يَطهُر اللسان وظاهر المسلم وباطنه، فلا يكون خدّاعًا ولا خائنًا، ولا سارقًا ولا قاتلاً، يرتكب المحرمات ويَقترِف السيئات بالعدوان على الأعراض والأموال؛ ((لأن المسلم مَن سلِم المسلمون من لسانه ويده، فكل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعِرْضه)).



والتقوى مِنهاج حياة:

كثير من الناس يجهلون أن التقوى تنفع المتقين في حياتهم وبعد مماتهم، وتنفع ذريَّاتهم، فهم يجهلون ذلك، ويجهلون أنهم يجهلون، فسارَعوا إلى اتباع أهوائهم وطاعة أنفسهم، وهي التي لا تستحِق الطاعة؛ لأنها أمَّارة بالسوء، فبدَّلوا نعمة الله كفرًا (بها)، وأحلُّوا قومهم دار البوار، وكان ينبغي عليهم أن يتذكَّروا نِعمَ الله عليهم وآلاءه التي بين أيديهم، وهي كثيرة ووفيرة لا تُعَد ولا تُحصى؛ لأن الله أحلَّ لهم الطيباتِ، وحرَّم عليهم الخبائث، وهو الذي يقول:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾ [المائدة: 87، 88].



والإسلام جعل الطيبات من الرزق للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصةً يوم القيامة، ثم هو يقول في كتابه الكريم مبيِّنًا، أنه قد كتب على نفسه الرحمة؛ لأنه هو التواب الرحيم يقول:﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 54].




وإلى عَبَدةِ الدنيا أقول:



طُبِعتْ على كَدَرٍ وأنت تُريدها

صفوًا من الأقذاء والأكدارِ


ومُكلّف الأيام ضد طِباعها

مُتطلِّب في الماء جذوةَ نارِ





وختامًا أذكِّر بقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13].





( متقاعدا ) أم ( مت قاعدا )

$
0
0
( متقاعدا ) أم ( مت قاعدا )


نانسي خلف






للمرة الأولى في ذاكرة الإنسان دائمًا مكانة خاصة، ولكن لأول مرة في التقاعد أنفاس غاصَّة، تغص على فراغ منتظر، وأيام عمل ونشاط تُحتضر.



وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال:

لِمَ نستعجلُ الأمور، ونتوقع أن يسرق منا التقاعد سعادة فتزول؟




لعلها ثقافة تسري في مجتمعاتنا؛ لتبعث الخوفَ والقلق في نفوس آنَ لها أن تطمئنَّ، بعدما جاهدت بصحتها ووقتها وعقولها، وتفانت في أعمالها لتثمر على أغصان عمرها مؤسسة وأسرة وفكرة، فأضاءت للمجتمع دروبَ الخير، وسَقَت من ينابيعها النفعَ للغير.



وإلى من قال للمتقاعد: مُتْ قاعدًا أتوجه بالسؤال له وأقول:

هل يُعقَل لمن حفِظ العمرَ والأوقات بعمل نافع وفكر لامع، وسعَى بجد متواصل - أن يقف سعيُه وتنفَد همَّتُه عند أبواب التقاعد؟



وإذا لم يفرِّطْ في شباب عمره، أيُفرِّط فيما بقي من هذا العمر؟

لا لن يفرط، بل سيستقبله بكل عزمٍ وبدون تقصير ولا تبذير, فما التقاعدُ إلا انعطاف في المسير، ولن يأسرَني التقاعد عن متابعة المسير.



فها هو في الستين، وهو ينطلق كعادته في كل يوم وهو نشيط النفس، مكتمل العزم، ويغتنمُ الوقت من طلوع الشمس بعدما خطَّط لهذه المرحلة، فكأي مرحلة جديدة في حياته كذلك هو التقاعد مرحلة جديدة، وفرصة ثمينة للتنظيم والتخطيط، بوضع البدائل على كل المستويات، سواء على مستوى البديل المالي؛ كمشروع خاص يؤمِّن له المؤونة الكافية، وتنويع النشاطات، فتزدهر الحياة الاجتماعية والأعمال التطوعية.



فكما انتفع في شبابه الماضي، فلن يرضى إلا أن ينتفعَ بعمره الحاضر، ولن يقبل إلا أن يسجِّلَ لنفسه خلودًا في تقاعده.



وبعد أن وضَع الخطوط، ولم يترُكِ الأمرَ للحظوظ، آن له أن يتذوَّقَ نكهة جديدة في حياته بالتقاعد عن الحسرة والضجر.



أيها القراء الأكارم، التقاعدُ عملة ذات وجهين، وجهُها الأول صورةٌ لمناوشات زوجية متوالية ومتكاثرة، وموت صامت بين جدران المنزل، وهذا الوجه للعُملة يتعامل به صاحب الهدف الهابط والنفس المتأففة، فينفقها في مجالسِه؛ لينقُل عدوى القلقِ والخوف من مرحلة التقاعد.



أما من علَتْ همَّتُه، وارتقى هدفه، فيرى الوجهَ الثاني لعملة التقاعد؛ فهو الفرصة الذهبية في عمره؛ ليسكب أجملَ الأوقات في طاعة، ويتاجر بأربحِ بضاعة.




فالتقاعد الحقيقي ليس بعمر وعدد سنين، ولكن بعمر تقاعدت فيه النفسُ عن طاعة رب العالمين!



ويقولون: انتهت خدمته؛ فالخدمة لم تنتهِ بعدُ، والإرسال متواصل، ولكن هذه المرة إرسال من رب الأرض والسموات.



يبثُّ معلنًا عن استكمال الرحلة الإيمانية في زيادة الطاعات لرب البرية، رحلة يملؤها الأنسُ بالله، فما بين أُنس زمان بالأعمال، وأنس آنٍ برب الأكوان، لا أعتقد أن للاختيار مكانًا.





محضر اجتماع .. استثنائي!

$
0
0
محضر اجتماع .. استثنائي!


هنادي الشيخ نجيب






هل استطعتم - قرَّاءنا الكرام، خلال الأيام الماضية - إحصاء عدد الاجتماعات التي عُقدت من أجل إيجاد حلول للجرائم المرتكبة في حق الإنسانية، ومحاولة اتخاذ قرارات توقف إزهاق الأرواح التي استباحتها قوى الشرق والغرب؟!



والعجيب أنَّ تلك الاجتماعات - على كثرتها - لم تستطِعْ أن تأخذ قرارًا واحدًا ينتصر لمظلوم، أو يشفي صدرَ مكلوم!



ليست اجتماعات القوى العظمى والأقطاب العالمية هي فقط المقصودة في حديثنا اليوم، ولا اللقاءات ذات المضمون السياسي البحت؛ فعجز الاجتماعات - بكل أنواعها: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، وعلى كل المستويات: الدولية والإقليمية والمحلية - بات ظاهرةً تستدعي التوقُّف عندها، والنظر في أسباب فشلها!!



أتعلمون - إخوتي أخواتي - ربما علينا أن نجتمع لنبحث فيما وراء هذه السمة السلبية التي لازمت اجتماعات هذا القرن، ترى: ماذا سيكون عنوان اجتماعنا؟! أين ومتى سيعقد؟ من هم المدعوون؟!؟ كيف سنرسل الدعوات؟ من سيفتتح الكلام؟ كيف سنجلس؛ حول طاولة مستديرة أم مستطيلة؟ كم لجنةً ستنبثق عن الاجتماع؟



أسئلة كثيرة من هذا النوع ستعصف في أذهاننا، راجعوها! ألم تلاحظوا شيئًا؟! إنها جميعًا أسئلة شكلية! نعم شكلية! برأيكم: هل وضَعْنا أصبعنا على الإشكالية؟!



تعالوا - قراءنا الأعزاء - لنروي قصة بعنوان (محضر اجتماع)؛ لعلها ترشدنا في متاهات هذه القضية!



في يوم من الأيام، تداعت حشرات الغابة لاجتماع طارئ وضروري، وبعد أن اكتمل نصابها، بدأت بالنظر فيما أصابها، فحيوانات المنطقة طَغَتْ وبَغَت، وبلغت من الإجرام ما بلغت، ولم يعُدِ السكوت يجدي نفعًا؛ فالاعتداء عليهم يدفعهم إلى الحراك دفعًا!



بدأ الاجتماع بحضور الذبابة والبعوضة، والدبور والنحلة، والقملة والنملة، والبرغوث والعنكبوت، والصرصور والخنفساء... وفي كلمة الافتتاحية التي اشتملت على التحية، ثار الخلاف عندما بدأت النملة تتكلم بصوتها الرقيق قائلة: (أيها الإخوة)، لقد غضبت القملة واقترحت أن يُفتتح اللقاء بكلمة: (أيها الزملاء)، بينما انتفض الدبور صائحًا: (يجب أن نكون واقعيين وعقلاء؛ فكلمة أيتها الحشرات الكريمة حتمًا هي الأنسب)... اعترض العنكبوت وطلَب حذفها، فتصدت له الذبابة بقولها: (الأفضل أن نقول: أيها الناس)... صرخ الصرصور: (نحن لسنا ناسًا)، وهدَّد بالانسحاب! طلبت البعوضة الكلام فقالت: (هناك كلمة ستكون محلَّ إجماع منا، وهي كلمة: أيها الهوام)...، اتفق الجميع على أنها غير مفهومة!



بادرت النحلة قائلة: (لماذا لا نوفِّر على أنفسنا الوقت والمشاكل، ونبدأ بكلمة أيها الحاضرون؟).



استحسن الجمعُ العبارة، لكن الذبابة طلبت أن تكون أشمل، فأضافت إليها (وأيها الغائبون أيضًا)، وفيما كان المجتمعون يتجادلون، ولَمَّا يصلوا إلى رأي جامع بعدُ، تناهى إلى أسماعهم ضجيج الحيوانات المفترسة، فاقترحت الخنفساء في وجل، بأن يتم الاتفاق على عجل، قالت والغصّة تخنقها: (لم لا نخاطبُ المعتدين مباشرة فنناديهم: أيها البغاة الظالمون)! وافقت الحشرات أخيرًا على كلمة الافتتاح، وبإجماع، ثم أضافوا إليها توصيات الاجتماع، وكلفوا المتحدث الرسمي بنشرها بواسطة المذياع:

(أيها البغاة الظالمون، إذا حشرج الجوع في بطونكم، ولمحتم بعض إخواننا في طريقكم، فلا بأس وقتها عليكم، تعالَوا وخذوهم، وبالهنا والشفا تلذذوا بهم وكلوهم..)!



بالله عليكم، ألا تذكركم هذه القصة بمحاضر كثير من الاجتماعات واللجان، والهيئات والمؤتمرات، وغيرها من التشكيلات التي لم تُغْنِ مِن جوع، ولم تُوَاسِ مفجوعًا!



إن النتائج المتوقعة، والتوصيات الفاقعة، لكل الهيئات المجتمعة والمتفرقة هي: الشجب والتنديد، وفي أحسن الحالات: التهديد "الإعلامي"، والوعيد "الميكروفوني"!، وإذا اشتد المخاض، وعمَّ الأسى وفاض، فقد يلد الاجتماعُ ولادة قيصرية، وينجب لنا "لجنة دولية أو محلية"!



هذه هي حالنا، وتلك هي إنجازاتنا!



"لجنة متابعة" للملفات الأمنية، وهي لم تتابع يومًا ملفًّا واحدًا، ولم تتوصَلْ إلى معاقبة الجناة والمتسيِّبين!

"لجنة مسارعة" للمواضيع الاجتماعية، وهي لم تُنجِزْ بندًا من عشرات التوصيات التي أقرتها بنفسِها!

"هيئة ممانعة" على المستوى السياسي، وهي تمانع الحقَّ، وتدافع عن الباطل، وتستدرج الجميع نحو المواجهة!

و"لجنة مرافعة" للشؤون الحقوقية؛ حيث تتم تبرئة المجرم، ويُحبَس المظلوم على ذمة القضايا الملفَّقة والمدبلجة!



كل ذلك يذكِّرنا بصاحب المبدأ الذي قال لزوجته: اسكتي، وقال لابنه: انكتم، لا تنبسا بكلمة، صوتُكما يجعلني مشوشَ التفكير، أريد أن أكتب مقالًا عن حرية التعبير!



في ختام هذه الجولة، لا يسعني إلا أن أدعوكم لعقد اجتماع... نعم، لا تستغربوا، اجتماع تفرضه ظروف المرحلة؛ لنستيقظ من حمى الأشكال، ونخطوَ الخطوة الأولى لحل الإشكال، على جدول أعمالنا مهمة وحيدة، مضمونة التحقيق وإن طال الطريق، الكل بالاجتماع مَعْنيٌّ، ولكلٍّ فيه دور جوهري، لا مكان فيه للمظاهر والأشكال؛ لأن المعتبر: القلوب والأعمال، المهم ألا ننشغل باللجان والفروع، ونركز على الموضوع، ومن باب الحرص على حشد المناصرين والأتباع، هاكم توصية الاجتماع:


﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [النور: 55، 56].



نلتقي - بإذن الله - في ساحاتِ التَّطبيق.





