Quantcast
Channel: منتدى فرسان الحق فرسان السُـنة خير الناس أنفعهم للناس
Viewing all 1343 articles
Browse latest View live

جوانب من النظرية اللسانية عند نوام تشومسكي

$
0
0
جوانب من النظرية اللسانية عند نوام تشومسكي
صارة اضوالي





مقدمة:
لقد عرف القرن الماضي ثورة علمية كبيرة مست مجال اللغة بشكل خاص؛ إذ اكتسحت اللغويات مختلف الحقول المعرفية، حتى غدا هذا القرن قرن اللسانيات بامتياز. فبعدما ذاع صيت اللسانيات البنيوية، وأصبح الباحثون والدراسون على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم العلمية والفكرية يتعاملون مع أعمالهم المعرفية، وفق أسس وقواعد النهج البنيوي اللساني الذي قعّد له سوسير، ظهر تشومسكي ليؤسس مدرسة لغوية جديدة، قائمة على مبادئ مغايرة لما سبقها من المدارس اللسانية، ولا سيما المدرسة البنيوية، ومستثمرا، في الوقت نفسه، جهود بعض أساتذته المنتمين إلى التيار التوزيعي، مثل زيليك هاريس. وهذه المدرسة التي نتحدث عنها، هي المدرسة التوليدية التحويلية التي أضحت حديث زمانها، وما زالت قائمة تطور مشروعها اللساني، عبر جهود وأعمال الساهرين والقائمين على العمل في هذا التخصص.

فكانت نظرية تشومسكي اللسانية بمثابة طفرة حقيقية غيرت من مسار اللسانيات، ورسمت لها طريقا نحو تحقيق نجاحات باهرة. ونحن في هذا البحث، سنعمل على إبراز هذا التفوق والنجاح الذي حققته هذه النظرية، من خلال تقسيمه إلى محاور كبرى على النحو التالي:

حياة تشومسكي العلمية:

مسيرته الدراسية والتدريسية.
ميوله السياسي.
تشومسكي والتراث العربي.
مؤلفاته.

نظريته اللسانية: النحو التوليدي التحويلي:
المبادئ العامة.
مراحل تطور النحو التوليدي.

راجين في ختام هذا البحث كل التوفيق والسداد والنجاح من عنده سبحانه وتعالى.
أولاً: حياته العلمية:
مسيرته الدراسية والتدريسية:
هو أفرام نعوم تشومسكي، من مواليد7 ديسمبر1928م، وذو أصول يهودية، درس في بنسلفانيا في إحدى مدارس ديوايت "التي كانت تشتهر بتقدمها في أساليب التعليم"[1]، وطلب جملة من العلوم من منطق وفلسفة وتاريخ ورياضيات، التي نجد آثارها واضحة أشد الوضوح في أعماله ذات الطبيعة اللغوية.

أتم تشومسكي دراسته الجامعية وتتلمذ على يد أستاذه زيليك هاريس Zilic Haris أستاذ اللغويات. "كما تعلم قسطا من مبادئ اللسانيات التاريخية على يد والده، الذي كان عالما في العبرية، وقد قدم جزءا من بحثه الأول في اللغة العبرية الحديثة، عندما نال درجة الماجستير"[2].

حصل تشومسكي بعد جهود كثيرة على درجة دكتوراه الفلسفة في اللغويات عام 1955م، وقام بأبحاث لغوية عديدة عقب انتسابه إلى جمعية الرفاق بجامعة "هارفرد"، وكان ذلك في الفترة الممتدة ما بين 1950 و1950م[3].

وهكذا، ظل تشومسكي يترقى في مسيرته العلمية حتى تسلم منصب الأستاذية في قسم اللسانيات واللغات الحديثة، و"الذي أصبح اسمه الآن قسم اللغويات والفلسفة"[4]، إضافة إلى ذلك، فقد عُين أستاذا بمعهد ماساشيو سيتسي سنة 1955م بعد التقائه بموريس هال[5]؛ الذي "ساعده على الحصول على مركز بحث في المختبر الصوتي الإلكتروني بالمعهد نفسه، وتدريس اللغتين الألمانية والفرنسية بها، وذلك في حدود سنة 1951م. هذا وقد وطأت قدماه الكثير من الجمعيات؛ كالجمعية الأمريكية للتقدم العلمي، وأيضا الأكاديميات؛ كالأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم وغيرها. علاوة على ذلك، فقد ألقى محاضرات في بلدان كثيرة؛ كمحاضرة بيكمان عام1967 في كاليفورنيا، ومحاضرة "جون لوك" عام1969 في جامعة أكسفورد[6]، وغيرها...

