Quantcast
Channel: منتدى فرسان الحق فرسان السُـنة خير الناس أنفعهم للناس
Viewing all 1343 articles
Browse latest View live

أخاف من المرحلة الدراسية الجديدة

$
0
0
أخاف من المرحلة الدراسية الجديدة


أ. أسماء مصطفى


السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الإخوة الكرام في شبكة الألوكة، لديَّ مُشكلة خاصة بدراستي وهي:
أنا سأنتقل إلى المرحلة الثانوية العام القادم، وهذا يحبطني؛ فهي مرحلةٌ جديدة عليَّ، وأخاف ألا أتعرفَ على أحدٍ، أو أن أصبح وحيدة بلا صديقات، مشكلتي أني لا أحبُّ الاختلاط بالناس كثيرًا، ولا أصاحب إلا مَن كان مثلي، وأخاف أن أفشلَ في العثور على صديقات جديدات مثلي، فماذا أفعل؟ وشكرًا لكم.


الجواب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أختي الحبيبة، أولًا: أُحبُّ أن أرحبَ بشخصكِ الكريمِ الذي سعدنا جدًّا بتواصُلِه معنا، ونحن في انتظار رسائلكِ دومًا.
إنَّ تغيير المدرسة ليس بالأمر السَّهلِ، ولكلِّ إنسانٍ طريقةٌ في تقبُّل عمليَّة التغيير، ودرجة التكيُّف مع الشيء الجديد؛ فهناك مَن يتقبَّل تغيير المدرسة بشكلٍ مُباشرٍ، وهناك مَن يحتاج إلى التدرُّج في التعوُّد، وهناك مَن يرفض ذلك، ويظل حبيسًا لمدرسته القديمة، بسبب عدم حبِّ التغيير.
أرى الآن أنكِ اتخذتِ قرار التغيير، وهذا شيءٌ جيد جدًّا، بالإضافة إلى أنه لديكِ بعض القلق تجاه التغيير، وهذا أمرٌ مُواجهتُه يسيرةٌ، وسوف تشعرين بالغُربة في بداية الأمرِ، ولكن في وقت ما لا بُدَّ وأن يحدثَ تخطٍّ لهذه المرحلة، حتى ولو ببُطء، وسوف تُجِيدين التعامل مع المكان والناس الغريبة، عن طريق جهدٍ يسير منكِ في بعض النقاط الهامة:
اجلسي مع نفسكِ، وفكِّري ما الذي تحتاجينه عندما تبدئين شيئًا جديدًا، ولا سيما تغيير المدرسة, كرِّري لنفسكِ أنكِ سعيدة بمدرستكِ الجديدة؛ فهناك زميلاتٌ أُخريات سوف تتعرَّفين عليهنَّ، ومن ثَمَّ تكتسبين خبرات جديدةً، وأيضًا تستمرين في التواصل مع صديقاتكِ من المدرسة القديمة.
ابحثي عن النِّقاطِ التي تحتاجينها لمُواجَهة هذا القلق واكتبيها؛ مثل: الود, والمبادَرة, والروح الرياضيَّة، والجرأة, والتفاؤل, والاجتهاد، كذلك التعاوُن ومساعدة الآخرين أيضًا يكسب ود الناس.
بعد ذلك انظري إلى تغيير المدرسة مِن منظورٍ مختلف؛ مثل: أن تبدئي في تطبيق كل نقطةٍ يتطلَّبها التكيُّف مع المدرسةِ الجديدة، واقترحي بعض الأفكار الإيجابيَّة التي تُساعدكِ؛ مثل: أن تفَكِّري في أن تغييرَ المدرسة فرصة لكي تنسي أي مشاكل قد تكونين تعرَّضتِ لها في المدرسة السابقة، ومن ثم تكتسبين خبرات أكثر، وأيضًا تتجنبين تَكرارها.
إذا شعرتِ بأنكِ تُريدين التعرُّف على الآخرين، وليس لديكِ الجرأةُ؛ فإنَّ أسوأ شيء تفعلينه أن تبقي في عزلةٍ عنهم، فعليكِ أولًا بالإيجابية والمشارَكة في الفصل، مع إظهار روحكِ الطيبة، حينها ستجدين الكل يُحاول التقرُّب منكِ، والحِرْص على صحبتكِ، أيضًا احذري من التعالي على زميلاتكِ، وعليكِ بحُسن الخلقِ حتى تكوني عاملَ جذبٍ لهنَّ.

وعليكِ بطرد أي أفكار تشاؤميَّة مستبقة عن تكوين العلاقات، وحتى إذا جربتِ الاقتراب من إحداهنَّ، ولم يكنْ ردُّ فِعلِها مُرضِيًا لكِ، أو لم ترحبْ بذلك؛ فلا بد أن تواجهي ذلك برضًا وروحٍ مرحةٍ ورياضية، ولن يفشلَ أبدًا إنسانٌ يحاول ثم يحاول، وهذا لا يقلِّل من شأنك بالعكس!
وأخيرًا أوصيكِ بالاهتمام بقراءة الكتُب المتعلِّقة بتطوير الذات، وبناء العلاقات الإيجابية مع الآخرين، والاشتراك في الأنشطة الإضافيَّة في المدرسة، والاشتراك في اللجان التي تُقيمها مثل لجنة النظام، ولا تنسي أنَّ الله معكِ وكفى به معينًا.
وكم مِن أناس يجدون الكثيرين حولهم ، ومع ذلك فهم يشعرون بوحدة رهيبةٍ بداخلهم! فاسألي الله، واستعيني به، وفَّقك اللهُ لما يحبه ويرضاه، وفي انتظار أخباركِ المُطَمئِنة عن مدرستكِ الجديدة.







الفتور يتبعني فكيف أتخلص منه؟

$
0
0
الفتور يتبعني فكيف أتخلص منه؟


أ. شروق الجبوري


السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سأحاول باختصارٍ عرْض مشكلتي التي صارتْ تؤرِّقني كثيرًا، أنا شابٌّ في مُقتبل العمر، أذكر أنني منذ الصِّغَر كنتُ متفوِّقًا، وكان المعلمون فخورين بي، ويشيدون بذكائي وتميُّزي، وكنتُ - بفضل الله - الأول في دراستي!
بدأتْ نتائجي تتراجَع شيئًا فشيئًا، وكان أملي أنْ أعودَ إلى التفوُّق، فأعقد العَزْم كلَّ عامٍ على ذلك، ولا يمضي شهرٌ أو شهران إلا وتفتر همتي، وأُصبح مع التلاميذ الذين يهملون الدراسة، فأنزل عن المرتبة الأولى، ولكني أكون في الرابعة أو الخامسة!
أشعر أنَّ لديَّ طاقاتٍ كبيرةً، ولكني لا أستطيع أن أستخدمها، حتى شككتُ في قدراتي، وصار هذا الهاجس في كل حياتي؛ في الدراسة، والعبادة، والرياضة، وغيرها.
ففي بداية الدراسة أكتب برنامجي، ويمر العام ولا أحقق 10 في المائة منه، وأحيانًا لا أحقِّق منه شيئًا، وبعد سلسلةٍ من المحاولات أيْئَس، وأعود إلى سماع الأغاني.
أحيانًا يعود لديَّ الحماس عندما أُشاهد (فيديوهات) دينيَّة ترفع المعنويات؛ فيعود لدي الحماسُ والعزيمة، وأشعر أني عدتُ لحالتي الطبيعية، فأكون سعيدًا ومتفائلًا، وأعمل بجدٍّ، ولكنها حالة مؤَقَّتة، تظل بضع ساعات، ثم أعود لحالتي الأولى! هذه مشكلتي الأولى.
المشكلة الثانية: أنا شابٌّ وسيم، وجميع أقربائي وأصدقائي يشيدون بذلك، وهذا يسبِّب لي أرقًا؛ فعند تجوُّلي في الشارع ألاحظ أن أغلب الناس ينظرون إليَّ، خاصة الفتيات، فكنتُ أظن أنَّ هذا الأمر وسواس، ولكن هذه مُلاحظة أصدقائي أيضًا، وهو ما سبَّب لي ضعفًا كبيرًا؛ نظرًا لكثرة الشهوات!

أرجو أن تخبروني بالحل، جزاكم الله خيرًا.


الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
ابني الكريم، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
يُسعدنا أن نرحِّب بانضمامك إلى شبكة الألوكة، ونسأل الله - تعالى - أن يستخدمَنا ويسدِّدنا في تقديم ما ينفعك، وينفع جميع المستشيرين.

لقد أصبتَ حين قلتَ في آخر رسالتك: إنَّ حلَّ مشكلاتك يكمُن في ثباتك على المثابرة، والحفاظ على الحماس في البذل، واستثمار الطاقات.
وهو أمرٌ يُشير إلى اتسامك بالفكر السليم، والقدرة على التقييم الصائب للأمور، وهو ما يبيِّنه أيضًا سياقُ رسالتك.
فأنت - يا بني – تتمتَّع فعلًا بالذكاء، والميل للاتسام بالمثالية، ولديك القدرات التي تُعِينك على ذلك.
وإنَّ قيامك بالاطلاع على المحاضرات الدينية، أو قصص نجاح الشباب؛ لِتثير حماسك وهمتك - كان تصرفًا صائبًا لمواجهة ما تُعانيه، ولتحقيق ما تطمح إليه.
لكن مشكلتك الرئيسية تكمُن في نوع الرُّفقة التي تُصاحبهم، بدليل أن حالك منذ كنت في الابتدائية - وحتى الآن يرتقي ثم ينخفض - بحسب مَن تصاحبهم.
فحين التقيت بصحبة خير حَسُن التزامك، وأصبح لديك شعور بالرضا عن نفسك؛ ولذلك فإنَّ أهم خطوة عليك اتخاذها الآن، هي البحث عن رفاق صالحين، تتبادل معهم الأحاديث المفيدة، وعندها ستُشغَل فكريًّا بتلك الأحاديث؛ فتحل محل الأفكار السلبية.
كما أن تلك الصحبة قد تشاركك اهتماماتك وطموحاتك، ومعهم يمكنك الحفاظ على الحماس والهمة، حين يذكِّر أحدكما الآخر بذلك؛ فالحفاظ على هذه المشاعر يكون أمرًا صعبًا إذا كانتْ بعيدة عن الجماعة الصالحة.
كما يُمكنك البحث عن مثل تلك الصحبة عن طريق الإنترنت، من خلال مشاركتك في المنتديات، والمواقع التي تقوم على مثل تلك الأهداف الحميدة؛ ففيها ستلتقي بشباب يشاركونك طموحاتك وأفكارك، وتتبادل معهم الخبرات بإيجابياتها وسلبياتها.
وتأكَّد أن طاقاتك وقدراتك هي حقائق موجودة بالفعل لديك، ويؤكد ذلك أسلوب تفكيرك الذي تبيِّنه رسالتك، وأن الله - تعالى - قد منَّ عليك بنِعَم أخرى غيرها، فلا تجلد نفسك بتعطِّل استثمارها؛ فإن ذلك سيكوِّن لديك صورة سيئة عن نفسك، وقد يقود ذلك إلى القنوط والعياذ بالله - تعالى.

ولكن لوم الذات على التقصير، والعزم على التغيير، وتكرار المحاولات، والاجتهاد فيها مهما واجهت من إخفاق، مع ما قدمته من نصح بالصحبة الصالحة - هي الخطوات الصائبة، التي يجب أن تتلازم مع الدعاء المستمر إلى الله - تعالى - ومع اليقين، وحسن الظن بعطائه - عز وجل.

وأخيرًا، أختم بالدعاء إلى الله - تعالى - أن يصلح شأنك كله، ويحفظك، وينفع بك، وتوَّاقون لسماع أخبارك الطيبة مجددًا.






أريد أن أخطب صديقتي في الجامعة، فماذا أفعل؟!

$
0
0
أريد أن أخطب صديقتي في الجامعة، فماذا أفعل؟!
الشيخ خالد بن عبدالمنعم الرفاعي


السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
السادة الكرام، أرجو فتح قلبكم لي، والاستماع لي ونصحي؛ ولكم من الله الأجر والثواب.

أنا طالبٌ في الفرقة الثالثة الجامعيَّة، والحمد لله متفوِّق في دروسي، وموظَّف في نفس الوقت، في الفرقتين - الأولى والثانية - لم تكنْ لي علاقةٌ وطيدة مع فتيات القسم الذي أردس فيه، سِوى السلام، وبعض الحوارات الخفيفة التي تدور حول الدراسة.
في الفرقة الثالثة تعرفتُ على فتاتين مِن نفس قسمي، ونفس شعبتي، وربطتني بهما علاقةٌ جميلة في بداية السنة، حتى إني كنتُ أقرأ معهما المواد الدراسيَّة على "الإنترنت"، أحببتُ واحدةً منهما؛ وذلك لأنها تملك قلبًا طيبًا، ولكن شخصيتها ضعيفة، فأردتُ أن أصنعَ منها شخصيَّة قوية!
كان حديثُنا على الإنترنت يدور حول المستقبل، وما يكمن في أذهاننا، وشعرتُ أنها أُعجبتْ بي، واتفقنا أن نكونَ أصدقاء أوفياء، وبعد مدة صارحتُها بحبي لها، وأني أريدها أن تكونَ زوجةً لي، ثم طلبتُ منها أن أعرف طلباتها المادية الخاصة بالزواج؛ لأنها بالنسبة لي أمانة؛ وعليَّ الحفاظ عليها، وإذا لم أستطع حمل الأمانة، فلا أقترب منها.
فاتصلتْ بي والدتُها، وأخبرتني أن الوقت ليس مناسبًا، وأنك لا بد أن تتطور ماديًّا، وأن طلبي فيه نوعٌ من التهوُّر والاستعجال.
الآن بدأت الفتاةُ تنسحب من علاقتنا، وهبطتْ علاقتي بها لأدنى مستوى، مع أني كنتُ أنصحها دومًا بالالتزام، وحضور المحاضرات، ولكنها بدأتْ تُقابلني بجفاء! فكيف أكسر هذه الحواجز التي بيني وبينها؟ وكيف أعرف أن البنت تريدني زوجًا لها في المستقبل؟

وجزاكم الله خيرًا.


الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
فثِق - أخي الكريم - أننا نفتح قلوبنا لكلِّ من وثق بنا بعرض مشكلته علينا، ونُحسن الإصغاء إليه، ونأمل أن تقعَ مشورتنا منك موقعًا حسنًا، يأخذ بيديك للعمل بها؛ فقولك:
"تعرفتُ على فتاتين من نفس قسمي، ونفس شعبتي، وربطتني بهما علاقة جميلة في بداية السنة، حتى إني كنت أقرأ معهما المواد الدراسية على الإنترنت، واتفقنا على أن نكون أصدقاء أوفياء... وبعد مدة صارحتُها بحبي لها، وأني أريدها أن تكونَ زوجةً لي... إلخ".
هذه حقًّا مشكلةٌ نعيشها ونعانيها في مجتمعاتنا الإسلامية، وفي عالمنا العربي والإسلامي؛ مصيبة الاختلاط بين الرجال والنساء وشيوعها، حتى صرنا لا نستقبحه، وصرنا نتعامل مع الأمر وكأنه حلال محْض؛ الشابُّ والشابة يحدِّث نفسه بالانتقال للمرحلة الجامعية، وهو متعطِّش لإقامة علاقات صداقة، وحب، وغير هذا، ولا يخطر بباله - مطلقًا - هل هذا يوافق ديننا؟ أو يناسب قيمنا وعاداتنا؟ أو هل نرضاه لأخواتنا وبناتنا في المستقبل؟ وتمادى الشيطانُ بنا حتى ظننا أن البيوت والأسر والزواج الذي سمَّاه الله ميثاقًا غليظًا - يتم بتلك المقدمات المحرَّمة، وبهذا التهريج المنافي للجديَّة، فما تظنه مباحًا مشروعًا، وتتحدث عنه بلهفةٍ وإنكار على أمِّ زميلتك كان - ومع الأسف - في مجتمعاتنا سببًا لمشاكل لا يعلم قبحَها إلا اللهُ؛ من البلايا والمصائب، فأنت - يا أخي العزيز - إن كان قد رزقك الله دينًا يمنعك من التمادي من الوقوع في الكبائر، ولكن كم غيرك يقف على الحُدود؟ وهل تضمن نفسك ألا تنجرف أكثر وأكثر؟ لأن هذه طبيعة الفتَن أنَّ مَن تعرض لها أهلكتْه، وأنت تعلم أن العاطفة الجيَّاشة والقوية لا يقف أمامها شيءٌ، وتعلم مدى انتشار العلاقات المحرَّمة في محيط الجامعات؛ فاحمد الله أنك لم تنجرفْ أكثر حتى الآن، واعمل بنصيحة والدة الفتاة، ولا تَجْرِ وراء وهْمٍ وسراب الحب، والعلاقات المشبوهة بين الشباب والفتيات التي أطلَّت علينا في هذا الزمان، وأقبِل على تعليمك، ولا تتعرَّض للفتيات بدعوى الحب المزعوم، أو الصداقة، أو البحث عن شريكة حياة؛ فكلُّ هذه مهاوٍ مهلكة، يفقد فيه المسلمُ دينه، وحياءَه؛ فالإسلامُ يحرِّم كل علاقة بين الشابِّ والشابة خارج نطاق الزوجيَّة، وليس عندنا في ديننا وشِيَمنا العربية ما يُعرف بالحبِّ بين الجنسين على النحو المصطلح عليه الآن، وهذه الصداقة أو العلاقة بين الشباب والشابات، وما يترتب عليها من مفاسد - هي نتيجة حتميَّة للتعليم المختلط في الجامعات أو المدارس المنتشرة في كثير من بلاد المسلمين.

وقد أحسنتْ والدةُ الفتاة في موقفها من تلك العلاقة؛ فهي تعيش مسؤولية ابنتها، وتؤدِّي الأمانة، وهذا واجبٌ عليها، وهي تُدرك قلة خبرتكما، ومن ثَمَّ قطعت الطريق على ابنتها، وتُدرك أن البيوت لا تُبنى على هذا، وتعلم أنَّ كلَّ فتاة سلكتْ هذا الطريق الوعر تُسيئ لنفسها ولأسرتها، ولو جاءها أيُّ خاطب سارعت بقبوله تاركة حبيب القلب؛ لعلمها أن ما يفعلانه لا يُبنى عليه بيتٌ، وأنه ينافي الجدية.
والحاصلُ أنه يجب عليك نسيان الأمر، والابتعاد عن تلك الفتاة، وغيرها، ولا تعجل على نفسك، فأكمل تعليمك، وابحثْ عن عمل مناسبٍ، ثم ابحث - بعد ذلك - عن شريكة حياتك وَفْق النصائح النبوية؛ فالجامعاتُ لم تبنَ للصداقة بين الجنسَيْن، وليست أماكن للبحث عن زوجة، وإنما هي أماكن لطلب العلم، نسأل الله - عزَّ وجل - أن يعيدَ للمسلمين عزهم وتمكينهم، وأن يهدي حُكَّامهم لتطبيق أحكام الله - تعالى - على خلقِه.






كيف أستعيد ثقة أهلي فيَّ؟

$
0
0
كيف أستعيد ثقة أهلي فيَّ؟


أ. شروق الجبوري



السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لديَّ مُشكلة مع إخوتي الذُّكور، فأنا البنتُ الوحيدة؛ لذا فأغلَب عمَل البيت والمسؤوليات عليَّ، أنا فتاة كتوم وهادئة، أمَّا أمي فعصبيَّة جدًّا لا تتفَّهم مشاكلي، إذا تحدثتُ معها في أمرٍ فإنها تستجوبني، لذا لا أتحدَّث معها كثيرًا، تبحث في كلِّ فِعْل فعلتُه، وكأني مُخطِئة في كلِّ التصرُّفات، لا أعرف كيف أرضيها؟ ولا كيف أتعامَل معها؟ فهي دائمًا تدعو عليَّ!
تعرفتُ على شابٍّ منذ أشهر، وكنتُ أحَدِّثُه هاتفيًّا، فعرفتْ أمي بالأمر، وأخبرتْ أبي؛ فأخذوا مني الهاتفَ، ومنعوني مِن الاتصال به، فحاولتُ الانتحار! ولكن الحمد لله لم يحدث شيءٌ، وسترها اللهُ!
أصبحوا حريصين عليَّ، وأشعر أحيانًا بنظرات احتقار مِن أبي، رغم مرور سنة وأكثر على الحادثة، لقد تُبتُ وعرفتُ خطئي - ولله الحمد، ولكنهم لم يُعيدوا إليَّ هاتفي إلى الآن، لا أعرف كيف أُعيد ثقتهم فيَّ، فلا أحد يتفهَّمني، أصبحتُ أشعر بالوَحدة كثيرًا، هذه المشكلة الأولى.
المشكلة الثانية: أني لا أخبر أحدًا بمشاكلي، حتى تراكَمتْ عليَّ المشاكلُ والهمومُ، وأصبح الضيقُ لا يُفارِقني حتى مع صديقاتي، فأنا غامضةٌ لا أحد يعرف عني الكثير، أصبحتُ عصبيةً جدًّا، وأفرِغ جميع الطاقة السلبية بالصُّراخ على أتفه شيءٍ مِن كثرة الضغوط النفسية التي أشعُر بها، انتهى بي كلُّ ذلك إلى الاكتئاب.

لا أعرف ماذا أفعل، بماذا تنصحونني؟ وجزاكم الله خيرًا.


الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم

ابنتي الكريمة، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
نرحِّب أولًا بانضمامكِ إلى شبكة الألوكة، وندعو الله تعالى أن يُسخِّرنا في تفريج كربتكِ وكُرَب جميع المستشِيرين.
كما أودُّ أن أُشيدَ بما لمستُه فيكِ مِن وعيٍ وتقييمٍ جيِّدٍ لمشاعركِ، وقدرة على الاعتراف بالخطأ وتصحيحه، بل والإصرار على الثبات على موقفكِ، بترْك الخطأ رغم انزعاجكِ مِن ردِّ فِعل أهلكِ، وهو ما يُشير إلى اتِّسامكِ بالفكر السليم، ورغبتكِ في الارتقاء بنفسكِ، والاستفادة مِن الأخطاء في تصحيح مسارِ حياتكِ.
ولذلك فإني لنْ أتحدَّثَ عما فات مِن الأخطاء؛ لأنكِ قد وصلتِ الآن إلى المرحلة السليمة التي تعدُّ مِن أهم المراحل في علاج المشكلات، وهي إقراركِ بالخطأ، واقتناعكِ التام بتَرْكه وتجاوُزه.
ولكي تكتمِل تلك المراحلُ، وتستثمري السمات الإيجابيَّة التي ذكرتها، فإني أَنصَحكِ بأن تنظري إلى وضْعكِ مع أسرتكِ برؤيةٍ أخرى غير التي تُفكِّرين بها الآن، فأهلُكِ يا عزيزتي رغم حرمانهم لكِ مِن الهاتف، لكنهم لم يمنعوكِ مِن استخدام الإنترنت، وهو أمْر يُشير إلى أنَّ ثِقتَهم بكِ لم تنتفِ نهائيًّا كما تشعرين، وأنَّ احتفاظَهم بهاتفكِ إلى الآن قد يُمثِّل رغبةً منهم في إشعاركِ بأنَّ خطأكِ قد آلمهم.
ولذا فإنَّ أَفضل ردِّ فِعل على هذا الأمر، هو أن تأخذي قرارًا داخليًّا بأنكِ ستَشغلين فكركِ وتملئين نفسكِ بأمور إيجابيةٍ عديدة يُمكنكِ القيام بها، وأنكِ ستغيِّرين شخصيتك تمامًا بتغيير أيِّ صفة سلبية إلى ما يناقِضها من صفة إيجابية؛ (ومنها مثلًا: العصبية إلى الحِلم)، وأنكِ ستبحثين في نفسك عن قدراتكِ ومواهبكِ التي لا شك أنها كثيرة، وكرِّري تخيُّل نفسكِ مع تلك الشخصية الجديدة الفَعَّالة، ليتكوَّن لديكِ دافعٌ شخصي نحو هذا التغيُّر، قبل أن يكونَ لأجل تحسين انطباع أهلكِ عنكِ، وعندها سيكون قيامكِ بذلك بدافع أكبر، بالإضافة إلى أنه سيَشغلكِ عنْ كثير من الجوانب السلبية التي تشتكين منها في حياتكِ، ومنها تصرُّف أهلكِ، وبعد مرورِ فترة على ذلك ستشعرين - بإذن الله تعالى - بتغيُّرٍ في أسلوب تعامُل أهلكِ معكِ؛ لأنهم سيَرَوْن بالواقع إنسانةً جديدةً تتمتَّع بكثيرٍ من الصفات الحميدةِ.
كما أتمنى منكِ يا عزيزتي أن تتَّسمي بشيءٍ من الفراسة وقوة الملاحَظة التي تجعلكِ تتعرَّفين على الأسباب التي تُثير غضبَ والديكِ، مهما رأيتِها يسيرة، لتقلِّلي قدْر ما تستطيعين مِن مواقف غضبهم، فيتعزَّز لديهم شُعُورٌ بالتثقل من إبداء انزعاجهم بأسلوب الغضب، واعلمي يا عزيزتي أن عبْءَ المسؤوليات التي تحملينها اليوم، ستبني منكِ إنسانةً قويةً، وترفَع مِن ثقتكِ بنفسكِ، كما تُشير الدراساتُ، خاصة إنْ فكرتِ بها على هذا النحو.

وأذكِّرك بأهمية التوجُّه إلى الله تعالى بالدعاء ليُصلِح ما بينكِ وبين أهلكِ، فلا تنسَي أن قلوبهم وقلوب جميع عباده بين إصبعين مِن أصابع الرحمن.

وأخيرًا أختِم بالدعاء إلى الله تعالى: أن يُصلِحَ شأنكِ كله، ويشرحَ صدركِ، ويفتح لكِ أبواب الخير وينفع بكِ، وسنكون سُعَداء بسماع أخباركِ الطيبة.






فراغ قلبي أدى إلى الخيالات الجنسية

$
0
0
فراغ قلبي أدى إلى الخيالات الجنسية


أ. عائشة الحكمي






السؤال

السلام عليكم ورحمة الله و بركاته.

أسأل الله أن ينفعني بكم، وينفع بكم الجميع.

أنهيتُ الثانوية العامة بتفوُّق - والحمد لله - ولم أكن قررتُ أين سأدرس بعدُ، وأنا أحفظ القرآن الكريم مِن صغري، وألتزم بالحجاب الكامل - ولله الحمد، ولكن مشكلتي أني لستُ كما يراني الناس، أنا أحقر مما يظنون، وأحس بأن ما سبق لا يُغنِي عني شيئًا.

لديَّ مشاكلُ كثيرةٌ مع نفسي، وسوف أسرد هنا الذي أقدر عليه، وأتمنى أن تَعتَنوا بكلِّ نقطة منها.

أولًا: شهوتي الجنسيَّة كبيرةٌ، وربما ليستْ كذلك، وأنا مَن يتخيَّلها كذلك، ولكنني أمارس العادة السرية منذ سنين، هذه هي مشكلتي الكبرى، التي تجعلني أحتقر نفسي، وأرى الدنيا سيئة، وأكره حياتي.

لا أدري إن كنتُ أمارس العادة السرية حقًّا، أم لا؟ لأنني لا أمارسها باليد، ولكن بالضغط على نفسي وأعصابي حتى أشعر بلذَّة!