خلاصة أسباب تحصيل محبة الله تعالى عباده (1)

$
0
0



خلاصة أسباب تحصيل محبة الله تعالى عباده (1)



محمد محمود صقر





مما سبق - من مقالاتٍ - نرى أن أسباب تحصيل محبته تعالى عبادَه تتلخص فيما يلي:
السبب الأول: الإيمان بالله تعالى وحده، والصلاة على وقتها، وخلاصته:
1- كما أن الكفر والشرك أول موانع حصول محبة الله للعباد؛ فإن الإيمان بالله تعالى وحده أول أسباب تحيل محبته تعالى للعباد، وأنه أحب الأعمال إليه سبحانه، وذلك لأنه لا تصح الأعمال إلا بعد الإيمان؛ لحديث عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - قلت: يا رسول الله! ابن جدعان كان في الجاهلية يصلُ الرحم ويطعم المسكينَ فهل ذاك نافِعُه؟ قال: "لا ينفعُه، إنَّه لم يقل يومًا ربِّ اغفِرْ لِي خطيئتي يوم الدِّين"[1]، وغيره من النصوص في ذلك.

2- أن الصلاة على وقتها أحب الأعمال إلى الله تعالى، وأول أسباب تحصيل محبَّته سبحانه؛ لدخولها في الإيمان دخولا أوليًّا لا ينفك عنه.

3- مما يلحق بهذا صلاة الجماعة في المساجد؛ خاصة المسجد الجامع، وبخاصة صلاتي الفجر والعشاء.

4- قول "آمين" بعد انتهاء الإمام من تلاوة الفاتحة.

5- وكذلك كثرة السجود لله تعالى، وسجود الشكر؛ خاصة عند نزول مصيبة.

6- قيام الليل، وهو أحب إليه سبحانه إذا كان مديمًا على ذلك، أو كان صاحب زوجٍ جميلةٍ وفرُش وثيرة، أو في سفر فهجع الرفاق وقام هو فصلى، أو كان ذلك ديدنَه وشأنَه في السراء والضراء والحضر والسفر، لا يتخلف ليلة عن القيام بين يدي ربه سبحانه يناجيه في جوف الليل الآخر. ثم صلاةُ الليل في السفَر؛ فإنها وإن كانت نافلةً في موطن رخصة دليل همة العابد وارتباط العبدِ بربه، ثم إنها عملُ خيرٍ ينبغي للمواظب عليه ألا يهجره في حضَرٍ ولا سفر، وإن أحبّ الأعمال إلى الله أدومُها، كما سيأتي في آخر هذا الباب.

السبب الثاني: صلة الأرحام وأخصها بر الوالدين، وخلاصته:
أن صلة الرحم من أسباب تحصيل محبته - سبحانه وتعالى - للواصل بظاهر نص الحديث، وأن قطعها من موانع حصول تلك المحبة بمفهوم مخالفة هذا الحديث، وما أوردنا من آياتٍ وأحاديث، وإن لم تصرح بلفظ المحبة، أدلةٌ صالحةٌ على ذلك.

وأن بر الوالدين أول المأمورات بعد توحيد الله تعالى، أو على الأكثر بعده وبعد الصلاة والزكاة.. قال سبحانه: ﴿ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً ﴾ [مريم: 31-32]، وأن عُقُوقَهما أول المحذورات بعد الشرك، وأن هذا البر هو السبب الثالث من أسباب تحصيل محبة الله - عز وجل - بعد الإيمان والصلاة على وقتها؛ وذلك بظاهر نص حديث عبد الله بن مسعود -رضى الله عنه- المتفق عليه، الذي جمع فيه بين الصلاة على وقتها وبر الوالدين والجهاد، ثم إذا أضفنا حيث أحب الأعمال إيمان بالله يكون الإيمان بالله سابقا على الثلاثة التي تضمنها حديث ابن مسعود شرعا وعقلا؛ لأن ثلاثتها تأتي بعد الإيمان شرعا وعقلا.

فإن قلت: جعل الحديث الآخر صلة الرحم بعد الإيمان بالله مباشرة ولم يفصل بينهما لا بالصلاة ولا بغيرها، قلت: معلوم من جملة الشرع أن الصلاة التي جاءت قبل بر الوالدين في حديث ابن مسعود لا بد أن تسبق صلة الرحم لأنها سبقت بر الوالدين وهما أول ذوي الأرحام وأمسهم بالمسلم، عدا أدلة أخرى كثيرة.

السبب الثالث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله تعالى، وخلاصته:
أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم أبواب الخير في الدنيا والآخرة.. في خاصة نفس المسلم وعامة الأمة المسلمة، وأنه لذلك أحد أخطر أسباب تحصيل محبة الله عبادَه، وأن مرتبته في الأسباب هي الثالثة مع الجهاد في سبيل الله تعالى، وبعد الإيمان وصلة الأرحام، وأنه مناط التمكين للأمة في الأرض.

وأما الجهاد في سبيل الله فالواجب فيه يلي:
اتباع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد.

الإنفاق في الجهاد، وهو الجهاد بالمال.

عدم الضعف والاستكانة والهوان أثناء اللقاء.

الصبرُ في الجهاد وعليه فإنه من أعظم الصبر.

دعاء الله سبحانه في الجهاد بالثبات والنصرة والمغفرة.

التوكل على الله في أثناء الجهاد، وقبل الخروج إليه.

الذلة على المؤمنين والعزة على الكافرين في الجهاد.

عدم خشية لوم اللائمين حين يلومونه على الجهاد.

الثبات في الجهاد.

القتال ملتزمًا صفّ المؤمنين.

الغزو بالفعل، أو على الأقلّ تحديث النفس به لمن لا يستطيعه.

لُقيا العدوِّ مجاهدًا لا مرائيًا المسلمين ولا مواليًا للكافرين.

الاحتساب في الخروج أنّه في سبيل الله وقطْعُ العلائق بغير ذلك.

مقاتلة أعداء الله بالفعل بلا خوفٍ أو رهبة.

الشهادة في سبيل الله.

أمرُ الحاكم الجائر بالمعروف ونهيُه عن المنكر فإنه أفضل الجهاد.

الكَلْمُ في سبيل الله حتى يقطر الدم وينـزف.

وبذا يكون الجهاد جامعًا لكل أسباب محبة اللهَ تعالى عبيدَه، من اتباعٍ وإحسانٍ وتقوى وإقساطٍ وتطهُّر وتوَّابيّة وصبرٍ وتوكُّل وذلّة على المؤمنين وعزة على الكافرين.. إلى آخر الأسباب كما سيأتي؛ إلا أن مرتبته في الأسباب الثالث بعد الصلاة لوقتها وبر الولدين؛ لظاهر نص الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن مسعود -رضى الله عنه.

وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزءٌ لا يتجزَّأ من الجهادِ، وأمرَ ونهي السلطان الجائر الظالم أفضل الجهاد؛ لأنه أفضل الأمر والنهي.

السبب الرابع: اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم- وحبه وحب آل بيته، وخلاصته:
وجوب اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم- في الدين كله، وأن ذلك أول أسباب محبة الله تعالى المسلمين؛ بل لا يصح سبب إلا من بعد هذا الاتباع المصحوب بمحبة صاحب الرسالة - صلى الله عليه وسلم.

محبة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فاتباعه ليس اتباعَ مكرَه وكاره بل اتباع محب ومقبل.

محبة أهل بيته - رضوان الله عليهم جميعًا - وخاصة من وردت فيهم الأحاديث ممن سبق ذكرهم، وكذلك جميع الصحابة الأخيار، بل جميع أولياء الله تعالى.

السبب الخامس: الإخلاص في العبادة (أداء الفرائض، التقرب إلى الله بالنوافل، إتيان العزائم في مواطنها والرخص في مواطنها، ترك المعاصي)، وخلاصته:
أداء الفرائض التي افترضها الله تعالى على عباده باتباعٍ وإخلاص، وما يبدو على مؤدي الفرائض من آثارها؛ كأثر السجود في الوجه، وأثر الصوم على البدن، والنفقة على المال، والله أعلم.

التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض، وتحرّي ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه أفضل من تطوَّع.

الأخذ بالعزائم في مواطنها؛ فإنه مِن تقوى الله - عز وجل -، والأخذ بالرخص في مواطنها؛ فإنه من قبول إحسان المنعم سبحانه.

ترك المعاصي.

صلاة الليل في السفر؛ فإنها وإن كانت نافلةً في موطن رخصة دليلُ همة العابد وارتباط العبد بربه، ثم إنها عمل خير ينبغي للمواظب عليه ألا يهجره في حضر ولا سفر.

السبب السادس: التخلق بمكارم الأخلاق (الحياء والستر، الرفق، التقى مع الغنى مع الخفاء، البر والتقى والخفاء، الحلم والأناة، التحديث بالنعم وإبداؤها، الجمال، السماحة في البيع والشراء والقضاء)، وخلاصته:
التخلق بمكارم الأخلاق كلها؛ فإنها رسالة الإسلام وتزكية النفوس.

الرفق، وهو أول الأخلاق المحبوبة لله تعالى.

الحلم والأناة، مع الحذر من الجبن، ومن التباس المفاهيم في هذا الزمن المملوء عيًّا.

التماس الأعذار.

العفو والصفح.

التحديث بالنعم وإبداؤها؛ فإن ذلك من الشكر.

التجمل، بالنظافة والطهارة، وبلا خيلاء أو إسراف.

السماحة في البيع والشراء والقضاء، مع عدم ترك الحق لمن يطغيه ذلك.

الحنيفية السمحة.

الغيرة في الريبة.

الخيلاء عند القتال وفي الصدقة.

الغنى إذا اجتمع بالتقى مع الخفاء.

البر والتقى والخفاء.

الحياء والستر.

السبب السابع: الإحسان، وخلاصته:
الإنفاق في وجوه الخير، وعلى رأسها الإنفاق في سبيل الله (الجهاد).

كظم الغيظ.

العفو عند المقدرة.

اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، في القتال والعمل والقول جميعًا.

عدم الضعف والتمارض.

عدم الذلة والهوان.

الصبر، وخاصة في الجهاد.

الاستغفار من الصغائر والكبائر، والاستغفار حتى ولو ظنَّ الإنسانُ بنفسه الخير.

الدعاء وسؤال الله الثبات والنصرة.

المداومة على التقوى والإيمان والعمل الصالح.

السبب الثامن: التقوى، وخلاصته:
التقوى بمعنى أداء الأمانة والوفاء بالعهد.

التقوى بمعنى الوفاء بعهد المعاهدين من المشركين.

الوفاء للأوفياء من دون الغادرين؛ لأن الله تعالى لا يمنع أخذ الحق لكن يمنع العدوان.

السبب التاسع: الإقساط، وخلاصته:
في القضاء يجب الإقساط بين أهل الكتاب إن تحاكموا إلينا؛ وإلى المسلمين من باب أولى.

في الحرب يجب الإقساط بين الطائفتين المسلمتين المقتتلتين، لا نميل مع أيِّهما بل نحق الحق ونبطل الباطل، وننصر الطائفة المظلومة على الطائفة الظالمة.

في السلم يجب الإقساط إلى غير المقاتلين من المشركين وبرهم.

الاعتدال في الدين والدنيا جميعًا؛ فمجرد العدل فضيلة ومكرمة يحبها الله تعالى ويحب صاحبها؛ لكن بشرط أن يكون مؤمنا مسلما.

السبب العاشر: التطهر، وخلاصته:
التطهر من الأحداث الصغار ومن الكبائر على حد سواء، وسائر النجاسات.


التطهر من الأخلاق الذميمة والشركيات والبدع.. إلخ.



[1] أخرجه مسلم في الإيمان، باب/ الدليل على أن من مات على الكفر لا ينفعه عمل (ح214) من حديث عائشة رضي الله عنها.





لماذا لا تحجب الحكومة المواقع الإباحية؟

$
0
0
لماذا لا تحجب الحكومة المواقع الإباحية؟


الهيثم زعفان




كوارث انحلالية تصدمنا كل يوم، وتسمع معها أنين الآباء بأن المواقع الإلكترونية الإباحية على الإنترنت هي أحد أهم أسباب انتشار الفساد الخلقي في المجتمع.

أعلم جيداً أن المشكلة معقدة، ومواجهتها أشد تعقيداً، لكن غياب سنة الدفع كلية يجعل السرطان يتمكن من جسد المجتمع، وتكون النهاية حتماً هي الهلاك.

لن أتحدث اليوم عن دور الآباء في مراقبة الأبناء وتربيتهم على الخوف من الله، ومراقبته سبحانه أثناء التعامل مع الإنترنت، ولكنني سأتحدث عن دور الحكومة في معالجة هذه المشكلة وهذا البلاء، فالحكومة يقع عليها العبء الأكبر في منع وصول هذه المواد المهلكة إلى أجهزة المستقبلين لخدمة الإنترنت.

ولذا كان السؤال لماذا لم تمتثل الحكومة لحكم القضاء الشامخ وتتخذ التدابير التكنولوجية والتشريعية التي من شأنها التخفيف من طوفان المواد الانحلالية على الإنترنت.