ونوام تشومسكي - كما سنتطرق إلى ذلك لاحقا - من رواد النظرية اللسانية الموسومة بالنظرية التوليدية التحويلية، بل من المؤسسين لها؛ حيث سعى بكل جهده إلى بناء نسق منهجي يكشف عن البنى التي تشتغل في ذهن المتكلم المستمع المثالي، ليخلص في الأخير إلى تسطير ثلة من القواعد والنظريات التي تحكم عملية إنتاج عدد لامحدود من الجمل النحوية، انطلاقا من عدد محدود من القواعد، إضافة إلى ما تخضع له هذه الجمل من تحويلات وتبديلات.

ميوله السياسي:
عاش تشومسكي طفولته في الوقت الذي كانت تعرف فيه الولايات المتحدة الأمريكية كسادا اقتصاديا، وهو ما يعرف بالأزمة الاقتصادية لعام1929م، مما انعكس على حالته النفسية، وخاصة ما ترسخ في ذاكرته من المشاهد المحفوفة بالقمع الذي مارسته السلطات على العمال، جراء إضراباتهم ومطالبتهم بحقوقهم، فكانت هذه الظروف إرهاصات أولية كونت لديه حسا نقديا وحدسا ثوريا أهَّلاه إلى دخول مضمار السياسة والخوض في صنوف مواضيعه.

فصار تشومسكي بالإضافة إلى كونه باحثا لسانيا، من المنتقدين البارزين والمعارضين للسياسة الأمريكية، إذ أصدر جملة مقالات في هذا الشأن كانت من أقواها، تلك التي بثَّها في أول كتاب له بعنوان "القوة الأمريكية والمانداريون الجدد"، وله كتاب آخر موسوم ب"ماذا يريد العم سام؟".

وما يمكن قوله في هذا المقام، أن الفلسفة الاجتماعية التي حاول تشومسكي أن يعرضها في أعماله السياسية، أماطت اللثام عن سياسة المكر والخداع والتزييف الذي تتخبط فيها السلطات الحكومية الأمريكية، والتي تحاول جاهدة أيضا قلب الصورة التي هي عليها من الأسوأ إلى الأحسن، فتكون بذلك الانتقادات الحادة الموجهة لهذه السلطات من قبل تشومسكي، قد كشفت عن حقائق عدة لم تكن في الحسبان.

تشومسكي والتراث العربي:
بالإضافة إلى اهتمام تشومسكي بدراسة اللغة العبرية الحديثة التي برع فيها والده وأجاد، فقد نالت العربية هي الأخرى حظا وافرا من اهتمام تشومسكي، وهي لغة شأنها شأن العبرية تنتمي إلى قسم اللغات الاشتقاقية لا الإلصاقية، التي تبقى دائما في حاجة إلى سوابق وأحشاء ولواحق حتى يتم معنى الكلمة، أو لإضافة معان جديدة.

وقد "اطلع تشومسكي على اللغة العربية ونحوها أيام كان شابا؛ فقد اطلع على متن الأجرومية لما كان طالبا في المرحلة الجامعية"[7]، وتعلم قواعدها على يد أستاذه روزنتال، مما ينم عن ميوله اللغوي المحض، ورغبته في سن قواعد نحو كلي grammaire universelle تقبله كافة اللغات كيفما كانت.

وتطرح في هذا السياق العلاقة الرابطة بين النحو العربي والنحو التوليدي التحويلي؛ على أساس أن الأول ينتمي إلى العلوم العربية القديمة التي تشكل الأرضية الصلبة، والأساس المتين الحامي لحمى اللغة العربية الشريفة، وأن الثاني من النظريات اللسانية الحديثة التي نمت في أحضان النصف الثاني من القرن المنصرم، حتى غدا قرن التوليدية التحويلية بامتياز. فكيف يمكن تطبيق الثاني على الأول؟؟

ذهب أحد الدارسين وهو أسمهان الصالح مع طالب له في مقال مشترك[8]، إلى القول بأن "المبادئ التي ينادي بها التحويليون لا تختلف إجمالا مع ما جاء به نحويو العربية"[9]، وذلك أن النقط المشتركة بين نحو العربية ونحو التوليدية كثيرة جدا، وعلى رأسها أن المنبع الرئيسي لكل منهما هو العقل. غير أن النحو العربي كان سباقا لكل هذه المبادئ التي أقرها التوليديون في شخص زعيمهم تشومسكي، وما يدل على ذلك هو ما تطرق إليه الدارسان من قضايا تفصح عن حقيقة هذا الأمر، ومن أبرزها:
قضية الأصل والفرع: كقولنا إن المفرد هو الأصل للجمع، وأن النكرة أصل والمعرفة فرع...ويقابلها عند تشومسكي ما يعرف بالبنيتين السطحية والعميقة، فالأصل يمثل التركيب الباطني والفرع يمثل التركيب السطحي.