لم أُمارسْها بانتظامٍ؛ فقد تبتُ منها مرَّات عديدة، وربما طالتْ مدة انقطاعي عنها لأشهر، وقد تركتُها مدة الدراسة كلها تقريبًا؛ رغبةً في أن يوفِّقني الله في دراستي، ولكنني عدتُ بعد انتهاء الدراسة.

سيدتي الكريمة، من بداية معرفتي بها لم أكن أعرف حرمتَها، ولكني عندما عَرَفتُ تركتُها، وحاولتُ أن أتوبَ إلى الله - عز وجل - مرارًا ، ولكن المحاولات كانتْ فاشلة.

ثانيًا: خيالي مِن مشاكلي الكبرى أيضًا؛ فأنا أستطيع تخيُّل أي شيء، والكثير من خيالاتي جنسيَّة، ولا تتعجَّبوا إذا قلتُ لكم بأني أحس أن نصف حياتي خيالات! فأنا دائمًا أفكِّر، فأقول: ما سيحدث إذا قابلتُ فلانة؟ وماذا لو قابلتُ شابًّا؟ وماذا سيقول لي؟ وبماذا سأرد عليه؟ وماذا سيحدث في الجامعة؟ وماذا سيحدث بعد الزواج؟ وهكذا.

مُعظم هذه الخيالات يأتي في أوقات النوم وقبله، وبعضها في أوقات اليقَظة أيضًا، وأعلم أنها لا حقيقة لها، ولكنها تضيع عمري، وتثيرني أيضًا، وأخشى أن يحاسبَني الله عليها؛ فماذا أفعل؟

ثالثًا: عواطفي جيَّاشة، ولا أستطيع السيطرة عليها، فأنا أحب بسرعة، وقد لا يكون حبًّا وإنما إعجاب، فمثلًا أعجب بالكثير من الشباب والرجال من الدعاة والمذيعين على شاشة التلفاز، وأتمنَّى كلًّا منهم زوجًا لي، كما تخدعني الوسامة جدًّا، مع أني لستُ بارعة الجمال.

رابعًا: تكرَّرتْ معي في الآونة الأخيرة الأحلامُ السيِّئة التي فيها أشياء منافيةٌ للأخلاق، وهذه لا أستطيع نسيانها، كما أنها تحزنني؛ لأني أشعر بأني سيئة جدًّا.

وأخيرًا: أعتقد أن معظم مشاكلي نابعة مِن فراغ قلبي، وفراغ حياتي، وتقصيري في قرآني وفي حقِّ ربي؛ فأتمنى منكِ أن تقترحي عليَّ بعض الأنشطة التي قد تنشغل بها الفتاةُ وقت الفراغ؛ حتى أعمل بها إن شاء الله.



أتمنى أن أكون قد أعطيتُكم المعلومات الكافية لحل استشارتي، علمًا بأني أتابع استشاراتكم منذ سنة تقريبًا، وقرأتُ منها الكثير مما يعالج مشكلاتي، ولكن للأسف لا فائدة.


الجواب

بسم الله الموفِّق للصواب

وهو المستعان



أيتها العزيزة، أباركُ لكِ تخرجَكِ بامتيازٍ وتفوُّق، وأشكر لكِ حُسن ظنكِ حين جعلتِنا موضع ثقتكِ، سائلةً المولى القدير أن يوفِّقكِ لما يحبُّ، ويوفِّقنا لما تحبين، آمين.

كنتِ قد حدَّدتِ مشكلاتكِ في أربع نقاط، وسأجيبكِ عنها على ترتيبكِ لها، وبالله التوفيق:

أولًا: الاستمناء:

سُئِل شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى، ورَضِيَ عنه - في "الفتاوى الكبرى"، عن: "رجل يَهِيج عليه بدنُه، فيستمني بيده، وبعض الأوقات يُلصِق وركيه على ذَكَره، وهو يعلم أن إزالة هذا بالصوم، لكن يشق عليه؟".

فأجاب:

"أما ما نزل من الماء بغير اختياره، فلا إثْمَ عليه فيه، لكن عليه الغسل إذا نزل الماء الدافِق، وأما إنزاله باختياره بأن يستمني بيده، فهذا حرامٌ عند أكثر العلماء؛ وهو إحدى الروايتين عن أحمد، بل أظهرهما، وفي روايةٍ أنه مكروه، لكن إن اضطرَّ إليه؛ مثل أن يخاف الزنا إن لم يستمنِ، أو يخاف المرض، فهذا فيه قولانِ مشهوران للعلماء، وقد رخَّص في هذه الحال طوائفُ من السلَف والخلَف، ونهى عنه آخرون، والله أعلم".

وهذا الذي أفتى به شيخُ الإسلام مِن أجود ما قيل في الاستمناء، وأَوْلَاها - إن شاء الله تعالى - بالصواب.

وقد ذكَر العلامةُ ابن قيم الجوزية - رحمه الله تعالى، ورَضِي عنه - في كتابه المعجب "روضة المحبِّين" قاعدةً، وهي: أن الله - سبحانه وتعالى - لم يجعل في العبد اضطرارًا إلى الجِماع، بحيث إن لم يفعلْه مات، بخلاف اضطراره إلى الأكل، والشرب، واللباس؛ فإنه مِن قوام البدن الذي إن لم يباشره هَلَك، ولهذا لم يُبِح من الوطء الحرام ما أباح من تناول الغذاء والشراب المحرَّم، فإن هذا مِن قبيل الشهوة واللذة، التي هي تتمة وفضلة، ولهذا يُمكن الإنسان أن يعيش طول عمره بغير تزوج وغير تَسَرٍّ، ولا يمكنه أن يعيشَ بغير طعام ولا شراب، ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الشباب أن يداووا هذه الشهوة بالصوم".

وهذا الكلام في نهاية الصحة؛ لأن شهوتكِ الجنسية ليستْ بداعية الاستمناء كما تتوهَّمين، والدليل على ذلك أنك انقطعتِ عنْ ممارسة هذه العادة القبيحة طول فترة الدراسة، فأين ذهبتْ تلك الشهوةُ المفرِطة طول العام؟! هنا مربط الفرَس؛ فالعمليَّةُ الجنسية - الاستمناء أو الجِماع - تبدأ فسيولوجيًّا من الدماغ! فكلُّ الأفكار والمشاعر والأحاسيس الجنسية إنما تحدث عن طريق الرسائل الكيميائية، ومستقبلات الخلايا العصبية في الدماغ، وحين شغلتِ عقلَكِ بالدراسة والمذاكرة توقَّف تفكيرُكِ في الجنس، وبهذا يصدق القول بقدرة الشخص على التحكم في رغباته الجنسية بتَرْك التفكير فيها؛ والاشتغال بما هو أَوْلَى منها، عبر ما يصطلح علماءُ النفس على تسميتِه بالتسامي؛ أي: من خلال تحويل الدافع الجنسيِّ إلى طاقة خلَّاقة؛ كالكتابة الأدبيَّة، والتفوُّق العلمي، والإبداع الفني، أو إلى طاقة تعبدية تسمو بالنفس إلى السماء؛ كالصوم.

وليس يتأتَّى لي أن أعلمكِ عن كلِّ الأنشطة النافعة؛ فالمسألةُ عائدةٌ إلى اهتماماتكِ الشخصية، وقدراتكِ الخاصة، ومهاراتكِ المختلفة، وكنتُ قد بسطتُ الكلامَ فيها في عددٍ مِن الاستشارات، فلا حظَّ في تَكْرارِها إن كانتْ لا تقابَل إلا بالاستهانة وقلة الاحتفال، أو الاستثقال وعدم التطبيق!

ولكن بصفةٍ عامةٍ، يُمكنكِ التنفيس عن طاقات الجسد؛ بالتمرين الرياضي، وتناول الغذاء الصحيِّ، والنوم الكافي، وأعمال المنزل، والعناية بجمال البشرة والشعر والجسد.

أما طاقاتُ النفس فتتحرَّر بالاسترخاء، والتأمُّل، والتسجيل في دورات تطوير الذات، أو مُطالعة الكتب المصنَّفة في هذا الباب.

بينما تتحرَّر طاقات العقل بمُذاكَرة العلم، ومُطالعة الكُتُب القيِّمة، وتنمية الهوايات والمهارات الفنيَّة، والأدبيَّة، والعلميَّة، التي تجدين نفسكِ فيها، وإنفاق المال لشراء الأدوات التي تُسهِم في تطويرها، فليس يُكتَفى في الرسم مثلًا أن ترسمي بالقلم الرصاص على كراسة الرسم، بل لا بد من تجرِبة الأدوات الفنِّيَّة الأخرى؛ من ألوان وخامات ورقية مختلفة، والاطلاع على المواقع المتخصصة، والتسجيل في الدورات الفنية، وهكذا الشأن مع كلِّ مهارة.

أما طاقات الروح، فيمكنكِ السمو بها مِن خلال أعمال البِرِّ التطوعيَّة، والطاعات التعبُّدية؛ مِن فرائض ونوافل، ثم اجعلي لكلِّ طاقة قسمًا من يومكِ وليلتكِ، تُفرغين لها تساميًا لدوافعكِ الجنسيَّة.

وكل ذلك لن ينجح إلا بالنية الصحيحة، والعزْمِ الصادق، ومجاهدة الهوى، والتطبيق! وهي أمورٌ لا يدَ لي فيها، إلا أن يريد الله بكِ خيرًا، فيوفِّقكِ للهداية إليها، والعمل بها، وأنا أثق في قدرتكِ على النجاح في علاج مشكلتكِ؛ لأنكِ قد نجحتِ من قبلُ في ذلك، وحبذا لو نظرتِ في استشارة: "من التحرش إلى العادة السرية إلى الانتحار!" ؛ ففيها المزيد من النصائح المتعلِّقة بعلاج الاستمناء.



ثانيًا: كثرة الخيالات الجنسية، وأحلام اليقَظة:

التخيُّل عملٌ مِنْ أعمال الفِكْر، وآلةٌ مِن آلات الإبداع، وطريقة مِن طُرُق العلاج النفسي، لكنكِ إن أسلمتِ عقلكِ للتخيل وأحلام اليقظة طول النهار كنتِ كمَن يَهرُب من الواقع وتحمُّل المسؤوليات بمُعاقرة الخمر وتعاطي المخدِّرات؛ فالمطلوب إذًا توظيف الخيال وأحلام النهار لخدمتكِ، لا لتضييع وقتكِ!

والمسألةُ بحاجة إلى إرادةٍ وصدق عزيمة؛ لضبْطِ هذه الأحلام وتقنينها، إلا إذا تحوَّلتْ إلى أفكار قهريَّةٍ، فعندئذٍ لا بد مِن التدخُّل الدوائيِّ لعلاج المشكلة.

ولضبط هذه الأحلام لا بد من الانتباه الفوريِّ من الحلم النهاري، وعدم إلقاء المَقادَة إلى التفكير الخيالي، وكذلك التدخل الواعي في اختيار نوعية الخيالات؛ كالتفكير في الأمومة والتربية، عِوَضًا عن التفكير في العَلاقة الحميمة، والتفكير في التخصص العلمي، عِوضًا عن التفكير في زميل الدراسة... وهكذا.

تجنَّبي أيضًا الخَلوة، إلا أن تأنسي فيها بالله وحده، واختلطي بالآخرين، فكلما اتسعتْ رقعة نشاطاتكِ الاجتماعية من صلة للقرابة والأصدقاء؛ ضاق الطريق على الخيالات الجنسية.

واصرفي إجالةَ النظرِ والفكرِ من الخيالات الجنسية إلى التدبُّر والتفكُّر في الخلق، والتأمُّل، والتعبُّد، كما كان يفعلُ الحبيبُ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة.

وأصلحي يومكِ بالاشتغال بتنمية الهوايات، وتعلم المهارات، وأَنهِكي جسدكِ بالرياضة، وأعمال المنزل؛ فالملَل، والفراغ، والميل إلى الكسَل، والراحة - من أسباب فرط أحلام اليقَظة.

وقوِّي مهارة التركيز مِن خلال ألعاب الفيديو، وحل الألغاز؛ فأحلام اليقظة هي الوسيلة الهُرُوبية للخلاص من التركيز على الأعمال والمهمات.



ثالثًا: سرعة التعلُّق بالآخرين:

العاطفة الجيَّاشة مَزِيَّة وليستْ عيبًا، ولكنها كماءِ القنوات التي يسقى بها البساتين والغيطان، فإن لم يكن الماء مقدرًا بما تحتاجه البساتين من الماء لتثمر؛ كانتْ زيادته سببًا في تلَفِها ودمارِها!

ما تحتاجين إليه هو تقنينُ هذه العواطِف، بالقدر الذي يجعلك محبَّة ومحبوبة، مِعطاءة ومُنتِجة، بدون أن يتسبب ذلك في تمزيق قلبكِ المحب بسبب خَيْبة أملكِ في الناس التي لا مفرَّ منها!

يبدأ علاج التعلُّق بالآخرين بتعليق القلب بالله - عزَّ وجل - ثم الارتباط بالأشياء لا الأشخاص؛ فالأشياء التي لا عقل لها ولا قلب، أصدق وفاءً مِن ذوي العقول والقلوب؛ فالكتاب - وهو "شيء" - لا يحطِّم قلبكِ، كما قد يحطِّمه شابٌّ أحببتِه، أو صديقة وَثِقتِ بها، أو مدير تخلصين في عملكِ معه!

من هنا وجِّهي عواطفكِ للماديات - كالكتب، والأعمال الخاصة - فترةً مِن الزمن، قبل الدخول في العَلاقات الاجتماعية، ثم إذا أصبح لديكِ متكأ مادِّيٌّ تلتمسين فيه الراحة النفسية، أمكنكِ وقتئذٍ بناء العَلاقات الاجتماعية، شريطةَ أن تبني العَلاقة على مَهلٍ، مِن خلال التعريف بنفسكِ بمعلومات لا تضركِ معرفتُها، وعدم الانتقال إلى مرحلة بث الشكوى والحزن حتى تخبركِ الأيام حقائق نفوسهم وأخلاقهم وطبائعهم!

أيضًا لا بد مِن تقدير الذات؛ للخلاص من ربقة التعلُّق، فكلما كنتِ أكثر تقديرًا واحترامًا لنفسكِ - وهو ما تفتقدين إليه، كما يظهر من عبارات التحقير لنفسكِ - كنتِ أشدَّ اطمئنانًا إلى أنكِ لم تخسري شيئًا بفقْد الآخرين وتخلِّيهم عنكِ.

وجملة الأمر أن (الحبَّ) عاطفة، و(التعبيرَ عن الحب) فعلٌ؛ أي: سلوك، والعاطفة يصعب السيطرةُ عليها، ولكن السلوك مما يمكن ضبطُه، والسيطرة عليه، هذه هي القاعدة فلا تنسيها.



رابعًا: الأحلام الجنسيَّة:

بعض المنام مِنْ تعلُّق القلب وما تصوِّره النفس في اليقظة، ولو خلا القلبُ والفكر نهارًا من هذه الأشياء لم نحلمْ بها ليلًا، ولكون الأحلام مما لا يمكن لأحدٍ التحكم في مضمونها، رُفِع القلم عن كتابتها في صحف الأعمال؛ فقد ثبت عند أبي داود والنِّسائي، عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((رُفِع القلم عن ثلاثةٍ: عن النائم حتى يستيقظَ، وعن المبتلَى حتى يبرَأ، وعن الصبي حتى يكبَر))، مع ذلك ينبغي عليكِ المواظَبة على الطهارة والوضوء، والتحصُّن بأذكار النوم قبل الذَّهاب إلى النوم، مع استعمال الخيال في التفكير الإيجابي قبيل النوم؛ كالتفكير في مستقبلك العلميِّ، والوظيفيِّ، والدعويِّ، وما إلى ذلك من الأمور التي تبعد عن الجوانب الحسِّيَّة والعاطفية، والعبرة ليست بالحلم، بل باليقظة، فإذا رأيتِ الماء وجب عليكِ الغسل ساعتئذٍ على ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم.


وعلى كلٍّ استمِدِّي مِن الله - عز وجل - التوفيق والعون، واسأليه - سبحانه - أن يَهديكِ لرشدكِ، وينزِّهكِ عن كل قبيح، ويَعصِمكِ من زيغ الهوى؛ إنه بالإجابة جدير، وعلى ما يشاء قدير.



لكِ مني ومن "أ. مروة عاشور"، ومن أسرة "الألوكة" صالح الدعوات بالتوفيق والسعادة، والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب، وله الحمد والنعمة، وبه التوفيق والعصمة.






توجيه في الزواج من مبتعث

$
0
0
توجيه في الزواج من مبتعث

اجاب عليها فضيلة الشيخ عبد الرحمن البراك السؤال

شيخنا الفاضل؛ أنا أطلب العلم، وأعلم حرمة الإقامة بين ظهراني الكفار، وكلام أهل العلم في شروطها وقيودها وما إلى ذلك، سؤالي: تقدم لي مبتعث يدرس الصيدلة، أآخذ نفسي بالعزيمة وأرفض خشية الفتن والدخول في النهي النبوي؟ أفتونا مأجورين.







الجواب

الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد: أما بعد فتعلمين ـ أيتها الأخت الفاضلة ـ ما أفتى به أهل العلم من تحريم الابتعاث إلى ديار الكفار، وتحريم السفر إليها من غير ضرورة؛ لما أشرت إليه من المفاسد العظيمة من العيش بين الكفار والكافرات، وإلف عوائد الكفار ومظاهر الكفار وشعائر الكفار، وإنه ـ أعني الابتعاث ـ باب فتح على المسلمين جرَّهم إلى الدخول فيه إيثارُ الدنيا، والإعجابُ بحياة الكفار، بسبب الحضارة التي حذَّر الله من النظر إليها والإعجاب بها في قوله: (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)، أبعد ابتعاث ذوات الخدور ـ كما كنَّ يُسميْن بذلك ـ أبعده فتنةٌ وتنازلٌ عن المحافظة على الحرمات والعورات، يا لله للمسلمين! وللشباب والشابات! اللهم استر منَّا العورات، وآمِن منَّا الروعات، اللهم أصلح أمة الإسلام، واحفظ من ابتلي بهذا الطريق أن يفتنوا في دينهم، ورُدَّهم إلى أهليهم سالمين، وبعد: فلا أرى لك الإجابة لمن يذهب بك إلى تلك الديار، حفظ الله دينك، وأبدلك خيرا منه بين أهلك وأمثالك من الصالحات، والله أعلم.
أملاه: عبد الرحمن بن ناصر البراك
في السادس من ذي القعدة 1437هـ






علاج نبوي ناجع

$
0
0
علاج نبوي ناجع


عبدالله بن عبده نعمان العواضي







إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70 - 71].


أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.


روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إن فتى شابًا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أُدنُه، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم، قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهّر قلبه، وحصّن فرجه. فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء.


أيها المسلمون، هذا نص نبوي شريف يحكي لنا هديًا نبويًا في علاج المشكلات، وكيفية التعامل مع أهلها. وفي ظلال هذا الحديث الكريم دروس دعوية، وتربوية ترسم لمن وعاها الطريقَ الصحيح في الاستشفاء والشفاء من أدواء الخطايا.


إن مرحلة الشباب مرحلة عمرية مهمة في حياة الإنسان، تُلقي بحسناتها أو بسيئاتها على ما تلاها من مراحل العمر؛ لأنها مرحلة القوة والنشاط، وسرعةِ الاستجابة للمؤثرات، والإقبالِ على تفجير الطاقات، واستنباط القدرات.


والإنسان في هذه المرحلة إذا لم يدركه حفظ الله تعالى وحمايته، ولم يحرسه عقله وبصيرته فإنه سيسقط في مهاوي الردى، وتخطفه أيادي الإثم والهوى. فالشاب إن لم يكن له دين يمنعه، وعقل يحجزه، وأُسرةٌ ناصحة توجّهه، فسيتجه إلى البطش والظلم، وإراقة طاقاته وقدراته فيما يضره ولا ينفعه، ومن ذلك القوة الجنسية، فإن لم يجد الحلالَ أسالها في الحرام.


ولا شك أن القوة الجنسية تبلغ مداها في هذه المرحلة العمرية؛ ولهذا وجّه الشرع الحكيم أهلَ هذه المرحلة إلى تلبية نداء دعوة هذه القوة بالزواج عند القدرة عليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب، من استطاع الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)[2].


وتبدأ هذه القوة بالتناقص بعد هذا الكمال تدريجيًا؛ ولهذا عظُمَ في الشرع والعقل والعُرف تصابي الشيوخ في عمل الفاحشة؛ لضعف الداعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر)[3].


إن القوة الجنسية التي فُطِر الإنسان عليها إذا كُبحت ولم يُستجب لها في الحلال ولم يُنزح منها فيه أسِنت وأدّت إلى أضرار حياتية خاصة وعامة، كحصول الأمراض النفسية والجسدية، وقلة عدد العنصر البشري، مع كثرة الاحتياج إليه في إصلاح العيش الدنيوي.


فكان من حكمة الله تعالى خلقُ هذه القوة في هذه المرحلة للانطلاق المبكِّر لتكوين الأسرة وبناء الحياة.


أيها الأحبة الكرام، إن هذا الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الزنا لم يكن طفلاً ولا رجلاً كبير السن، بل كان ممتلئَ القوة والشباب، فلعلّ قوته الجنسية اشتدت لديه، ولم يجد مؤونة الزواج، فأراد تلبية هذه الرغبة الجامحة. وكان عنده علمٌ بأن الزنا حرام، فأراد أن يجد له مسوغًا شرعيًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ينطلق منه إلى قضاء شهوته!


فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجد حل هذه المشكلة التي لقي منها العناء، ولم يجد من يطفئ عنه لهيبها.


فجاء رسولَ الله عليه الصلاة والسلام - وهو بين الناس - ومن غير مقدمات بادر رسولَ الله بالاستئذان للزنا! فقال يا رسول الله ائذن لي بالزنا!. هذه الكلمة كانت كأنها قنبلة صوتية أُلقيت بين أولئك الحاضرين؛ لأنهم يعرفون بشاعة هذه الفاحشة دينيًا وخُلقيًا واجتماعيًا. قال تعالى: ﴿ وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء:32].


وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) [4].


وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلّوا بأنفسهم عذاب الله)[5].


وقال صلى الله عليه وسلم:(لا تزال أمتي بخير ما لم يفشُ فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا فأوشك أن يعمهم الله بعذاب)[6].


هذه بعض عقوبات الدنيا، وأما عقوبات الآخرة، فمنها ما جاء في حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت الليلة رجلين أتياني - يعني جبريل وميكائيل - فانطلقا بي... إلى قوله...فانطلقنا فأتينا على مثل التنور، قال: فأحسب أنه كان يقول: فإذا فيه لغطٌ وأصوات، قال: فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا همْ يأتيهم لهبٌ من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا، قال: قلت: ما هؤلاء؟... قال: الزناة والزواني[7].


عباد الله، إن الصحابة رضي الله عنهم لما سمعوا هذا الاستئذان الغريب اشتد عليهم الأمر، فأمروا صاحبه بالسكوت. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو طبيب الأمة - يستدني ذلك الفتى ليعالجه علاجًا ناجعًا؛ فالشهوة العارمة مرض من الأمراض التي تحتاج إلى دواء يخففها أو يوجهها إلى مسارها الصحيح.


فالإنسان لا يُلام على هذه القوة الفطرية، وإنما يلام على تصريفها في السبل المحظورة.


لقد داوى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الشاب دواء شافيًا بدا عليه أثره قبل أن يفارق ذلك المجلس وينقلب إلى رحله.


والطبيب الناجح هو من يعالج كل داء بما يناسبه، هذا في أمراض البدن، وكذلك في أمراض النفوس. فهناك بعض النفوس لا تعالجها الأدلة النقلية، وإنما تعالجها الحجج العقلية.


أيها الأحبة الكرام، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استخدم في علاج هذه المشكلة علاجين شافيين:
العلاج الأول: الإقناع العقلي المتجه إلى الفطرة السليمة، وبقايا الأخلاق المستقيمة في الإنسان مثل خُلق الغَيرة. فالمسلم العاقل غيور على أمه وعلى ابنته وعلى أخته وعلى عمته وعلى خالته وعلى بقية محارمه، حتى ولو كان من أهل الزنا ما لم يصل إلى درجة الدياثة والعياذ بالله. فلهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الشاب: (أفتحبه لأمك)؟! لقد كان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا السؤال لذلك الشاب كالصاعقة الأولى التي أحرقت بعضَ عروق حُبِّ الخطيئة لديه؛ فلذلك كان جوابه دالاً على خوفه من ذلك حيث قال: (لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك). فقال رسول الله عند ذلك: (ولا الناس يحبونه لأمهاتهم). فكان هذا الجواب هو الكبسولة الأولى.


ومن هنا يقال لمن هو واقع في هذه الخطيئة: ما موقفك لو كان هذا الفعل الشنيع الذي تقارفه يقع من أحد من الناس على أمك؟ فمن انتهك حرمات الناس انتُهكت حرماته، ومن كان بيته من زجاج فلا يرمي أبواب الناس، كما قيل.


يُنسب للإمام الشافعي أنه قال:
عفوا تعفّ نساؤكم في المحرم
وتجنبوا ما لا يليق بمسلم
إن الزنا دَينٌ إذا أقرضته
كان الوفا من أهل بيتك فاعلم
من يزن يُزنَ به ولو بجداره
إن كنت يا هذا لبيبًا فافهم

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم واترَ عليه ذِكرَ محارمه: بنته، وأخته، وخالته وعمته. فذكر له رسول الله صلى عليه وسلم هذه المحارم وهو يجيب بذلك الجواب الذي ينفي حبه وقوعَ ذلك على محارمه، حتى تقطعت عروق حب الخطيئة من قلبه عرقًا عرقًا، ورسول الله عليه الصلاة والسلام يعظه بواعظٍ من الغيرة المرتّب ابتداء بالأم ثم البنت ثم الأخت ثم العمة ثم الخالة. وهذا الترتيب مقصود، فأشد ما يغار الإنسان على أمه ثم بنته ثم أخته ثم عمته ثم خالته.


لقد استخدم نبينا عليه الصلاة والسلام الإقناعَ العقلي في علاج هذه المشكلة حتى انتفع به ذلك الشاب. وهذا أسلوب مناسب يُستفاد منه في علاج مشكلات الشهوات ومشكلات الشبهات.


أيها المسلمون، إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حكيمًا في حلّ المعضلات وإيجاد الحلول الكافية الشافية لها، حتى يكفي ويُرضي ويغني عن غيره. عن أبي هريرة رضي الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال: هلكت يا رسول الله، قال: (وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهريين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا؟ قال: لا، قال: ثم جلس، فأُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر فقال: تصدق بهذا، قال أفقر منا؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك)[8]. فانظروا وتأملوا، كيف جاء هذا الرجل المذنب خائفًا حزينًا فقيراً، وكيف رجع فرحًا مسروراً عنده قوته وقوت أهله!


وهذا مثال آخر يدل على حكمة نبينا صلى الله عليه وسلم في مداوة الأخطاء وكسبِ القلوب والتأثير على النفوس، جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزرموه، دعوه، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن، قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه) وفي رواية للبخاري: فقال الأعرابي - وهو في الصلاة -: اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا. فلما سلم النبي صلى الله عليه و سلم قال للأعرابي: ( لقد حجرت واسعا) يعني: ضيّقت رحمة الله.