ففي يوم الثلاثاء الموافق 12-5-2009 أصدرت محكمة القضاء الإداري برئاسة نائب رئيس مجلس الدولة ورئيس محكمة القضاء الإداري، وعضوية نائبي رئيس مجلس الدولة، حكماً ضد وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، ورئيس الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات بصفة كل منهما الحكومية.

يلزم الحكم الحكومة بوقف تنفيذ القرار السلبي بامتناع الجهة الإدارية عن حجب المواقع الإباحية على شبكة المعلومات الدولية (الانترنت)، وما يترتب علي ذلك من آثار، وقالت المحكمة الموقرة في حكمها التاريخي: (وبحسبان أن الحريات والحقوق العامة التي كفلها الدستور ليست حريات وحقوقاً مطلقة- وإنما مقيدة بما نص عليه الدستور المصري في المواد 9،10، 12 من "الحفاظ علي الطابع الأصيل للأسرة التي هي أساس المجتمع والتي قوامها الدين والأخلاق والوطنية، والتزام الدولة والمجتمع بمراعاة المستوى الرفيع للتربية الدينية والقيم الخلقية والوطنية، والتراث التاريخي للشعب والحقائق العلمية والآداب العامة"، وأنه توجد بشبكة المعلومات الدولية (الانترنت) ثمة مواقع إباحية تنفث سمومها في نشر الرذيلة بين طوائف المجتمع المصري بالصوت والصورة، بما يهدم كل العقائد الدينية الراسخة والقيم الأخلاقية والآداب العامة، ولا ريب أن الإبقاء على هذه المواقع وعدم حجبها يهدر القيم المشار إليها، ولا يمكن أن يدور ذلك في فلك حرية التعبير، لأن ما يعرض على هذه المواقع يعد من أبرز صور الإخلال بالمصالح العليا للدولة والأمن القومي الاجتماعي، ومن ثم كان لزاماً علي الجهة الإدارية اتخاذ كافة الوسائل اللازمة لحجب هذه المواقع عن المواطن المصري، ويضحى القرار السلبي المطعون فيه بالامتناع عن ذلك اعتداءً صارخاً على أحكام الدستور والقانون، فضًا عن الدين والأخلاق، عند الفصل في موضوع الدعوى، وعن ركن الاستعجال فإنه متوافر أيضاً في هذا الطلب لما يترتب على الاستمرار في تنفيذ القرار المطعون فيه من نتائج يتعذر تداركها متمثلة في شيوع الفاحشة والفساد الخلقي والإباحية في المجتمع المصري).

لن أكرر السؤال الملح والمحير وهو لماذا لم تنفذ الحكومة هذا الحكم القضائي؟، ولكنني سأتوجه إلى الحكومة بعد تساؤلات عملية وهي:

أولاً: من المعروف وجود شركات متخصصة لتنظيف وحجب المواقع الإباحية من على الراوترات والشبكات المحلية، فإذا كانت تقنية المنع قائمة على المستوى الفرعي، فمن المنطقي توافرها لدى الحكومة وهي المستقبل والموزع الرئيسي لمضمون الإنترنت، ومن ثم يكون المنع الرأسي والمركزي من قبل الحكومة أوقع، وأكثر نفعاً، فلماذا لا تستخدم الحكومة هذا الأسلوب التقني؟.


ثانياً: لماذا لا تستحدث الحكومة جهاز فني تكون مهمته فقط مراقبة المحتوى الانحلالي في شبكة الإنترنت، وإخضاع أي محتوى إباحي جديد للمنع؟.

ثالثاً: من المعلوم وجود أجهزة لرصد ترددات المستخدمين على المواقع الإلكترونية، فلماذا لا يتم إنذار الشبكات الفرعية، والمشتركين بقطع خدمة الإنترنت في حالة التعامل مع المواد الإلكترونية الإباحية؟.

رابعاً: لماذا لا تلزم الحكومة شركات الاتصالات المحمولة، بتحذير المشتركين من إساءة استخدام خدمة الإنترنت سواء عبر الهاتف أو الكمبيوتر المحمول، مع قطع الخدمة عن المشترك المخالف؟.

خامساً: لماذا لا تشرع الحكومة في سن تشريعات جديدة تتضمن أحكاماً رادعة وصريحة ضد كل من يقوم بإنشاء موقع إلكتروني إباحي، أو يقوم بنشر صور ومقاطع مرئية فاضحة على شبكة الإنترنت من داخل مصر، أو يقوم بإرسالها عبر البريد الإلكتروني للآخرين؟.

سادساً: لماذا لا تقوم الحكومة بتنظيم مؤتمر عام يضم خبراء التكنولوجيا، الأمن، التربية، وعلماء الدين، لبحث تلك الأزمة الانحلالية، ووضع أفضل الحلول الجذرية لمواجهتها؟.

وفي الختام فإنني أدعو إلى حملة قومية لتنظيف الإنترنت من المواد الإباحية، تتبناها كافة الوسائل الإعلامية، ويعبأ فيها المجتمع، ويتعاون من أجل المواجهة الحاسمة لهذا الطاعون العصري الجديد، الذي لن يترك أحد إلا وسينهش في "عرضه" إلا من رحم ربي، على أن يقوم في هذه الحملة كل متقاطع مع الإنترنت بتنظيف ما تحت يديه من مواد الإلكترونية انحلالية، فالدولة تفلتر ما يَمر من تحت يديها، ومسئولي الشركات والشبكات الفرعية، يمارسون دورهم في ذلك، وولي الأمر ينظف جهاز الكمبيوتر الموجود في بيته من كافة المواد الانحلالية. ويبقى الإطار مفتوحاً لكل مقترح يفَعِّل الحملة، وينظف الإنترنت من الزنا والشذوذ، والخلاعة والمجون.







شرح نصيحة المعلمي لأهل العلم (2)

$
0
0
شرح نصيحة المعلمي لأهل العلم (2)
بوعلام محمد بجاوي



فرع: الأسباب المانعة من التزام الحق وإيثار الهوى عليه:



وذكر المعلمي جملة من الأسباب التي تدعو إلى إيثار الهوى على الحق بعد أن حصر مظانَّ الهوى في أربعةٍ تبعًا لدرجات الدين:



(1) الكف أو الترك.



(2) الفعل أو العمل.



(3) الاعتراف بالحق.



(4) الاعتقاد للحق والعلم به.







1، 2/ في الفعل والترك:



المشقة في الأول، والشهوة في الآخر.



قال المعلمي:



مخالفة الهوى للحق في الكف: واضحة؛ فإن عامةَ ما نُهِيَ عنه شهواتٌ ومستلذَّات، وقد لا يشتهي الإنسان الشيءَ من ذلك لذاته، ولكنه يشتهيه لعارض[1].



ومخالفة الهوى للحق في العمل: واضحة؛ لِما فيه من الكلفة والمشقة؛ اهـ[2].







3/ في الاعتراف بالحق:



مِن وجوه أربعة:



الوجه الأول: الإقرار بأنه كان - ومَن يعظِّمهم - على الباطل:



يعتقد أنه يعترف على نفسه أنه كان على باطل، وإذا كان مقلدًا يعتقد أنه ينتقص مَن يقلِّدهم، وانتقاصهم انتقاص له[3].







الوجه الثاني: زوال المصالح الدنيوية:



أن يكونَ رأسًا متبوعًا في الباطل الذي يعتقده، ورجوعه عنه إلى الحق يُذهِب عنه تلك المكانة وما يتفرَّع عنها من مصالحَ دنيوية[4]؛ إما لانصراف الناس عنه، أو لأنه يصير في الحق عاميًّا من عامة المسلمين؛ كـ "متكلم" - لا يعرف غيرَ الكلام - يرجع إلى عقيدة أهل السنَّة.







الوجه الثالث: الكِبْر:



يمنع الكِبْرُ الجاهلَ أو العالم المخطئ مِن الإذعان للحجة؛ لأنه يرى أن اعترافه يلزم منه اعتراف بنقصه، وبفضل المبيِّن له عليه، ومن هؤلاء مَن يُذْعن للحق إذا اهتدى إليه بنفسه.



قال المعلمي: يكون الإنسانُ على جَهالة أو باطل، فيجيء آخرُ فيبين له الحجة، فيرى أنه إن اعترف كان معنى ذلك اعترافَه بأنه ناقص، وأن ذلك الرجلَ هو الذي هداه؛ ولهذا ترى مِن المنتسبين إلى العلم مَن لا يشقُّ عليه الاعترافُ بالخطأ إذا كان الحق تبيَّن له ببحثه ونظرِه، ويشق عليه ذلك إذا كان غيرُه هو الذي بيَّن له؛ اهـ[5].







الوجه الرابع: الحسد:



يرى أن في اعترافه على نفسه بالخطأ ولغيره بالحق والصواب تعظيمًا له ورفعًا مِن شأنه عند الناس، ومِن هذا الصنف مَن يخطِّئ غيرَه مِن أهل العلم، ولو بالباطل، يريد الحط من منزلته عند الناس.



قال المعلمي: وذلك إذا كان غيرُه هو الذي بيَّن الحق، فيرى أن اعترافه بذلك الحق يكون اعترافًا لذلك المبيِّن بالفضل والعلم والإصابة، فيعظم ذلك في عيون الناس، ولعله يتبعه كثيرٌ منهم، وإنك لتجد مِن المنتسبين إلى العلم مَن يحرص على تخطئه غيره من العلماء، ولو بالباطل؛ حسدًا منه لهم، ومحاولةً لحط منزلتهم عند الناس؛ اهـ[6].



ويمكن إضافة وجه آخر، وقد يكون مندرجًا تحت الوجه الثاني، "زوال المصالح الدنيوية".







الوجه الخامس: التضييق عليه من أهل الباطل الذي ينوي تركَه والاعترافَ بما يضادُّه:



قال المعلمي في سياق ذكر شبهة، نقتصر منها على مقدمة الشبهة وهي مسلَّمة: لا ريب أن الإنسان ينشأ على دِين واعتقاد ومذهب وآراء يتلقاها مِن مربيه ومعلمه، ويتبع فيها أسلافه وأشياخه الذين تمتلئ مسامعُه بإطرائهم، وتأكيد أن الحق ما هم عليه، وبذمِّ مخالفيهم وثلبهم، وتأكيد أنهم على الضلالة، فيمتلئ قلبه بتعظيم أسلافه وبُغْض مخالفيهم، فيكون رأيُه وهواه متعاضدينِ على اتباع أسلافه، ومخالفة مخالفيهم، ويتأكد ذلك بأنه يرى أنه إن خالف ما نشأ عليه رماه أهلُه وأصحابه بالكفر والضلال، وهجروه وآذَوْه وضيَّقوا عليه عيشته..؛ اهـ[7].







4/ في العلم بالحق والاعتقاد له:



الوجه الأول: المشقة في تحصيل الحق:



لأنه - وسبق في أول الكلام عن طلب الحق - يحتاج إلى: البحث والنظر، وسؤال أهل العلم، وإلى لزوم التقوى طلبًا للتوفيق والهُدى[8].







الوجه الثاني: كراهية العلم والاعتقاد[9] نفسه.



1/ لأن في الاعتراف بالحق - عنده - اعترافًا على نفسه وعلى مَن يعظمهم بالنقص:



كما سبق في الاعتراف؛ فهو يكرَهُ العلم بالحق، واعتقاده لأجل هذا[10].







2/ لاشتمال الحق على الوعيد بالعذاب على الفعل والترك:



فيكره العلم به واعتقاده مطلقًا؛ لتجنُّبِ العذاب.



أو يعتقد وجوده، لكن في ترك الاعتقاد فقط، كما هو قول المرجئة.



أو اعتقد العذاب في المعصية، لكن مع التوسُّع في الشفاعة؛ أي: تحصيل الشفاعة بما يوافق هواه من التوسع في الأكل وسماع الغناء بدعوى الاحتفال بالمولد النبوي، أو غيره من المناسبات.



قال المعلمي: ومِن جهات الهوى أن يتعلق الاعتقاد بعذاب الآخرة، فتجد الإنسان يهوى ألا يكون بعثٌ؛ لئلا يؤخذ بذنوبه، فإن علم أنه لا بد مِن البعث هَوِيَ ألا يكون هناك عذاب، فإن علم أنه لا بد من العذاب هَوِيَ ألا يكون على مثله عذابٌ، كما هو قول المرجئة، فإن علم أن العصاة معذَّبون هَوِيَ التوسُّعَ في الشفاعة، وهكذا؛ اهـ[11].







3/ لمشقة الفعل عليه أو مَن يرجو نفعهم مِن ذوي السلطان والمال والعامة:



كأن يشقَّ عليه "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" فهو يكره وجوبه لأجل ذلك، أو أن يشق على الحاكم أو الناس فعلٌ، فيدفع وجوبه، أو يَهْوَوْا بدعةً فيدفع بدعيَّتَها.



قال المعلمي: ومِن الجهات أنه إذا شق عليه عمل كـ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" هَوِيَ عدم وجوبه، وإذا ابتُلِيَ بشيء يشق عليه أن يتركه كـ: شرب المُسْكِر هَوِيَ عدم حرمته.



وكما يهوى ما يخفِّف عليه، فكذلك يهوى ما يخفِّف على مَن يميل إليه، وما يشتد على من يكرهه، فتجد القاضي والمفتي هذه حالهما.