قضية العامل: ونجد أن تشومسكي يفرد للعامل نظرية خاصة به، وهي نظرية الربط والعامل، أو الربط العاملي - كما يسميها البعض - التي بلورها عام1981م، فيؤكد أن العامل في المقول هو الفعل، أما عامل الفاعل فهو "الصرفة"، التي تتضمن صفات المطابقة والزمن والجهة[10].

إذاً، فهذه هي القضايا التي شاعت بين نحاة العربية، وأقيمت حولها خلافات كثيرة، ولا سيما بين مدرستي البصرة والكوفة، وها هو تشومسكي يحاول أن يثيرها مجددا، بل ويصنفها ضمن النظريات المنمذجة كما سنرى حين سنتحدث عن مراحل تطور النظرية التوليدية التحويلية.

ومما قد يضاف في هذا السياق أيضا، تلك الخاصية التحويلية التي طبعت جوانب نظرية تشومسكي اللسانية، وهذه الخاصية تحمل في طياتها عدة قواعد من إحلال وتوسع وحذف...، والتي هي نفسها تحضر في الدرس اللغوي العربي ولا تستقيم مسائله الخاصة بهذا الجانب إلا بذكرها.

ومن هنا، يتضح جليا تأثر تشومسكي بالتراث العربي في تكوينه العلمي، ولعل ما أشار إليه الدارسان في المقال من قضايا مشتركة بين النحو العربي والنظرية التوليدية التحويلية، فيه من الدلالة ما يؤكد هذا التأثر.

مؤلفاته:
إن الجهود التي قام بها تشومسكي في سبيل بناء نظرية لغوية شاملة لكل الأنحاء، ومقوضة لما سبقتها من نظريات، كان لا بد أن تسفر عن مؤلفات تترجم فكر تشومسكي وتوثقه، وهي مؤلفات صدرت في فترات زمنية متقاربة، من أبرزها:
البنى التركيبية les structures syntaxique(1957م).

البنية المنطقية للنظرية اللسانية la structure logique de la théorie linguistique(ألفه في سنة 1955م، لكن صدوره أجل إلى سنة1975م).

ملامح النظرية التركيبية l’aspect de la structure syntaxiques(1965م).
اللسانيات الديكارتية la linguistique cartésienne(1966م).

الأنماط الصوتية في اللغات الإنجليزية les types phonologiques de la langue anglaise(1968م).
اللغة والفكر(1968م).

هذا إلى جانب أعمال أخرى - لا يتسع المقام لذكرها - تنم عن عبقرية هذا الرجل وسعة علمه واطلاعه.

ثانيا: جوانب من نظرية تشومسكي اللسانية.
المبادئ العامة:
كان بزوغ فجر التوليدية التحويلية في النصف الثاني من القرن العشرين، تقويضا لأسس ودعائم المدرسة السلوكية التي سادت قبيل مجيء تشومسكي بمشروعه اللساني. ولعل الغاية التفسيرية التي طبعت هذه النظرية بطابع خاص، كان لها دور أساس في نشوء مرتكزات قوية ومبادئ متينة، دفعت بها إلى تحقيق ثورة كبرى في الدرس اللغوي الحديث.

إن من أهم المبادئ التي أقام تشومسكي على أساسها صرح النظرية اللغوية:
مبدأ الاكتساب اللغوي.
مبدأ الإبداعية اللغوية.
فلا بد عند ذكر النظرية التوليدية التحويلية من استحضار هاتين الخاصيتين _إلى جانب خصائص أخرى_ التي تميز اللغة عند التوليديين التحويليين، في حين تغيب عند باقي الأنحاء التي سبقتها، فما المقصود إذاً بهذين المبدأين عند تشومسكي؟؟

أولاً: مبدأ الاكتساب اللغوي:
إن خاصية الاكتساب اللغوي عند تشومسكي، مرتبطة أساسا بالمنهج التوليدي ككل، وهو "منهج ذهني يجعل ملكة اللغة قدرة فعالة غريزية وفطرية، وهي قدرة تخص الإنسان وحده"[11]، لذلك يرفض تشومسكي" النظرة الآلية إلى اللغة من حيث كونها عادة كلامية قائمة على المثيرات والاستجابات"[12]، وهي النظرة التي سادت فكر السلوكيين، وقادتهم إلى القول بأن اللغة سلوك لغوي يستجيب لمثيرات خارجية، تخضع لسلطة البيئة بالدرجة الأولى، وأتى تشومسكي بعدهم ليتبنى رأيا مخالفا، يرجح فيه مسألة" أن الاكتساب اللغوي يكون عن طريق امتلاك الإنسان لمعارف لغوية تتضمن قواعد كلية"[13].