وهذا مثال كذلك جاء في الصحيحين أيضًا: أن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: ( يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السفلى). قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا. فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيمًا إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه، ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئًا فقال عمر: إني أشهدكم - يا معشر المسلمين - على حكيم أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه. فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي. هكذا داوى رسول الله وهكذا ربّى أصحابه.


أيها الأخوة الفضلاء، أما العلاج الثاني الذي استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا الشاب فهو أنْ وضعَ يده الشريفة عليه ودعا له فقال: (اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه).


فقد دعا له عليه الصلاة والسلام ثلاث دعوات جامعات نافعات، الدعوة الأولى: (اللهم اغفر ذنبه) وهذه دعوة بفتح صفحة جديدة تبدأ بالعفاف والطهر ومحو خطيئات الماضي.


والدعوة الثانية: (وطهر قلبه) وهذه دعوة بتصفية منطلق الخطيئة، فحب المعصية ينشأ في القلب، وهذا الحب لها قذرٌ ونجاسة، والقلب هو المحرك للجوارح، فإذا طُهّر القلب من حب الذنب انكفت الجوارح عن مقارفته.


وأما الدعوة الثالثة فهي: (وحصّن فرجه) تنتظم هذه الدعوةُ الأخيرة الخطَّ الأخير إلى ورود المعصية، وهي عملية إيقاف عن امتطاء الخطيئة يسمى بالتحصين، وتحصين الفرج وكبح جماحه يكون إما بالكف عن الحرام بمانع العفة والنزاهة والصبر عن المقارفة؛ مراقبة لله تعالى، قال تعالى: ﴿ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النور:33]. وقال - بعد أن ذكر جواز حل الزواج بالإماء المؤمنات العفيفات لمن عجز عن مهور الحرائر، ولمِا يترتب على الزواج بالإماء من الآثار السيئة على الأولاد في المستقبل: ﴿ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النساء:25].


وإما أن تكون الدعوة بالتحصين بأن يسهل الله الزواج بزوجة تكفيه عن الحرام، والله أعلم.


وهذه الدعوة دعوة نافعة عظيمة لمن بُلي بالفاحشة، فيدعو بها لنفسه بصدق وإخلاص، فإن صدق وأخلص فسيجد - إن شاء الله - أثرها عليه. وكذلك يدعو بها المسلم لغيره من المسلمين ممن يقترفها، ويدعو بها المفتي والمستشار الأسري لمن شكا إليهما سيطرةَ هذه المعصية عليه؛ فلعل الله أن يستجيب فيه ما دعوا له.


بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، أما بعد.


أيها المسلمون، في هذه القصة درس عظيم ذو أهمية كبيرة نفيده منها ألا وهو: الرحمة بأهل المعاصي، والحرصُ على انتشالهم من أوحال الخطيئة بالأساليب الحسنة المؤثرة.


فإن الإنسان العاصي - خاصة في معصية الفاحشة - إنسان ضعيف استطاع الشيطان أن ينتصر عليه، وقدرت نفسه الأمارة بالسوء أن تغلبه وتستحكم عليه، ولم يكن لديه من دروع الحماية والحصانة ما يكفي لصدّ دعوة الخطيئة، فصار عند ذلك ضحية لذلك الشر المحدق به. وغالبًا أن المسلم الذي تبقى في نفسه خير يحس بالألم، ويشعر بالذنب، ويكتوي بالكرب، ويعاني غمًا وهمًا كبيرين، ويجد في نفسه أنه كالغريق في بحر عميق ينتظر قواربَ النجاة وأطواق الإنقاذ، وأيدي المنجدين يتشبث بها ليخرج من مهلكته. فهذا الإنسان أهلٌ لأن يُرحم، فيُساعد على الخروج من مستنقعه الآسن. فلتُسرع إليه خُطى المنقذين ولا يسلموه للشيطان والهوى، وإن جاء تائبًا فينبغي أن يُستقبل بالحنو والعطف والرأفة حتى يشعر بأنه يلامس كفًّا حانية، وقلوبًا عليه حريصة، تريد له الخير والسعادة. ولا يجوز أن يقابل بالسخرية والتقنيط، والإزراء والشتيمة؛ فييأسَ من رحمة الله، ويكره العفاف وأهله، فيرجع إلى خطيئته وأهلها محبًا متمسكًا.


فانظروا - رحمكم الله - كيف أنقذ رسولُ الله عليه الصلاة والسلام هذا الشاب، وكيف أعتقه من رِبقة الهوى، وكيف حرّره من أسر الشيطان، وكيف نصره على نفسه الأمارة بالسوء، وكيف خلّصه من بوتقة المعصية وعَذابها إلى رحابة الطاعة وعُذوبتها.


هكذا تصنع الأخلاق العالية، وهكذا تعمل الرحمة، وهكذا يداوي الطبيب الأسوة، قال تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم:4]، وقال: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران:159]، وقال: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب:21].


فيا أيها المسلمون، الحكمةَ الحكمة في علاج المشكلات، والرحمةَ الرحمة بأهل الخطيئات.


ويا من أسرف على نفسه، سارع إلى التوبة، وبادر إلى الإنابة؛ فما عند الله خير وأبقى للتائبين المنيبين.


وما تجده في الحرام ستجد أطيب منه في الحلال، وتذكّر العواقبَ الوخيمة على مقارفة الجريمة، فإن فعلتَ فقد هُديت إلى طريق مستقيم.


فنسأل الله تعالى لمن واقع الفاحشة من المسلمين أن يردّهم إلى حصن العفاف، وأن يغفر ذنوبهم، وأن يطهر قلوبهم، ويحصّن فروجهم.


هذا وصلوا وسلموا على القدوة المهداة...


[1] ألقيت في مسجد ابن الأمير الصنعاني، صنعاء، في 20/ 2/ 1436هـ، 12/ 12/ 2014م.

[2] متفق عليه.

[3] رواه مسلم.

[4] متفق عليه.

[5] رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد.

[6] رواه أحمد، وهو حسن.

[7] رواه البخاري.

[8] متفق عليه.





الله خالق كل شيء

$
0
0
الله خالق كل شيء


أحمد الجوهري عبد الجواد






إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد فيا أيها الإخوة!
إن من توحيد الله - تبارك وتعالى - الواجب على كل مسلم ومسلمة الاعتراف لله بتفرده بجلب النعم ودفع النقم وإضافتها إليه وحده سبحانه معبرين عن ذلك بأقوالنا وأفعالنا وجميع أحوالنا.

نعم.. فنعترف ابتداءً بنعمه عز وجل علينا، ثم نستعين بها على طاعته وعبادته، فلا يتم توحيد العبد إلا إذا اعترف لله عز وجل بنعمه عليه ظاهرة وباطنة واستعان بتلك النعم على عبادته وشكره، وعلى قدر إحساس العبد بهذه النعم تكون معرفته بقدر ربه عز وجل وعظمته ومعرفته به ومحبته، ولعل هذا هو السر الذي لأجله يذكرنا القرآن الكريم على الدوام بهذه الحقيقة ولنتأمل بعض الآيات في القرآن الكريم بخصوص هذا المعنى. فمن ذلك قوله جل شأنه: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 32- 34] فتأمل كم مرة تكررت هذه الكلمة: "لكم" وضمير المخاطبين "كم" وكان في ذكرها مرة واحدة غناء عن إعادتها لو كانت لمجرد التعريف بأن ذلك من أجلنا فحسب ولكن من تأمل وتدبر أحس وراء ذلك التكرار معنى آخر وهو إرادة الهيمنة على ذلك القلب أن يسكنه صاحب تلك النعم وفقط وأن يشغل الإنسان بهذا المعنى دائمًا وأن يمعن التأمل والتدبر فيه، وفي بعض الآثار: "أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه". [1]

لكن - أيها الإخوة - وكما وضحت الآيات السابقة: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ فكثير من خلق الله تعالى يأكل خيره ويشكر غيره، رزق الله عز وجل إليه نازل وشره وسيئاته وعمله القبيح إلى الله صاعد، يتحبب الله تعالى إلى هذا الصنف بالنعم وهو تعالى الغني عنهم ويتبغضون هم إليه بالمعاصي وهم أحوج شيء لديه، فيا له من إله عظيم كبير غفور رحيم حليم، ما أحلمه سبحانه وما أصبره أن يكون كل ما في الكون من خيره وينسب إلى غيره، ولا يزال ينعم عليهم لم يقطع أفضاله عنهم، وعلى ذلك أمثلة عديدة.


أيها الإخوة.. ومن أظهر هذه النعم التي ينعم الله بها على عباده وبها يكفرون هذا الرزق الذي يأتي الله به كسبب للحياة بأسرها. نعم.. المطر الذي سماه الله عز وجل رزقاً، فقال تعالى: "بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّ فِي السموات وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الجاثية/1-7].

قال الحافظ ابن كثير:
يرشد تعالى خلقه إلى التفكر في آلائه ونعمه وقدرته العظيمة التي خلق بها السموات والأرض وما فيها من المخلوقات المختلفة الأجناس والأنواع من الملائكة والجن والإنس والدواب والطيور والوحوش والسباع والحشرات وما في البحر من الأصناف المتنوعة، واختلاف الليل والنهار في تعاقبهما دائبين لا يفتران هذا بظلاله وهذا بضيائه، وما أنزل الله تعالى من السحاب من المطر في وقت الحاجة إليه وسماه رزقاً، لأن به يحصل الرزق قال تعالى: ﴿ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا أي بعدما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء. [2]

فسبحان ربي! نعم تحيا الأرض كلها كما قال - عز وجل -: ﴿ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [الحج: 5] إنها تحيا بعد موات! وقد جاءت هذه الآية في موقع عجيب من الكتاب المجيد فهي تحتل ختام آية ترتيب الخلق ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [الحج: 5].

أرأيت حبيبي إلى رجل وامرأة لم يرزقا الولد كيف تكون حياتهما؟ وكيف يكون شوقهما إلى الولد؟ وكيف ترى ذبول الزوج والزوجة وبؤسهما؟ ثم كيف ترى لو أن الله أذن لهذه الأسرة المحرومة بالسرور؟ ما الذي يحدث؟ لو أن الله أنعم عليها بنعمة الولد؟ كيف لو أعطياه؟ أما ترى إلى سعادتهما؟ أما ترى إلى سرورهما؟ ألم تر إلى ابتهاجهما وإقبالهما على الحياة واستعادة آمالهما فيها وأحلامهما كيف تتجدد؟ كذلك حبيبي الأرض إذا احتاجت إلى الماء في عطشها، ثم إذا نزل المطر تحيا الأرض وتسقى البلاد والعباد وتطيب الأحوال جميعها، ﴿ فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾.

عن أنس - رضي الله عنه - قال:
(أصاب الناس سنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر قائمًا في يوم الجمعة قام وفي رواية: دخل أعرابي من أهل البدو من باب كان وجاه المنبر نحو دار القضاء ورسول الله قائم فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا فقال: يا رسول الله هلك المال وجاع وفي رواية: هلك العيال ومن طريق أخرى: هلك الكراع وهلك الشاء وفي أخرى: هلكت المواشي وانقطعت السبل فادع الله لنا أن يسقينا وفي أخرى: يغيثنا فرفع يديه يدعو حتى رأيت بياض إبطه: اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا ورفع الناس أيديهم معه يدعون ولم يذكر أنه حول رداءه ولا استقبل القبلة ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئًا وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار وفي رواية: قال أنس: وإن السماء لمثل الزجاجة فرفع رسول الله يديه ثم قال: اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس. فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم وفي رواية: فهاجت ريح أنشأت سحابا ثم اجتمع ثم أرسلت السماء عزاليها ونزل عن المنبر فصلى فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا وفي رواية: حتى ما كاد الرجل يصل إلى منزله فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى ما تقلع حتى سالت مثاعب المدينة وفي رواية: فلا والله ما رأينا الشمس ستًّا وقام ذلك الأعرابي أو غيره وفي رواية: ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله قائمًا فقال: يا رسول الله تهدم البناء وفي رواية: تهدمت البيوت. وتقطعت السبل وهلكت المواشي وفي طريق: بَشِق المسافر. ومنع الطريق وغرق المال فادع الله يحبسه لنا فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم فرفع يديه فقال: اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على رؤوس الجبال والآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر فما جعل يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت مثل الجًوْبة وفي رواية: فنظرت إلى السحاب تصدع حول المدينة يمينًا وشمالًا كأنه إكليل وفي أخرى: فانجابت عن المدينة انجياب الثوب يمطر ما حوالينا ولا يمطر فيها شيء وفي طريق: قطرة وخرجنا نمشي في الشمس يريهم الله كرامة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجابة دعوته. وسال الوادي وادي قناة شهرًا ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود)[3]

فيا الله، كم من نعمة لك علينا لا نعرفها، وكم نعرف من نعمك ما لا نشكره، وكم نشكر له شكراً هو دون ما يجب علينا لك.

يا كريم كم من نعمة أنعمت بها علينا قل لك عندها شكرنا، وكم من بلية ابتليتنا بها قل لك عندها صبرنا، فيا من قل عند نعمائه شكرنا فلم يحرمنا اجعلنا لنعمتك من الشاكرين ويا من قل عند بلائه صبرنا فلم يطردنا اجعلنا عند بلائك من الصابرين، إنك أكرم مسئول يا أكرم من سئل يا جواد.

أيها الإخوة!
أما ساءلنا أنفسنا ماذا يكون فعلنا لو قطع الله عنا المطر؟ ما ستكون حيلتنا؟ لو عاملنا الله بعدله وعلى قدر ما نستحق أعطانا ترانا نستحق قطرة أترانا؟ فيا ربنا لك الحمد على نعمائك ولك الشكر على آلائك وأفضالك حمداً يوافي نعمك وشكرًا يكافئ مزيدك، أقول: مع ذلك - أيها الإخوة - قد ترى من العباد من يجعل هذه النعمة العظيمة جدّاً من فعل غير الله نعم والله وهذا ليس من عندي ولا من عند أبي بل هو قول الصادق الذي لا ينطق عن الهوى بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم . ففي الصحيحين عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: "صلى لنا رسول الله رضي الله عنه صلاة الصبح بالحديبية. على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: قال الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ". [4]

يا الله تصور معي الموقف جيداً أيها الحبيب اللبيب، حتى تكون على دراية كاملة بالحديث فحتى تعيه لابد أن تعيش الحدث الذي وقع فيه، فها هو النبي صلى الله عليه وسلم خرج قاصداً البيت معتمراً فتمنعه قريش من دخول مكة فيعسكر النبي بصحبه الأبرار عند الحديبية ويطول الانتظار فى مراسلات ومباحثات بين الفريقين وليس مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ماء وليسوا نازلين على ماء وعددهم كثير فنفد الماء الذي معهم وكاد الناس يموتون عطشاً.

ثم منّ ربك عز وجل فبات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقد مطروا في ليلة من الليالي فلما أصبحوا صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح فلما سلم من صلاته أقبل عليهم بوجهه كما هي السنة فوعظهم صلى الله عليه وسلم وهو سيد الوعاظ فقال مستخدماً أسلوباً تعليميّاً تربويّاً فذّاً وهو التعليم عن طريق السؤال والجواب لما يكون فيه من الاستثارة والتشويق والتحفيز للمستمع وكذلك من تثبيت المعلومة في الذهن. قال صلى الله عليه وسلم : "أتدرون ماذا قال ربكم؟".

واسمحوا لي - أيها الإخوة - بهذه الاستطرادة القصيرة أقول: إن الصحابة لم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم قائلين وهل يتكلم ربنا؟ مع أنه سؤال بدهي يخطر على أذهاننا الآن، نعم لم يسأل الصحابة رضوان الله عليهم ذلك السؤال لأن الجواب كالسؤال أيضًا بدهي فهم يقرءون في القرآن ليل نهار: ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164] ﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ﴾ [الأعراف: 143] ﴿ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ [سبأ: 23]. كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتلقون عقيدتهم من القرآن الذي يتلونه ليل نهار وحديث النبي الذي يجلو الآذان والأبصار، لأن العلاقة التي كانت تربطهم بذلك كله هي علاقة الاتعاظ والاعتبار علاقة التفكر والتدبر لا مجرد التنغيم والطرب كما صار حالنا مع القرآن ولا الاهتزاز والترنح كحال بعضنا إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.

ففي قوله ﴿ قَالَ رَبُّكُمْ ﴾ إثبات أن الله تكلم، فصفة الكلام ثابتة لله فهو سبحانه يتكلم متى شاء وإذا شاء - سبحانه وتعالى -.. كيف؟ كيف يتكلم ربنا - أيها الإخوة - ؟ إن السؤال بكيف سؤال خاطئ، لأن الكيفية لا يعلمها إلا الله والخلاصة نحن مع صفات الله نعلم المعنى وأما الكيف فنكله ونفوضه إلى الله عز وجل ثم قال صلى الله عليه وسلم أتدرون ماذا قال ربكم قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب" وهكذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم . الناس فريقين تجاه هذه النعمة فريق يعلم أنها من عند الله وينسبها إلى الله ويشكر الله تعالى عليها فهؤلاء هم المؤمنون وفريق آخر ينكرها كنعمة لله وينسبها إلى الأنواء وهى الكواكب والنجوم هؤلاء هم المشركون الكافرون إن المطر رزق من الله لا ينزل إلا بقدرة وفضل الله وفي الحديث الجليل الجميل الذي أخرجه مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا في سَحَابَةٍ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ. فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأَفْرَغَ مَاءَهُ في حَرَّةٍ فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ قَالَ فُلاَنٌ. لِلاِسْمِ الَّذِى سَمِعَ في السَّحَابَةِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ لِمَ تسألني عَنِ اسْمِى فَقَالَ إني سَمِعْتُ صَوْتًا في السَّحَابِ الَّذِى هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ لاِسْمِكَ فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا قَالَ أَمَّا إِذَا قُلْتَ هَذَا فإني أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ وَآكُلُ أَنَا وعيالي ثُلُثًا وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ ".[5] فنزول المطر إنما هو بقدرة الله -سبحانه وتعالى- وقدره هو الذي ينزله أو يمنعه، متى شاء، وأين شاء، ويصرفه إلى من شاء، ويصرفه عمن يشاء، قد تطلع الأنواء ولا يحصل مطر بل وتظهر الأسباب كلها ولا ينزل مطر وقد يحصل المطر بأمره في غير طلوع الأنواء أو أي من الأسباب فالمطر يحصل في أي وقت شاءه الله - سبحانه وتعالى -، وهنا - أيها الإخوة - شيء مشاهد وهو أن المطر ينزل في جميع الأحيان ولا يتقيد بظهور النجم الفلاني أو العلاني.

ولهذا فالمؤمن له حال خاص مع المطر قبل نزوله وأثناءه وبعده وإذا أراده وإذا استغنى عنه كل ذلك يعرفه من سنة نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم فمن هديه صلى الله عليه وسلم إذا قحط المطر أن يخرج ليصلي صلاة الاستسقاء نعم عندنا صلاة نصليها إذا قحط المطر لينزل الله عز وجل لنا بها المطر نتوسل إلى الله خلالها ونضرع إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ونتذلل ونتخشع و نتوب عن الذنوب كلها ونقلع ونطلب منه السقيا والغيث، فيا ترى كيف كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الصلاة؟

قال ابن القيم ما مختصره: "ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه استسقى على وجوه.
أحدهما: يوم الجمعة على المنبر في أثناء الخطبة.

الثاني: أنه وعد الناس يوما يخرجون فيه إلى المصلى، فخرج لما طلعت الشمس متواضعا متبذلا متخشعا متوسلا متضرعا، فلما وافى المصلى صعد المنبر - إن صح ففي القلب منه شيء - فحمد الله وأثنى عليه، وكبره، وكان مما حفظ من خطبته ودعائه: " الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت تفعل ما تريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلته علينا قوة لنا، وبلاغا إلى حين ثم رفع يديه وأخذ في التضرع والابتهال والدعاء "، وبالغ في الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة، وحول إذ ذاك رداءه، وهو مستقبل القبلة، فجعل الأيمن على الأيسر وعكسه، وكان الرداء خميصة سوداء، وأخذ في الدعاء مستقبل القبلة، والناس كذلك، ثم نزل فصلى بهم ركعتين كالعيد من غير نداء، قرأ في الأولى بعد الفاتحة بـ (سبح) وفي الثانية بـ (الغاشية).

الثالث: أنه استسقى على منبر المدينة في غير الجمعة، ولم يحفظ عنه فيه صلاة.

الرابع: أنه استسقى وهو جالس في المسجد رفع يديه، ودعا الله - عز وجل -.

الخامس: أنه استسقى عند أحجار الزيت قريبا من الزوراء وهو خارج باب المسجد الذي يدعى اليوم: "باب السلام" نحو قذفة حجر، ينعطف عن يمين الخارج من المسجد.

السادس: "أنه استسقى في بعض غزواته لما سبقه المشركون إلى الماء، فأصاب المسلمين العطش، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعض المنافقين: لو كان نبيا لاستسقى لقومه، كما استسقى موسى لقومه. فبلغه ذلك، فقال: أو قد قالوها؟ عسى ربكم أن يسقيكم ثم بسط يديه فدعا، فما رد يديه حتى أظلهم السحاب، وأمطروا وأغيث صلى الله عليه وسلم في كل مرة ".

" واستسقى مرة، فقام أبو لبابة، فقال: يا رسول الله إن التمر في المرابد. فقال: اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا، فيسد ثعلب مربده بإزاره فأمطرت فاجتمعوا إلى أبي لبابة. فقالوا: إنها لن تقلع حتى تقوم عريانا، فتسد ثعلب مربدك بإزارك. ففعل، فأقلعت السماء "، ولما كثر المطر سألوه الاستصحاء، فاستصحى لهم، وقال: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الظراب، والآكام والجبال، وبطون الأودية، ومنابت الشجر" وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى المطر قال: " صيبا نافعا " وحسر ثوبه حتى يصيبه من المطر، فسئل عن ذلك، فقال: " لأنه حديث عهد بربه ".

قال الشافعي أخبرني من لا أتهم، عن يزيد بن عبد الهادي، " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سال السيل، قال: اخرجوا بنا إلى هذا الذي جعله الله طهورا، فنتطهر منه، ونحمد الله عليه" وأخبرنا من لا أتهم، عن إسحاق بن عبد الله، أن عمر كان إذا سال السيل ذهب بأصحابه إليه، وقال: ما كان ليجيء من مجيئه أحد، إلا تمسحنا به. وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى الغيم والريح، عرف ذلك في وجهه، فأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سري عنه، وكان يخشى أن يكون فيه العذاب".[6]

فالمؤمن يدعو الله تعالى ويتوسل إليه ويطلب السقيا منه ليقينه أنها بيده لا بيد غيره سبحانه، وأما أثناء المطر فكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله تعالى أن يكون هذا المطر نافعاً للعباد والبلاد وأن يكون سقيا رحمة فكان يقول: اللهم صيباً نافعاً يعني مطراً نافعاً مفيداً وكان يفرح إذا نزل ويقول: رحمة، كما في الحديث الذي أخرجه أبو داود وغيره عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ناشئاً في أفق السماء ترك العمل فإن كشف حمد الله، فإن أمطرت قال: "اللهم صيباً نافعاً". [7]

وروى مسلم من حديث عائشة قالت: "كان صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم ريح عرف ذلك في وجهه ويقول إذا رأى المطر: رحمة". [8]

بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يعبر عن فرحه ذلك بنوع من التعبير لطيف رقيق يدل على كمال يقين النبي صلى الله عليه وسلم بمنزل المطر - سبحانه وتعالى -:
فقد روى مسلم من حديث أنس قال: أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر قال: فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه - أي كشفه - حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله لم صنعت هذا؟ قال: لأنه حديث عهد بربه تعالى"[9] فيا الله وهذه الشفافية، هذه الرقة، هذا اليقين والثقة التامين من رسول الله صلى الله عليه وسلم في آيات ربه وأين العباد منها؟.

أيها الإخوة!
قرأت في بعض الكتب عن محاولة قام بها بعض العلماء - في بعض الدول - أراد أن يهيئ أسباب نزول المطر ويوجد مسبباته وأنفق في ذلك جهداً كبيراً جدًاً زاد على شهور وأنفق عليه ألوفاً كان يرجو أن ينزل مطراً صناعيّاً بتهيئة الجو والعوامل صناعيّاً ويوم ظن أنه نجح وترقب نتيجة عمله ذاك إذا ألوفه التي أنفق وجهده الذي أفنى ووقته الذي صرف يأتي ترى بأي نتيجة؟ لقد أتى ولكن "بدلو واحد من ماء يشبه الزفت أو القطران" كان هو نتيجة تفاعل المواد التي عمل على استخدامها، فكم نحتاج نحن أن ننفق على ألوف الألوف من الأمتار المكعبة في نهر النيل أو الفرات أو غيرهما؟ ترى كم يدفع أهل الأرض في ذلك؟ فلا ريب أن يخرج النبي صلى الله عليه وسلم يتعرض للمطر مستذكرًا نعمة الله الكبرى فيه مبادرًا إلى الاعتراف بها وشكرانها ثم يقول: "إنه مطر حديث عهد بربه".

ومن طريف ما اطلعت عليه شيء قريب من هذا وقع لنبي الله أيوب عليه السلام لكن كان المطر شيئاً آخر غير الماء لقد كان مطراً من ذهب، نعم مطر من ذهب والحديث أخرجه البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا خَرَّ عَلَيْهِ رِجْلُ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَحْثِى في ثَوْبِهِ، فَنَادَى رَبُّهُ يَا أَيُّوبُ، أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى قَالَ بَلَى يَا رَبِّ، وَلَكِنْ لاَ غِنَى لي عَنْ بَرَكَتِكَ ". [10]

نعم لا غنى بي عن بركتك نسأل الله أن لا يجعل بنا غنى عنه أبداً، وأن يغنينا بفضله عمن سواه أبدا وأن لا يحرمنا بركاته أبدًا.

هذا هو هدي النبي أثناء نزول المطر، أما إذا نزل المطر فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي قدمنا يرشد المؤمنين إلى أن يقولوا: مطرنا بفضل الله ورحمته.

أما إذا كثر المطر وفاض الماء وخشي منه على الزرع والبناء فقد كان النبي يدعو فيقول: "اللهم حوالينا لا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر". [11]

ومن هديه صلى الله عليه وسلم طلب الإجابة عند نزول الغيث والمطر، ونتعرف إلى ذلك بعد جلسة الاستراحة وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأغنى وأقنى، وجعلنا من خير أمة تأمر وتنهى، والصلاة والسلام على خير الورى، وما ضل وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى.

أما بعد، فيا أيها الإخوة!
ومن هديه صلى الله عليه وسلم طلب الإجابة عند نزول الغيث قال ابن القيم:
قال الشافعي: وأخبرني من لا أتهم عن عبد العزيز بن عمر عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اطلبوا استجابة الدعاء عند التقاء الجيوش وإقامة الصلاة ونزول الغيث، وقد حفظت عن غير واحد طلب الإجابة عند: نزول الغيث وإقامة الصلاة.

وقال البيهقي: وقد روينا في حديث موصول عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء لا يرد عند النداء، وعند البأس، وتحت المطر.

وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تفتح أبواب السماء ويستجاب الدعاء في أربعة مواطن: عند التقاء الصفوف، وعند نزول الغيث وعند إقامة الصلاة وعند رؤية الكعبة"[12]

أحبتي في الله!
هذه حال المؤمن مع المطر اعتراف وشكران وامتنان وطاعة وإذعان للواحد الديان، وهكذا علمنا الله ورسوله ما يكون عوضاً لنا عن التكذيب بآلائه والكفر بنعمائه من العرفان والشكران لها نعم فمن نسب شيئاً من نعمه عز وجل إلى غيره فقد كفرها وكذب على الله فيها، ومن أظلم ممن كذب على الله أو كفر بآلائه.

قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ﴾ [العنكبوت: 68]، فالذي ينسب نعمة من نعم الله كهذا المطر إلى مخلوق من مخلوقات الله فقد كذب على الله أعظم الكذب، بدل أن يشكر الله فهو يكذب عليه وينسب نعمه إلى غيره وهو جحود للنعمة وكفران بها كذلك ولهذا قال ربنا عز وجل في شأن من ينسبون نزول المطر إلى المواقف والنجوم والأنواء.

قال تعالى: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾ [الواقعة/75-82].

يعلن الله عز وجل بهذا أن النجوم ومواقعها مخلوقة لله سبحانه ثم يقرع المشركين قائلاً: ﴿ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾أي: تكذبون بهذا الحديث ولا تصدقونه وهو أن الله خالق كل شيء ورب العالمين ومالكهم، وتجعلون رزقكم أي المطر الذي رزقكم الله إياه مستحقاً عليه الشكر فتجعلون التكذيب مكان الشكر بدلاً من أن تشكروه تكفروه وتقولون: مطرنا بالأنواء والنجوم ولهذا قال الحسن - رحمه الله -: "خسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله إلا التكذيب" أو كان يقول: بئس ما أخذ قوم لأنفسهم، لم يرزقوا من كتاب الله إلا التكذيب.[13]

وروى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن بعضهم لما نزل المطر قال: لقد صدق نوء كذا وكذا فأنزل الله تعالى: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾ [الواقعة/75-82]. [14]

فسماهم الله مكذبين بآلائه ولذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى مسلم من حديث أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب ".[15]

فما حكم الاستسقاء بالنجوم؟
انتبه - أيها الحبيب - يختلف حكم من استسقى بالنجوم باختلاف حال الشخص، من حيث الاعتقاد وعدمه فمن اعتقد أن النوء هو الموجد للمطر والمنزل للمطر أو دعا النوء واستغاث به لإنزال المطر فقد أشرك لأن الله قال: ﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ﴾ [فاطر:3].

وقال عز من قائل: ﴿ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾ [الجن:18].

وكذا إن ادعى أن المطر سينزل في وقت كذا كما يفعله المنجمون لأن النجم المعين سينزل في موقع كذا ودور كذا، لأن فيه تكهنا بالغيب ولا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله.

وأما من نسب نزول المطر إلى الأنواء والكواكب كسبب مع اعتقاده أنها لا تنزل إلا بإذن الله فهو حرام أيضًا، لأنه جعل ما ليس سببًا في الشرع ولا في العادة سببًا ومثل هذا حرام.

وأما من أشار إلى أن وقت نزول المطر هو وقت النجم الفلاني مع اعتقاده أن النجم ليس بفاعل ولا سببًا بل كله بأمر الله فهذا جائز إن شاء الله ولا شيء فيه.

فلننتبه يرحمكم الله حتى لا نقع في شرك بالله ونحن لا ندري، فربما يقول المرء كلمة يهوى بها في جهنم سبعين خريفاً وهو لا يدري أنها تبلغ ما بلغت ولا يلقي لها بالاً عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لاَ يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِى بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا في النَّارِ ".[16] ولهذا فلنراعِ الكلمات التي نقولها والألفاظ التي ننطق بها ولنحذر أن تزل ألسنتنا بما فيه شرك بربنا ولنضرب لذلك مثالاً ذكره العلماء لأقوال واعتقادات خاطئة تتعلق بما نحن بصدده.. مثل قول الناس: "جئت وجاء على وجهك الخير"، و"بركات قدومك" ونحوها.

فمثل هذه الألفاظ يجب أن تجتنب ولا يجوز قولها ويجب إنكارها من باب حماية جناب التوحيد، لأن النبي رضي الله عنه ما كان يتساهل فيما يتعلق بحماية حمى التوحيد.

هذا وأسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحفظنا وأن يحفظ علينا التوحيد وأن يحفظنا من الشرك، فوالله لولا الله ما سقينا ولا تنعّمنا بما أوتينا ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾ [الواقعة: 63 - 70].

اللهم لك الشكر على آلائك التي لا تعد ولا تحصى، اللهم لو شئت لجعلت ماءنا أجاجاً، ولكن رحمتك أدركتنا فجعلته عذباً زلالاً، فلك الشكر لا نحصي ثناءً عليك، فما بنا من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك، ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 27، 28]

اللهم فارزقنا الخشية منك. اللهم اجعلنا من العلماء أهل الخشية منك. فمنك ماؤنا، ومنك طعامنا، فلك الشكر ولك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ ﴾ [السجدة: 27].... فغفرانك ربنا لما قصرنا وغفرانك ربنا لما قدمنا وأخرنا وغفرانك ربنا لما أسأنا وغفرانك ربنا من رؤية العمل، الدعاء.



[1] أخرجه الترمذي (3789)، وضعفه الألباني في تخريج فقه السيرة (23)، ضعيف الجامع الصغير (176).

[2] تفسير ابن كثير - (7 / 264).

[3] أخرجه البخاري في مواضع هذا مجموعها هنا، وانظر مختصر الألباني للبخاري (1 / 224 - 226 رقم 497).

[4] أخرجه مسلم 240.

[5] أخرجه مسلم 7664.

[6] مختصر زاد المعاد - (ص / 65) الإمام محمد بن عبدالوهاب.

[7] أخرجه مسلم 2120.

[8] أخرجه مسلم 2121.


[9] أخرجه مسلم 2120.

[10] أخرجه البخاري برقم (278).

[11] سبق.

[12] زاد المعاد (1 / 444)، بتصرف.

[13] تفسير ابن كثير - (7 / 547).

[14] أخرجه مسلم (73).

[15] صحيح مسلم برقم (934).

[16] أخرجه الترمذي 2314، وابن ماجة (3970) وغيرهما، وصححه الألباني في صحيح الجامع 1618.








مقامات القلب السعيد (2) مقام منابذة الكذب (1)

$
0
0
مقامات القلب السعيد (2) مقام منابذة الكذب (1)


د. محمد ويلالي





سلسلة أنواع القلوب (14)


الخطبة الأولى
تحدثنا في الجمعة الماضية عن المقام الأول من مقامات القلب السعيد ضمن سلسلة أنواع القلوب وهو مقام "حب الصحابة"، انطلاقاً من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الذي قال فيه: خَطَبَنَا عُمَرُ بِالْجَابِيَةِ (مدينة بالشام)، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِينَا فَقَالَ: "أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلاَ يُسْتَحْلَفُ، وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلاَ يُسْتَشْهَدُ. أَلاَ لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ. عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنَ الاِثْنَيْنِ أَبْعَدُ. مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ. مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ، وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ، فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ" صحيح سنن الترمذي.

ونقف اليوم إن شاء الله تعالى عند المقام الثاني الذي بينه هذا الحديث الشريف، وهو "ضرورة منابذة الكذب"، انطلاقا من قوله صلى الله عليه وسلم: "ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلاَ يُسْتَحْلَفُ، وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلاَ يُسْتَشْهَدُ".

إن المقصود بالفشو هو الانتشار الكبير، بحيث يصير الكذب سمة بارزة لأهل الزمان. قال المباركفوري رحمه الله: "ثم يفشو الكذب: أي يظهر، وينتشر بين الناس بغير نكير". وقال ابن حجر رحمه الله: "ثم يفشو الكذب ظهورا بينا حتى يشمل الأقوال، والأفعال، والمعتقدات".

واستعمال حرف العطف "ثم"، دليل على أن هذا الانتشار والظهور للكذب، إنما سيكون بعد الجيل الثالث، أي: بعد الصحابة، والتابعين، وأتباع التابعين، إذ هم أهل القرون الثلاثة الخيرة المفضلة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ.. ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلاَ يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ" متفق عليه.

والذين يكثرون من الكذب حتى إنهم يحلفون عليه ولا يبالون بمخاطره أو يتعظون بعواقبه وويلاته، هم في الحقيقة لا يرتبطون بهذه القرون المفضلة، ولا ينتمون إلى زمرتهم، بل يخاف عليهم سوء المآل. قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [المجادلة: 14].

فالكذب خُلَّة ذميمة، وصفة وضيعة، لا يلجأ إليها إلا من ضعف دينه، واضمحل عقله، وقلت بنفسه ثقته، يتأول في الكذب المصلحة، ويوهم نفسه بنيل قريب منفعة، وما يدري أنه بذلك يحشر نفسه في الدنيا مع السَّفِلة، ويلقي بنفسه يوم القيامة إلى التهلكة.

ومن أعظم الكذب، الكذب على الله، بأن يُنسب إليه ما لم يقله، ولا يريده. قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 18].

ومن أمثلته: تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم الله. قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴾ [النحل: 116]. وما أكثر المفتين الذين يسيؤون إلى دين الله من حيث يعتقدون أنهم يحسنون، فيحللون ويحرمون بالهوى والتشهي، لا بالعلم وحسن التأتي.

ومنه الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بإشاعة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ونسبة الحديث إليه دون تمحيص ولا تثبت، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَكْذِبُوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَكْذِبْ عَلَيَّ يَلِجِ النَّارَ" متفق عليه.

ومنه الكذب على النفس، وإيهامُها بصواب الأمر، مع العلم بخلاف ذلك، كمن يقدس الحجر والشجر والأموات، ويعتقد أنهم يملكون الضر والنفع. فأين حجتهم يوم القيامة؟. قال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [الأنعام: 22 - 24].

ومنه الكذب على الناس، واتهامهم بالأباطيل زورا وبهتانا. يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ، أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ (عصارة أهل النار) حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ" صحيح سنن أبي داود.

وهذا ما انتشر بيننا انتشار النار في الهشيم؛ فقد أطهرت دراسة بريطانية أنّ الرجل يكذب مرتين أكثر من المرأة؛ فهو يكذب عن قصد 2184 مرة في السنة، بمعدل ست مرات في اليوم الواحد، وأشارت الدراسة إلى أن 25% من المتزوجين اعترفوا بأنهم تشاجروا بسبب الكذب، كما اعترف 7% منهم بأن الكذب قادهم إلى الطلاق.

ووفقا لدراسة أخرى أمريكية، تبين أن 90% من الناس يكذبون في معلوماتهم الشخصية على الأنترنت.

أما الطفل، فأثبتت دراسة أخرى أنه يكذب مرة كل ساعتين وهو في عامه الرابع، وفي عامه السادس يكذب مرة كل ساعة ونصف.

ولا يخفى أن الكذب اليوم صار منتشرا بشكل بَيِّنٍ بينَ بعض الآباء وأبنائهم، وبين الأزواج وزوجاتهم، وبين الإخوة، والجيران، والتجار، والموظفين، والصناع، والفلاحين.. مع علم هؤلاء بخطورة الكذب، وأنه مجلبة للخزي، مَكسَبة للمهانة.

قال الماوردي رحمه الله: "الكذِبُ جِماعُ كل شرٍّ، وأصل كل ذمٍّ، لسوء عواقبه، وخبث نتائجه".

وقال علي رضي الله عنه: "أعظم الخطايا عند الله اللسان الكذوب".

حتى في مزاحنا، ولهونا، وترفيهنا انتشر الكذب، وبخاصة ما نشاهده على التلفاز من مشاهد هزلية مترهلة، أو دمى مستهزئة تافهة، تُضحك الناس بالكذب والافتيات. يقول الني صلى الله عليه وسلم: "وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ " صحيح سنن أبي داود.

ويقول صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن العبد الإيمانَ كلَّه، حتى يترك الكذب في المُزاحة والمراء وإن كان صادقا" صحيح الترغيب.
أمّا المُزاحةُ والمِراءُ فدَعْهما ♦♦♦ خُلُقان لا أرضاهما لصديقِ

وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "ما كذبت كذبة منذ شددت عليَّ إزاري".

وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "المؤمن يطبع على الخلال كلها غيرَ الخيانة والكذب".
إِذَا مَا الْمَرْءُ أَخْطَأهُ ثَلَاثٌ
فَبِعْهُ وَلَوْ بِكَفٍّ مِنْ رَمَادِ
سَلَامَةُ صَدْرِهِ وَالصِّدْقُ مِنْهُ
وَكِتْمَانُ السَّرَائِرِ فِي الْفُؤَادِ

♦ ♦ ♦


الخطبة الثانية
إن للكذب مجموعة من المضار والمخاطر، يكفي الواحد منها للتوبة إلى الله منه، والعزم على عدم الرجوع فيه، نذكر بعضها اليوم، ونتم الباقي في جمعة قادمة إن شاء الله تعالى منها:
1 - أن الكذب يجلب الكذب، فما يزال الكاذب يستمرئ الادعاء والتزوير والبهتان، حتى يطبع على قلبه، فيصير الكذب له سمة، وعليه علامة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ. وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا" مسلم.

2 - الكذب تزوير وتغيير للحقائق: فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أن امرأة قالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِيَ ضَرَّةً، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ إِنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِي غَيْرَ الَّذِي يُعْطِينِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ، كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ" متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم: "إن من أفرى الفِرى، أن يُرِيَ عينه ما لم ترَ" البخاري.

3 - الكذب يمحق البركة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ (وفي لفظ: للبركة)" رواه أحمد وهو في الصحيحة.

وقال صلى الله عليه وسلم في حق المتبايعِين: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا، بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا، مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا" متفق عليه.

وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْمَنَّانُ الَّذِي لاَ يُعْطِي شَيْئًا إِلاَّ مَنَّهُ، وَالْمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِب، وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ " مسلم.


وبعض التجار يحلفون بالله لقد أُعطوا في سلعتهم كذا وكذا، ولم يعطوا. فليعلموا أن ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، منهم: "رَجُلٌ بَايَعَ رَجُلاً بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا كَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ، فَأَخَذَهَا، وَلَمْ يُعْطَ بِهَ" البخاري.
وَمَا شَيْءٌ إِذَا فَكَّرْتَ فِيهِ
بِأَذْهَبَ لِلْمُرُوْءَةِ وَالْجَمَالِ
مِنَ الْكَذِبِ الّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ
وَأَبْعَدَ بِالْبَهَاءِ مِنَ الرّجَالِ




المحافظة على الصلاة

$
0
0
المحافظة على الصلاة


الشيخ أحمد الزومان




الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102] ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1] ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب : 70-71].

أما بعد:
يقول ربنا عز وجل ﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [سورة البقرة: 45] فالصلاة بعد الصبر خير ما يستعان بهما على طاعة الله، وترك معاصيه، وترك التعلق التام بالدنيا فالصلاة فيها تلاوة كتاب الله، المسليةِ آياتُه النفوسَ عن زينة الدنيا وغرورها، المذكرةِ بالآخرة وما أعد الله فيها لأهلها. و فيها مناجاة من بيده الأمر كله من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ففي الانطراح بين يديه وشكاية الحال عليه وسؤاله مع حسن الظن به ففي ذلك المعونة لأهل طاعة الله على الجد في العبادة والصبر على مشقتها وعلى ما يعرض للمرء من آلام الدنيا وأكدارها التي لا يسلم منها مخلوق وبهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينصب لعبادة ربه إذا فرغ من أمور الدنيا وأشغالها ﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ﴾ [سورة الشرح: 7] وهكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يستعينون بالصلاة على مصائب دنياهم وقضاء حوائجهم فعن عبد الرحمن بن جَوْشَن أن ابن عباس رضي الله عنه نعي إليه أخوه قُثَم، وهو في سفر، فاسترجع. ثم تنحى عن الطريق، فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: ﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَرواه ابن جرير الطبري في تفسيره (1 /205) بإسناد حسن.


إخواني.. حينما يهمنا أمر من أمور الدنيا ونقع في أمر مكروه. حينما تكون حوائجنا عند الخلق هل نحن نتجه إلى ربنا لقضاء حوائجنا هل قلوبنا تتعلق بالخالق مباشرة وتتصل به وتسأله جلب الخير ودفع الضر أما أننا نتجه بالسؤال عن من يعمل بهذه الدائرة ومن يعرف من عنده حاجتنا ومن يمكن أن يساعدنا ويغيب عنا في هذا الوقت استشعار ﴿ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ﴾ [سورة آل عمران: 154] نغفل عن أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعونا بشيء لم ينفعونا إلا بشيء قد كتبه الله لنا ولو اجتمعوا على أن يضرونا بشيء لم يضرونا إلا بشيء قد كتبه الله علينا.


إخواني.. إذا كان من أعظم ما يستعان به الصلاة فرضاً أو نفلاً فلنبدأ يومنا بصلاة الصبح في المسجد مع الجماعة لنكون في عهد الله وأمانه في الدنيا والآخرة فعن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ فَلَا يَطْلُبَنَّكُمْ اللَّهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبْهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ يُدْرِكْهُ ثُمَّ يَكُبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ " رواه مسلم (657) لنبدأ تطوعنا بعد الفجر بأربع ركعات بعد طلوع الشمس وارتفاعها بصلاة الضحى فعن نُعَيْمِ بْنِ هَمَّارٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال ربكم تبارك وتعالى ابن آدم صل لي أربع ركعات أول النهار أكفك آخره" رواه الإمام أحمد (21969) وغيره بإسناد حسن ففي هذه الصلاة يكفينا الله شغلنا وحوائجنا ويدفع عنا ما نكرهه إلى آخر النهار فمن أفرغ باله لله والتفت إلى عبادة ربه ولم ينشغل عنها في أول النهار أفرغ الله باله في آخر يومه بقضاء حوائجه.


لنحرص على هذه الصلاة التي هي الحد الفاصل بين الكفر والإسلام لنصليها في وقتها بل لنستيقظ قبل الفجر لنصل ما تيسر من قيام الليل﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴾ [سورة الذاريات: 15-17] ولا تظن أخي أن الأمر صعب بل هو سهل على من سهله الله له فمتى ما عقدت العزم على القيام وفعلت الأسباب أعنت على ذلك وحصل لك ثواب القيام حتى ولم تقم وتذكر تهجدك في ليالي رمضان فحينما عقدت العزم على ذلك أعنت عليه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقيل ما زال نائما حتى أصبح ما قام إلى الصلاة فقال بال الشيطان في أذنه رواه البخاري (1144) ومسلم (774) فالشيطان إذا استولى على العبد استخف به حتى اتخذه كالكنيف المعد للبول. وهذا الحديث ذكره البخاري وغيره في قيام الليل

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي وفق من شاء من عباده لطاعته تفضلا منه وإنعاما وصرف من شاء عن ذلك عدلا منه غير ظالم لهم.

وبعد: عباد الله:
بادروا بالأعمال الصالحة، شكرًا لربكم، وتزوَّدوا في دنياكم لآخرتكم طاعة لربكم وذلك بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ﴿ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [سورة المائدة: 48] فيأمرنا ربنا عز وجل باستباق الخيرات والمسارعة فيها وذلك خير لنا في الدارين فعلينا انتهاز الفرصة وإحراز فضل السبق والتقدم، فالسابقون السابقون أولئك المقربون. فالمآل وإن تأخر فهو ﴿ إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ﴾ ثم تظهر حقائق الغيب وثمرة العمل فالجزاء من جنس العمل ﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [سورة يونس: 26].

إخوتي:
لنحرص على التبكير للصلوات كلها الفجر وغيرها لندرك تكبيرة الإحرام لنصل الرواتب القبلية لاسيما راتبة الفجر فعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" رواه مسلم (725) وإنما كانت ركعتا الفجر خيرا من الدنيا وما فيها لأن الدنيا فانية ونعيمها لا يخلو من كدر أما ركعتا الفجر فثوابهما باق غير كدر وعند الصباح يحمد القوم السرى.


أخي المقصر:
يا من تتواني عن الصلاة وخصوصا الفجر فتارة تحضر بعد الإقامة وتارة تفوتك الصلاة وتارة لا ترى في المسجد هلا وقفت مع نفسك وقفة محاسبة وقلت لها إلى متى وأنا على هذه الحال إلى متى وأنا أسلم نفسي لعدوي وأعمل بما يمليه علي من ترك للواجب وفعل للمحرم وزهد في الخير.


أخي ألا تعلم أن الشيطان لا يرضى منك إذا قدر بأقل أن تكون من حزبه فإذا أغواك إغواء تاما وأصبحت من حزبه كانت النتيجة ﴿ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [سورة فاطر: 6] فالبدار البدار والتوبة النصوح قبل أن يحال بينك وبين التوبة وتندم ولات ساعة مندم قبل أن تكون في عداد المتحسرين الذين أخبرنا الله عنهم بقوله تعالى ﴿ حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [سورة المؤمنون: 99-100].


ثم عتب آخر أخي، يا من يحسن به الظن يا من عليه آثار الخير يا من هو قدوة لغيره لسنه أو لمنزلته أو لطبيعة عمله يحز في نفوس إخوانك حينما يرونك كثيرا ما تقضي الصلاة أو تأتي متأخراً عند الإقامة فهل نسيت أنك بفعلك هذا تزهد في الخير وتدعو للتكاسل عن الصلاة من حيث لا تشعر.



إخوتي:
ليس الفاضل فاضلا دائما فرب مفضول يكون أفضلا فليست المبادرة إلى الصلاة وكون الشخص من أول الداخلين للمسجد أفضل مطلقا فمن كان له أولاد ويتأخر ليحضر هو وإياهم وإذا تقدم للمسجد لم يحضروا فتأخره أفضل بل يجب عليه التأخر ويحرم عليه أن يتقدم ويترك أولاده في فرشهم لم يصلوا. فكيف تطيب نفس من يقرأ قوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [سورة التحريم: 6]. كيف تطيب نفس من يعلم قوله صلى الله عليه وسلم كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته كيف تطيب نفسه وتقر عينه وهذا شأنه معهم. لنتذكر أننا عبيد لله والعبد يجب عليه أن يعمل بأمر سيده لا بما تمليه عليه نفسه.





وينزل الغيث (6) أحكام وتوجيهات

$
0
0
وينزل الغيث (6) أحكام وتوجيهات


الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل






الحمد لله مالك الخزائن والخيرات، رب الأرض والسموات، مسدي النعم والبركات، نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، فالخير بيديه، والشر ليس إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، «يَمِينُهُ مَلْأَى لاَ يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مَا فِي يَمِينِهِ» وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ يفرح برحمة الله تعالى، ويستبشر بغيثه، وإذا مطرت السماء سري عنه، ويخاف العذاب بالريح والغيم، فهو دائم الرجاء والخوف حتى لقي الله تعالى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واشكروه ولا تكفروه؛ فإن شكر النعيم يزيدها، وإن كفرها يزيلها، وإذا سلبت النعم فمن يعيدها؟! ﴿ إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد:11].

أيها الناس: نعم الله تعالى على عباده لا يحدها حدٌّ، ولا يُحصيها عدٌّ، وله في كل شأن من شئونهم نعم، وله نعم في كل لحظة من لحظاتهم، فنعم في سكونهم، ونعم في حركتهم، ونعم في نومهم، ونعم في يقظتهم، وحياتهم كلها من أولها إلى آخرها، وكل ما يجري فيها من خير ما هي إلا من نعمه سبحانه وتعالى.

والغيث المبارك نعمة من نعمه؛ لأنه رحمة من رحماته، يحيي بها العباد والبلاد، مع ما يجدونه من أنس واستبشار وفرح برحمة خالقهم ورازقهم سبحانه وتعالى.

وكون المطر رحمة من رحمات الله تعالى جاء في آيات كثيرة ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48] ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ﴾ [الروم: 46] ﴿ فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الرُّوم:50] وقال رجل لعمر رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، قحط المطر، وقنط الناس، فقال عمر رضي الله عنه: مطرتم، ثم قرأ ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [الشورى: 28].

وللغيث ومقدماته أدعية وأحكام وآداب ينبغي للمؤمنين معرفتها؛ ليعملوا بها فيوافقوا السنة، وينالوا الأجر مع استمتاعهم برحمة الله تعالى وفضله.

فإذا هبت الرياح، وتخيلت السماء فإنه ينبغي للمؤمنين أن يخافوا العذاب؛ لعلمهم بتفريطهم وعصيانهم؛ ولعلمهم بقدرة الله تعالى عليهم؛ ولعلمهم بشدة بطشه وانتقامه، ولا يطغى الفرح عليهم استبشارا بمقدمات المطر كما كان حال عاد حين فرحوا وقالوا ﴿ هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [الأحقاف:24] فالهدي النبوي هو الخوف من العذاب إذا هبت الريح أو تخيلت السماء حتى يعلم أنه رحمة بنزول المطر، عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ يَوْمُ الرِّيحِ وَالْغَيْمِ، عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا مَطَرَتْ سُرَّ بِهِ، وَذَهَبَ عَنْهُ ذَلِكَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: «إِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عَذَابًا سُلِّطَ عَلَى أُمَّتِي» رواه مسلم.

والسنة أن يدعو في الريح قائلا: «اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا، وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ» رواه مسلم.

فإذا مطرت السماء فرح برحمة الله تعالى، والسنة أن يجعل المطر يصيب شيئا من بدنه وثيابه؛ فهو من رحمة الله تعالى، والمؤمن يطلب رحمته ويتعرض لها، روى أَنَسٌ رضي الله عنه قال: أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَطَرٌ، قَالَ: فَحَسَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوْبَهُ، حَتَّى أَصَابَهُ مِنَ الْمَطَرِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ قَالَ: «لِأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ تَعَالَى» رواه مسلم.وورد عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يتمطرون، وروى البخاري حديث خطبة النبي صلى الله عليه وسلم تحت المطر حتى تحادر المطر على لحيته، وبوب عليه قائلا: بَابُ مَنْ تَمَطَّرَ فِي المَطَرِ حَتَّى يَتَحَادَرَ عَلَى لِحْيَتِهِ. قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: ونص الشافعي وأصحابنا على استحباب التمطر في أول مطرة تنزل من السماء في السنة.

ومع نزول الرحمة يستجاب الدعاء، فاستحب الدعاء تحت المطر، جاءت بذلك آثار عدة؛ حتى قال الإمام الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى: وَقَدْ حَفِظْتُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ طَلَبَ الْإِجَابَةِ عِنْدَ نُزُولِ الْغَيْثِ...

ومن الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: «اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا» «اللهُمَّ اجْعَلْهُ صَيِّبًا هَنِيئًا» والصيب هو المنهمر المتدفق، وجاء في رواية «اللَّهُمَّ اجعله سِيْبًا نافعا» والسيب هو العطاء؛ لأن العطاء يعم المطر وغيره من أنواع الخير والرحمة.

وطلب النفع في الغيث سببه أنه قد تمتلئ الأرض به ولكنه لا ينفعها فلا ينبت؛ ولذا جاء في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَتِ السَّنَةُ بِأَنْ لَا تُمْطَرُوا، وَلَكِنِ السَّنَةُ أَنْ تُمْطَرُوا وَتُمْطَرُوا، وَلَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ شَيْئًا» رواه مسلم.