ومِن المنتسبين إلى العلم مَن يهوى ما يعجب الأغنياء وأهل الدنيا، أو ما يعجب العامة؛ ليكون له جاهٌ عندهم، وتقبِل عليه الدنيا، فما ظهرت بدعة وهَوِيهَا الرؤساء والأغنياء وأتباعهم إلا هَوِيَها وانتصر لها جمع من المنتسبين إلى العلم، ولعل كثيرًا ممن يخالفها إنما الباعث لهم عن مخالفتها هوى آخر وافَق الحق، فأما مَن لا يكون له هوًى إلا إتباع الحق فقليل، ولا سيما في الأزمنة المتأخرة، وهؤلاء القليل يقتصرون على أضعف الإيمان، وهو الإنكار بقلوبهم، والمسارة به فيما بينهم، إلا من شاء الله؛ اهـ[12].







فرع: الأسباب المعِينة على إيثار الحق على الهوى:



كما لإيثار الهوى أسباب، فكذلك لإيثار الحق أسبابه، وقد ذكر المعلمي جملةً من الأسباب المعِينة على إيثار الحق على الهوى[13].







1/ النية: نية إصابة الحق علمًا ثم اعتقادًا ثم امتثالًا:



فمَن كانت نيتُه إصابة الحق، وحرَص على ذلك ليعبُدَ الله وَفْق ما شرع - وفَّقه الله لإصابة الحق، ومن كانت نيته موافقة الحق لهواه فيدَع المحكَم ويتمسك بالمتشابه؛ كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7] - فلن يزيدَه اللهُ إلا ضلالًا.



قال تعالى: ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ﴾ [الرعد: 27].



وقال: ﴿ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ﴾ [الشورى: 13].



وقال: ﴿ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ ﴾[غافر: 13].



وقال: ﴿ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا ﴾ [مريم: 76].



وقال: ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾ [محمد: 17].







وقال: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258].



وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾[البقرة: 264].



وقال: ﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 108].



وقال: ﴿ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴾ [الزمر: 3].



وقال: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾ [غافر: 28].







قال المعلمي: فبيَّن الله - تعالى - لهم في عدة آيات أنه ليس على الرسول إلا البلاغ، وأن الهدايةَ بيدِ الله، وأن ما أوتيَه من الآيات كافٍ لأن يؤمن مَن في قلبه خير، وأن الله لو شاء لهدى الناس جميعًا، لكن حكمته إنما اقتضت أن يهديَ مَن أناب بأن كان يحب الهدى، ويؤثِره على الهوى، فأما مَن كره الحق واستسلم للهوى، فإنما يستحق أن يزيدَه اللهُ تعالى ضلالًا؛ اهـ[14].



وقال: فتلخَّص أن حكمة الحق في الخَلْق اقتضت أن تكون هناك بيناتٌ وشُبهات، وألا تكون البينات قاهرة، ولا الشبهات غالبة، فمَن جرى مع فطرته مِن حب الحق وربَّاها ونمَّاها وآثَر مقتضاها، وتفقد مسالك الهوى إلى نفسه فاحترس منها - لم تزَلْ تتجلى له البينات، وتتضاءل عنده الشُّبهات، حتى يتجلى له الحق يقينًا فيما يطلب فيه اليقين، ورجحانًا فيما يكفي فيه الرجحان، وبذلك يثبُتُ له الهدى، ويستحق الفوز، والحمد والكمال على ما يليق بالمخلوق، ومَن اتبع الهوى وآثر الحياة الدنيا، تبرقعت دونه البينات، واستهوَتْه الشبهات، فذهبت به إلى "حيث ألقت رَحْلها أمُّ قشعم"؛ اهـ[15].







2/ اتباع المحكَم وترك المتشابِه:



وهذا مِن ثمرات الأول "النية الصادقة"، بل هو امتثال الجوارح للقلب، فمَن كانت نيتُه عبادةَ الله أخذ بالمحكَم، ولم يراوِغْ بالمتشابه، وجمع "المعلمي" في كلامه السابق بين "اتباع المحكَم" و"النية".



وقال: يسعى في التمييز بين معدن الحُجَج ومعدن الشُّبهات، فإنه إذا تم له ذلك هان عليه الخَطْب؛ فإنه لا يأتيه مِن معدن الحق إلا الحق، إن كان راغبًا في الحق، قانعًا به إلى الإعراض عن شيء جاء مِن معدن الحق، ولا إلى أن يتعرض لشيء جاء من معدن الشبهات، لكن أهل الأهواء قد حاوَلوا التشبيه والتمويه؛ فالواجبُ على الراغب في الحق ألا ينظُرَ إلى ما يجيئه من معدن الحق من وراء زجاجاتهم الملونة، بل ينظر إليه كما كان ينظر إليه أهل الحق، والله الموفِّق؛ اهـ[16].







وذلك أن الدِّين يقوم على ركنين:



الأول: الإخلاص.



الآخر: الاستسلام.



قال ابن تيمية أبو العباس أحمد بن عبدالحليم (ت: 728): و"الإسلام": يجمع معنيين: أحدهما: الاستسلام والانقياد، فلا يكون متكبرًا.







والثاني: الإخلاص، مِن قوله تعالى: ﴿ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ ﴾ [الزمر: 29] فلا يكون مشتركًا، وهو أن يسلِمَ العبدُ لله رب العالمين؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة: 130 - 132]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 161 - 163]؛ اهـ[17].








وقال: وكل واحدٍ مِن المستكبرين والمشركين ليسوا مسلمين، بل "الإسلام" هو: الاستسلام لله وحده، ولفظ "الإسلام": يتضمَّنُ الاستسلام، ويتضمن إخلاصَه لله.



وقد ذكر ذلك غيرُ واحد، حتى أهل العربية؛ كـ "أبي بكر [محمد بن القاسم] ابن الأنباري (ت: 328)"، وغيره.



ومِن المفسِّرين مَن يجعلهما قولين، كما يذكر طائفة - منهم: البغوي [أبو محمد الحسين بن مسعود (ت: 516)] - أن المسلم هو: المستسلم لله، وقيل: هو المخلِص.








والتحقيق: أن المسلِم يجمع هذا وهذا، فمَن لم يستسلم له، لم يكن مسلمًا، ومَن استسلم لغيره كما يستسلم له لم يكن مسلمًا، ومَن استسلم له وحده، فهو المسلِم؛ كما في القرآن: ﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 112]، وقال: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾ [النساء: 125].



و"الاستسلام" له يتضمَّن: الاستسلامَ لقضائه، وأمره، ونهيه، فيتناول فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 90]؛ اهـ[18].







3/ يستحضر نسبة سخط الله ونعيم الدنيا إلى رضوان الله ونعيم الآخرة.



وبعبارة أخرى: "يستحضر شرفَ الحق، وضَعَةَ الباطل".



فكيف يؤثِر سخَطَ الله وعذابَ الآخرة على رضوان الله ونعيم الآخرة؛ بتعصُّبه للباطل أو تمسُّكه به؛ خوفًا على زوال مصالحَ دنيويةٍ، أو تضييق.







قال المعلمي: هذه أمورٌ ينبغي لإنسان أن يقدِّمَ التفكير فيها، ويجعلها نُصبَ عينيه:



التفكير في شرف الحق وضَعَةِ الباطل: وذلك بأن يفكر في عظمة الله عز وجل، وأنه رب العالمين، وأنه سبحانه يحب الحق ويكرَه الباطل، وأن مَن اتبع الحق استحق رضوانَ رب العالمين، فكان سبحانه وليَّه في الدنيا والآخرة، بأن يختار له كل ما يعلَمُه خيرًا له وأفضل وأنفع وأكمل وأشرف وأرفع حتى يتوفاه راضيًا مَرضيًّا، فيرفعه إليه ويقربه لديه، ويحله في جوار ربه مكرمًا منعمًا في النعيم المقيم، والشرف الخالد الذي لا تبلغ الأوهامُ عظَمتَه، وأن مَن أخلد إلى الباطل استحق سخَطَ ربِّ العالمين وغضبه وعقابه، فإن آتاه شيئًا مِن نعيم الدنيا فإنما ذلك لهوانه عليه؛ ليزيدَه بُعدًا عنه، وليضاعف له عذاب الآخرة الأليم الخالد، الذي لا تبلغ الأوهامُ شدتَه؛ اهـ[19].







وقال: يفكِّر في نسبة نعيم الدنيا إلى رضوان رب العالمين ونعيم الآخرة، ونسبة بؤس الدنيا إلى سخَطِ رب العالمين وعذاب الآخرة، ويتدبر قول الله عز وجل: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 31 - 35].








وُيفهَم مِن ذلك أنه لولا أن يكون الناسُ أمةً واحدة، لابتلى اللهُ المؤمنين بما لم تجرِ به العادة؛ مِن شدة الفقر والضُّر، والخوف والحزن، وغير ذلك، وحسبك أن الله عز وجل ابتلى أنبياءَه وأصفياءَه بأنواعِ البلاء.








فتدبَّرْ هذا كلَّه لتعلَمَ - حقَّ العلم - أن ما نتنافس فيه ونتهالك عليه مِن نعيم الدنيا وجاهِها ليس هو بشيء في جانب رضوان الله عز وجل، والنعيم الدائم في جواره، وأن ما نفِرُّ منه مِن بؤس الدنيا ومكارهها ليس هو بشيءٍ في جانب سخَط الله عز وجل وغضبه والخلود في عذاب جهنم، وفي "الصحيح" من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار، ثم يقال له: يا بن آدم، هل رأيتَ خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا مِن أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا بن آدم، هل رأيتَ بؤسًا قط؟ وهل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا، والله يا رب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيتُ شِدة قط))؛ اهـ[20].







وقال: يتدبر ما يرجى لمؤثِر الحق من رضوان رب العالمين، وحُسن عنايته في الدنيا، والفوز العظيم الدائم في الآخرة، وما يستحقُّه متَّبِع الهوى من سخطه عز وجل، والمَقْت في الدنيا، والعذاب الأليم الخالد في الآخرة، وهل يرضى عاقل لنفسه أن يشتريَ لذةَ اتباع هواه بفوات حسن عناية رب العالمين، وحرمان رضوانه والقرب منه والزلفى عنده والنعيم العظيم في جواره، وباستحقاق مَقْتِه وسخطه وغضبه وعذابه الأليم الخالد؟ لا ينبغي أن يقعَ هذا حتى مِن أقل الناس عقلًا، سواء أكان مؤمنًا موقنًا بهذه النتيجة، أم ظانًّا لها، أم شاكًّا فيها، أم ظانًّا لعدمها؛ فإن هذينِ يحتاطان، وكما أن ذلك الاشتراءَ متحقِّق ممن يعرِف أنه متَّبِع هواه، فكذلك مَن يسامح نفسه فلا يناقشها ولا يحتاط؛ اهـ[21].







5/ مَن ترك الحق لأجلهم لن يحمِلوا عنه أوزاره يوم القيامة:



بل يتبرَّؤون منه يوم القيامة؛ كما قال تعالى واصفًا حال مَن آثرَ التعصب للمخلوق على الحق يوم القيامة: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 165 - 167].



والآيات في هذا كثيرة.



وقد يكون مَن يقلدهم معذورين بجهلهم الحق.







6/ يستحضر أنه ليس هو ومَن يعظِّمهم بأولى بالحق من غيره:



يتساءل: لماذا ما أنا وجماعتي عليه هو الحق وما عليه الآخر هو الباطل؟ فلو كان الاعتقادُ السابق حجةً لكان الحق متعددًا؛ فجميعُ المختلفين يحتجون بدين النشأة، فيدفعه هذا إلى البحث عن الحق.







قال المعلمي: يستحضر أنه على فرض أن يكون فيما نشأ عليه باطل، لا يخلو عن أن يكونَ قد سلف منه تقصير أو لا.







فعلى الأول: إن استمر على ذلك كان مستمرًّا على النقص، ومصرًّا عليه، ومُزْدادًا منه، وذلك هو نقص الأبد وهلاكه، وإن نظر فتبيَّن له الحق فرجع إليه حاز الكمالَ، وذهبت عنه مَعرَّةُ النقص السابق؛ فإن التوبةَ تجبُّ ما قبلها، والتائب مِن الذنب كمَن لا ذنبَ له..



وأما الثاني: وهو ألا يكونَ قد سبق منه تقصيرٌ، فلا يلزمه بما تقدم منه نقصٌ يعاب به البتة، بل المدار على حاله بعد أن ينبَّهَ، فإن تدبَّر وتنبَّه فعرَفالحق فاتَّبَعه فقد فاز، وكذلك إن اشتبه عليه الأمر فاحتاط، وإن أعرض ونفَر فذلك هو الهلاكُ؛ اهـ[22].







7/ ليس في إيثار الحق على أسلافه نقصٌ له ولهم، كما أنه ليس في التعصُّب لهم دفع النقص عنه وعنهم:



التعصب: لا يصوِّب، ولا يدفع الذم إذا كان المتعصَّبُ له يستحقه، بل يضرهم، فيحملون وِزْره ووِزْر مَن تبِعه.