فقد حاول تشومسكي أن يشرح اللغة ويعلل أسبابها من الداخل وليس من الخارج، ذلك أن الطفل يكون قواعد لغته بصورة خلاقة من خلال ما يسمعه من بيئته. وعليه، فإن الطفل يكتسب لغته انطلاقا من الآلية الضمنية التي يمتلكها، والتي تخول له إمكانية التعلم السريع لأي لغة، فالطفل على هذا الأساس، هو الذي يكون مفهوم اللغة ويخلقها شيئا فشيئا، مما يجعله مختلفا عن الحيوان الذي أجريت عليه تجارب عدة، وبينت أنه يفتقد للملكة اللغوية الفطرية التي أودعها الخالق في عباده.

فالقول إذاً، بأن اللغة عبارة عن استجابات لمثيرات خارجية، من الأمور التي يدحضها تشومسكي، ويرفضها رفضا تاما، ويصر في المقابل على" أن بنية التنظيم المعرفي الذي يصل بالطفل إلى اكتساب اللغة، هي بنية معطاة بصورة مسبقة إلى الطفل"[14]. وبهذا، يكون الاكتساب اللغوي ناتج عن مقدرة الإنسان الفطرية، هذه المقدرة التي يطلق عليها مصطلح الكفاية اللغوية أو القدرة الإبداعية.

ثانياً: مبدأ الإبداعية اللغوية:
كان للفكر العقلاني - الذي ساد أوروبا في القرن السابع عشر - وقع خاص على نظرية تشومسكي اللسانية، بل وقد شكل منطلقاً هاماً لتحديد طبيعة اللغة، ولا سيما القواعد الديكارتية التي حددت لنظريته المعالم الكبرى والخطوات الأساسية التي سيبني عليها منهجه التوليدي التحويلي.

وإذا كانت اللغة هي خصيصة إنسانية، تميز البشر عن غيرهم من الكائنات الحية، فإننا نفترض وجود ما يميز هذه اللغة ويصفها. ومن أقوى الصفات التي تكتسيها اللغة هي صفة الإبداعية، ونقصد بها" مقدرة الإنسان على إنتاج جمل لا حصر لها دون أن يكون قد سمعها من قبل"[15].

فقد نص تشومسكي على هذه الخاصية التي تعلي من شأن اللغة الإنسانية، وأكد على أهميتها، لأنها تمكن المتكلم من" فهم عدد غير متناهٍ من جمل هذه اللغة وصياغته حتى ولو لم يسبق له سماعه من قبل"[16].

وهذا المبدأ يعزز بشدة اتجاه تشومسكي إلى دراسة اللغة دراسة داخلية، بعدما لقيت إهمالا وتهميشا من لدن التيارات اللسانية السابقة، كما سارع إلى رد الاعتبار لهذه اللغة، بل وللذات الإنسانية عامة، فبعدما كان الإنسان موصوفا بالتقليد والمحاكاة واجترار ما يسمعه من التراكيب والصيغ اللغوية، أتى تشومسكي ليبطل هذا الزعم، ويؤكد أن اللغة من أهم الأنشطة التي ينفرد بها الإنسان الذي لا يكتفي بتلفظ الصيغ الكلامية التي التقطها سمعه فحسب، وإنما يستطيع أن يولد قدرا كبيرا من الجمل لم يسمعها قط، ويعبر عنها بصورة غير متناهية من التراكيب.

مراحل تطور النحو التوليدي:
إن المتتبع لأعمال تشومسكي، يجد أن النحو التوليدي التحويلي عرف مجموعة من التطورات منذ سنة 1957م، وهو تاريخ ظهور أول كتاب له بعنوان "نماذج تركيبية"[17]، ويلاحظ أيضا أن تشومسكي كان في كل مرة يصدر فيها كتابا، يضيف عناصر جديدة إلى هذا النحو انطلاقا من الانتقادات التي توجه له من طرف تلامذته وغيرهم. لذا، كانت هذه التطورات التي خضعت لها نظرية تشومكي اللسانية، بمثابة سد للثغرات التي من شأنها أن تقلل من فعالية هذا النحو في دراسة اللغة وتقنينها، ولا سيما أن المطمح الأكبر الذي كانت اللسانيات التوليدية تروم تحقيقه ولا زالت، ينصب بالأساس على صياغة نحو كلي قادر على استيعاب كل القواعد المشتركة بين كافة اللغات البشرية.

وقد لخص نعمان بوقرة[18] مراحل تطور النحو التوليدي في ثلاث مراحل، وهو ما سنأتي على بيانه فيما يلي:
المرحلة الأولى: تتمثل في أول كتاب صدر عام 1957م،والموسوم ب"البنيات التركيبية"، بوصفه كتابا يؤرخ لأول ظهور للنظرية التوليدية التحويلية. وتعود جل الأفكار التي طرحها تشومسكي في هذا الكتاب إلى أستاذه زيليك هاريس، مع بعض التغييرات التي وسمت هذا النحو بميسم خاص سنأتي على ذكرها لا حقا.