فإذا سمع الرعد سبَّح الله تعالى؛ لأن الرعد يسبحه سبحانه ﴿ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [الرعد:13] وللسلف مأثورات في التسبيح عند سماع صوت الرعد، فكان عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يقول: "سُبْحَانَ الَّذِي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ" وكان ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ قَالَ:"سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ". وكان طَاوُوسٌ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ يقول: سُبْحَانَ مَنْ سَبَّحَتْ لَهُ".

فإذا حضرت الصلاة والمطر ينهمر؛ شُرعت الصلاة في الرحال، فإذا أذن المؤذن قال: صلوا في بيوتكم، أو قال: صلوا في رحالكم، سواء قالها بعد أن ينهي الأذان، أو قالها في أثناء الأذان بدل الحيعلتين، فتكون رخصة لهم بأن يصلوا في بيوتهم، جاء عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ: "إِذَا قُلْتَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَلَا تَقُلْ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، قُلْ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ "، قَالَ: فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَاكَ، فَقَالَ: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَا، قَدْ فَعَلَ ذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي...» رواه الشيخان.

وعن نَافِعٍ قَالَ: أَذَّنَ ابْنُ عُمَرَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ بِضَجْنَانَ، ثُمَّ قَالَ: صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ، فَأَخْبَرَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِهِ: «أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ» فِي اللَّيْلَةِ البَارِدَةِ، أَوِ المَطِيرَةِ فِي السَّفَرِ. رواه الشيخان.

ويشرع الجمع بعذر المطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رفع عن أمته الحرج بالجمع عند الحاجة إليه، وجاء عن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أنه كَانَ «إِذَا جَمَعَ الْأُمَرَاءُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي الْمَطَرِ جَمَعَ مَعَهُمْ» وقد جاء عن جمع من أئمة التابعين أنهم كانوا يجمعون بين المغرب والعشاء في الليلة المطيرة، وما نقل عنهم من آثار في ذلك يدل على أن الجمع للمطر من الأمر القديم المعمول به في المدينة زمن الصحابة والتابعين.

وَالْمَطَرُ الْمُبِيحُ لِلْجَمْعِ هُوَ مَا يَبُلُّ الثِّيَابَ، وَتَلْحَقُ الْمَشَقَّةُ بِالْخُرُوجِ فِيهِ. وَأَمَّا الطَّلُّ وَالْمَطَرُ الْخَفِيفُ الَّذِي لَا يَبُلُّ الثِّيَابَ، فَلَا يُبِيحُ، وَالثَّلْجُ كَالْمَطَرِ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، وَكَذَلِكَ الْبَرَدُ.

والشكر على نعمة الغيث المبارك واجب على العباد؛ لأن حياتهم ورفاهية عيشهم لا تكون بلا ماء، ومن شكر الله تعالى الاعتراف بفضله فيقول العبد: «مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ» فلا ينسب المطر لغيره سبحانه وتعالى، ويسخر هذه النعمة في طاعته عز وجل، فلا يعصي الله تعالى وهو يستمتع برزقه وفضله.

نسأل الله تعالى أن يجعل ما رزقنا من الغيث نافعا مباركا، وأن يحيي به البلاد، وينفع العباد، وأن يفقهنا في ديننا، ويعلمنا منه ما جهلنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا، إنه سميع مجيب.

أقول قولي هذا وأستغفر الله...

الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيِّبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ ﴾ [غافر:13].

أيها المسلمون: حين يجود الله تعالى على عباده بالغيث المبارك يخرج كثير من الناس - ولا سيما الشباب - لرؤية الأودية والشعاب وهي تجري بالماء، فيقلب بعضهم ساعات الفرح إلى فجائع ومصائب وأحزان دائمة، بتهور مجنون، ومغامرات لا تحسب عواقبها، فمنهم من يغامر بقطع الأودية سباحة والماء يجري فيها؛ لينال إعجاب من ينظرون إليه فيعلق ويغرق ويهلك.

ومنهم من لا يكفيه أن يخاطر بنفسه حتى يخاطر بغيره، فيأخذ أصحابه أو أهله في سيارته ليقطع بهم واديًا يجري، فيجرفهم السيل وطميه حتى يغرقهم، وفي سنة مضت خاطر شاب بأمه وأخواته فجرف السيل سيارته، وماتوا أمامه، وبقي حيًّا ليعيش الحسرة عليهم بقية حياته وقد تسبب في قتلهم. وفي كل عام يسيل الناس تنقلب أفراح بيوت إلى أحزان بسبب عبث بعض أفرادها، ومخاطرتهم بحياتهم وحياة غيرهم، وهذا من قتل الأنفس التي حرم الله تعالى، فالحذر الحذر من ذلك.

ومن بركة الأمطار أنها تكشف الفساد في إنشاء المشروعات، وتعبيد الطرق، وتصريف السيول. وتثبت أن الأموال الطائلة التي أنفقت على كثير من المشروعات ذهبت لحسابات أشخاص خانوا الأمانة، ولم تسخر فيما يخدم الناس، ويحقق مصالحهم، ويرفع معاناتهم؛ وذلك مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم «إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» قَيلَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: «إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» رواه البخاري.


فويل لمن تولى ولاية للمسلمين من إمارة أو وزارة أو إدارة ثم لم يؤد الأمانة فيها حتى تهلك أنفس بسبب خيانته، وتهدر أموال طائلة لعدم أمانته، ويل له ثم ويل له، وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَا مِنْ وَالٍ يَلِي رَعِيَّةً مِنَ المُسْلِمِينَ، فَيَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهُمْ، إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ» رواه الشيخان.

ألا وصلوا وسلموا على نبيكم...





هيا إلى الحج

$
0
0
هيا إلى الحج


أحمد بن عبد الله الحزيمي







الحمد لله رب العالمين، إله الأولين والآخرين، قيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملِك الحق المبين، وأشهد أنّ محمَّداً عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً، أما بعد:
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ جل وعلا، وأن نقدمَ لأنفسِنا أعمالاً تبيضُ وجوهَنا يوم نلقى اللهَ، ﴿ وْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89].

قبل نحو خمسين عامًا خرج عثمان دابو رحمه الله إلى البيت العتيق، مشيًا على قدميه مع أربعة من صحبة من قريته من جمهورية جامبيا إلى مكة قاطعين قارة أفريقيا من غربها إلى شرقها، لم يركبوا فيها إلا فترات يسيرة متقطعة على بعض الدواب، خرج الخمسة من دُورهم، وليس معهم إلا قوتٌ لا يكفيهم أكثر من أسبوع واحد فقط، والدافع الرئيس لذلك هو تحقيق أمر الله تعالى لهم بحج بيته العتيق، وأصابهم في طريقهم من المشقة والضيق والكرب ما الله به عليم؛ فكم من ليلة باتوا فيها على الجوع حتى كادوا يهلكون؟! وكم من ليلة طاردتهم السباع، وفارقهم لذيذ المنام؟! وكم من ليلة أحاط بهم الخوف من كل مكان؛ فقُطَّاع الطرق يعرضون للمسافرين في كل وادٍ؟!

كان الشوق للوصول إلى الحرمين الشريفين يحدوهم في كل أحوالهم، ويخفف عنهم آلام السفر ومشاقَ الطريق ومخاطره، مات ثلاثةٌ منهم في الطريق، كان آخرهم في عرض البحر، قال الشيخ عثمان: "لما مات صاحبُنا الثالث نزلني همٌّ شديد وغمٌّ عظيم، وكان ذلك أشد ما لاقيت في رحلتي؛ فقد كان أكثرَنا صبرًا وقوة، وخشيت أن أموت قبل أن أنعم بالوصول إلى المسجد الحرام، فكنت أحسب الأيامَ والساعاتِ على أحرِّ من الجمر.

فلما وصلنا إلى جُدةَ مرضت مرضًا شديدًا وخشيت أن أموت قبل أصل إلى مكة المكرمة، فأوصيت صاحبي أنني إذا مت أن يكفنني في إحرامي، ويقرَبني قدر طاقته إلى مكة، لعل الله أن يضاعف لي الأجر، ويتقبلني في الصالحين.

مكثنا في جدة أيامًا، ثم واصلنا طريقنا إلى مكة، كانت أنفاسي تتسارع والبِشْر يملأ وجهي، والشوق يهزني ويشدني، إلى أن وصلنا إلى المسجد الحرام"

وسكت الشيخ قليلًا.. وأخذ يكفكف عبراته، وأقسم بالله تعالى أنه لم ير لذة في حياته كتلك اللذة التي غمرت قلبه لمَّا رأى الكعبة المشرَّفة!

ثم قال: "لما رأيت الكعبة سجدت لله شكرًا، وأخذت أبكي من شدة الرهبة والهيبة كما يبكي الأطفال، فما أشرفه من بيت وأعظمه من مكان!

ثم تذكرت أصحابي الذين لم يتيسر لهم الوصول إلى المسجد الحرام، فحمدت الله تعالى على نعمته وفضله عليَّ، ثم سألته سبحانه أن يكتب خطواتهم وألا يحرمهم الأجر، وأن يجمعنا بهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر".

أيها الإخوة..
يَتَشَوَّقُ عِبادُ اللهِ الصَّالحونَ فِي هَذَا الوَقْتِ مِنْ كُلِّ عَامٍ إِلَى بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ لِأَدِاءِ الحَجِّ، وَتَتَقَطَّعُ قُلُوبُهُم حَسرَةً وَأَلَماً عَلَى فَوَاتِهِ.
عباد الله: وللحج فضائل كثيرة متنوعة نصت عليها الأحاديث منها:
أن الحاج يعود من ذنوبه كيومَ ولدته أُمه، كما: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" متفق عليه.

ومن فضائل الحج أنه أفضل الجهاد، عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل الأعمال، أفلا نجاهد؟ قال: (لا، لكن أفضل الجهاد حجّ مبرور" (رواه البخاري.
الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة "والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". متفق عليه.
وقد ذكَر أهل العلم أنَّ الحج يجب فورًا على كلِّ مسلم عاقلٍ، بالغٍ حرٍّ مُستطيع للحج، يَملك الزاد والراحلة.

عباد الله ومع هذه الفضائل وهذه الأهمية إلا أننا نجد مِن أُمَّةِ الإِسلامِ مَن تَمُرُّ عَلَيهِ السُّنُونَ وَتَتَوَالى عَلَيهِ الأَعوَامُ وَلَمْ يَحُجَّ مَعَ قُدْرَتِهِ، وَكَأَنَّ الحَجَّ قَد فُرِضَ عَلَى غَيرِهِ، وَقَد عُلِمَ - أَيُّهَا الْمُسلِمُونَ - مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الحَجَّ رُكنٌ مِن أَركَانِ الإِسلامِ وَمَبَانِيهِ العِظَامِ، فيا مَن أنعَم الله عليه بالصحة والعافية، ورَغَد العيش وأَمْن الطريق، وتوفُّر وسائل السفر المريحة الآمنة - بادِر إلى حجِّ بيت الله الحرام، وأدِّ فرضك قبل أن يحجَّ عنك أقاربُك، إن اخترَمك المنون قبل الحجِّ الواجب، وأن تحجَّ بنفسك خيرٌ لك من أن يتصدَّق عليك أحدُ أقاربك بالحجِّ نيابةً عنك، فكم من مسلمٍ حبَسه جسده المريض عن الحج، واُضُطرَّ إلى استنابة غيره في حجِّ الفريضة.

هذا مع تيسُّر السُّبل، وسهولة السفر، وقِصَر المدَّة، ألَم يكن آباؤنا وأجدادنا يقضون شهرًا، أو أكثر في سفر الحج ذَهابًا وإيابًا؟ على ظهور الأبل؟


ولنتأمل الحُجَّاجُ الذين يَأتُونَ مِن أَقصَى الأَرضِ شَرقًا وَغَربًا وبعضَهَم يَبْقَى سَنَوَاتٍ وَهُوَ يجمَعُ مَالَهُ دِرهمًا دِرهَمًا وَفِلسًا فِلسًا، يَقتَطِعُها مِن قُوتِهِ وَقُوتِ أَهلِهِ وَأَبنَائِهِ حَتَّى يَجْمَعُ مَا يُعِينُهُ على أَدَاءِ هَذِهِ الفَرِيضَةِ العَظِيمَة.

إن البعض من الناس ربما ضرب الأرض طولاً وعرضاً ولم يدع مكاناً جميلاً في هذه الأرض إلا سافر إليه ووفر لهذه الأسفار ما يكفيها من أموال بطريق عجيبة.. ولم يفكر في آداء فريضة الحج!

أيها المؤمنون: ومما ينبغي تذكيره َأنه لا يَحِلُّ لِزَوْجٍ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَتَهُ مِنْ أَدَاءِ فَرْضِهَا، وَلاَ لِوَالِدٍ أَنْ يَمْنَعَ وَلَدَهُ مِنْ أَدَاءِ فَرْضِهِ؛ شُحًّا بِهِ، أَوْ خَوْفًا عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الشَّفَقَةَ الحَقِيقِيَّةَ هِيَ فِي الخَوْفِ عَلَى الأَوْلَادِ مِنْ عُقُوبَةِ اللهِ تَعَالَى بِتَرْكِهِمْ فَرَائِضَهُ سُبْحَانَهُ، بَلِ الوَاجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَأْمُرَ زَوْجَتَهُ بِالحَجِّ، وَيَحُثَّهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالطَّاعَةِ، وَإِنْ رَافَقَهَا إِلَى الحَجِّ، أَوْ دَفَعَ نَفَقَةَ حَجِّهَا وَحَجِّ مَحْرَمِهَا مَعَهَا كَانَ ذَلِكَ إِحْسَانًا لِعِشْرَتِهَا، وَعَوْنًا عَلَى أَدَاءِ فَرْضِهَا، وَفِي قِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي اكْتُتِبَ فِي الغَزْوِ وَامْرَأَتُهُ حَاجَّةٌ أَمَرَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ بِأَنْ يَتْرُكَ الغَزْوَ فَقَالَ: «ارْجِعْ، فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ»؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ

وكذلك ينبغي السماح لمن تحت يدهِ من العمالة لتمكينهم من أداء فريضة الحج ولا يتعذرُ بحجة أن العمل يتعطل أو أن المكفول جديد ولا بد أن يمضي عدداً من السنوات حتى يأذن له بالحج، فلربما سافر العامل وضاعت عليه فرصة الحج..

عباد الله، وَعَلَى من نوى الحج أَنْ يَسْتَعِدَّ له مُبَكِّرًا بِاخْتِيَارِ حَمْلَتِهِ، وَاسْتِخْرَاجِ تَصْرِيحِهِ، وَتَعَلُّمِ أَحْكَامِهِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَفُوتُهُمْ قَضَاءُ فَرْضِهِمْ فِي كُلِّ عَامٍ بِسَبَبِ تَأَخُّرِهِمْ فِي الاسْتِعْدَادِ لِلْحَجِّ، فَإِذَا أَغْلَقَتِ الحَمَلاَتُ تَسْجِيلَهَا، وَامْتَلَأَتْ بِحُجَّاجِهَا، تَعَلَّلَ بِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ حَمْلَةً يَحُجُّ مَعَهَا، وَهَذَا دَأْبُهُ فِي كُلِّ عَامٍ، وَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا عَذْرٌ صَحِيحٌ، وَالتَّفْرِيطُ مِنْهُ لاَ مِنْ غَيْرِهِ!

ومن كانت نفسه يا عباد الله تتوق إلى الحج وتتلهف إلى بيته العتيق وأداء هذا الركن العظيم فحال دون ذلك عجز مالي أو ضعف صحي أو مانع أمني فأبشر بالخير فإن نيتك عند قد بلغت ما بلغت.

اللهم بارِك لنا في الكتاب والسنة، وانفَعنا بما فيهما من الآيات والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

الخطبة الثانية


حمداً لله على نعمائه، والشكر له على فضله وآلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي عبد ربه في سرائه وضرائه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه. أما بعد:
ها نحن أيها الأحبة نبدأً بإذن الله تعالى في إحدى الأشهر الحرم الأربعة والتي قال الله تعالى فيها: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ... ﴾ [التوبة: 36].

فالأشهر الحرم هي أربعة: رجبٌ وذو القَعدةِ وذو الحِجةِ ومحرّم. وسبب تحريم هذه الأشهر الأربعة لأجل التمكن من الحج والعمرة، فحُرِّم شهر ذي الحجة لوقوع الحج فيه، وحُرِّم معه شهر ذي القعدة للسير فيه إلى الحج، وشهر المحرم للرجوع فيه من الحج حتى يأمن الحاج على نفسه من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع إليه، وحُرِّم شهر رجب للاعتمار فيه في وسط السنة، فيعتمر فيه من كان قريبًا من مكة وهذه الأشهر مما عظمها الله سبحانه في كتابه، فيجب علينا أن نُعَظِّم ما عَظَّمَ الله، فإن تعظيمنا يُعد عبادة قلبية من أَجَلِّ العبادات قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى ﴿ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ أي في هذه الأشهر المحرمة، لأنها آكد، وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف، لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الحج: 25].

إن عدداً من المسلمينَ قد لا يعلمونَ هذه الأشهرَ الحُرمَ، وعدداً آخَر قد يعلمونها ولكن لا يُعظمونها كما أمرَ اللهُ والعرب كانوا يعظمونها جداً حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه لم يتعرض له.

والسيئة تعظم أحيانًا بسبب شرف الزمان أو المكان أو الفاعل، فالسيئة أعظم تحريمًا عند الله في الأشهر الحرم، وفي عشر ذي الحجة لشرفها عند الله، والخطيئة في الحرم أعظم لشرف المكان؛ قال ابن القيم رحمه الله: تُضاعفُ مقادير السيئاتِ لا كمياتها، فإن السيئة جزاؤها السيئة، لكن سيئةً كبيرةً وجزاؤها مثُلها وصغيرةً وجزاؤها مثُلها، فالسيئة في حرم الله وبلده وعلى بساطه آكد منها في طرف من أطراف الأرض، ولهذا ليس من عصى الملك على بساط ملكه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبساطه.


فتخففوا - عباد الله - من ظلم أنفسكم بامتثال ما أمركم الله به، وترك ما نهاكم عنه، والتوبة مما فرط من الذنوب، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.

وصلوا وسلموا....





جذور الانحراف: سيكولوجيا الشباب (2)

$
0
0
جذور الانحراف: سيكولوجيا الشباب (2)


علي بن حسين بن أحمد فقيهي








بوح القلم










(تأملات في النفس والكون والواقع والحياة)



جذور الانحراف: سيكولوجيا الشباب (2)







نستكمل ما بدأناه في المقال السابق عن خصائص وسِمات شخصيَّة الشاب المراهق، ونركِّز هنا على الجوانب المعرفيَّة والعقلية والخلقية، والتي قد تكون النواة الأولى والجذور الخفية لبعض الظواهر والمشكلات الشبابيَّة.







تمتاز مرحلة الشباب والمراهقة باليقظة الدينيَّة؛ بحيث توضع فيها المعتقدات الدينية التي قد كوَّنها الفرد في طفولته موضعَ الفحص والمناقشة والنقد، وتتعرَّض للتعديل؛ حتى تتفق مع حاجاته الجديدة الأكثر نضجًا، ويزيد من اهتمام المراهق بالمسائل الدينية أنَّه مطالَب بممارسة العبادات بشكل أكثر جدية مما كان عليه الحال في الطفولة، بالإضافة إلى أنَّ مناقشاته مع أصدقائه يغلب على موضوعاتها المسائل الدينية، كما أن بعض الحوادث التي تقع له؛ كموت صديق أو قريب، أو الصعوبات التي يواجهها، تجعله يزداد تركيزًا على الدِّين.







والفحص الناقِد لمعتقدات الطفولة قد يقود المراهق إلى الشكِّ، وبالطبع توجد فروق فردية وجماعية في خبرة الشك الديني لدى المراهقين؛ فهو أشد لدى الذُّكور منه لدى الإناث، كما أنه أقل حدوثًا لدى المراهقين الذين ينشؤون في أسَرٍ تهتم بالدين دون مبالغة، وقد يزداد هذا الشعور أو يقل مع نموِّ المراهق، ويتوقف ذلك على طبيعة الخبرات التعليمية التي يتعرَّض لها في المدرسة؛ فإذا كانت التربية الدينية تقدَّم للمراهق بشكل صوري، وإذا كانت مقررات العلوم الحديثة التي يدرسها في المدرسة تزيد لديه الفجوة بين العلم والدين - فإنَّ ذلك قد يزيد حدَّة الشعور بالشك لديه.







يستطيع الشاب في هذه المرحلة التعامل مع معظم المفاهيم والمصطلحات؛ كالمفاهيم الفلسفية؛ مثل الحرية والحقِّ والعقيدة وغيرها، بل قد تكون لديه مشاعر واتجاهات نحو المفاهيم والأفكار، وليس مجرد الأشياء والأشخاص.







من سمات المرحلة التمييزُ بين الواقع والمحتمل؛ فالمراهق في هذا الطَّوْرِ لم يَعد قانعًا بالتعامل مع الخبرة المباشرة والواقع المشاهد، ولكنه يفكِّر بشكل مستمر في البدائل المختلفة، ويستثمر المراهق هذه القدرة الجديدة في التعامل مع مختلف جوانب الحياة؛ (السياسة، الدين، التربية، المستقبل المهني، الألعاب الرياضية، العلاقات الاجتماعية، وغيرها)؛ فهو يتعامل مع الأفكار والمُثُل العليا والأيديولوجيات، وربما لهذا السبب يوصف المراهق بأنه "غير واقعي" أو "مثالي" أو "حالم" أو "مبالِغ".







كذلك يزداد اهتمام المراهق بالمقارنة بين الحال الذي عليه الواقع، وما يجب أن يكون عليه، وهذه المقارنات تؤدِّي بالمراهقين إلى الانشغال بالقضايا السياسية والاجتماعية والدينية؛ وقد يقود ذلك إلى الاندماج في بعض الجماعات النشطة في هذه المسائل، وربما يؤدِّي هذا النشاط إلى صِراع مع الوالدين والمعلمين والقيادة والسلطة، وربَّما يؤدي ببعض المراهقين إلى الانتساب إلى جماعات العنف والتطرف، ولحمايتهم يجب على الراشدين تقديرُ وجهة نظر المراهق، ومعاونته على إدراك الفجوة بين الواقع والمحتمل "ومنه المستحيل"، وتعميم برامج تهيِّئ له أهدافًا بديلة من خلال النشاط الاجتماعي المشروع؛ (كالحوار الوطني، المشاركة في التصويت والانتخاب)، وهذه هي مسؤولية المدارس، وبرامج رعاية الشباب على وجه الخصوص.







يظهر لدى الشاب اتِّساع في نطاق التفكير؛ فإلى جانب التغير في طبيعة التفكير في هذا الطور، تظهر زيادة في المدى أو الاتِّساع، فيصبح المراهق أكثرَ قدرة على التعامل مع المثيرات الأكثر بعدًا في الزمان والمكان، كما أن العمليات المعرفية تصبح أكثر ارتباطًا بمعظم أنماط السلوك؛ وهكذا لا يصبح المراهق قادرًا على التفكير في المسائل العقلية وحدها، وإنما يستطيع أن يفكِّر أيضًا في المشكلات الانفعالية، ومشكلات العلاقات الإنسانية، والمشكلات الأخلاقية، والمشكلات العامَّة، ويتميَّز المراهق بحماسه في التأمُّل وهو يمارس العمليات الصوريَّة في فهم عالمه وتصوُّر واقعه.







في الجانب الأخلاقي نجد المراهق لا يكون مستعدًّا لتقبُّل المفاهيم الخلقية دون مناقشة كما كان الحال عليه أثناء الطفولة، إنه يحاول بناء نظامه الأخلاقي معتمدًا على المبادئ الخلقية التي تكوَّنَت لديه أثناء الطفولة، والتي يجب أن تتعدَّل وتتغير لتلائم المستوى الأكثر نضجًا من النمو في هذه المرحلة، ويقوده ذلك إلى اكتشاف أوجه التناقض في بعض المبادئ الخلقيَّة، وخاصَّة التناقض بين القول والعمل في سلوك الوالدين والمعلِّمين والسلطة، وهذا الاكتشاف خاصة يؤدِّي بالمراهق إلى كثير من الخلط والاضطراب، كما قد يكتشف المراهق ما يمكن أن يسمَّى "المعيار المزدوج" Double Standard؛ فالكذب يمكن أن يكون أبيض، وسرقة الممتلكات الشخصية أسوأ من سرقة الملكية العامَّة، وبعض أنماط السلوك في العلاقة بين الجنسين تعدُّ خطأ إذا صدرَت عن البنات، بينما هي ليست كذلك بالنسبة للبنين، والأخطر من هذا شيوع اتِّجاه تسامحي نحو الغشِّ في الامتحانات، ويبرِّر المراهقون ذلك بأن الكثيرين يلجؤون إلى هذه الوسيلة للنَّجاح في الامتحان من ناحية، وبأن هناك ضغوطًا على الطلَّاب للحصول على درجات عالية لتحقيق أهدافهم التعليمية والمهنية، وشيوع هذه المعايير المزدوجة بين المراهقين مؤشِّر على الانهيار القيمي العام، والمراهقة في هذه الحالة ليست إلَّا مرآة تنعكس عليها هذه الصورةُ المدمِّرة لقيم وأخلاقيات المجتمع.








ومضة: "إقامة علاقة جيدة مع الأبناء في ظلِّ التغيرات والتحولات مهمَّةٌ صعبة للغاية يعاني منها الجميع، بمن فيهم التربويون والنفسيون والاجتماعيون"؛ د. عبدالكريم بكار.






الملتقيات الاقتصادية النسوية (الأهداف والآليات)

$
0
0
الملتقيات الاقتصادية النسوية (الأهداف والآليات)


د. حياة بنت سعيد باأخضر





الجزء الرابع الأهداف والآليات


أوَدُّ تسليط الضوء على بعض ما كان من أهدافِ وآليَّاتِ المنتدى الاقتصادي النسوي (منتدى واقعيَّة مشاركة المرأة في التنمية) الأخير؛ لعلَّنا نصل إلى الحق الذي هو الْمُبتغَى:
1- إنَّ من يقول: إن مُجتمعاتنا الإسلامية الآن - ومنها مجتمعنا السُّعودي - تستحِقُّ وصف "نصف المُجتمع معطَّل، والمُجتمع أعرج أو أعور، والمُجتمع يعيش بِرِئَة واحدة"، فهو صادق؛ لأنَّ أغلبَ الرِّجال بلا عمل، وبعضهم مِن حَمَلة الشهادات المطلوبة، مثل: القضاء، والطِّب، والهندسة، والحاسب، والفيزياء بأنواعها، وغيرها، ومعلومٌ أنَّ عمل الرجال هو دورهم الحقيقيُّ على وجه الأرض، ومهمَّتُهم الأولى، وواجبهم الْمُناط بِهم في كلِّ مُجتمع؛ يقول تعالى لآدم - عليه السَّلام - في تحذيره له من إبليس: ﴿ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ﴾ [طه: 117 - 119].


قال المُفسِّرون قديمًا وحديثًا في تفسير هذه الآيات: إنَّ من واجب الرجل العمل والكدَّ وما يَتْبعه من شقاء؛ يقول القرطبيُّ - رحمه الله - في "تفسيره": "لَمَّا كان الْكادُّ عليْها؛ أيْ: على حواء، والْكاسب لَها، كان بالشَّقاء أخصَّ؛ لذا خصَّه بذِكْر الشقاء، ولَمْ يقلْ: فتشْقيان؛ ليُعلِّمنا أنَّ نفقة الزَّوْجة على الزوْج؛ فمِنْ يوْمئذٍ جرَتْ نفقة النساء على الأزْواج، فلمَّا كانتْ نفقة حواء على آدم، كذلك نفقات بناتِها على بني آدم بِحقِّ الزَّوْجية".