ترك التعصُّب:



لا يضر بالمتعصَّبِ له: فإن لم يكن معذورًا واستحق العذاب، فبإيثاره للهوى، وإن كان معذورًا، فيُعفَى عنه بنيَّتِه في طلب الحق.



ولا يضرُّ بمؤثِر الحق: ضلالُ أسلافه.



وإنما يضرُّ به في العاجل والآجل إيثارُ الهوى على الحق، وتحمله وِزْر نفسه ووِزْر مَن تبعه.



قال المعلمي: يستحضر أن الذي يهمه ويسأل عنه هو حاله في نفسه، فلا يضره عند الله تعالى ولا عند أهل العلم والدِّين والعقل أن يكونَ معلمُه أو مربيه أو أسلافه أو أشياخه على نقص، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يسلَموا مِن هذا، وأفضلُ هذه الأمة أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضِيَ عنهم وكان آباؤُهم وأسلافُهم مشركين.



هذا مع احتمال أن يكونَ أسلافُك معذورين إذا لم يُنبَّهوا ولم تقم عليهم الحجَّة.



وعلى فرض أن أسلافك كانوا على خطأ يؤاخذون به، فاتباعُك لهم وتعصُّبك لا ينفعهم شيئًا، بل يضرهم ضررًا شديدًا؛ فإنه يلحَقُهم مِثلُ إثمك ومثل إثم من يتبعك من أولادك وأتباعِك إلى يوم القيامة، كما يلحَقُك مع إثمك مِثلُ إثم مَن يتبعك إلى يوم القيامة، أفلا ترى أن رجوعَك إلى الحق هو خيرٌ لأسلافِك على كل حال؟!؛ اهـ[23].







ثانيًا[24]: ثم السعي في هداية مَن رحم الله من عباده، واختاره للسعادةِ في العاجل والآجل.



ويأتي الكلام عنه فيما تبقى من كلام المعلمي.



ولهذا - وقوع الأمم السابقة في الاختلاف مع وجود البيات - حذَّر اللهُ آخرَ الأمم أن تسلُكَ سبيل مَن قبلها في الاختلاف بعد معرفة الحق.



فقال: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]، وقال: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا ﴾ [الشورى: 13]، وقال: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 105]، وقال: ﴿ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [الروم: 31، 32].







وأخبر أن هذا القرآنَ يبيِّن الحقَّ فيما اختَلَف فيه أهلُ الكتاب مِن قبلنا.



وقال: ﴿ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ﴾ [النحل: 39].



وقال: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [النمل: 76].



يتبع...










[1] إرادة الوصول إلى الشهوة.




[2] التنكيل 2/ 180 - القائد إلى تصحيح العقائد.




[3] التنكيل 2/ 180 - القائد.




[4] التنكيل 2/ 180 - القائد.




[5] التنكيل 2/ 181 - القائد.




[6] التنكيل 2/ 181 - القائد، وسبق في أول الكلام عن "طلب الحق".




[7] التنكيل 2/ 189 - القائد.




[8] التنكيل 2/ 181 - القائد.




[9] لا تعارضَ في كلام المعلمي بين الاعتراف والاعتقاد؛ فقد يعلم ويعتقد، لكن لا يعترف، وقد يمنعُه رفض الاعتراف من العلم والاعتقاد، كما سيأتي في كلام المعلمي.




[10] التنكيل 2/ 181 - القائد.




[11] التنكيل 2/ 182 - القائد.




[12] التنكيل 2/ 182 - القائد.




[13] ليس بالضرورة في ذكر الأسباب ونحوها أن تكون مجموعةً في موضع واحد.




[14] التنكيل 2/ 186 - القائد.




[15] التنكيل 2/ 188 - القائد.




[16] التنكيل 2/ 202 - القائد.





[17] الاستقامة 2/ 302 - 303.




[18] النبوات 1/ 346 - 347.




[19] التنكيل 2/ 190 - القائد.




[20] التنكيل 2/ 190، 193 - القائد.




[21] التنكيل 2/ 199 - 200 - القائد.




[22] التنكيل 2/ 199 - القائد.




[23] التنكيل 2/ 199 - القائد.




[24] تابع لـ: التعامل مع قضاء الله الكوني في الاختلاف: الأول: طلب الحق.







البسمة والفكاهة والمرح في الأحاديث النبوية

$
0
0
البسمة والفكاهة والمرح في الأحاديث النبوية
نعيمة عبدالفتاح ناصف







الضحك والمرح وروح الفكاهة سلوك اجتماعي يرتبط بالإنسان دون غيره من المخلوقات، فالإنسان حيوان ضاحك، وقد اعتبره البعض فنًّا ابتدعته النفس البشرية لمواجهة ما في حياتها من شدة وقسوة وحرمان، ولكن الحقيقة أنه آية من آيات الله في خلق البشر، فهو سبحانه الذي ميّز الإنسان بالضحك والبكاء إلى جانب أشياء أخرى كثيرة على رأسها العقل والنطق قال تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43].

وإسلامنا دين عظيم، لا يصادر الفطرة البشرية وحاجة الإنسان إلى المرح والضحك والانبساط، بل على العكس، يرحب بكل ما يجعل الحياة باسمة طيبة، ويحب للمسلم أن تكون شخصيته متفائلة باشة، ويكره الشخصية المكتئبة المتطيرة، التي لا تنظر إلى الحياة والناس إلا من خلال منظار قاتم أسود.

وأسوتنا في ذلك هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كان - رغم همومه الكثيرة والمتنوعة - يمزح ولا يقول إلا حقًّا، وكان بسّامًا، وكان لا يحدث بحديث - كما قال أبو الدرداء - إلا تبسم، وكان يحيا مع أصحابه حياة فطرية عادية، يشاركهم في ضحكهم ولعبهم ومزاحهم، كما يشاركهم آلامهم وأحزانهم ومصائبهم.

وقد وصف الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه كان من أفكه الناس، وكان في بيته - صلى الله عليه وسلم - يمازح زوجاته ويداعبهن، ويستمع إلى أقاصيصهن، فقد تسابق مع أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- فسبقته في المرة الأولى، وبعد مدة تسابق معها فسبقها، فقال لها: "هذه بتلك"، أي واحدة بواحدة.

وقد رو ي أنه وطّأ ظهره للحسن والحسين، في طفولتهما ليركبا، ويستمتعا دون تزمت ولا تحرج، وقد دخل عليه أحد الصحابة ورأى هذا المشهد فقال: نعم المركب ركبتما، فقال عليه الصلاة والسلام: "ونعم الفارسان هما"!

وفي مرة أخرى وجدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يمزح مع تلك المرأة العجوز التي جاءت تقول له: ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها: ((يا أم فلان، إن الجنة لا يدخلها عجوز))؛ فبكت المرأة، حيث أخذت الكلام على ظاهره، فأفهمها - صلى الله عليه وسلم -: أنها حين تدخل الجنة لن تدخلها عجوزًا، بل شابة حسناء، وتلا عليها قول الله تعالى في نساء الجنة: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 35 – 37]

وكان- صلى الله عليه وسلم- يحب إشاعة السرور والبهجة في حياة الناس، وخصوصًا في المناسبات مثل الأعياد والأعراس.

فالحياة رحلة شاقة، حافلة بالمتاعب والآلام، ولا يسلم الإنسان فيها من المصائب والمشاق والبلايا التي تعكر صفوها، ولهذا كان الناس في حاجة إلى مواقف ومحطات للترويح تخفف عنهم بعض عناء رحلة الحياة، وكان لا بد لهم من أشياء يروحون بها عن أنفسهم، حتى يضحكوا ويفرحوا ويمرحوا، ولا يغلب عليهم الغم والحزن والنكد، فينغص عليهم عيشهم، ويكدر عليهم صفوهم.. ومن هذه المحطات الفكاهة والمرح، وكل ما يستخرج الضحك من الإنسان، ويطرد الحزن من قلبه، والعبوس من وجهه، والكآبة من حياته.

ومواقف الضحك والمرح في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرة، فقد روي أن الضحاك بن سفيان الكلابي كان رجلاً دميمًا قبيحًا، فلما بايعه النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: إن عندي امرأتين أحسن من هذه الحميراء (يقصد عائشة)- وذلك قبل أن تنزل آية الحجاب - أفلا أنزل لك عن إحداهما فتتزوجها؟!، وعائشة جالسة تسمع، فقالت: أهي أحسن أم أنت؟ فقال: بل أنا أحسن منها وأكرم، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سؤالها إياه؛ لأنه كان دميمًا.

وقال زيد بن أسلم: إن امرأة يقال لها أم أيمن جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن زوجي يدعوك، قال: ((ومن هو؟ أهو الذي بعينه بياض؟)). قالت: والله ما بعينه بياض! فقال: ((بلى، إن بعينه بياضًا))؛ فقالت: لا والله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من أحدٍ إلا بعينه بياض)).

وقد أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للحبشة أن يلعبوا بحرابهم في مسجده عليه الصلاة والسلام في أحد أيام الأعياد، وكان يحرضهم ويقول: ((دونكم يا بني أرفدة))، وأتاح لعائشة أن تنظر إليهم من خلفه، وهم يلعبون ويرقصون، ولم ير في ذلك بأسًا ولا حرجًا.

واستنكر - صلى الله عليه وسلم - يومًا أن تزف فتاة إلى زوجها زفافًا صامتًا، لم يصحبه لهو ولا غناء، وقال: ((هلا كان معها لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو))، أو: ((الغزل)). وفي بعض الروايات: ((هلا بعثتم معها مَن تغني وتقول: أتيناكم أتيناكم.. فحيُّونا نحييكم)).

وكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن تبعهم بإحسان في خير قرون الأمة يضحكون ويمزحون، اقتداء بنبيهم - صلى الله عليه وسلم - واهتداء بهديه، حتى إن رجلاً مثل عمر بن الخطاب - على ما عرف عنه من الصرامة والشدة - يروى عنه أنه مازح جارية له، فقال لها: خلقني خالق الكرام، وخلقك خالق اللئام! فلما رآها ابتأست من هذا القول، قال لها مبينًا: وهل خالق الكرام واللئام إلا الله عز وجل؟

وقد اشتهر بعض الصحابة بالفكاهة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقره عليه، واستمر على ذلك من بعده، وقبله الصحابة، ولم يجدوا فيه ما ينكر، برغم أن بعض الوقائع المروية في ذلك لو حدثت اليوم لأنكرها البعض أشد الإنكار.

ومن هؤلاء المعروفين بروح المرح والفكاهة والميل إلى الضحك والمزاح: "نعيمان بن عمر الأنصاري" رضي الله عنه، الذي رويت عنه في ذلك نوادر عجيبة وغريبة، وقد ذكروا أنه كان ممن شهد العقبة الأخيرة، وشهد بدرًا وأحدًا والخندق، والمشاهد كلها.

وقد روى عنه الزبير بن بكار عددًا من النوادر الطريفة في كتابه "الفكاهة والمرح" قال: كان لا يدخل المدينة طُرفة إلا اشترى منها نعيمان، ثم جاء بها إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فيقول: هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبها يطالب نعيمان بثمنها، أحضره إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: أعط هذا ثمن متاعه، فيقول: ((أولم تُهده لي؟))؛ فيقول: إنه والله لم يكن عندي ثمنه، ولقد أحببت أن تأكله يا رسول الله! فيضحك، ويأمر لصاحبه بثمنه.

وروى الزبير قصة أخرى من نوادر نعيمان قال: دخل أعرابي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأناخ ناقته بفنائه، فقال بعض الصحابة لنعيمان: لو عقرتها فأكلناها، فإنا قد قرمنا إلى اللحم؟ ففعل، فخرج الأعرابي وصاح: واعقراه يا محمد! فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((من فعل هذا؟)؛ فقالوا: نعيمان، فأتبعه يسأل عنه حتى وجده قد دخل دار ضباغة بنت الزبير بن عبد المطلب، واستخفى تحت سرب لها فوقه جريد، فأشار رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث هو فأخرجه فقال له: ((ما حملك على ما صنعت؟))، قال: الذين دلوك عليَّ يا رسول الله هم الذين أمروني بذلك. قال: فجعل يمسح التراب عن وجهه ويضحك، ثم دفع ثمنها للأعرابي.

وإذا كان بعض الحكماء والأدباء والشعراء قد ذموا المزاح، وحذروا من سوء عاقبته، ونظروا إلى جانب الخطر والضرر فيه، وأغفلوا الجوانب الأخرى، فإن ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أحق أن يتبع، وهو يمثل التوازن والاعتدال الذي يتميز به المنهج الإسلامي في كل شؤون الحياة.

فالضحك والمرح والمزاح أمر مشروع في الإسلام وما ذلك إلا لحاجة الفطرة الإنسانية إلى شيء من الترويح يخفف عنها أدواء الحياة وقسوتها، وتشعب همومها وأعبائها، كما أن هذا الضرب من اللهو والترفيه يقوم بمهمة التنشيط للنفس، حتى تستطيع مواصلة السير والمضي في طريق العمل الطويل، كما يريح الإنسان دابته في السفر، حتى لا تنقطع به.

فمشروعية الضحك والمرح والمزاح لا شك فيها، وقد دلّت على ذلك النصوص القولية، والمواقف العملية للرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضي الله عنهم.