ويعد هذا الكتاب إطارا نظريا أرسى فيه تشومسكي المبادئ العامة للنحو التوليدي، وكان شغله الشاغل في هذه المرحلة، هو التركيز على الأبعاد البنيوية للجمل دون إعارة المعنى أي اهتمام؛ بدعوى أنه يجب الفصل بين النحو والمعنى، "وأصبح الهدف عند تشومسكي هو اكتشاف البنى التركيبية"[19] للجملة التي صارت المدار الرئيس لأبحاثه ودراساته اللسانية.

لذلك صاغ تشومسكي نظريته وفقا لثلاثة قواعد:
القواعد التوليدية: "عبارة عن جهاز يحتوي على أبجدية رموز هي بمثابة معجمه"[20]، وهذه الأبجدية تخول له إمكانية توليد وتأويل عدد من الجمل دون أن يكون قد سمعها من قبل، وفق سلسلة من الاختيارات؛ بحيث إن كل اختيار يفرض قيودا معينة على الاختيار الذي يليه، كأن نختار في بداية الجملة اسم الإشارة (هذا)، فالذي يعقبه ينبغي أن يكون اسما مفردا لا جمعا، فلا نقول: هذا الأولاد*[21]، و إنما نقول: هذا الولد..

وبما أن النحو التوليدي هو نحو صوري يقوم على مبدأ ترييض الوقائع الملموسة، وتحويلها إلى نماذج ورموز، فإننا نلاحظ أن تشومسكي جاء بما يسمى "قواعد إعادة الكتابة"، وهي قواعد تضطلع بوظيفة "إعادة كتابة الجملة بواسطة رمز يشير إلى عنصر معين من عناصر الكلام"[22]. ومثال ذلك:
الجملة ← مركب اسمي+ مركب فعلي.
المركب الإسمي ← تع + اسم...

القواعد التحويلية: تمكننا هذه القواعد من "تحويل الجملة إلى جملة أخرى تتشابه معها في المعنى"[23]، وذلك عن طريق جملة من التحويلات كالحذف والنقل والإضمار والتقديم...

القواعد الصوتية الصرفية: وهذه القواعد تهتم أساسا بتحويل "المورفيمات إلى سلسلة من الفونيمات، وبمعنى إعادة كتابة العناصر كما تنطق"[24].

ويمكن تلخيص بنية الجملة في نموذج 57 في الخطاطة الآتية[25]:

إذاً، فهذه هي البنية التي حددها تشومسكي للجملة في نموذجه الأول، ونجد أنه ركز على تحديد المكونات الأساس لأي جملة، مع مراعاة الجانب الداخلي للغة المتمثل في جانب القدرة، وبالضبط في القواعد التوليدية التي تقوم بدور التوليد، وتحديد العناصر الأولية للجملة. سنرى إذا، ما هي المستجدات التي جاء بها تشومسكي في النموذج الثاني لتطوير النموذج الأول؟

المرحلة الثانية: حاول تشومسكي في هذا النموذج الذي نظر له في كتاب"جوانب من نظرية التركيب"[26]عام1965م، استدراك بعض المكونات التي أهملها في النموذج الأول، نتيجة لمختلف الانتقادات التي تلقاها من طرف بعض تلامذته هم: كاتز وفودر وبوستر، وكان من نتائج هذه الانتقادات، أن أعاد النظر في الفصل الذي كان قد أقامه سابقا بين النحو والمعنى، فأضاف المكون الدلالي، واحتفظ بالمكونات التي قعد لها في نموذج 57، فصارت الجملة تخضع لثلاثة مكونات هي: المكون التركيبي والمكون الدلالي والمكون الصواتي.

ولعل من أهم ما طرحه تشومسكي في هذا النموذج-النموذج المعيار- إلى جانب الإقرار بضرورة خضوع الجملة للمكون الدلالي، مجموعة من الثنائيات، والتي تتحدد في:
ثنائية البنية العميقة والبنية السطحية.
ثنائية القدرة والإنجاز[27].

فللغة إذا جانبان أساسيان، لا يمكن أن نفهم اللغة إلا بهما هما:" الأداء اللغوي الفعلي ويمثل ما ينطقه الإنسان فعلا أي البنية السطحية للكلام، والكفاءة التحتية وتمثل البنية العميقة للكلام"[28]. علاوة على ذلك، تحدث تشومسكي عن النحو الكلي؛ وهي فكرة استوحاها من نحاة بول رويال Port royal الذين تحدثوا أيضا عن النحو العام.