ويقول الشيخ أبو بكر الجزائريُّ - شفاه الله - في "تفسيره": "المراد من الشَّقاء هنا العمل، كالزَّرع والحصاد وغيرهما مِمَّا هو ضروريٌّ للعيش خارجَ الجنَّة، والزوج هو المسؤول عن إعاشة زوجته، فهو الذي يشقى دونَها"؛ لذا فإنَّ بقاء الرِّجال بلا عمل أدَّى إلى انتشار المفاسد؛ حيث أكَّد أعضاء مَجلس الشُّورى أن 70% من الموقوفين عاطلون عن العمل.


2- لقد حرص المنتدى ظاهريًّا على الظُّهور بثياب الجودة الشَّاملة - كما يزعمون - فنقول لهم: أفليست الجودة الشاملة في المُجتمع أن يعيش كلُّ فردٍ بحسب تخصُّصه، بل بتعبير أدَقَّ: بحسب فِطْرته؟!


أليست الجودة الشاملة في توفير الوظائف للرِّجال ذوي الجودة الشَّاملة في الرَّاتب والحوافز والتأهيل؛ ليتزوَّجوا ويُنْفِقوا على بيوتِهم وبيوت أهلهم؟!


لِنَعلمْ يقينًا أن أيَّ امرأة تجد من ينفق عليها تمامًا، وتؤْمن بحقوق بيتها عليها أوَّلاً - لن تفكِّر في الخروج لأيِّ عمل وفي أيِّ ظرف، وصدِّقونا: العاقلة لن تخرج للعمل المناسب لَها، الذي تحتاجه في آخِرَتِها ودنياها، إلاَّ إذا كُفِئَت مَؤونةُ رعيَّتِها في أيدٍ أمينة تَخاف الله.


3- لو تأمَّلْنا لوجَدْنا أن المنتدى المتعدِّد الانعقاد على أوقاتٍ مُتقاربة، وبأهداف مُحدَّدة يوقن القائمون عليه بتطبيق هذه الأهداف - يدلُّ دلالة واضحة على ثورة نسويَّة عارمة تتزعَّمها فئة مُختارة، وهذا يعني أنَّنا - معشرَ النِّساء - في بلادنا "قاصرات"، فقراراتُنا كنساء في حياتنا الاقتصاديَّة والاجتماعية والفكريَّة، حتَّى الدِّينية - تديرها مَجموعة مُتْرَفة من سيِّدات الأعمال من بلادنا ومن غيرها، فماذا فعَلْتُنَّ؟


قمتُنَّ بالمظالم نفسها التي تزْعُمْن قيام الرِّجال بها ضدَّنا، فقد قامت المنظَّمات الدولية بالتنديد علينا بأنَّنا قاصرات، وأنْتُنَّ تؤدِّين الدَّور نفسه، فما الفرق؟!


ونقول للجميع: لسنا قاصراتٍ، ونحن سعيداتٌ بولاية رِجالنا علينا، ثُم هل نحن معشر النساء السُّعوديات أذِنَّا لَكُنَّ بالتحدُّث عنَّا بالنيابة، وإصلاح أوضاعنا التي فيها شيءٌ يسير من الظُّلم العالَميِّ العام في كلِّ زمان ومكان؟ وكم امرأةً أَذِنتْ لكُنَّ بذلك من المعدَّل العام؟

4- معلومٌ بداهةً أنَّ تصحيح أو تعديل أو إقرارَ أيِّ أمرٍ حاضر سينسحب على المستقبل؛ مِمَّا يعني الحذَر، والحِرْص، والتأنِّي، والقُوَّة في الصِّياغة، التي لا تناقض أسُسَ الحكم والنسق الاجتماعي، وقبل كلِّ ذلك المعتقَدِ والتوجُّه الدِّيني.


وفرْقٌ بين التغيير والإصلاح، وما يحدث هو تغيير، وبكلمات مباشرة جدًّا من المشاركات في المنتدى، فقد صرَّحْن في كلماتِهنَّ بأن ما يَقُمْن به هو "تقَبُّلُ متطلَّبات التغيير مع وجود شخصيَّات غير متقبِّلة للتغيير يَصْعب التعامل معها.


5- أنتُنَّ تَقُمْن بتدويل قضايانا ما بين أروقة الأُمَم المتَّحِدة "على حرْبِنا وتَمزيقنا"، وما بين أروقة الدُّول العربية والإسلامية "بإحضار نساءِ دُوَلِهنَّ لتعليمنا"، فهل سَمِعنا عن الدُّول القويَّة أنَّها سَمَحت لنا أو لغيرنا بالتدخُّل في شؤونِهم الخاصَّة؛ نسويَّةً كانت أو رجاليَّة؟


لِنَقرأْ ولْنَنظُرْ إلى الولايات المتَّحدة التي لَم تُوقِّع على اتِّفاقية السيِّدات الخاصة بالأُسْرة، وهي حاضنة هذه المؤتمرات؛ بسبب أنَّ (الكونجرس) الأمريكي يرفِض تعديلَ قانون الأحوال الشَّخصية بناءً على أمرٍ خارجٍ عن الدُّستور الأمريكي، ويَعْتبر هذا تدخُّلاً وانتهاكًا لسيادته.


حقيقة، أنْتُنَّ تقُمْن بعمليَّة تطبيع قسريَّة لِنَماذج مستنسخة من غيْر بلادنا، ومن غير قِيَمِنا ومفاهيمنا، التي تربَّيْنا عليها في بلاد الْحَرَميْن، وتحت قيادة بلادنا التي تأسَّسَت على التوحيد الخالص، وباتِّباعٍ للرسول - صلى الله عليه وسلَّم - فكيف ينادي المنتدَى بضرورة مشاركة المرأة في التنميَّة الوطنيَّة، ثُم يُحْضرون مَن يعلِّمنا ذلك من خارج وطننا؟ فأيَّة وطنية هذه؟!


وقرأنا عن حرص جهات أجنبيَّة غربية على الحضور للمنتدى، فلماذا؟! أليس هو وطَنِيًّا خاصًّا بنا؟ إنَّ هذه المنتديات أبرزَتْنا كأمة متسوِّلة تَقْتات على موائد الغير، إن لَم يكونوا اللِّئام أحيانًا، وما خبَرُ عقد ندوة "المرأة العاملة: من منظور مسؤولة الحزب الديموقراطي"، الَّتي ستُقيمها مسؤولة الحزب الديمقراطي الأمريكيِّ بكاليفورنيا فريال المصري، إلاَّ دليلٌ دامغ على تدويل قضايانا.


6- ينادي المؤتمر بالوطنيَّة، وهم يُصرِّحون علانية بأنَّهم (لوبي ضَغْط)؛ لِفَرض قراراتِهم، بل يفاخرون بأنَّهم خلال سنتَيْن وصلوا إلى تَحقيق ستةٍ منها، فأين الوطنيَّة في احترام المواطِن والمواطنة، وقبل ذلك الوطن؟!


فكأنَّ لهم حقَّ التشريع والتنفيذ، وهذا مِمَّا يثير العجب للقوَّة المستعلية التي يتحدَّث بِها منظِّمو المنتديات الاقتصاديَّة، وهم يقذفون بتصاريحهم يَمْنةً ويَسْرةً، وكأنَّ الزِّمام كلَّه بأيديهم، فيا لَيْتكم استخدَمْتم ذات القوة في الوصول إلى حقوق الضُّعفاء رجالاً ونساء، كبارًا وصغارًا، شِيبًا وشبابًا.


ثم إنَّ مِمَّا فاخرتم بتحقيقه تعيينَ نائبةٍ لوزير التعليم لشؤون تعليم البنات، فنقول لكم: هل من اختصاص مسؤولة شؤون الطالبات زيارةُ مدارس البنين كما حدث من النَّائبة؟!


7- معلومٌ أنَّ اللِّقاءات الاقتصاديَّة الْهَدفُ منها رفْعُ المستوى الاقتصاديِّ للدَّولة وتقويته، من خلال حاجات الدَّولة المبنيَّة على دراسات علميَّة، يقوم بها أبناء البلد أنفسهم، ثُمَّ هم مَن يناقشون قضاياهم؛ لأنَّهم أعرَفُ بِها من غيرهم، وبلادنا المترامية الأطراف - حفظها الله من كلِّ شرٍّ - توجد بِها عقول مؤسسة لِنُظم اقتصادية عالية الجودة، وشهد بذلك العدوُّ قبل الصديق، فلماذا نتسوَّل من غيرنا أمورًا كُفِيناها؟


ثم نحن البلاد التي تأسَّست على القرآن والسُّنة الصحيحة، ومناهجنا التَّعليمية تشهد بذلك؛ لذا فنحن نَمتلك رصيدًا محفوظًا بحفظ الله، يقدِّم - ليس لنا فقط، بل لِلعالَم أجْمَع - كلَّ ما يَحتاجه، ومِن ذلك النظام الاقتصاديُّ، ولو تدبرنا سورة الكهف فقط بِما حوَتْه من قوانين اقتصاديَّة، لَملأَنا العجب، ولكن العجب الحقيقي أن نكون كالْجِمال التي تحمل الماء على ظهرها، ثُم تَموت عطشًا أو تقترب من الموت.


8- العنوان البَرَّاق عادة يخلب الأبصار، وقد يوقف العقول عن التفكير السَّليم، ويدفع بها نحو التَّسويغ والدِّفاع، خاصَّة مع الطَّرْق الإعلاميِّ المتتابع حول موضوع بِعَيْنه بدعمٍ إعلاني ودعائي، نَحْوعنوان "واقعيَّة مُشاركة المرأة في التنمية الوطنيَّة"، وعنوان "منتدى شراكة المرأة في التنمية"، كلها عناوين تُسِيل لُعاب البعض، والأَوْلَى وضع لقاءات مَحلِّية عنوانُها: "واقعيَّة آثار خروج المرأة للعمل على النَّسيج الاجتماعي السُّعودي"، أو عنوان "الخصوصيَّة الإسلامية لِخُروج المرأة السعودية للعمل"، أو عنوان "المثقَّفة السعودية، وأثَرُها في حِماية الخصوصية السعودية"، أو "الرد على دعاوى ظُلْم المرأة في المملكة العربية السُّعودية من الْمَنظور الإسلامي".



9- الأهداف الْمُعلَنة في جلسات المنتدى تدلُّ بوضوح على أنه يؤسِّس لِنَظام اقتصادي هادمٍ للبِنَى التحتيَّة للمجتمع، شبيهٍ بالنِّظام الرأسمالي الذي تتَّضح آثارُه في كلِّ مُجتمع أنشب أظافره الدَّامية فيه، فهي تعتبر الفرد رقْمًا في المجتمع، وعليه أن يعمل لِيَعيش، وهو رافِدٌ للاقتصاد مهما كان جنسُه؛ لذا فعلى المرأة أن تَخْرج للعمل، وهو الأصل في حياتها؛ لِدَعم الاقتصاد المَحلِّي!


10- مناقشة الجوانب الفقهيَّة في المنتديات الاقتصاديَّة تَمَّت عَبْر غير متخصِّصيها؛ مِمَّا يشكِّل تنقيصًا صارِخًا من هيبة كبار علمائنا، بل مُصادَمةً واضحة لقراراتٍ حكوميَّة في تنظيم الفَتْوى؛ لذا فالسُّؤال الواضح جدًّا: هل "أحمد الغامدي" - المتخصِّص في المُحاسبة، والإداري في هيئة حكوميَّة - يَصْلح للفَتْوى والطَّرح الفقهي، أو أنَّ الكليات الشرعية عقمَتْ عن تخريج متخصِّصين ومتخصِّصات حاذقات؟! إنَّ ما يطرحُه المنتدى من قضايا لو حدثَتْ في عهد الخلفاء الرَّاشدين، لَجمعوا لها أهْلَ بدْرٍ - رضي الله عنهم.


11- هل من الجائز شرعًا واللاَّئق عُرفًا توزيعُ كتيب يَحْوي رسومًا (كاريكاتوريًة) تَهْزأ بالأحكام الشرعيَّة، ومنها القِوَامة، وقيام الْمُسلمة بِحُقوق مَنْزلِها، وتُحرِّض على قيادة السيَّارة ومِهْنة المُحاماة والرِّياضة، وكأنَّها المفتاح السِّحري لِحلِّ كلِّ قضايا المُجتمع، وأمام الجميع: الغريب، والقريب؟


ما هكذا تُورَد الإبِل يا عقلاء بلدي؛ لذا هناك سؤالٌ يوجِّهه كلُّ عاقل إلى المنتدى: ما علاقة التنمية الوطنيَّة بالرِّياضة وقيادة المرأة للسيَّارة والمُحاماة؟!


ولقد أوضحَتْ رئيسةُ المنتدى أنَّ رؤية المنتدى هي طرْحُ نَموذجٍ وطنِيٍّ عرَبِي مُسْلم للمرأة الواعية، والملتزمة فيأداء دوْرِها مَحليًّا وعالَميًّا.


والسُّؤال: هل نجحوا في ذلك بِما قدَّموه من أوراقٍ ونِقاش يضادُّ التميُّز والوعي والالتزام؟!


12- قصص النَّجاح لنساء يُمَثِّلن القدوة لا نريدها عالَميَّة، بل مَحلِّية وطنيَّة، فلدَيْنا الكثير من النَّماذج الناجحة، والمرتبطة بقِيَمِنا الإسلاميَّة الثَّابتة وخصوصيَّتِنا، ونَعْرفها، ونعيش معها، والَّتي تعلَّمْناها من عُلَمائنا الثِّقات في السَّابق والآن.


ثُمَّ أرأيْتُم مَن عرَضْن تجارِبَ بلادهن، نسألكم بالله هل وصلَتْ دُوَلُهن إلى النَّجاح المنشود والقيمة الفعليَّة للمرأة، والتَّماسُك الاجتماعي، والقوَّة الاقتصادية الحقيقيَّة لِجَميع الأفراد، وتَحقَّقَت لِدُولِهن المنافسة الاقتصادية الدوليَّة، أو أنَّ العكس هو الصحيح؟!


إذًا ففاقد الشيء لا يعطيه، وكنا نتمنَّى العكس تمامًا، وهو طَرْح تَجارب الدُّول الإسلاميَّة، التي أخرجَتِ المرأة من خِدْرِها إلى جُحْرِها، وما عانتْه مُجتمعاتهم من تدَنٍّ اقتصادي واجتماعي، وتسلُّطٍ دولي نتيجةَ القروض الدَّولية الظَّالمة.


وانظروا في كلِّ الدُّول التي اختلط فيها الرِّجال بالنساء في مَواقع العمل، وخروج المرأة المستمرِّ من خلال السَّعي الحثيث لِهذه الدُّول؛ لاستصدار قوانين منْع التحرُّش الجنسيِّ، التي انتشرَ في وسائل النَّقل، ومباني الأعمال والدِّراسة، ومن خلال مُحاولاتهم المستميتة لِمَنع الاختلاط، ولكنَّ الحقيقة أنَّهم ما أفلحوا ولن يُفْلِحوا، فمَن وضع النار بجوار البنْزين لا بدَّ أن يحترق هو ومَن حوله ولو قليلاً.


13- التعرُّف على كيفيَّة وضْع آليَّات للإجراءات الحكوميَّةتَنْقلها من النظريَّة إلى التطبيق، فهذا اختصاصٌ حكومي وطَنِي بَحْت، لا يَحِقُّ لكم طرْحُه في منتدًى مفتوحٍ بِمُشاركةٍ غير وطنيَّة، ثُم بِمُطالعة الخطَّة التاسعة للتنمية نُلاحظ قيامَها على: "تعزيز الأمْن الوطنِيِّ والفكري، والمُحافظة على الاستقرار الاجتماعيِّ، وتعزيز رسالة الأُسْرة في المُجتمع، وتَحقيق التَّنمية الشاملة الدائمة في إطار القِيَم الإسلامية، وتسريع عملية التَّنمية، وتَحْسين مستوى معيشة للمُواطن، والعناية بالفئات المُحتاجة في المجتمع، وتقليص معدَّلات البطالة، وتعزيز إسهام القطاع الخاصِّ".


ويتمُّ كلُّ ذلك من خلال عدَّة أهداف، على رأسها "المُحافظة على التعاليم الإسلاميَّة، والوحدة الوطنيَّة، والأمن الوطنِي، وضمان حقوق الإنسان، وتحقيق الاستقرار الاجتماعي، وترسيخ هُويَّة المملكة العربية والإسلامية".


إذًا فَحُكومتنا الرَّشيدة تصرِّح بأنَّ لنا خصوصيَّة يُنكرها منسِّقو المنتدى، وكثيرٌ غيرهم، ومِمَّا يلفت النظر ما ورد في خُطَّة التنمية التاسعة ما نصُّه: "وأبرزَتِ الخطَّة مجموعة من القضاياوالتحديات التي تُواجه ارتقاءَ المملكة في مراتب التَّنافُسية العالَميَّة، ومنها - وهو السبب الثاني -: ضعْف مشاركة المرأة السُّعودية في قوَّة العمل وَفْقَ مؤشِّرمُشاركة المرأة في سوق العمل، الذي يشكِّل أحدَ المؤشرات الفرعيَّة لِمُؤشرالتنافسية الدولية الصَّادر عن المنتدى الاقتصادي العالَمِي".



وبناءً على سياسة خادم الحرمين الشريفَيْن - وفقه الله لكلِّ خير في فَتْح باب الحوار البنَّاء - أقول، ويقول معي الكثير من المواطنين والمواطنات: نرجو من وزارة التَّخطيط مُراجعة هذه الفقرة؛ لأنَّ الدُّول التي خرجَتْ فيها المرأة للعمل لَم يتحقَّق لَها التنافس الاقتصادي إلاَّ في بعضها، وعلى حساب بِنْيتهم الاجتماعيَّة والنَّفسية والفِكْرية، وبِظُلمٍ للنِّساء باعترافهن أنفُسِهن، ثم قد كتَب وتكلَّم الكثيرُ من عُقَلائهم عن أخطار هذا التنافس الاقتصاديِّ المَحموم، وفي المقابل أظهروا عظَمة وضْعِ نسائنا الْمُسلمات عامَّة، والسُّعوديات خاصَّة.





القواعد الكلية اللازمة للاقتصادي المسلم!!

$
0
0
القواعد الكلية اللازمة للاقتصادي المسلم!!


د. زيد بن محمد الرماني





حفلت كتب الشريعة فقهاً وأصولاً بالكثير من القواعد الضابطة للنشاط الاقتصادي والضوابط التوجيهية للحياة الاقتصادية. ففي الفقه الإسلامي، علاوة على الأدلة التفصيلية المبثوثة في آيات وأحاديث الأحكام وما يتفرع عنها، هناك أدلة إجمالية وقواعد كلية وكليات فقهية وضوابط أصولية تعتبر مبادئ وضوابط وأصولاً عامة في نصوص موجزة، تستوعب كثيراً من الأحكام الجزئية.

ومَنْ أخذ بالفروع الجزئية دون القواعد الكلية تناقضت عليه تلك الفروع، واضطربت واحتاج إلى حفظ جزيئات لا تتناهى. ومَنْ ضبط الفقه بقواعد استغنى عن حفظ أكثر الجزيئات لاندراجها في الكليات.

إن الاقتصادي المسلم الراغب في دراسة الأحكام الشرعية في المعاملات المالية، لاكتشاف واستنباط النظام الاقتصادي، لابد له من الرجوع إلى القرآن والسنة والوقوف على تفاسير وشروح هذه المصادر، ومن المهم الاستفادة من الفقه للوقوف على الأدلة التفصيلية المتعلقة باختصاصه. وكليات الفقه الإسلامي تعتبر للاقتصادي المسلم مدخلاً رئيساً إلى الفقه الاقتصادي للمعاملات الشرعية وفهم مقاصد الشريعة.

لذا، فالاقتصادي المسلم في حاجة ماسة لكل علم من العلوم الشرعية: القرآن وتفاسيره، الحديث وشروحه ، فقه المعاملات، أصول الفقه، مقاصد الشريعة.

وعليه، أن يدرس العديد من الكتب الشرعية كالأحكام السلطانية والسياسة الشرعية وكتب الأموال والخراج والحسبة وكتب الأشباه والنظائر، وكتب النظم الإسلامية.

والتراث الاقتصادي للمسلمين غني ثري بالمئات من المصنفات والتآليف النفسية القيّمة.

وفيما يلي نذكر أهم القواعد الكلية اللازمة للاقتصادي المسلم، ومنها:
1- إنما الأعمال بالنيات (الأمور بمقاصدها).
2- العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.
3- لا ضرر ولا ضرار.
4- درء المفاسد أولى من جلب المنافع.
5- لا ينزع شيء من يد أحد إلا بحق ثابت معروف.
6- المشقة تجلب التيسير.
7- الأصل في الأشياء الإباحة.
8- الحاجة تنزل منزلة الضرورة.
9- العادة محكمة.
10- استعمال الناس حجة يجب العمل بها.
11- المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.
12- ما حرم أخذه حرم إعطاؤه.
13- إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام.
14- مَنْ استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.
15- الأصل براءة الذمة.
16- مَنْ ملك شيئاً ملك ما هو من ضروراته.
17- إذا بطل الشيء بطل ما في ضمنه.
18- لا يتم التبرع إلا بالقبض.
19- تبدل سبب الملك كتبدل الذات.
20- المسلمون على شروطهم.
21- الجواز الشرعي ينافي الضمان.
22- كل مالك ملزم بنفقة مملوكه.
23- الخراج بالضمان.
24- الغـُرْم بالغـُنـْم.
25- النـِّعمة بقدر النـِّقمة.
26- الأجر والضمان لا يجتمعان.
27- لا يجوز لأحد أن يتصرف في ملك الغير بلا إذن.
28- الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة.
29- كل شرط يخالف أصول الشريعة باطل.
30- على اليد ما أخذت حتى تؤديه.
31- المباشر ضامن وإن لم يتعمد.
32- التصرف على الرعية منوط بالمصلحة.
33- كل شهادة تضمنت جر مغنم للشاهد أو دفع مغرم عنه ترد.
34- الفرض أفضل من النفل.
35- ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
36- السرف محرم.
37- خير الأمور أوسطها.
38- عدل الشريعة في الزكاة بين المعطي والآخذ.
39- المستقذر شرعاً كالمستقذر حساً.
40- مراعاة المقاصد مقدمة على رعاية الوسائل....

ولأن المقام يطول، نكتفي بهذه الأمثلة من أهم القواعد التي تفيد الاقتصادي المسلم في بحوثه ومناهجه وأساليب ودراساته وتحليلاته ومناقشاته ومحاولاته لاستنباط النظام الاقتصادي.

ولاشك بوجود علاقة قوية بين هذه القواعد ومجالات اقتصادية معينة من مثل: نظرية التوزيع، والسياسات الاقتصادية، والنظم المالية، والنقود والأجور، والاستثمار، والكسب، والتخطيط الاقتصادي والتنمية البشرية، وحماية البيئة، والقضاء الاقتصادي والعقوبات الاقتصادية، والآداب الاقتصادية.


وما أغنى اقتصادنا الإسلامي الثري بكل مقوِّم وأساس ضابط موجه للحياة الاقتصادية سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات أو الدول.

فلا عزة لنا ولا منعة ولا قوة إلا بإتباع مبادئ وقواعد الاقتصاد الإسلامي.







القيادة وفق توجيهات الإسلام

$
0
0
القيادة وفق توجيهات الإسلام


محمود زياد





مشكلة القيادة عمومًا قديمة قِدم المجتمع البشري نفسه، وتمتدّ جذورُها إلى الوقت الذي بدأ فيه التَّفاعُل الاجتماعي، وتوْزيع العلم بين الأفراد والجماعات وأنصارهم، في تنظيمات ونظُم اجتماعيَّة متعدّدة، ومن الحكْمة الإلهيَّة أنَّ الأفراد في أيَّة جماعة عادةً ما ينقسمون إلى فئَتين: فئة مسيْطِرة تصلح للقيادة والتَّوجيه، وفئة تابعة يكون منهم التَّابعون وأعضاء الجماعة الَّذين لا تستطيع الجماعة أن تَحيا أو تتقدَّم أو تحقِّق أهدافها بدونهم.

وتستطيع القيادة أن تفعل المعجزات، وأن تحقِّق الكثير من النَّفع في أشقِّ الظُّروف وأحلك السَّاعات، إنَّها تستطيع أن تحقِّق الوحدة والتَّماسُك وغزارة الإنتاج، كما أنَّها تعبِّئ الجهود وتجنِّد الصفوف وتبثُّ روح العزم والرَّغبة في العمل وسط العاملين معها.

على أنَّ المشكلة ليستْ في قدمها ولكن في تطوُّر مفهومها، فهي تتطوَّر بتطوُّر العصور، وما أحبُّ أن أشير إليه هو أنَّها – أي: القيادة - لا بدَّ أن يكون مفهومُها مشتقًّا من الجماعة مسايرة لتطوُّرات العصر؛ فما يصلح لعصر معيَّن من سمات معيَّنة لا يصلح لغيره، وما يصلح لمجتمع لا يصلح لمجتمع آخر؛ ولذلك يجب أن نشير إلى أنَّ كلمة "قيادة" هي مفهوم قد تطوَّر تطوُّرًا كبيرًا خلال نصف القرن الأخير، فقد حلَّت كلمة "قيادة" محلَّ اللَّفظ القديم "رئاسة"، وهذا التَّطوُّر الَّذي أصاب اللَّفظ مظهرٌ من مظاهر التطوُّر للعقل البشري واتجاهات النَّفس البشريَّة؛ لأنَّ زمانَنا يؤمن بالقيادات التي تعمل لصالح البشريَّة، فالفكرة عن القيادة أنَّها تعمل دائمًا للجانب الإنساني وتحقّق الإنتاج، وقيادة تستند في قراراتِها إلى الأسلوب العلمي الذي يساير أحدث ما في العصر.

وفي هذا المقال نعرض للآتي:
1- العوامل التي أدَّت إلى تغير مفهوم القيادة في العصر الحالي والسّمات الخاصة بهذا المفهوم.
2- أنواع القيادات، وتشمل المفاهيم الآتية:
أ- معنى القيادة الغائبة كمفهوم عصْري، وما العوامل المؤثرة في وجودها؟
ب- القيادة الديمقراطيَّة.
ج- القيادة الأوتوقراطية.
د- القيادة الفوضويَّة.
3- توجيهات الإسلام ومفكّريه في موضوع القيادة.
العوامل الَّتي أدَّت إلى تغير مفهوم القيادة في عصرنا الحالي:
1- التطوُّرات التكنولوجيَّة الهائلة في هذا العصر:
يتميَّز هذا العصر بتطوُّرات علميَّة هائلة، واختراعات بلغت شأنًا كبيرًا، حتَّى أصبحْنا نلمَس أثرَها في حياتنا اليوميَّة، وقد سمعْنا عنها في كلِّ ما يُكْتَب حولها، وقد كان لهذا أثرُه في المجتمع من تغيُّر في تفكير كلِّ فرد وفي حياة كلّ مجتمع؛ وعلى هذا كان لا بدَّ من تغيُّر في مفهوم القيادة باعتِبارها إحدى الظَّواهر الأساسيَّة في المجتمع؛ وعلى ذلك فلم يعد مفهوم القائد أنَّه هو الذي وُهب القوَّة العضليَّة أو قدرات خارقة تفوق البشر، أو هو الملْهَم الَّذي أُوتى الإلهام دون عباد الله، بل هو الإنسانُ الَّذي أعطاه الله القُدرات العاديَّة للبشَر، ولكن يتميَّز بأنَّه شخص عرف هذه القُدُرات وفهِمَها فأخذ ينميها وفق تطوُّرات العصر.