والحكمة وضع الشيء في موضعه المناسب، وأن يكون المزاح بقدر معقول، وفي حدود الاعتدال والتوازن، الذي تقبله الفطرة السليمة، ويرضاه العقل الرشيد، ويلائم المجتمع الإيجابي العامل، ولهذا كان التوجيه النبوي: ((ولا تكثر من الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب))؛ فالمنهي عنه هو الإكثار والمبالغة. ، ولكنها مقيدة بقيود وشروط لابُدَّ أن تُراعى، منها: ألا يكون الكذب والاختلاق أداة الإضحاك للناس، وألا يشتمل على تحقير لإنسان آخر، أو استهزاء به وسخرية منه، إلا إذا أذن بذلك ورضي، وألا يترتب عليه تفزيع وترويع لمسلم، وألا يهزل المسلم في موضع الجد، ولا يضحك في مجال يستوجب البكاء، فلكل شيء أوانه، ولكل أمر مكانه، ولكل مقام مقال.

فالإسلام يحض المسلم على أن يكون آلفا بساما مرحا خلوقا، كريم الخصال، حميد الفعال، حسن المعشر. ولا مانع من أن يجمع المسلم مع الجد - الذي يسعى إليه - روح الدعابة، وفكاهة الحديث، وعذوبة المنطق، وطرافة الحكمة.

ولكن ليس للإنسان أن ينطلق في الضحك والمرح والمزاح كما يشاء، فهناك وقت للضحك وأوقات للجد والعمل، والإفراط في أي شيء يخرجه من دائرة المباح إلى دائرة المحظور، وقد قال عمر - رضى الله عنه -: "من كثر ضحكه قلّت هيبته، ومن مزح استخف به ". وقال الأحنف: "كثرة الضحك تذهب الهيبة، وكثرة المزاح تذهب المروءة، ومن لزم شيئا عرف به"، وقال الحسن البصرى: "وأما الضحك فإن اعتياده شاغل عن النظر في الأمور المهمة، مذهب عن الفكر في النوائب الملمة، وليس لمن أكثر منه هيبة ولا وقار".

ومن المحظور في الضحك أن يكون على حساب المبادئ الأخلاقية كالضحك على النكات الإباحية أو العدوانية، ففي ذلك استخفاف بالعقول والأخلاق، ويجب تجنب الكذب وقول الزور بهدف إضحاك الناس كالذين يتصدرون المجالس ويلفقون القصص المضحكة والحكايات المثيرة لإضحاك الناس ومباسطتهم، فقد نهى الإسلام عن ذلك، وهدد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من يفعل ذلك بالويل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب ويل له، ويل له)).


















فن التعامل

$
0
0
فن التعامل


عدنان محمد سعيد باحكم







أنعم الله على الأمة الإسلامية بأن أرسل رسول الهدى صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {هُوَ الذي بَعَث في الأُمِّيِّينَ رَسولاً}يحدثنا القرآن الكريم عن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ} .

فهو بشر يختلف عن البشر, ومن صفاته رقة وطيب القلب كامل العقل سامي الأخلاق لم يضرب أحدا بيده تقول عائشة رضي الله عنها : (ما ضرب رسول الله شيئًا قط بيده ولا امرأة ولا خادمًا) والصدق والأمانة في التبليغ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى},وهو يحرص على هداية الناس ، ويعز عليه أن يراهم يتهافتون إلى موارد الهلكة ، فهو ذو رأفة كاملة ورحمة عامة ، وصفة الرحمة واللين من الصفات اللازمة في المبلغ بعد الصدق والأمانة {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}وبعثته صلى الله عليه وسلم فيها تزكية وتعليم {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} ، ويؤكد القرآن ما هو عليه من شمائل {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}وهذا الارتفاع في الذكر والمكانة والقمة من الخلق العظيم ، منحت له ليكون قبلة الأنظار من أتباعه {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآْخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} .

وكانت هذه الشمائل مع غيرها من الصفات النفسية معطيات الحب الصادق الذي بلغ درجة الهيام في قلوب من خالطوه وعاشوا معه ، غير أن القرآن الكريم قد وجه هذه العاطفة القوية من الحب إلى نشاط وعمل ، فالحب الذي قرره القرآن هو حب الاتباع ، حب الأسوة الحسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم ,ثم أعلن القرآن الكريم عن الوصايا التي تتابعت من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم تدعيمًا لعملية التبليغ {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} .













ومن مظاهر صبره صلى الله عليه وسلم على أعدائه ما نزل من القرآن في أبي لهب وامرأته حمالة الحطب فجعلت قريش حين منعه الله منها وقام عمه وقومه من بني هاشم وبني المطلب دونه وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به- يهمزونه ويستهزئون به ويخاصمونه وجعل القرآن ينزل في قريش بأحداثهم وفيمن نصب لعداوته منهم ومنهم من سمي لنا ومنهم من نزل فيه القرآن في عامة من ذكر الله من الكفار فكان ممن سمي لنا من قريش ممن نزل فيه القرآن عمه أبو لهب بن عبد المطلب وامرأته أم جميل بنت حرب بن أمية حمالة الحطب وإنما سماها الله تعالى حمالة الحطب لأنها كانت تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فما كان من الرسول أن يفعل شيئا, ومن مظاهر معاملته مع أصحابه فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلّم أصحابه السنّة قولا وعملا ويحضّهم على الأخذ بهامن رحمة الله ما حصل للصحابة من لين رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم واستغفاره لهم والدعاء لهم ومشاورتهم .





والمواقف التي عاشها الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه الكرام في السراء والضراء ، والرخاء والشدة , ومن مظاهر تعامله مع الصبيان كان إذا سمع بكاء الصبي في الصلاة تجوّز في صلاته مما من شدة أمه من بكائه , يزور البقيع فيتذكر الآخرة ويبكي كان صلى الله عليه وسلم يزور ابنه إبراهيم عند مرضعته وهو رضيع فيأتيه إبراهيم وعليه أثر الغبار فيلزمه ويقبله ويشمه من عطف الأبوة عليه ولما مات دمعت عيناه وقال: (إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون) وعلى الرغم من انشغال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاد ومجالدة الشرك وأهله ، إلا أنه كان دائمًا مع أصحابه مخالطًا ومعايشًا ومُرَبِّيًا وموجِّهًا ، ومعلِّمًا لهم على اختلاف أحوالهم وأعمارهم ، ولا يترك موطنًا من مواطن الزلل أو جانبًا من جوانب الخطأ إلا وأصلحه وبينه ، ولا موطنًا من مواطن الخير إلا حثّهم عليه ورغبهم فيه .

فكان يؤاكل أصحابه فربما حضر الطعام معه الأعرابي حديث عهد بالإسلام ، أو الغلام والجارية ممن لا يعرف آداب الطعام والشراب فيأخذ صلى الله عليه وسلم بأيديهم ويعلّمهم ويربِّيهم .





روى أحمد عن حذيفة قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتي بطعام فجاء أعرابي كأنما يطرد فذهب يتناول فأخذ صلى الله عليه وسلم بيده وجاءت جارية كأنها تطرد فأهوت فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ لَمَّا أَعْيَيْتُمُوهُ جَاءَ بِالْأَعْرَابِيِّ وَالْجَارِيَةِ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ إِذَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، بِاسْمِ اللَّهِ كُلُوا)) .

وروى البخاري ومسلم عن عمر بن أبي سلمة يقول : كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يَا غُلامُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ)) فما زالت تلك طعمتي بعد.

وكان يبرز للناس كلِّهم ويبايع الوفود بنفسه ولا ينيب عنه أحدًا من أصحابه ، ولا يكتفي برئيس الوفد بل يبايعهم واحدًا واحدًا ، وأحيانًا يجيء الرهط من الناس ليبايعوه على الإسلام فيرى في أحدهم مظهرًا من مظاهر الشرك من بقايا الجاهلية فيأبى أن يبايعه حتى يزيله .

روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر الجهني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحد فقالوا : يا رسول الله بايعت تسعة وتركت هذا قال : ((إِنَّ عَلَيْهِ تَمِيمَةً)) فأدخل يده فقطعها فبايعه وقال ((مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ)) . وقد أخذ بهذا المنهج صحابته الكرام رضي الله عنهم.

وكان صلى الله عليه وسلم يداعب أصحابه ويلاعب أطفالهم روى مسلم عن أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا وكان لي أخ يقال له أبو عمير قال أحسبه قال كان فطيما قال فكان إذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه قال : ((أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ)) قال: فكان يلعب به .





أما خدمه ومواليه فلم يكن يكلّفهم من العمل ما لا يطيقون ، ولم يبكتهم يومًا ما أو ينهرهم فضلاً عن أن يضربهم ، بل إنهم لم يسمعوا منه مجرّد التأفّف عليهم . ففي صحيح مسلم قال أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا فأرسلني يوما لحاجة فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال : ((يَا أُنَيْسُ، أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ)) قال: قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله، قال أنس: والله لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعته لم فعلت كذا وكذا، أو لشيء تركته هلا فعلت كذا وكذا .

وربما قام صلى الله عليه وسلم بالتعليم وهو على حمار مردفًا لأحد أصحابه وذلك بتكرار النداء وفي هذا إثارة انتباه السامع . يقول معاذ بن جبل : كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ فَقَالَ : ((يَا مُعَاذُ)) قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك . ثم سار ساعةً ، فقال : ((يَا مُعَاذُ)) ، قلت : لبيك رسول الله وسعديك . ثم سار ساعةً فقال : ((يَا مُعَاذُ بن جبل)) ، قلت : لبيك رسول الله وسعديك . قال : ((هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟)) قلت الله ورسوله أعلم قال : ((فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لا يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)) فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ قَالَ : ((لا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا)) رواه البخاري ومسلم .

وقد اختار صلى الله عليه وسلم معاذًا لينوب عنه في دعوة أهل اليمن ورسم له منهج الدعوة وبماذا يبدأ به الناس فقال له : ((إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَها وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ)) البخاري ومسلم .





وكان صحابته يرجعون إليه في كل شيء حتى في مخالفات الأطفال ، فيتعامل معها صلى الله عليه وسلم بأسلوب تربوي عظيم بما يتناسب مع سنّ الصغير ومرحلة الطفولة . روى أبو داود عن أبي رافع بن عمرو الغفاري قال ((كنت غلاما أرمي نخل الأنصار فأتي بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (( يَا غُلامُ لِمَ تَرْمِي النَّخْلَ؟)) قال آكل قال : ((فَلا تَرْمِ النَّخْلَ وَكُلْ مِمَّا يَسْقُطُ فِي أَسْفَلِهَا)) ثم مسح رأسه فقال : ((اللَّهُمَّ أَشْبِعْ بَطْنَهُ)) . وفي رواية للترمذي قال : ((أشبعك الله وأرواك)) .

يصف الصحابة رضوان الله عليهم مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم لهم في جميع حياتهم حضرها وسفرها ، وتفقده لأحوالهم الخاصّة والعامّة ، فيقول أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه : ((إِنَّا وَاللَّهِ قَدْ صَحِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَكَانَ يَعُودُ مَرْضَانَا وَيَتْبَعُ جَنَائِزَنَا وَيَغْزُو مَعَنَا وَيُوَاسِينَا بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ)) رواه أحمد . .





وقد اختار صلى الله عليه وسلم من أساليب التعليم أحسنها وأفضلها ، وأوقعها في نفس المخاطب وأقربها إلى فهمه وعقله ، وأشدّ تثبيتًا في نفسه ، وأكثرها إيضاحًا : فتارةً يؤكّد لهم التعليم بالقسم ، وتارةً بالتكرار ، وأخرى بالنداء ، وأحيانًا بإبهام الشيء لحمل السامع على استكشافه والسؤال عنه كما في حديث أبي هريرة عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ((اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ)) قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال : ((الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاتِ)) رواه البخاري ومسلم .

وأحيانًا يعلّمهم بأسلوب الشرح والبيان والتوضيح ، وترتيب النتائج على مقدماتها كما في حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ)) رواه النسائي .

وأحيانًا يأتي تعليمه بالمناسبات العارضة كما في قصّة الرجل الذي حلف بغير الله ، كما روى سعد بن عبيدة أن ابن عمر سمع رجلا يقول: لا والكعبة فقال ابن عمر: لا يحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ)) . قال أبو عيسى هذا حديث حسن .

وروى الإمام أحمد عن سعد بن عبيدة سمع ابن عمر رجلا يقول: والكعبة فقال: لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ وَأَشْرَكَ)) .

وأحيانًا يأتيه الأعرابي الجافي فيغلظ للرسول الله صلى الله عليه وسلم القول ، وربما يستطيل بيده على طبيعة الأعراب من العنف والجفاء ، فيبتسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويجيبه إلى طلبه بحسن خلق وسموّ معاملة .

روى البخاري عن أنس بن مالك قال: كنت أمشي مع رسول صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذ بردائه جبذة شديدة قال أنس : فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته ثم قال : يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء .

وفي رواية لمسلم : ثم جبذه إليه جبذة رجع نبي الله صلى الله عليه وسلم في نحر الأعرابي. وفي حديث همام : فجاذبه حتى انشق البرد وحتى بقيت حاشيته في عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ولكنّه ، لما رأى رجلاً لبس سوارًا من نحاس يقي به مرضا يأخذ في العضد ، غضب عليه وزجره ونهره . فعن عمران بن حصين : أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر على عضد رجل حلقة ، أراه قال: من صفر فقال : ((ويحك ما هذه؟)) قال : من الواهنة قال : ((أَمَا إِنَّهَا لا تَزِيدُكَ إِلا وَهْنًا انْبِذْهَا عَنْكَ فَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا)) رواه أحمد وابن ماجه . . فهناك لم يغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه ، أمّا هنا ولمّا رأى مظهرًا من مظاهر الشرك غضب لله عز وجل ، حيث إنه صلى الله عليه وسلم بعث بتكميل أديان الخلق بنبذ الوثنيّات والتعلّق بالمخلوقين ، وعلى تكميل عقولهم بنبذ الخرافات والخزعبلات ، والجدّ في الأمور النافعة المرقّية للعقول ، المزكّية للنفوس ، المُصْلِحَة للأحوال كلها دينها ودنياها . القول السديد ص 37وربما لحقه الأطفال فأركبهم معه على بغلته . فعن إياس عن أبيه قال : لقد قدت بنبي الله صلى الله عليه وسلم والحسن والحسين بغلته الشهباء حتى أدخلتهم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم هذا قدامه وهذا خلفه. رواه مسلم .

بل ربما نزل وترك الخطبة من المنبر وحمل الأطفال ثم أتم خطبته . قال عبد الله بن بريدة: سمعت أبي بريدة يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا إذ جاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه ثم قال : ((صَدَقَ اللَّهُ {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} فَنَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا)) رواه الترمذي وحسنه .





وإذا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكر انتدب له رجلاً من صحابته ليقوم بإزالته ، فقد روى لنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه بمهمّة وهي تسوية القبور بالأرض وعدم رفعها ، وطمس التماثيل والصور . روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علي بن أبي طالب : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته ، وفي رواية قال : ولا صورة إلا طمستها.

ولم يكن رسول الله يخصّ أحدًا من أقاربه بعلم دون الناس . ففي صحيح مسلم عن أبي الطفيل قال : سئل علي أخصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال : ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يعم به الناس كافة إلا ما كان في قراب سيفي هذا قال : فأخرج صحيفة مكتوب فيها: ((لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ الْأَرْضِ وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا)) .

وكان يرسل البنيات الصغيرات لِيَلْعَبْنَ مع عائشة رضي الله عنها . عن عائشة رضي الله عنها قالت : ((كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمعن منه فيسربهن إلي فيلعبن معي. رواه البخاري .

وكان صلى الله عليه وسلم لا ينفكّ عن التعليم والتوجيه في حال الصحة والمرض فقد كان بعض نسائه يقصصن عليه بعض القصص وهو في مرضه ، لعلّ ذلك من أجل تسليته. ففي البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية وكانت أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها فرفع رأسه فقال : ((أُولَئِكِ إِذَا مَاتَ مِنْهُمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّورَةَ أُولَئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ)) .

فعلى الرغم من مرضه صلى الله عليه وسلم استدرك على نسائه وبيّن ضلال أولئك النصارى حيث اتخذوا المساجد على قبور الصالحين وصوّروا صورًا فيها .





وقد تعامل مع أخطاء الأعراب الجفاة بالحكمة والتأني مع الحلم والصبر عليهم والصفح عنهم ، وحسن توجيههم وإرشادهم وتربيتهم ، مع غاية الرحمة والرأفة بهم . فعن أنس بن مالك قال : بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : مه مه! قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا تُزْرِمُوهُ (أي لاتقطعوا عليه بولته) دَعُوهُ)) فتركوه حتى بال ثم إن رسول صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له : ((إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ)) أو كما قال رسول صلى الله عليه وسلم قال : فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه. رواه البخاري ومسلم .





وكان لطيفًا رحيمًا رقيقًا في معاملته لأصحابه وفي تعامله مع أخطائهم . يصف لنا ذلك معاوية بن الحكم السلمي فيقول - كما في صحيح مسلم - عن معاوية بن الحكم السلمي قال : بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت : يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت : واثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني قال : ((إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ)) أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وقد أكّد رسول الله صلى الله عليه وسلم نهيه عن إتيان الكهان في موطن آخر فقالَ : ((مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم)) رواه أحمد عن أبي هريرة .





وقد بلغ من رأفته ورحمته أن يصعد الصبي على ظهره وهو ساجد يصلي بالناس فيطيل السجود كراهة أن يعجل الصبي . عن عبد الله بن شداد عن أبيه قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء وهو حامل حسنا أو حسينا فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه ثم كبر للصلاة فصلى فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها قال أبي : فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فرجعت إلى سجودي فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال الناس : يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك قال : ((كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ)) رواه النسائي .

نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المتمسكين بسنته المقتفين أثره المتبعين لهديه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .






الوسائط التعليمية في الأحاديث النبوية

$
0
0
الوسائط التعليمية في الأحاديث النبوية


سعيد رفعت راجح








... مما لا شك فيه أن الوسائل التعليمية من العناصر الهامة المفيدة في الموقف التعليمي.. فالوسيلة التعليمية الناجحة: توفر الوقت والجهد على المعلم والمتعلم على حد سواء.. إذ يصل بها المعلم إلى مآربه في عملية التعليم.. بل ويشعر بالرضا النفسي لما حققه من نتائج في الموقف التعليمي.

والوسائل التعليمية التي يستخدمها المعلم كثيرة ومتنوعة خاصة مع التقدم العلمي والتكنولوجي الرهيب في مدارسنا اليوم الذي جعل العالم بين يدي المتعلم.. هذا ولقد سبق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المدارس الحديثة في التربية باستخدامه أرقى الوسائل التربوية في العملية التعليمية.. ولقد شغلني هذا الموضوع كثيرا ومنذ زمن بعيد إلا أن قلة المراجع التي تعرضت لهذا الموضوع جعلت الكتابة فيه صعبة.. وشاقة أحيانا ومع الإصرار تخمرت الفكرة ونضجت وبادرت بتجميع الخيوط ونسجها.

فما هي إذن تلك الوسائل التربوية في الأحاديث النبوية؟!!!






(1) التكرار:





... مما لاشك فيه أن التكرار من الوسائل التربوية الهامة في الموقف التعليمي.. والمعينة على الحفظ والفهم والاستيعاب.. هذا ولقد أدرك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قيمة هذه الوسيلة فحرص على استخدمها:




فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ((كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه..)) أخرجه البخاري في كتاب العلم.

وقد مثل البخاري رحمه الله لذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ألا وقول الزور)) فما زال يكررها... ويقول ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((هل بلغت؟)) ثلاثا، وبحديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ويل للأعقاب من النار)) مرتين أو ثلاثا والتكرار في الحديثين للتفهيم والحفظ.

فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا هؤلاء الكلمات كما تعلم الكتابة: ((اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن نرد إلى أرذل العمر وألوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر)) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات.

وكذلك كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يفعل مع بنيه فيعلمهم هذه الكلمات كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة وهذا المنهج التربوي طبقه الرسول الكريم ووعاه الصحابة فكان له السبق في استخدام هذا الأسلوب الهام في التعليم.






(2) التأني أثناء العرض:


والمعلم الناجح هو الذي يتأنى في عرض الدرس مستخدما أسلوب الحوار والمناقشة ليصل بذلك إلى عقول كل المتعلمين فيعون ما يقول ويفهمون ويحفظون ما يلقي على مسامعهم.. وهذا الأسلوب الجذاب أثناء العرض استخدمه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الموقف التعليمي فكان يتأنى ولا يستعجل في كلامه.. بل يفصل بين كل كلمة وأخرى حتى يسهل الحفظ ولا يقع التحريف والتغيير عند النقل حتى ليسهل على السامع عد كلماته لو شاء.

وفي رواية: ((ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسرد كسردكم هذا ولكنه كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من يجلس إليه)) أخرجه الترمذي في كتاب المناقب وبذلك يكون الرسول أول من دعا إلى التأني في الموقف التعليمي وأول من استخدم ذلك.



(3) مراعاة طاقة المتعلمين:


.. ولاشك أن المعلم الماهر والحصيف هو الذي يراعي طاقة المتعلمين ويكون درسه مناسبا لزمن الحصة وهذا ولا شك من عناصر التحضير الجيد للدروس حسب إرشادات المدرسة الحديثة في التربية.. هذا ولقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقتصد في تعليمه وفي مقدار ما يلقيه وفي نوعه وفي زمانه حتى لا يمل الصحابة.. وحتى ينشطوا لحفظه ويسهل عليهم عقله وفهمه وهذا واضح في جملة مستكثرة من حديثه صلى الله عليه وآله وسلم أما اختياره صلى الله عليه وآله وسلم أوقات النشاط الذهني والاستعداد النفسي لدى الصحابة.. ومباعدته بين الموعظة وأختها.. حتى تشتاق النفس وينشرح الصدر للتلقي فأمر لاحظه الصحابة بوضوح. فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا " أخرجه البخاري في كتاب العلم ولا ريب أن مثل هذا الأسلوب يراعي طاقات المتعلمين ويطارد الملل الذي يصيب بعضهم ويبقي النفوس فى حالة من الشوق والترقب... والأذهان في حالة من النشاط والتحفز... قال الجاحظ: (قليل الموعظة مع نشاط الموعوظ خير من كثير وافق من الأسماع نبوة ومن القلوب ملالة).


(4) ضرب الأمثال:


... حثت المدرسة الحديثة في التربية على استخدام المعلم داخل حجرة الدراسة الأمثال لما للمثل من أثر بالغ في إيصال المعنى إلى العقل والقلب ذلك أنه يقدم المعنوي في صورة حسية فيربطه بالواقع ويقربه إلى الذهن.. فضلا عن أن المثل بمختلف صوره له بلاغة تأخذ بمجامع القلوب وتستهوي العقول... وبخاصة عقول البلغاء ولا شك أن هذا الأسلوب كان منهج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد... إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " أخرجه البخاري في كتاب الأدب.

ويقول تعالى في سورة الحشر: 21 {وَتِلْكَ الأَْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.


(5) التمهيد:


... كثير ما يؤكد السادة الموجهون في حقل التربية والتعليم على ما يسمى بالتمهيد في دفاتر تحضير المدرسين وعرض ذلك على التلاميذ داخل حجرة الدراسة لما للتمهيد من تهيئة للتلاميذ إذ يحدث حالة من النشاط الذهني الكامل ويحدث لونا من التواصل القوي بين المعلم والمتعلم... وهو كذلك من الوسائل التربوية المهمة.. والتي تخلق جوا انطلاقيا ملؤه الإثارة والتشويق ولفت الانتباه. والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أفضل من استخدم مثل هذه الوسيلة ومن ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا.. ويرفع به الدرجات؟)) قالوا: بلى يارسول الله قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره.. وكثرة الخطى إلى المساجد... وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط.. فذلكم الرباط... فذلكم الرباط)) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة.

وعن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ((أتدرون من المفلس؟))، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: ((إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام ويأتي وقد شتم هذا.. وقذف هذا.. وأكل مال هذا.. وسفك دم هذا... وضرب هذا... فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته... فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم.. فطرحت عليه ثم يطرح في النار)) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة.

ولا شك أن هذا لون رائع من ألوان التعليم يثير في النفس الرغبة في السؤال ويدفعها بقوة إلى التطلع للمعرفة واستشراف الجواب ومن ثم استيعابه وحفظه.. لما فيه من طرافة وغرابة.



(6) استخدام الوسائط المتعددة:


... كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يستخدم ما يسمى اليوم بالوسائط التوضيحية لتقرير وتأكيد المعنى في نفوس وعقول السامعين وشغل كل حواسهم بالموضوع وتركيز انتباههم فيه... ما يساعد على تمام وعيه وحسن حفظه بكل ملابساته ومن هذه الوسائط:


(أ) التعبير بحركة اليد:


كتشبيكه (صلى الله عليه وآله وسلم) بين أصابعه وهو يبين طبيعة العلاقة بين المؤمن وأخيه. فعن أبى موسى الأشعري رضي الله عنه... عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " المؤمن للمؤمن كالبنيان.. يشد بعضه بعضا " وشبك بين أصابعه. أخرجه البخاري في كتاب المظالم.


(ب) التعبير بالرسم:


... لا ينكر أحد ما للوسيلة التعليمية التي يستخدمها المدرس داخل حجرة الدراسة من بالغ الأثر على المستهدفين من طلبة العلم.