المرحلة الثالثة: حاول تشومسكي في هذه المرحلة أن يعيد للتحويلات وظيفتها الجزئية في تحديد دلالة الجملة، بعدما كان قد أقصاها كل من كاتز وفودر، فوسعت النظرية المعيار انطلاقا من هذا التعديل الطفيف على مستوى التحويلات. لذلك، "ربط تشومسكي التمثيل الدلالي بالبنية العميقة والبنية السطحية على السواء، وذلك من خلال:
قاعدة تفسيرية دلالية أولى للبنية العميقة.
قاعدة تفسيرية دلالية ثانية للبنية السطحية"[29].

فهذه هي أهم التطورات التي مر بها النحو التوليدي التحويلي، انطلاقا من النموذج الأول وصولا إلى النموذج الثالث، ولا زالت نظرية تشومسكي اللغوية تخضع لمجموعة من التعديلات كان آخرها البرنامج الأدنوي، في انتظار ما ستأتي به مستقبلا في هذا المجال، وخاصة أن المطمح الأسمى للسانيات بشكل عام، لا زال يواجه عقبات عدة، تحتاج إلى مزيد من الاجتهاد والمعرفة الواسعة باللغة الإنسانية لتجاوزها.

خاتمة:
إذا كان زيليك هاريس؛ أستاذ تشومسكي، قد سار باللسانيات التوزيعية إلى أبعد مستويات تحليلها، فإن تشومسكي حاول أن يحذو حذو أستاذه، ويتبع خطاه في ترسيخ قواعد ثابتة قادرة على تفسير طبيعة اللغة، مع الانفراد ببعض المميزات التي تسم هذا النحو بميسم خاص؛ ولعل أبرزها يكمن أساسا في الجهاز المفاهيمي الذي جاء به، والذي سميت به هذه اللسانيات أيضا، ونقصد - هنا - مصطلحي التوليد والتحويل؛ باعتبارهما المدار الرئيس لهذا الاتجاه من اللسانيات. هذا وبالإضافة إلى مصطلحات أخرى؛ من قبيل القدرة و الإنجاز، والبنية السطحية والبنية العميقة، إلخ...

غير أنه ما ميز هذا النحو عن غيره من الأنحاء، أنه خضع لمجموعة من التطورات والتعديلات؛ كان يضيف فيها تشومسكي كل مرة عناصر جديدة، نتيجة الأصداء والانتقادات التي يتلقاها من تلامذته أو علماء اللغة بصفة عامة، فيستدرك من خلالها النقائص التي عرفها النموذج الذي قبله. وقد لاحظنا هذا في كتاب تشومكسي الثاني الصادر عام 1965م، عندما أضاف المكون الدلالي إلى نظريته بعدما كانت في النموذج الأول(57)، عبارة عن نحو تركيبي صرف لا يعير لجانب الدلالة أي اهتمام.

وهكذا، نكون قد ألممنا ببعض جوانب هذا النحو، وبينا معالم برنامج تشومسكي العلمي، بما في ذلك؛ المبادئ العامة التي يقوم عليها منهجه في تقعيد اللغة وتحليلها، والتطورات الرئيسة التي خضع لها.

فكان لكل هذه الأسباب، نتائج أسفرت عن بروز أنموذج جديد للتفكير في ماهية اللغة الإنسانية، التي تطرح إشكاليات عدة بكيفية مستمرة، تدعو اللغويين إلى إيجاد حلول لها عن طريق البحث، والوصف ومعاينة الوقائع بعيدا عن النزعة التعميمية والأحكام المعيارية.

قائمة المراجع المعتمد عليها في البحث:
1- مدخل إلى اللسانيات المعاصرة، حسني خاليد، مكتبة الشيخ حسن قيسارية القادسية، 2013/ 2014.
2- المدارس اللسانية المعاصرة، د. نعمان بوقرة، مكتبة الآداب للطباعة والنشر والتوزيع، 2004.
3- النظرية التوليدية التحويلية وتطبيقاتها على النحو، أسمهان الصالح وأحمد المهدي المنصوري، مجلة جامعة القدس المفتوحة للأبحاث والدراسات، العدد التاسع والعشرون، شباط 2013.
4- من المدارس الألسنية: المدرسة التوليدية التحويلية، إبراهيم محمد إبراهيم محمد عثمان.
5- الألسنية التوليدية والتحويلية وقواعد اللغة العربية، ميشال زكريا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط2، 1986.


[1] مدخل إلى اللسانيات المعاصرة، حسني خاليد، مكتبة الشيخ حسن قيسارية القادسية، 2013/ 2014، ص:88.

[2] المدارس اللسانية المعاصرة، د. نعمان بوقرة، مكتبة الآداب للطباعة والنشر والتوزيع، 2004، ص:129.

[3] المرجع نفسه، ص:129.

[4] مدخل إلى اللسانيات المعاصرة، حسني خاليد، م. س، ص:89.

[5] ينظر إلى ترجمته في كتاب المدارس اللسانية المعاصرة لنعمان بوقرة، حاشية الصفحة 130.