فالقائد بدأ يفهم كيفيَّة استخدام التكنولوجيا في اتِّخاذ القرارات لصالح ولرفاهية مجتمعه وفي تقدمه؛ وعلى هذا فمتَّخذ القرارات لا بدَّ أن يستند إلى الأسلوب العلْمي المستند إلى التكنولوجيا الَّتي تزوِّده بالبيانات الكافية نحو أيَّة مشكلة.
2- ارتفاع مستوى التعليم:
إنَّ مستوى التَّعليم بدأ ينتشر بصورة مذهلة في المجتمع البشَري، وقد أدَّى ذلك إلى تأْثير في حياتهم ونظرتهم نحو الأمور والمفاهيم، ولا شكَّ أنَّ ذلك يمتدُّ إلى تصوُّراتهم عن القيادة، فالنَّاس في ظلِّ الجهل تقبل قيادة من نوع معيَّن، بعكس الأمَّة الَّتي تتميَّز بالتَّعليم فهي تتطلَّب نوعًا خاصًّا من القيادة الَّتي لها مواصفات خاصَّة.
3- ازدياد عدد السكان وتمدُّد المشكلات والأزمات:
العالم قد تزايد بصورة مذهلة في عدد السكَّان، وهذه حقيقة ملحوظة وملموسة، وقد ترتَّب على ذلك مشكِلات وأزمات تواجِهُها الدُّول دائمًا، والأزمات هي الَّتي تصنع الرِّجال، والزِّعامة هي التي تعمل على حلِّ المشكلات بقدرتِها على النَّفاذ لصميم المشكِلات، ببصيرة أعطاها الله للقائد، فيأخذ في البحث والفحْص للوصول إلى أيْسر الطُّرق، والمتتبِّع لهذه الحقيقة يرى أنَّ الزّعامة الحقَّة هي الَّتي كان المجتمع يُعاني أشدَّ وأقصى أنواع الذّلّ والهوان، ويواجه مشكلات كان يتصوَّر عدم القدرة على حلّها، ولكن القيادة جاءت لتحلّ هذه الأزمات.

ومن أهمّ السّمات الَّتي يجب توافُرها في القيادات كلّ في موقع عمله:
1- القائد الذي يتميَّز بقدرته على اتِّخاذ القرارات على أساس أسلوب علمي، وبقدرته على التَّفهُّم لمشكلات عصره والنَّفاذ إليها ببصيرته.
2- فنّ تنسيق جهود الآخرين بُغْية تحقيق هدف مشترك، ويلاحظ هنا أنَّ همَّ القائد ليس أداء العمل أو الوظيفة فحسب، بل هو القدرة على معاملة الأفراد أو العاملين حتَّى يتجاوبوا معه ويخدموا قيادته، ممَّا يمكن من إيجاد وخلْق علاقات طيِّبة يَسودها المحبَّة والاحتِرام والتَّقدير والثقة والإخلاص المتبادل مع مَن يقودهم.
3- التَّأثير على الآخرين من مواقف معيَّنة عن طريق عمليَّة الاتِّصال؛ وذلك لتنمية وترْبية الأفراد واكتِشاف قدراتِهم ومهاراتهم، وتوجيهها التَّوجيه السَّليم.

نَخلص ممَّا سبق أنَّ هذه السّمات ليس بالضَّرورة أن توجد في كلّ قائد، ولكن قد توجد فيه بنسب معينة ويتميَّز بخاصية منها عن الأخرى في القائد، ويعرف عن العصر الحالي أنَّه تخصّص التَّخصّص، وكذلك القيادة هي تخصّص يتدرَّب عليها الأفراد.
أنواع القيادة:
أوَّلاً: القيادة الغائبة:
من الأبحاث العلميَّة الجديدة في علم القيادة اكتُشف ما يسمَّى بالقيادة الغائبة، وهي تلك القيادة التي تتميَّز بأنَّه عند غيابها عن المجموعة فإنَّها تستمرّ في عملها وكأنَّ القائد موجود بينهم، لا يعلم أحد بغياب قائدِهم؛ لأنَّ العمل يسير وفقًا لتخطيط مشترك مسبق موزَّع بينهم، كل وفق قدراته ومهاراته، كلّ فرد مقتنع بعمله، كلّ فرد يحب عمله متفان فيه، كل فرد محب لرئاسته أو قائده، كلّ يعمل بإخلاص وتفانٍ وقد أنجز عمله بسرعة وإتقان في الوقت المحدَّد، هذه هي أهمّ سمات العلم في هذه الجماعة، وهنا نضع مواصفات معيَّنة لهذا القائد مستمدَّة من واقع التَّجريب العملي والمشاهدات الخاصَّة؛ حتَّى لا تكون مواصفات مجرَّدة ليس لها أساس في الواقع؛ وعلى هذا فما هي هذه المواصفات؟
1 - الذكاء العملي:
أي: الذكاء الذي يلمّ بالموضوع كلّه ولا يقتصر على جانب واحد منه، أو يهتم بالتفاصيل في لبّ الموضوع؛ فالقائد لا بدَّ من إلمامه إلمامًا ذكيًّا بالجوانب المتعدِّدة ذات الاتِّصال بعمله في المجتمع الَّذي يعيش فيه، ويتوقَّف ذكاء الشَّخص عادةً على قدرته على التَّخيّل، وتمتُّعه بالأفق الواسع والتَّفكير السَّليم.
2- القدرة على التعبير:
أي: كونه قادرًا على التَّعبير عمَّا يريد باللَّفظ أو الكتابة، وليس من المهم أن يكون فصيحًا، ولكنَّ الدّقَّة وحسن استعمال الألفاظ وعرْض المشاكل، والقدرة على كتابة تقرير دقيق مفهوم، كلها أمور لا بدَّ من توافُرها لنجاح القائد في عمله.
3- الحيوية:
وهي صفة ترتبط بالصّحَّة دائمًا وإن لم ترتبط بالسّنّ في كلّ الأحوال، وهي صفة ضروريَّة لدفْع عمليَّة الإنتاج إلى الأمام، وشحذ الهِمَم والحركة الدَّائمة بين الصفوف؛ فممَّا لا شكَّ فيه أنَّ القائد الذي يتمتَّع بقوَّة وحيويَّة يستطيع أن يبسط نفوذَه وتأثيرَه في الآخرين؛ وذلك لأنَّ العمل الَّذي يقوم به القائد يتطلَّب ساعات طويلة، والمشاكل التي تُواجهُه تَحتاج إلى صبرٍ وأناة وقوَّة احتمال.
4- الثِّقة بالنَّفس:
يجب أن يُشْعِر القائد مرْؤوسيه بالثِّقة في أنفُسهم، وبأهمّيَّة ما يقومون به من جهة، وأن يعمل على رفع رُوحهم المعنوية والقائد النَّاجح هو الذي يغلّب الحب على الكراهية، والأمل على اليأس، والإنشاء على التدمير، وأن يكون ذلك في إطار الشَّريعة والتزام حدودها.

5- إيمانه بالهدَف الَّذي يسعى إليه:
يَجب أن يكون القائد ملمًّا بالهدف مدركًا حدوده وأبعاده، قادرًا على إحاطة معاونيه والعاملين معه بدور المنشأة الَّتي تضمّهم، وتحديد الأهداف المرجوَّة منهم، وشرح ما غمض عليْهم؛ فوضوح الهدَف سبيلٌ إلى تكْتيل الجهود نحو إدْراكه ويبثّ فيهم روح الفريق، ويلاحظ أنَّ تحديد الهدف لا يقتصِر على أبعاده المادّيَّة فحسب، بل يجب أن يقرن بمضمونه المعنوي.
6- مهارة التصور والتخيل:
يركز الكثيرون من المهتمّين بالقيادة على هذه المهارة باعتِبارها ضروريَّة لكلّ قائد ناجح، فالقائد النَّاجح يجب أن يتمتَّع بمهارة عالية للتصوّر؛ فعندما يتَّخذ قرارًا لا يكتفي فقط أن يُخضع نفسه للحقائق الموضوعيَّة الحاضرة والمتاحة، ولكنَّه يجب أن ينطلِق بفكره ليتصوَّر ما يمكن أن يحدُث نتيجة اتِّخاذ القرارات.
7- مهارات فنية:
وهي الَّتي تتَّصل مباشرة بالمجال المهني الَّذي يعمل فيه؛ فالقائد مثلاً في مجال نشر الدَّعوة الإسلاميَّة لا بدَّ أن تتوافر فيه صفات مهنيَّة معيَّنة متَّصلة بهذا العمل، ويُمكن أن نحدِّدَها فيما يلي:
أ- إيمانه العميق بالدَّعوة الإسلامية، والرَّغبة الأكيدة في نشْرها مهما كانت الصعوبات التي أمامه.
ب*- أن يكون ملمًّا بِحقائق الموقف المتَّصلة بأبعاد المجال، من خصائص العاملين معه، من فهم لكيفيَّة توزيع العمل، إلى قراءة التَّقارير الخاصَّة بكل مثال، إلى فهم لتبويب النَّشرة أو الجريدة أو المجلَّة التي يصدرها.
ج- أن يكون قادرًا على التَّطوير والتَّجديد؛ فالمجلَّة مثلاً تَحتاج إلى مسايرة ركب التطوُّر، وهذا يتطلَّب بلا شكٍّ قيادةً من ذلك النَّوع.
د- أن يكون قادرًا على فهم مهارات الاتِّصال ووسائله مع الآخرين في مختلف المجالات.

من العرض السَّابق يتبيَّن لنا أنَّ مفهوم القيادة الغائبة عندما يتحقَّق، فيكون ذلك هبة من الله يضعها فيمَن يشاء من عباده.
ثانيًا: القيادة الديمقراطية:
شاع الحديث عنها دائمًا، وهي تعتمد على الأخذ بمبدأ تفْويض السلطة، وإتاحة الفرصة لاكتساب الخبرات، وتدريبهم على مُمارسة القيادة، وتعتمد على المشاركة في أعْباء الإدارة، ولا تؤمن بالشَّريعة الربَّانية في ضبط حركة الحياة.
ثالثا: القيادة الأوتوقراطية:
وهي تعتمد على الاحتفِاظ بالسلطة الكاملة في يد القائد، في كلّ كبيرة وصغيرة، وعدم الثِّقة في قدرة العامِلِين على اتِّخاذ القرارات بمفردهم.
رابعًا: القيادة الفوضويَّة:
وهي تعتمد على أنَّ القائد لا سلطانَ له على العاملين معه، ولا يكون له دور فعلاً يترك الأمور على حسب الظروف، ولا يهتم بحلّ المشاكل، ويؤدِّي ذلك إلى الفوضى وعدم الإنتاج.

[وقد أوْلت] توجيهات الإسلام اهتمامًا كبيرًا بالقيادة، بل إنَّ الإسلام أخرج بتعاليمِه الحميدة قادةً كان لهم وزنُهم في التَّاريخ، استطاعوا أن يغيروا في معالم التاريخ ويحققوا المُثُل والقيم والرَّخاء للبشر، فكانوا حقًّا قادة أشادت بهم الأمم، وشيَّدوا أعظم بناء للحضارة في العالم أجمع.

وحتميَّة القيادة كضرورة اجتماعيَّة تظهر فيما روي عن الرَّسول الأمين، من قولِه: ((لا يحلّ لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلاَّ أمَّروا عليهم أحدهم))، كما روى قوله - عليْه الصَّلاة والسَّلام -: ((إذا خرج ثلاثة في سفرٍ فليؤمِّروا عليهِم أحدَهم)).

فالقيادة - كما هو واضح ممَّا تقدَّم - يفرضها الإسلام لتماسُك الجماعة واستِمرارها محقّقة لأهدافها في إشباع الحاجات الاجتماعيَّة والفرديَّة.

ويتمثَّل هذا أيضًا في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
وقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].

وقد حدَّد لنا بعض الكتَّاب العرب ومفكّريهم المسلمين خصائصَ خاصَّة بالقادة والقيادة، نخصّ بالذِّكْر منهم ابنَ خلدون، فيقول:
يشترط في القائد ما يلي:

1- العلم: الَّذي يخدم العمل الدعوي، ويعمل كلّ قائد على الأخْذ بأسلوب العلم، ولعلَّ هذا الاتِّجاه يُساير مفاهيم العصْر الَّذي نعيش فيه، من أخذ القائد بسمات التكنولوجيا في اتِّخاذ القرارات.
2- العدْل: الَّذي يقضي على أسباب الحقْد الاجتِماعي، ويهدم حواجز الشُّعور الطبقي والعدْل في توزيع الإنتاج والخدمات إلى الجماهير.
3- الكفاية: التي تَحول دون الانحراف والكفاية الفنّيَّة عن طريق التَّدريب والكفاية للعمل الجيّد المتقن.
4- سلامة الحواسّ والأعضاء من العجز والمرَض، أو ما يؤثّر على سلامة عقل القائد حتَّى يكون ناجحًا.

وعلى هذا نحدّد أهمَّ واجبات القيادة في ظلّ توجيهات الإسلام:
1- الشّورى: وهو نظام إلْزامي للأفراد بمقتضى قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]، وقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، وقول رسولِه الكريم: ((استعينوا على أمورِكم بالمشاورة)).
2- الإخاء والمساواة: من مهمَّة القائد الإخاء والمساواة، في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، ويقول رسوله الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((النَّاس سواسية كأسنان المشط))، ثمَّ قول الرَّسول في خطبة الوداع: ((يا أيُّها النَّاس، إنَّ ربَّكم واحد، وإنَّ أباكم واحد؛ كلّكم لآدم وآدم من تراب، ليس لعربي على عجمي فضلٌ إلاَّ بالتَّقوى)).
3- الاهتِمام بالعلاقات الإنسانيَّة داخل الجماعة، ويستلزم ذلك أن يهتمَّ القائد بالعطف والاهتِمام بالعمل الجماعي، عن طريق تحقيق صالح الجماعة والرِّعاية لها، ويقول الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((كلّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته)).
4- الاهتمام بالجانب الأخلاقي للجماعة، ويتطلَّب ذلك أن يرعى شؤون الجماعة من النَّاحية الأخلاقيَّة، فإذا وجد اعوجاجًا أخلاقيًّا هذَّبه بحكمته وحزمه، وكذلك تزويد جماعته بالنَّصائح بالحسنى، وإسداء النَّصيحة.
5- تحمّل المسؤوليَّة في القرارات التي تتَّخذ، وهذه هي صفة القيادة في أسمى صورِها، وقد مرَّ قول النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديث الشَّريف: ((كلُّكم راعٍ وكلُّ راع مسؤول عن رعيَّته)).











إلى السادة المدربين: لماذا المثال الغربي؟؟ (2)

$
0
0
إلى السادة المدربين: لماذا المثال الغربي؟؟ (2)



نبيل بن عبدالمجيد النشمي








في دورات التنميَة البشرية والتي أصبحتْ شبهَ مطلبٍ حضاري، أو شعارًا على التقدُّم والتغيير والتطوُّر الإداري، حتى إن عددًا من المؤسَّسات فتحت أقسامًا جديدة للتدريب، وشكَّلت إدارات خاصة بذلك، في هذه الدورات تُطرَح مفاهيم وأسس وقضايا مختلفة، وفي طرحها يتعرَّض المدرِّب لأمثلة لتوضيح المقال، ولا ضير؛ فبالمثال يتَّضح المقال، وضرب الأمثلة منهج قرآني وأسلوب نبوي، فالأمثلة تزِيد المواضيع طراوَةً، وتُضِيف عليها حلاوة ورونقًا، كما تساعد على تقريب المفاهيم.

















ولكننا نجد في أمثلة دورات ومؤلفات التنميَة البشرية أنه يغلب عليها الأمثلة الغربية؛ فقصص النجاح أو حتى الفشل أو حتى الأمثلة العادية تُؤخَذ من حياة الغرب، لأفراد أو مؤسسات أو حكومات، ولا اعتراض على أصل القصة وحقيقتها ووقوعها، فليست قضيَّتنا، لكن اللافت هو كثرة إيراد القصص، حتى العادية جدًّا من حياة الغرب، وكأنه لا وجود لنا على الأرض من قبلُ، فلا قصص لنا!







سؤالي: ألسنا أمَّة لها تاريخ، وتاريخ عريق وعريض استمرَّ قرونًا عديدة، وفيه جوانب مشرِقة لم ترَ الشمس مثلها، كما فيه إخفاقات عديدة على مستوى خاص أو عام يمكن الاستفادة منها؟!







يوجد في تاريخنا نماذج فريدة لأفراد ومجتمعات ودول قامت وحملت الرسالة والحضارة، فلماذا نكتفي بالمترجَم الجاهِز، ونستصعِب البحث في أمهات الكتب التي تتحدث عنَّا؟!







الفيل نيلسون، والطفل جورج، والكلب جيري، والقطة مي، وبائع الخضروات، وموظف البريد، ورجل الأمن، والفنان، والرسام، والنادل، والمضيفة، وسائق الشاحنة، والأديب شكسبير، والمخترع ألفريد نوبل، وخبير الإعلان إيكوف، والرئيس روزفلت، وحتى هتلر، أمثلةٌ من الغرب لها حكايات حاضِرَة في دورات التنميَة البشرية، ووصَل الأمر إلى أن سمعنا عن دولة إسرائيل - التي نتعبَّد اللهَ بكرهها وبغضها – تُقدَّم كمثالٍ على التعليم المتميِّز، وأكبر من ذلك قُدِّمت على أنها تحترم الإنسان وتلتزم بالقانون، وأنه لا يوجد فيها أحدٌ فوق القانون، ولا أدري كيف غابَ عن المدرِّب الفذِّ وعن المتدرِّبين الفُضَلاء أنها دولة فوق القانون الدولي؟! وكيف غفلنا عن تعاملها مع الإنسان الفلسطيني وغابت عنَّا في لحظةٍ جرائمها البشعة بحقِّه؟!







إن الأمثلة كثيرة، ومَن له علاقة أو حضور واهتمام بدورات التنميَة البشرية يعرف ما أقول، وحجَّة السادة المدرِّبين في طرحِها أن هذا هو الواقع، ومن الغباء أن ننكر الواقع، ولا داعي لأن نضَع رؤوسنا كالنعامة في الرمال.







إن أهم ميزة تميَّزت به أمَّة الإسلام أنها أمَّة قائمة بذاتها، مستقلَّة عن غيرها فكرًا ومنهجًا وسلوكًا، وأكبر تهمة تُوَجَّه إليها أنها قامت مستفِيدة من حضارة الرومان أو الفرس أو اليونان، ولذلك أخطر ما يهدِّدها أن تتنازَل عن ذاتها، وأن ترضى بالعيش على فُتات غيرها، وأن تبحث عن مكانتها في ذات الآخَرين، ولذلك تكمُن خطورة الإكثار والتركيز على الأمثلة الغربية أنها تُضعِف الثقة بالذات، وتُنمي الشعور بالدون، وتزيد من حالة الانبهار بالحضارة الغربية التي يعيشها قطاع كبير من الأمة.







الاستشهاد بالغرب لا يمثِّل مشكلة عندما تكون الأمَّة قائدة ورائدة وفي وضع قوَّة، لكن في حالة الضعف والعجز يمثِّل مشكلة فكرية واجتماعية وتربوية، ويؤدِّي إلى نتائج وخيمة.







إن المرء العادي عندما يرى قوَّة عدوِّه ويعرف ضعف حاله يعيش قهرًا لا حدَّ له، فإذا أُضِيف إلى ذلك أن هناك مَن يملي عليه ويسمعه مزايا ونجاحات عدوِّه، ويضع بين يديه صورًا إيجابية له، مع تأنيب وتوبيخ مباشر أو غير مباشر، بعد هذا هل سيفكر في اللحاق بعدوِّه، فضلاً عن منافسته والتغلُّب عليه؟!







السادة المدربون، نريد تأصيلاً - إن كان لا بُدَّ من أمثلة غربية - تأصيلاً بإعطائنا أمثلة أو حتى مثال من حياة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يُنشِئ دولة من الصفر، وليس فقط يُعِيد دولةً كانت قائمة، وفي بيئة لم تعرف النظام، نريد أمثلة قام بها النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بتقديم نماذج من حضارة الروم والفرس أو حتى اليهود المجاوِرين له، خاصة أنهم كانوا أهم الحضارات القائمة، وبشكلٍ لا يُقارَن مع حال العرب آنذاك.







هل أخَذ منهم التخطيط، أو ذكَر نجاحاتهم وقدَّم مشاريعهم كأنموذج لإعادة الهمم أو بناء الدول؟! لكنه كان يبني أمَّة وفكرًا ومنهجًا؛ فلا بُدَّ من الخصوصية والتميُّز.







إننا بحاجة إلى قراءة التاريخ الإسلامي من بدايته، والوقوف عند فواصله، والتعرُّف على صفحاته، ولو كانت سهولة الحصول على النماذج من خلال كتب أو تسجيل أو حضور دورات، فإننا بحاجة إلى همَّة، وقبلها قناعة بضرورة الأخذ من تاريخنا الخاص بنا، ونربط بين حاضر الأمة وماضيها، ونعرف كيف وصلت إلى القمَّة؟ وكيف هوَتْ منها؟ ونستفيد من تجاربنا، فَدَاؤنا فينا وعلاجنا من داخلنا؛ هكذا قرَّر ربنا: ﴿ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ [آل عمران: 165]، وأرشَدَنا ووجَّهَنا للعلاج فقال: ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ﴾ [آل عمران: 120].







السادة المدربون، إذا لم يكن لديكم وقتٌ لقراءة تاريخ أمتنا، فاسألوا أهل الاختصاص، أو اسعفوا أنفسكم بما نُشِر من كتب وكتيِّبات القصص المختصَرة، أو استعينوا بِمَن تعرفون عنه الاهتمام بذلك، أو على الأقل (جَوْجِلوها)؛ حتى لا تكونوا سببًا في زيادة ضعف الأمة وبُعْدِها عن تاريخها وفتنتها بعدوِّها وإن قصدتم تنميتها، وكل شيء في الأمة مُدوَّن، حتى وإن أصررتم على أمثلة الحيوانات، فدونكم كتاب "الحيوان"؛ للجاحظ مثلاً، أو "كليلة ودمنة" إن كان ولا بُدَّ.








السادة المدربون، قد تقولون: إننا نبالغ ونعطي الأمر أكبر من حجمه، لكن الحقيقة تؤكِّد أن الإنسان يتأثَّر بما يسمع، ولو كان مجرَّد مزحة.







أتوقَّع منكم أنْ تُسمِعونا قصصًا عجيبة مكنوزة في مجلدات تتحدَّث عن تاريخ أمَّتنا، ويكون لكم شرف نشرها ونثرها، وأجر الاقتداء بها، والاستفادة من دروسها.






توصيات لمرضى القلب: اهتموا بصحتكم في فصل الشتاء

$
0
0



توصيات لمرضى القلب: اهتموا بصحتكم في فصل الشتاء










الدكتور حسن محمد صندقجي












"على الناس أن يُدركوا احتمالات أن يكون من الصعب ضبط مقدار قراءات قياس ضغط الدم لديهم خلال فصل الشتاء، ولذا عليهم أن يكونوا حذرين أكثر خلال تلك الفترة من السنة". بهذه الكلمات لخص الدكتور روس فلتشر نتائج دراسته التي طرحها في المؤتمر السنوي لرابطة القلب الأميركية العام 2008.

ويظل العنوان الأبرز، بالنسبة لأطباء ومرضى القلب، هو أن فصل الشتاء فترة زمنية من السنة تتطلب العناية الخاصة بصحة القلب والأوعية الدموية. وإن قلل البعض من أهمية ما يجري طرحه في اللقاءات العالمية لطب القلب باعتبار أن من الطبيعي أن تستدعي فترة الشتاء الاهتمام الصحي من قبل كل الناس، أطفالاً ومتوسطي عمر وبالغين فيه، ذكوراً وإناثاً، وذلك للوقاية من ميكروبات الشتاء الموسمية ومن التقلبات البيئية في المحيط الذي نعيش فيه، كالمناخ وغيره، إلا أن ما يُطرح علمياً، من أجل التطبيق العملي المباشر، هو أن ثمة تغيرات فسيولوجية حيوية في الجسم تجعل القلب والأوعية الدموية أكثر عرضة للتأثر السلبي بمجموعة هذه الميكروبات والتقلبات البيئية المُصاحبة لفصل الشتاء.

ولئن كان البعض يعتقد أن تأثيرات فصل الشتاء على صحة الجسم، خصوصاً القلب والأوعية الدموية، مرتبطة بشكل وثيق بمدى الانخفاض في درجات حرارة الجو فقط، أو بمدى هطول الأمطار والثلوج وغيرها، فهو مخطئ ومجاف لحقيقة ما يجري من تأثر في الجسم بموسم الشتاء كفترة زمنية.

والسبب أن الدراسات الطبية، التي تتبعت على سبيل المثال مدى احتمالات عدم انضباط مقدار ضغط الدم خلال الشتاء مقارنة بالصيف، لم تلحظ أن التأثيرات السلبية تلك للشتاء على الناس لها علاقة بمدى تدني درجة الحرارة الخارجية بين المدن المختلفة
جغرافياً على مستويات خطوط العرض. بل الأمر أوسع ومرتبط بفترة الشتاء كفصل مستقل من فصول السنة في كافة مناطق شمالي الكرة الأرضية.
وضمن فعاليات اللقاء السنوي لرابطة القلب الأميركية، قال الباحثون في واشنطن إن ضبط قراءات قياس ضغط الدم لدى المرضى أصعب في الشتاء. وأضافوا أنهم لاحظوا أن احتمالات نجاح العلاج في تحقيق خفض مقدار ضغط الدم لدى المرضى، والوصول
به بالتالي إلى الأرقام الطبيعية، كانت أضعف في الشتاء، مقارنة بما يتم لهم تحقيقه في الصيف.
وهي الدراسة التي علق عليها الدكتور جوناثان هالبرين، الناطق باسم رابطة القلب الأميركية وطبيب القلب في مركز ماونت ساناي الطبي بنيويورك، بقوله: “لكن على حد علمي هذه الدراسة هي الأولى التي وضحت لنا التغيرات الفصلية، في ضغط الدم.
ضغط الدم وتشخيصه. وكما هو معلوم أن ارتفاع ضغط الدم لا يتسبب غالباً في ظهور أية أعراض يشكو منها المريض، كي تدل على وجود ارتفاع فيه”.
لكنه مع ذلك قد يتسبب في مشاكل صحية كبيرة وعالية في أهمية التأثير على سلامة حياة المرضى، نتيجة المُضاعفات التي تؤدي الى فشل القلب وجلطات الشرايين القلبية والسكتة الدماغية والفشل الكلوي.
والطبيعي أن تكون قراءة ضغط الدم أقل من 120 للضغط الانقباضي، على أقل من 80 للضغط الانبساطي، أي بالجملة يُقال أقل من 120/80 ملليمتر زئبق.
وحينما يكون الضغط الانقباضي بين 120 و 139، أو الضغط الانبساطي بين 80 إلى 89، فإن قراءة ضغط الدم لا تُعتبر لدى أطباء القلب طبيعية، كما أنها في نفس الوقت لا تُعتبر دلالة على وجود مرض ارتفاع ضغط الدم، بل تُصنف على أنها مرحلة
ما قبل ارتفاع ضغط الدم prehypertension. أما إن كانت قراءة الضغط الانقباضي 140 وما فوق، أو الضغط الانبساطي 90 وما فوق، ويتم تكرار رصدها في ثلاثة أيام متفرقة، فيتم تشخيص الإصابة بحالة ارتفاع ضغط الدم.
ويُمكن العمل على تحقيق نجاح ضبط قراءاته لتُصبح ضمن المعدلات الطبيعية باتباع سلوكيات صحية في نمط الحياة، وبتناول الأدوية الخافضة لارتفاعه، وبالمتابعة الدقيقة لأي تغيرات في قراءة قياسه، أو لأي من الآثار الجانبية لأدوية علاجه، أو ظهور أي
بوادر لوجود مضاعفات في الأعضاء المستهدفة بالضرر منه.