فاللوحات المتضمنة رسومات توضيحية ترسم المعلومة في عقول التلاميذ والمتلقين ناهيك عن استخدام جهاز عرض فوق الرأس والكمبيوتر في العملية التعليمية هذا ولقد استخدم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أمثال تلك الوسائل وكان له السبق في استخدامها لما لها من الإثارة والمتعة والتشويق والإدراك التام للفكرة وحفظها وترسيخها في العقول فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (خط النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خطا مربعا.. وخط خطا في الوسط خارجا منه ـ وقد أحاط به ـ وهذا الذي هو خارج أمله... وهذه الخطوط الصغار الأعراض.. فإن أخطأه هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق.

ففي هذا الحديث بين لهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرسم على الأرض كيف يحال بين الإنسان وبين آماله الكثيرة الواسعة بالأجل المفاجئ أو الحوادث والنوائب المهلكة والفاجعة التي تتواتر عليه يتبع بعضها بعضا إذا سلم من واحدة أوجعته أختها حتى يأتيه الموت وفي ذلك دعوة لقصر الأمل وحض على الاستعداد للموت قبل هجومه المفاجئ.

عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (إن نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ حريرا فجعله في يمينه وأخذ ذهبا فجعله في شماله: ثم قال: (إن هذين حرام على ذكور أمتي... حل لإناثهم) أخرجه أبو داود في كتاب اللباس.



(ج) التعليم العملي:


... ومما لا شك فيه أن التعليم العملي وخاصة في مادة الرياضيات والفيزياء والكيمياء والتربية الدينية له الأثر الكبير في الإفهام وترسيخ المعلومة لدى المتعلمين ولا شك أننا في حاجة ماسة إلى مثل هذا الأسلوب في التعليم خاصة في مجتمعاتنا العربية التي يغلب أسلوب التلقين داخل حجرات الدراسة فيها هذا ولقد انتهج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الأسلوب الحديث في التعليم عندما كان يعلم الصحابة الصلاة حيث قال بعد ما فرغ: ((أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي)) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة ناهيك عن اللين في التعامل مع المتعلمين.



كلمة أخيرة:


..مما لا شك فيه أن ما تقدم غيض من فيض وهو دليل جازم على أن الإسلام له السبق في استخدام الوسائط التربوية في العملية التعليمية وهذه المبادئ التي وضعها الإسلام تربو على أحدث النظريات الحديثة في مجال التعامل مع المتعلمين والتي تصلح لكل زمان ومكان... فما أعظم الإسلام دستورا ومنهج حياة.






أهداف التربية الإسلامية ومقاصدها

$
0
0
أهداف التربية الإسلامية ومقاصدها


محمد بن سالم بن علي جابر








يُقصد بالأهداف التربوية: «الأغراض أو الغايات، التي تسعى العملية التربوية إلى تحقيقها والوصول إليها، قريبة كانت أو بعيدة».

وتحديد الأهداف لأي عمل من الأعمال التربوية أمرٌ أساسي قبل الشروع في هذا العمل وتنفيذه؛ لأن هذا التحديد يؤثر تأثيرًا كبيرًا في تكييف وتحديد مجال الدراسة، وطرقها، ووسائلها، وأساليبها التي تحقق هذه الأهداف، كما أن الأهداف غالبًا ما تكون محركًا للسلوك وموجهًا إليه.

لذا؛ كان لزامًا على دارسي التربية الإسلامية أن يحددوا أهدافها أولاً؛ حتى يستطيعوا أن يحددوا الطرق والوسائل والأساليب التي يمكن أن تحقق لهم أهدافهم، وتحركهم تجاه هذه الأهداف بقوة وفعالية؛ فالإنسان عندما يضع لنفسه هدفًا محددًا ينشط كلما اقترب منه خطوة، وكلما حقق جزءًا منه ازداد فرحًا وسرورًا وبهجة، وتصميمًا على مواصلة العمل في سبيل تحقيق باقي الهدف، ويدفعه ذلك إلى تنظيم حياته، «وتجنب اللهو والأمور التافهة التي ينشغل بها – عادةً - من ليست لهم الأهداف السامية، ولا يعرفون كيف يملَئُون أوقات فراغهم بما يعود على حياتهم بالنفع».

والإنسان الذي لا هدف له، لا يعرف لذة العمل، ولا يتذوق طعم الحماس، بل يحيا حياته ضائعًا، لا يعرف أين الجهة التي يولي وجهه شطرها، ولا يدري أين المنتهى، ولا يستطيع الجزم بأفضلية طريقة على طريقة أخرى، أو الأخذ بوسيلة دون أخرى.

إذن، فتحديد أهداف معينة للتربية الإسلامية يعد أمرًا لازمًا وضروريًّا لممارسة العملية التربوية في الإسلام، وضمان نجاحها واستمرارها وتطورها؛ لتؤتي ثمارها بأقل جهد، وأقصر وقت، وأفضل عطاء.

ما أن تحديد أهداف التربية الإسلامية يساعد على تحديد «مسارات التقدم العلمي والحضاري، ويُوَجِّه هذا التقدم إلى حيث يجب أن يتجه إليه. وكل ذلك يعد بمثابة موجهات واقية من انحراف التربية عن مسيرها المستقيم».





















والأهداف التربوية الإسلامية تدور حول أربعة مستويات:




الأول: الأهداف التي تدور على مستوى العبودية لله - سبحانه وتعالى - أو إخلاص العبودية لله.




الثاني: الأهداف التي تدور على مستوى الفرد؛ لإنشاء شخصية إسلامية ذات مثل أعلى يتصل بالله تعالى.




الثالث: الأهداف التي تدور حول بناء المجتمع الإسلامي، أو بناء الأمة المؤمنة.




الرابع: الأهداف التي تدور حول تحقيق المنافع الدينية والدنيوية.

أما مصادر اشتقاق الأهداف التربوية فلا تخرج غالبًا عن مصدرين رئيسين، هما: الفرد والمجتمع؛ وعلى هذا اتفقت معظم الفلسفات والنظريات التربوية في الماضي والحاضر، وتتفق التربية الإسلامية مع هذه النظريات والفلسفات - في تحديد هذين المصدرين كمصادر لاشتقاق الأهداف التربوية، لكنها تنفرد عن غيرها من الفلسفات والنظريات في أن هناك مصدرًا ثالثًا يحتل مركز الصدارة بين مصادر اشتقاق الأهداف في التربية الإسلامية، وهو «الوحي الإلهي»، الذي يعد الضابط الذي تقوم عليه تربية الفرد في الإسلام.






وعلى هذا تكون مصادر اشتقاق الأهداف في التربية الإسلامية ثلاثة، هي:





1 - الوحي الإلهي: المتمثل في كتاب الله – تعالى - وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.




2 - المجتمع المسلم: الذي يجب التعرف على احتياجاته، ومتطلباته، وظروفه، وأحواله المتغيرة؛ لتحديد الأهداف التي تناسبه.




3 - الفرد المسلم: الذي يجب التعرف على طبيعته، وميوله، ورغباته، ومواهبه؛ لوضع الأهداف التي تناسب ذلك.




ويمكن تقسيم أهداف التربية الإسلامية في ضوء المصادر التي اشتقت منها، والمستويات التي تعمل على تحقيقها إلى نوعين من الأهداف:





الأول: الهدف العام للتربية الإسلامية:




ويتمثل الهدف العام للتربية الإسلامية في تحقيق معنى العبودية لله تعالى؛ انطلاقًا من قوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات:56].




فالهدف الأساسي لوجود الإنسان في الكون هو عبادة الله، والخضوع له، وتعمير الكون؛ بوصفه خليفة الله في أرضه.

والعبودية لله – تعالى - لا تقتصر على مجرد أداء شعائر ومناسك معينة: كالصلاة، والصيام، والحج - مثلاً - وإنما هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.

فالإنسان الذي يريد أن يتحقق فيه معنى العبودية، هو الذي يُخضع أموره كلها لما يحبه الله – تعالى - ويرضاه، سواء في ذلك ما ينتمي إلى مجال الاعتقادات، أو الأقوال، أو الأفعال؛ فهو يكيف حياته وسلوكه جميعًا لهداية الله وشرعه؛ فلا يفتقده الله حيث أمره، ولا يجده حيث نهاه، وإنما يلتزم بأوامر الله فيأتي منها ما استطاع، وينزجر عن نواهيه سبحانه فلا يقربها؛ تصديقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فَأْتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن أمر فاجتنبوه»؛ فالمسلم دائمًا إذا أمره الله – تعالى - أو نهاه، أو أحل له، أو حرم عليه - كان موقفه في ذلك كله: ﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285].

وهذا هو الهدف العام الذي تعمل التربية الإسلامية على تحقيقه.






ثانيًا: الأهداف الفرعية للتربية الإسلامية:





إن تحقيق الهدف العام للتربية الإسلامية - متمثلاً في العبودية الحقة لله تعالى - يتطلب تحقيق أهداف فرعية كثيرة، منها:




أولاً: التنشئة العقدية الصحيحة لأبناء المجتمع المسلم؛ لإعداد الإنسان الصالح الذي يعبد الله - عز وجل - على هدى وبصيرة.

ثانيًا: أن يتخلق الفرد في المجتمع المسلم بالأخلاق الحميدة: من صدق، وأمانة، وإخلاص... إلخ؛ مقتديًا في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي شهد له ربه سبحانه بقوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، وعملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعِثتُ؛ لأتمم مكارم الأخلاق»؛ وبذلك يمكن تهيئة المجتمع المسلم للقيام بمهمة الدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ثالثًا: تنمية الشعور الجماعي لأفراد المجتمع المسلم؛ بحيث يرسخ لدى الفرد الشعور بالانتماء إلى مجتمعه؛ فيهتم بقضاياه وهمومه، ويرتبط بإخوانه؛ عملاً بقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ترى المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»؛ وبذلك تتأكد روابط الأُخوَّة الإيمانية الصادقة بين أبناء الأمة المسلمة.

رابعاً: تكوين الفرد المتزن نفسيًّا وعاطفيًّا، وذلك بحسن التوجيه وحسن الحوار مع الأطفال، ومعالجة مشاكلهم النفسية... إلخ؛ مما يساعد على تكوين شخص فاعل وعضو نافع لمجتمعه.

خامسًا: صقل مواهب النشء ورعايتها؛ لتكوين الفرد المبدع، الذي يتمتع بالمواهب والملكات التي باتت ضرورة ملحة لتقدم المجتمعات في الوقت الحاضر، وذلك بتنمية قدرات النشء على التفكير الابتكاري، ووضع الحلول للمشكلات المختلفة، وتنمية قدراتهم على التركيز والتخيل والتعبير، واستثارة الذهن بالأسئلة والمناقشات، وتوجيه الأطفال إلى الأمور التي قد تكون أكبر من سنهم، ورفعِ همتهم، وتنظيم تفكيرهم.

سادساً: تكوين الفرد الصحيح جسميًّا وبدنيًّا، الذي يستطيع القيام بدوره وواجبه في عمارة الأرض واستثمار خيراتها، والقيام بأعباء الاستخلاف في الأرض ومهامه، التي جعله الله خليفته فيها؛ عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف»؛ ولهذا شجع الإسلام على أمور تقوي الجسم: كالرمي، والفروسية، والسباحة، وكان الصحابة يتبارَوْن ويتمرنون على رمي النبل، وصارع الرسولُ صلى الله عليه وسلم ركانة بن عبد يزيد فصرعه صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك سببًا في إسلامه.

هذا وسيأتي تفصيل القول في موقف الإسلام من هذه الأهداف، وكيفية سعيه إلى تحقيقها عند الحديث في مقالات لاحقة عن ميادين ومجالات التربية في ضوء السنة النبوية بمشيئة الله تعالى.





ودمتم





المراجع المتخصصة:





1 - أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع، عبد الرحمن النحلاوي، دار الفكر، دمشق، الطبعة الثالثة، 1425هـ - 2004م.




2 - أهداف التربية الإسلامية وغاياتها، مقداد يالجن، دار الهدى للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الثانية، 1409هـ.




3 - التربية الإسلامية للأولاد: منهجًا وهدفًا وأسلوبًا، عبد المجيد الحلبي، دار المعرفة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1422هـ - 2001م.




4 - تربية الطفل في الإسلام: النظرية والتطبيق، د/ محمد عبد السلام العجمي، وآخرون، مكتبة الرشد، المملكة العربية السعودية، الرياض، الطبعة الأولى، 1425هـ- 2004م.




5 - التربية قديمها وحديثها، فاخر عاقل، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثالثة 1981م.




6 - الطفل في الشريعة الإسلامية ومنهج التربية النبوية، سهام مهدي جبار، سلسلة الكتاب التربوي الإسلامي، إشراف: د/ محمد منير سعد الدين، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، الطبعة الأولى 1417هـ - 1997م.




7 - العبادة في الإسلام، يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1393هـ-1973م.





8 - العبودية، لابن تيمية، دار المدني للطباعة والنشر والتوزيع، جدة، (1398هـ-1978م).




9 - مقدمة في التربية الإسلامية، د/ صالح بن علي أبو عراد، الدار الصولتية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1424هـ - 2003م.




10 - منهاج الطفل المسلم في ضوء الكتاب والسنة، أحمد سليمان، مطبعة النرجس التجارية، الرياض، الطبعة الثانية، (1422هـ-2001م)، ص (24-26).







Viewing all 1343 articles
Browse latest View live