[6] المدارس اللسانية المعاصرة، نعمان بوقرة، م. س، ص:129.

[7] المدارس اللسانية المعاصرة، د. نعمان بوقرة، م. س، ص:130.

[8] مقال نشر على صفحات مجلة جامعة القدس المفتوحة للأبحاث والدراسات، العدد التاسع والعشرون(6)، شباط2013.

[9] النظرية التوليدية التحويلية وتطبيقاتها على النحو، أسمهان الصالح وأحمد المهدي المنصوري، مجلة جامعة القدس المفتوحة للأبحاث والدراسات، العدد التاسع والعشرون، شباط 2013، ص:328.

[10] المرجع نفسه، ص:328329.

[11] المدارس اللسانية المعاصرة، د. نعمان بوقرة، م. س، ص:140.

[12] النظرية التوليدية التحويلية وتطبيقاتها على النحو، أسمهان الصالح وأحمد المهدي المنصوري، م. س، ص:326.

[13] من المدارس الألسنية: المدرسة التوليدية التحويلية، إبراهيم محمد إبراهيم محمد عثمان، ص:4.

[14] المدارس اللسانية المعاصرة، د. نعمان بوقرة، م. س، ص:141.

[15] المدارس اللسانية المعاصرة، د. نعمان بوقرة، حاشية الصفحة:143.

[16] الألسنية التوليدية والتحويلية وقواعد اللغة العربية، ميشال زكريا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط2، 1986، ص:7.

[17] نجد عدة اختلافات في الترجمة العربية لهذا الكتاب"structures syntaxiques"، فمثلا يوسف يوئيل عزيز يترجمه ب"البنى النحوية"، وهناك من يترجمه أيضا ب"البنى التركيبية".

[18] المدارس اللسانية المعاصرة، د. نعمان بوقرة. ص:144.

[19] المدارس اللسانية المعاصرة، د. نعمان بوقرة، ص:144.

[20] المرجع نفسه، د. نعمان بوقرة، ص:146.

[21] (*) رمز اللحن، وتعني أن الجملة لاحنة على المستوى التركيبي.

[22] المدارس اللسانية المعاصرة، د. نعمان بوقرة، ص: 147.

[23] المدارس اللسانية المعاصرة، د. نعمان بوقرة، ص:149.

[24] المرجع نفسه، ص:147.

[25] المرجع نفسه، ص:149.

[26] ورد هذا الكتاب عند نعمان بوقرة بعنوان: "مظاهر النظرية النحوية".

[27] ترد عند نعمان بوقرة بمصطلحين آخرين هما: الكفاية اللغوية والأداء الكلامي. لذلك يقول:" نشير هنا إلى أن هناك مصطلحات تعبر عن نفس المفهوم، منها: القدرة اللغوية، الملكة اللغوية، الطاقة اللغوية، والكفاءة اللغوية"، ص:151.

[28] النظرية التوليدية التحويلية وتطبيقاتها على النحو، أسمهان الصالح وأحمد المهدي المنصوري، ص:327.

[29] المدارس اللسانية المعاصرة، د. نعمان بوقرة، ص:161.





الحد المنطقي وأثره في تعريف ابن هشام - رحمه الله - الكلمة

$
0
0
الحد المنطقي وأثره في تعريف ابن هشام - رحمه الله - الكلمة
د. مصعب سلمان أحمد السامرائي


الحمدُ لله الذي رفع العلماء إلى أشرفِ وأعلى وأسمى المناصب، وخفض لهم المناصبَ حين نصبهم؛ لفهمِ أسرار صفات ذاته؛ فامتازوا علمًا وفهمًا، ونشَر في البلاد علومهم، وأجرى بالحق أقلامَهم؛ فكلٌّ بمذهبه يرقم السطور رقمًا، وجعلهم طامعين من المولى العظيم ببلوغ سُؤله، فكل واحد منهم متأدِّب بما قال في كتابه معلِّمًا خلقه: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، شهادةَ أمحو بها ذنبًا وإثمًا، وعلى آله وأصحابه الذين أطلَع الله لهم في سماء الفضل والشرف نجمًا.

وبعد:
فإن دراسة العَلاقة بين العلوم الإنسانية (والعلوم العربية) من الدراسات المهمة التي تُظهر للدارسين والباحثين مدى التأثُّر والتأثير فيما بينهما، وإن علمَيِ النحو والمنطق اللذين لا يستغني باحثٌ عنهما ولا دارس عن طلبهما، ولا سيما كونهما من العلوم المصطلح عليهما بين أهلها بـ(علوم الآلة)، وأن ثمرتهما متَّحدة من حيث إن (علم النحو يُصلِح اللسان) و(علم المنطق يُصلح الجنان) وقديمًا قالوا عن النحو: (النحو في الكلام كالملح في الطعام) وعن المنطق قال الأخضري:
فيعصمُ الأفكار عن غيِّ الخَطَا ♦♦♦ وعن دقيق الفهمِ يكشفُ الغطا

وقد ظهر هذا التأثير والتأثُّر في العالم النحوي ابن هشام رحمه الله في تعريفه الكلمة في أول كتابه الرائع (شرح قطر الندى وبل الصدى) حيث قال رحمه الله: (ص: الكلمة قول مفرد.