ضغط الدم والشتاء


وشملت دراسة الباحثين في المركز الطبي، لقدامى المُحاربين في واشنطن، شريحة واسعة من أولئك المُحاربين القدامى المُصابين بارتفاع ضغط الدم، بلغت نحو 444 ألف شخص، ممن متوسط أعمارهم نحو 66 سنة.
وتمت في الدراسة متابعة قراءات قياس مقدار ضغط الدم لهم خلال خمس سنوات متواصلة. وتنوعت مناطق سكنهم، لتشمل 15 مدينة موزعة على طول البلاد وعرضها، وتحديداً ضم توزيع المدن تلك الموجودة في أقاصي المناطق الباردة من الولايات المتحدة
مثل أنشوراج Anchorage في ولاية ألاسكا، ومدناً موجودة في مناطق دافئة تحت سلطتها مثل سان خوان San Juan في بورتاريكو.
وتوصل الباحثون إلى نتيجة مفادها أنه مهما كانت المدينة التي يسكن فيها أولئك المرضى، وبغض النظر عن مقدار درجة حرارة الجو فيها خلال فصل الشتاء، وكذلك بغض النظر عن جنس المرضى أو عرقهم، فإن عدد من يتم ضبط قياس ضغط الدم لديهم
بالعلاج، كان أقل في أشهر الشتاء مقارنة بذلك في الصيف.
وقال الدكتور روس فلتشر، الباحث الرئيس في الدراسة: “إننا لاحظنا اختلافاً، في مقدار ضغط الدم، فيما بين فصول السنة، وذلك لدى السكان في كل المدن”. وأضاف انه مهما كان موقع المدينة، التي يسكنها المريض فإنه، في كل صيف يتحسن ضغط الدم،
وفي كل شتاء يسوء.
وتحديداً قال الباحثون: إن لا فرق في هذا بين مدن ألاسكا ومدن مناطق دافئة في الكاريبي. وأنهم لم يجدوا الفرق بين ضغط الدم في الشتاء وفي الصيف أعلى فقط في المدن الشديدة البرودة.
وما تتحدث عنه الدراسة الواسعة، من ناحيتي عدد المشمولين فيها وطول أمد المتابعة، هو أعلى مما كان يُظن في السابق، لأن الباحثين لاحظوا أن التغيرات في مقدار ضغط الدم خلال الشتاء، بالمقارنة مع الصيف، طالت أكثر من 60% من المرضى.
ووصف الدكتور فلتشر مقدار ذلك التغير في نتائج قياس الضغط بأنه "تغير واضح" marked change.
وقال الباحثون إن نتائجهم تقترح أن معالجة منْ لديهم مرض ارتفاع ضغط الدم قد تتطلب تناول جرعات أعلى من الأدوية التي يتناولونها عادة، وربما عليهم إضافة تناول أنواع أخرى منها خلال شهور الشتاء.
وما يبدو هو أنه لو أراد المرء ضبط أي ارتفاع في ضغط الدم لديه، فإن حالة "السقوط الشتوي" winter dip في نجاح السيطرة على أي ارتفاعات فيه يجب أن يُنظر إليها باهتمام. وعلى الناس أن يُدركوا احتمالات أن يكون من الصعب ضبط مقدار قراءات
قياس ضغط الدم لديهم خلال فصل الشتاء، ولذا عليهم أن يكونوا حذرين أكثر خلال تلك الفترة من السنة.

الوزن والحركة

وعلى الرغم من اعتراف الباحثين أنهم لم يكونوا بصدد بحث أسباب تلك الاختلافات لضغط الدم عبر فصول السنة، وعلى الرغم أيضاً مما يُطرح عادة من تعليلات فولكلورية طبية شتى، إلا أن الباحثين صرحوا بأن ما يعتقدون أنه أسباب ذلك هو ربما مجرد
تلك التغيرات في حرارة الجو، بغض النظر عن مقدارها، أو في ضوء النهار، التي تُصاحب فصل الشتاء عادة. وهو ما يدل على أن الباحثين أضافوا إلى الأسباب التي تُذكر تقليدياً لتعليل الأمر، طرح جوانب مناخية وفيزيائية يتميز بها الشتاء من دون الصيف،
وتُؤثر في فسيولوجيا وأنظمة القلب والأوعية الدموية.
وبالإضافة إلى ارتفاع ضغط الدم، تحصل في فصل الشتاء تغيرات في الجسم ناتجة عن أسباب عدة. وهي ما تتسبب أيضاً بتغيرات في ضغط الدم. وأعطى الدكتور فلتشر، كما صرح بذلك العديد من المصادر الطبية من قبل، مثالاً بزيادة الوزن، حيث تظهر
على غالب الناس زيادة نسبية في الوزن نتيجة تغيرات عادات ومكونات تناول وجبات الطعام، ونتيجة قلة الحركة والمجهود البدني، خلال فصل الشتاء مقارنة بالصيف. وكما علق الدكتور هالبرين، في رابطة القلب الأميركية، ضغط الدم يرتفع مع زيادة
الوزن، وينخفض بانخفاضه.
ولاحظ الباحثون في دراستهم هذا الأمر على منْ شملتهم الدراسة الأخيرة الواسعة. وقالوا إنهم لا يعتقدون بأن ارتفاع ضغط الدم أدى إلى زيادة الوزن، بل ربما زيادة الوزن هي التي أسهمت في رفع ضغط الدم. كما قالوا بأن الناس في فصل الشتاء ربما
يتناولون أطعمة عالية المحتوى من الملح، ما يُؤدي هو الآخر إلى رفع مقدار ضغط الدم.
كما ذكر الباحثون أن ثمة نقصا في مقدار الحركة البدنية وممارسة الرياضة خلال فصل الشتاء، مقارنة بالصيف. وهو ما قد يكون عاملاً آخر يُساهم في تفاقم مشكلة ارتفاع الضغط الدموي خلال الشتاء.

عناصر أخرى

واضافة الى احتمالات ارتفاع ضغط الدم في فصل الشتاء نتيجة لعوامل زيادة الوزن وقلة الحركة البدنية، فإن ثمة عوامل أخرى. ولعل من أهمها تلك الآثار الجانبية للأدوية المستخدمة في معالجة احتقان نزلات البرد والانفلونزا، والأدوية المستخدمة لتخفيف
آلام المفاصل من الأنواع غير الستيرويدية كالفولتارين أو البروفين، وأدوية الكورتيزون وغيرها. وكذلك الاضطرابات العاطفية الموسمية Seasonal affective disorder، وما يتبعها من تغيرات نفسية مثل الاكتئاب وتدني مستوى المزاج وغيره. وهي
التي تتفاقم في فصل الشتاء لدى الكثيرين بفعل عوامل شتى، أهمها اختلاف تعرض الجسم لكمية الضوء.
وتشير المصادر الطبية إلى أن برودة الجو أو طول ليل الشتاء وحدهما ليسا السبب الرئيس في نشوء الاضطرابات النفسية هذه. ويستدلون على أن نسبة الإصابة بها ليست عالية بالمقارنة بمناطق سيبيريا وآيسلاندا. والواقع أن علاقة الشتاء بالقلب أوسع من مجرد
ارتفاع ضغط الدم، ومن العوامل الشتوية المؤدية لذلك. لأن الشتاء يرفع من احتمالات الإصابة بفيروسات نزلات البرد وفيروسات الانفلونزا الموسمية، ويرفع أيضاً من احتمالات الإصابة بالالتهابات البكتيرية في الجهاز التنفسي العلوي، مثل الأنف والجيوب
الأنفية والحلق والقصبة الهوائية، والجهاز التنفسي السفلي، مثل الشعب الهوائية وأنسجة الرئة نفسها.
كما أن انخفاض درجة حرارة الجو في الشتاء يرفع من احتمالات التسبب بحالات انخفاض حرارة الجسم Hypothermia ، كما يؤدي إلى انقباض الأوعية الدموية في الجلد، ليرتفع مقدار ضغط الدم ويزيد جراء ذلك العبء على القلب. وبالتالي ترتفع
احتمالات الإصابة بالجلطات القلبية والسكتة الدماغية. وهو ما أكده الدكتور روبرت بوناو، في رابطة القلب الأميركية، بقوله ان هناك عدة نتائج بحثت في التغيرات الفصلية لنوبات الجلطات القلبية والسكتة الدماغية، وأكدت على أن الإصابات بأي منهما ترتفع
أيضاً في فصل الشتاء.
تعامل مرضى القلب مع التهابات الجهاز التنفسي ومضادات الاحتقان

تحت عنوان “الطقس البارد يرفع خطورة أمراض القلب” تقول رابطة القلب الأميركية إن “عضة الصقيع” Frostbite والانزلاق على الجليد ليسا وحدهما ما يُشكلان الخطورة نتيجة طقس الشتاء، بل ان الشتاء أيضاً هو الفترة التي يجب أن يحتاط المرء فيها
لحماية قلبه، خاصة إن كان لديه أحد أمراض القلب والأوعية الدموية.
وعرضت عدة جوانب مرضية تحتاج إلى اهتمام خاص ازاءها بالقلب. وقالت إن إحصاءات مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC) تشير إلى أنه في كل عام، في الولايات المتحدة فقط، يموت أكثر من 36 ألف شخص نتيجة الإصابة بالانفلونزا
الموسمية، ويتم إدخال أكثر من 200 ألف شخص إلى المستشفيات لتلقي المعالجة نتيجة الإصابة بها. وان الدراسات العلمية أظهرت أن الوفيات بسبب الانفلونزا أعلى لدى مرضى القلب، مقارنة بالمُصابين بأي أمراض مزمنة أخرى.
وبينما يتم حث مرضى القلب على تلقي لقاح الانفلونزا الموسمية بمجرد توفر لقاحها، الذي يُنتج في كل عام نوع جديد منه ويتوفر في فترة شهر أكتوبر من كل عام، فإنه لا يُستحسن ثني منْ لم يتمكنوا من تلقي اللقاح في أول الموسم على تلقيه متى ما سنحت
لهم الفرصة بذلك، بل حتى تلقي اللقاح في أواخر شهر ديسمبر أو أوائل يناير يظل مفيداً، لأن موسم الانفلونزا، في المناطق الباردة، يمتد حتى شهر مارس.
واستطردت بالقول إن على مرضى القلب، الذين يُصابون إما بنزلات البرد أو الانفلونزا، أن يتنبهوا إلى ما يتناولونه من أدوية لتخفيف الأعراض التي تبدو عليهم جراء أ ي من عدوى الفيروسات تلك. وغالبية ما هو متوفر من أدوية تُباع دونما الحاجة إلى
وصفة طبية over-the-counter لمعالجة أعراض نزلات البرد أو الأنفلونزا تحتوي على مواد مُضادة للاحتقان decongestants. والمُصابون بمرض ارتفاع ضغط الدم يجب أن يعلموا أن استخدام مُضادات الاحتقان يُمكن أن يُؤدي إلى ارتفاع ضغط
الدم لديهم، كما يُمكن أن يُقلل من فاعلية أدوية علاج ارتفاع ضغط الدم التي يتناولونها، لأن مُضادات الاحتقان الشائعة الاستخدام في إنتاج هذه الأدوية، التي تباع دونما الحاجة إلى وصفة طبية، هي إما مادة زودوإفيدرين pseudoephedrine أو فينايلفرين
phenylephrine.
ولو كنت ممن لديه ارتفاع ضغط الدم، فعليك استشارة الطبيب قبل تناول أي من هذه الأدوية المتوفرة دونما وصفة طبية. وشددت عباراتها بالقول قد تكون، بجهل منك، تضع نفسك في خطر كل مرة تصل فيها إلى خزانة الأدوية لتتناول أحد مضادات الاحتقان
لعلاج أعراض نزلات البرد أو الانفلونزا.
ويقول الباحثون في جامعة هارفارد الأمريكية إن قلة ممن يتناولون أدوية معالجة احتقان نزلات البرد والانفلونزا يلتفتون إلى الملصق التحذيري عليها، والقائل: “لا تتناول هذا المُنتج لو كان لديك مرض في القلب أو ارتفاع ضغط الدم أو أمراض في الغدة الدرقية
أو مرض السكري أو صعوبات في التبول نتيجة تضخم البروستاتة، ما لم تستشر طبيبك”.
وقالوا إن مضادات الاحتقان المحتوية على مادة زودوإفيدرين ترفع مقدار ضغط الدم. وبالرغم من أنها تتسبب بارتفاع طفيف في ضغط الدم، ويتناولها الملايين عبر السنين دونما أية مشاكل، إلا أن ثمة تقارير، لا يُمكن إهمالها، عن تسبب ذلك التناول في
الإصابة بالجلطات القلبية والسكتة الدماغية واضطرابات إيقاع نبض القلب وغيرها من المُضاعفات في القلب والأوعية الدموية.
وأضافوا، نتيجة صدور العديد من القوانين الضابطة لتوفير مادة زودوإفيدرين، فإن العديد من شركات إنتاج الأدوية المضادة للاحتقان اتجه نحو إضافة مادة فينايلفرين بدل مادة زودوإفيدرين. لكن القليل من الدراسات الطبية فحص تأثير حتى هذه المادة على
القلب، ما يتطلب المزيد من البحث.
والواقع أن حتى هذه الدراسات القليلة لا تزال تشير إلى أن لها تأثيرات ترفع من ضغط الدم.




امراض الحساسية.. آلية حصولها ومظاهرها المرضية

$
0
0
امراض الحساسية.. آلية حصولها ومظاهرها المرضية





الدكتورة عبير مبارك







تُشكل أمراض الحساسية أحد العناصر في مجموعة ما يُعرف بـ «أمراض العصر». والشكوى من حالات فرط نشاط تفاعلات جهاز مناعة الجسم مع مواد هي بالأصل غير ضارة، هو أحد الأسباب الشائعة جدا لمراجعة الكثيرين لعيادات الأطباء، سواء المتخصصين في طب الجلدية أو الصدرية أو الأنف أو العيون أو غيرهم. إن أي مادة قد تكون سببا في حساسية جهاز مناعة الجسم وفرط نشاطه تجاه وجودها في الجسم، مثل الغبار ولقاح الزهور أو المواد المتطايرة من النباتات أو إفرازات الحشرات أو أي دواء، أو أي نوع من المنتجات الغذائية، أو مركبات كيميائية في أجزاء الفيروسات أو البكتيريا. مظاهر تفاعلات الحساسية قد تقتصر على بُقع ومناطق محددة في الجسم، كالطفح الصغير للاحمرار الجلدي، أو حكة في العينين أو العطس أو سيلان الأنف. كما أنها من الممكن أن تنتشر في مناطق واسعة من الجسم، لتشمل الجلد والعينين والحلق والأنف والقصبات الهوائية وغيرها. وتفاعلات الحساسية قد تكون ذات مظهر واحد، كالحكة واحمرار الجلد مثلا، وقد تشمل عدة مظاهر كالحكة الجلدية وضيق التنفس والعطس واحمرار العينين وانخفاض ضغط الدم وزيادة نبض القلب وغير ذلك. وتشير الإحصائيات الحديثة في الولايات المتحدة إلى أن أكثر من 400 شخص يموتون سنويا جراء الحساسية من البنسيلين.

* عالم داخلي وآخر خارجي

بالنسبة لجسم الإنسان، هناك عالمان منفصلان تماما. الأول، «العالم الداخلي». والثاني، «العالم الخارجي». والعلاقة ما بين العالمين متشابكة جدا، والجسم يعرف ذلك جيدا. وابتداء يُوجد جسم الإنسان داخل محيط العالم الخارجي من حوله. وهذا الجسم مُحتاج إلى أن يعيش ويتكيف مع هذا العالم الخارجي المحيط به من كل جانب. وعناصر حياة هذا الجسم متوفرة في العالم الخارجي، كالهواء والماء والعناصر الغذائية، وعليه أن يُدخلها إليه وأن يتقبل وجودها. وبالإضافة إلى «عناصر الحياة»، يحتوي هذا العالم الخارجي على عناصر تحمل في طياتها شتى أنواع المخاطر للجسم البشري. ذلك أنها قد تكون سببا في مرض الجسم أو تلف أجزاء منه أو تهديد سلامة حياته. وعليه، يسعى الجسم للحفاظ على بقائه في الحياة وهو بأفضل حال وصورة وقدرات ممكنة، في مواجهة عوامل الخطر الموجودة في المحيط البيئي والجغرافي والحيواني والبشري والميكروبات والسموم وغيرها.

وفي «صراع البقاء» هذا، يستخدم الجسم بتناسق كل إمكانياته، ضمن منظومة دفاعية متناغمة في الأداء. ويُسخر الجسم طاقاته العقلية وخبرات تجاربه وقدراته العضلية لتجنب مواجهة شتى أنواع المخاطر أو الابتعاد عنها حال مواجهتها، أو للتغلب عليها.

وضمن المنظومة الدفاعية للجسم يوجد نظام غير مرئي، ولكنه ذو قدرات جبارة، يدعى «جهاز المناعة». والمهمة الأساسية لعناصر هذا الجهاز، هي التعامل مع عناصر الجراثيم، الصغيرة في حجمها والبالغة الضرر في أذاها، كالفطريات والطفيليات والبكتيريا والفيروسات.


ويعتمد جهاز المناعة نظاما كيميائيا معقدا للتعرف على الجراثيم، أي من خلال المكونات الكيميائية لتراكيب أجزائها. وعند وصول هذه الجراثيم إلى الجسم، ونجاحها في الدخول إليه، يبدأ عمل عناصر جهاز المناعة في الرصد والتعقب، ومن ثم بدء جهود القضاء عليها.


ولكن جسم الإنسان ليس فقط معرضا لدخول الميكروبات إليه، كشيء غير مرغوب فيه، بل هو يستضيف ويتقبل ويطلب أن تدخل فيه العناصر الغذائية. وذلك من أجل استخدامها في نمو الجسم وتشغيل أجهزته وتوفير الطاقة وغيرها. كما أن جسم الإنسان معرض لملامسة أو ابتلاع أو استنشاق عدد غير محدد من المواد الكيميائية الموجودة في البيئة من حولنا. أي في الملابس والأثاث والطعام والماء والهواء وغيره.


* خطأ في التعّرف


* ولدى بعض الناس، قد تختلط الأمور على جهاز المناعة حال التعامل مع العناصر الغذائية البريئة أو المواد الكيميائية المتطايرة في البيئة، أو حتى حال التعامل مع أنسجة الجسم الداخلية نفسها وفي أعضاء شتى منه. وحينها يفقد هذا الجهاز خصائص «اللياقة والتهذيب» في التعامل الإيجابي و«الترحيب بضيوف الجسم»، ممن دخلوا إليه لخدمته وتحسين وضعه، كما يفقد حس التعرف الذاتي على نفسه ومكونات جسمه. وبدلا من الاقتصار على القيام بـ «ردة الفعل» المناعية والدفاعية حال مواجهة الميكروبات والمواد الكيميائية الضارة، يغدو جهاز المناعة ذا «أخلاق هوجاء». وتمسي تصرفاته مزيجا من الرعونة والجهل واستنفاد طاقات الجسم. وكلما دخلت عناصر غذائية معينة، أو مواد كيميائية محددة، إلى الجسم، إما بتناولها أو بملامستها للجلد أو باستنشاقها، بدأت حروب متواصلة بين جهاز مناعة الجسم وبين أجزاء من المركبات الكيميائية الموجودة في العناصر الغذائية. والمشكلة أن ما يتضرر ويتأذى من هذه التفاعلات المناعية هو جسم الإنسان، المُصاب بالحساسية، في الدرجة الأولى والأخيرة.


والنوع الآخر من «اللخبطة» والضلال في تصرفات جهاز مناعة الجسم، يحصل حينما تنشأ لدى هذا الجهاز «حساسية» من أنسجة الجسم نفسه. أي يبدأ جهاز المناعة بالقيام بتصرفات ضد أنسجة أعضاء الجسم أسوة بتلك التي يتعامل بها مع الميكروبات. وبالتالي يبدأ بمهاجمة أنسجة الكبد أو الكلى أو المفاصل أو الجلد أو غيرها، ومن ثم التسبب في تلفها وفشل عملها. وهي ما تسمى أمراض الحساسية ضد أنسجة الجسم الذاتية.

ومما يتميز به العصر الحالي، انتشار حالات الإصابة بأمراض زيادة الحساسية من عناصر غير ضارة ومجموعات الأمراض المناعية الأخرى.


* أسباب الحساسية
* يمتلك جهاز المناعة دوريات مراقبة من خلايا الدم البيضاء. وعندما يتعرض الجسم لمادة ما، عبر التناول أو الاستنشاق أو ملامسة الجلد، فإن هذه الخلايا الدموية البيضاء إما أن تعتبرها مادة غير مثيرة للتفاعل معها، وإما أن تُصنفها كمادة غريبة antigen يجب التنبه لوجودها والقضاء عليها. والمادة الغريبة ستُحفز وتُثير خلايا الدم البيضاء لإفراز وإنتاج «أجسام مُضادة» antibodies خاصة بتلك المادة وحدها. وعملية الإنتاج هذه للجسم المضاد الخاص بمحاربة مادة معينة، تدعى «عملية التحسس» sensitization

وبخلاف فائدة إنتاج خلايا الدم البيضاء لـ «أجسام مضادة» مُوجهة ضد الميكروبات والمواد الضارة الأخرى، فإن ما يجري بشكل خطأ في حالات الحساسية، هو إنتاج خلايا الدم البيضاء لـ «أجسام مضادة» موجهة ضد مواد غير ضارة بالأصل. ونوعية الأجسام المضادة في حالات الحساسية هي من نوع إي E، وتسمى IgE

ونوعية إي من الأجسام المضادة تتولى تنشيط إنتاج وإفراز مجموعة من المواد الكيميائية والهرمونات. وتُسمى هذه المجموعة بـ «الوسائط» mediators. ومن بين هذه الوسائط مادة «هيستامين». وعند حصول تفاعل حساسية في منطقة ما من الجسم، فإن عناصر مجموعة الوسائط هذه تعمل على إحداث تأثيرات تغير من استقرار وهدوء حال الأنسجة والأعضاء، كما أنها تستدعي مزيدا من خلايا الدم البيضاء كي تظل في تلك المنطقة من الجسم. وإذا حصل تفاعل الحساسية فجأة في منطقة ما من الجسم، وأدى إلى ظهور سريع وعال لكمية عناصر مجموعة الوسائط، حصلت تأثيرات الحساسية في تلك المنطقة بسرعة أيضا.

* الأكثر عُرضة للحساسية
* كل إنسان، وفي أي مرحلة من العمر، عرضة للإصابة بالحساسية. وهناك مجموعات أكثر عرضة لها، وتشمل:

- منْ سبق لهم الإصابة بتفاعل شديد الحساسية.

- مرضى الربو.

- من لديهم أمراض مزمنة لسدد بالرئة.

- من لديهم «بوليب» (زوائد) لحميات بالأنف.

- المُعانون من كثرة الإصابة بالتهابات الجيوب الأنفية أو الأنف أو الجهاز التنفسي.

- ذوي البشرة الحساسة.

* أعراض تفاعلات الحساسية
* إن شكل، والإحساس بتفاعل، الحساسية يختلف حسب الموضع والمنطقة في الجسم التي تأثرت به، كما يختلف بشدة حصول ذلك التفاعل. وبعض تفاعلات الحساسية قد تقتصر على مناطق محددة من الجسم، وقد تطال أجزاء متعددة. وشدة ونوعية تفاعل الحساسية ضد مادة معينة، كالأسماك مثلا، قد يختلف من شخص لآخر. ومن ناحية الشدة والقوة، هناك نوعان رئيسيان لنوعية تفاعلات الحساسية.

الأول: حالة «العوار». وهذه الكلمة العربية هي ترجمة كلمة «أنافايلاكسس» Anaphylaxis باللغة الإنجليزية. وفيها تجري أحداث حالة تفاعلات الحساسية بوتيرة سريعة وعميقة وبالغة الشدة، ما يهدد بشكل جدي سلامة حياة المعاني منها. وملاحظة حصولها لدى إنسان ما، يتطلب درجة عالية من التصرف السريع والحكيم لنقل المصاب إلى المستشفى دون أي مجال للتهاون والتأخير. ولذا فإن معرفة أحدنا بتلك العلامات والمظاهر الدالة على وجود حالة «العوار» هو أمر مهم، خاصة إذا كان من حولنا مصاب بالحساسية.

وأهم مظاهر حالة «العوار» هو حصول حالة «الصدمة»، أو ما تسمى Shock. وفيها يتدنى تدفق الدم إلى الأعضاء المهمة، أي القلب والدماغ والكبد والكلى. وذلك نتيجة لانخفاض ضغط الدم بسبب تأثر قدرة الأوعية الدموية على حفظ الدم في داخل مجاريها. ويبدو المصاب شاحب اللون، وباردا، وقد يكون ثمة زيادة في إفراز العرق أو لا يكون، ويكون التنفس صعبا، ومصحوبا بأصوات صفير الصدر، أو توقف التنفس بالمرة. ويبدأ المصاب بالقلق والهلع ثم بفقدان الوعي. وفي نهايات التدهور يتوقف القلب عن النبض. وهو ما يتطلب البدء بعملية الإنعاش القلبي والرئوي، كوسيلة لإنقاذ حياته من الهلاك.

الثاني: حالات أخف شدة. وهي قد تكون ذات عدة مظاهر وعلامات، مثل:

- احمرار الجلد، حكة، انتفاخ الجلد، ظهور بثور جلدية، أو خدوش، أو طفح، أو غيرها من التغيرات الجلدية.

- سعال، ضيق في التنفس، صفير في الصدر حال خروج هواء الزفير.

- تورم الوجه، أو الجفون أو الشفاه أو اللسان أو الحلق. وصداع.

- احتقان الأنف مع انسداد جريان الهواء عبره، سيلان من الأنف لسائل شفاف لزج، العطس.

- احمرار العينين، كلاهما. أو حكة في العين، أو تورم الجفون، أو زيادة إفراز الدمع.

- ألم في المعدة، أو الغثيان والرغبة في القيء، أو القيء أو الإسهال، أو خروج دم مع البراز.





برنامج الاتوكااد

$
0
0
السلام عليكم
طريقة تسطيب برنامج الاتوكاد وكتاب شرح لة وفيديوهات ايضا
وجزاكم اللة خيرا
Viewing all 1343 articles
Browse latest View live