ش: تطلق الكلمة في اللغةِ على الجمل المفيدة؛ كقوله تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ﴾ [المؤمنون: 100]، إشارة إلى قوله تعالى: ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ [المؤمنون: 99، 100]، وفي الاصطلاح على: القول المفرد.

والمراد بالقول: اللفظُ الدالُّ على معنًى كرجل وفرس.
والمراد باللفظ: الصوتُ المشتمل على بعضِ الحروف، سواء دلَّ على معنًى كزيد أم لم يدل كديزٍ مقلوب زيد.
وقد تبيَّن أن كلَّ قول لفظ، ولا ينعكس.

والمراد بالمفرد: ما لا يدلُّ جزؤه على جزء معناه، وذلك نحو: زيد، فإن أجزاءه وهي الزاي، والياء، والدال إذا أُفردت لا تدلُّ على شيء مما يدل هو عليه، بخلاف قولك: غلام زيد، فإن كلًّا من جزئيه، وهما الغلام وزيد دالٌّ على جزء معناه، فهذا يسمَّى مركبًا لا مفردًا.

فإن قلت: فلِمَ لا اشترطت في الكلمة الوضع كما اشترط من قال الكلمة: لفظ وضع لمعنًى مفرد؟
قلت: إنما احتاجوا إلى ذلك لأخْذهم اللفظ جنسًا للكلمة، واللفظ يَنقسِمُ إلى موضوعٍ ومهملٍ؛ فاحتاجوا إلى الاحتراز عن المهمل بذكر الوضع، ولما أخذت القول جنسًا للكلمة، وهو خاص بالموضوع، أغناني ذلك عن اشتراطِ الوضع.

فإن قلت: فلِمَ عدلتَ عن اللفظ إلى القول؟
قلت: لأن اللفظَ جنسٌ بعيد؛ لانطلاقِه على المهمل والمستعملِ كما ذكرنا، والقول جنس لاختصاصه بالمستعملِ، واستعمال الأجناس البعيدة في الحدود معيب عند أهل النظر).

ومن خلال تحليلِ النص المتقدم تحليلًا منطقًّيا يظهر مدى التأثير المنطقيِّ في حد ابن هشام رحمه الله، وذلك من خلال التالي:
1- حاول ابن هشام رحمه الله أن يلتزمَ ويحافظ على المصطلحات العلميَّة المنطقيَّة، وألَّا يخرج عن استعمالات المناطقة؛ فذكر مصطلح (الحد)، و(الجنس)، و(الجنس البعيد)، و(الحدود)، و(أهل النظر).

2- عمل ابن هشام رحمه الله على استدعاء الضوابطِ والشروط المنطقيَّة عند نقد أو مناقشة التعريفات السابقة للتعريف الذي ساقه بقوله: (إنما احتاجوا إلى ذلك لأخذهم اللفظَ جنسًا للكلمة، واللفظ ينقسم إلى موضوعٍ ومهمل؛ فاحتاجوا إلى الاحترازِ عن المهمل بذكر الوضعِ، ولما أخذت القولَ جنسًا للكلمة، وهو خاص بالموضوع - أغناني ذلك عن اشتراط الوضع)، وقوله: (لأن اللفظ جنسٌ بعيد؛ لانطلاقه على المهمل والمستعمل كما ذكرنا، والقول جنس لاختصاصه بالمستعمل) حيث قام بالآتي:
ذكر التعريفات المقولة حول المصطلح سابقًا على وجه الانتقاء لا الحصر.
نقد وفحص التعريفات السابقة؛ كتعريف ابن الحاجب في الكافية.
الاجتهاد بوضع تعريف جديد يسلمُ من النقد الموجَّه للسابقين.

3- شرح ابن هشام رحمه الله الحدَّ، وعرَّف أجزاءه، وبيَّن المحترزات فيه مع شرح ما يدخل وما يخرج من الألفاظ الموضوعيَّة، وبيَّن أثرَ القيود كما في قوله: (في الاصطلاح على: القول المفرد، والمراد بالقول: اللفظ الدالُّ على معنًى كرجل وفرس.

والمراد باللفظ: الصوتُ المشتمل على بعض الحروف، سواٌء دل على معنًى؛ كزيد أم لم يدل كديزٍ؛ مقلوب زيد، وقد تبين أن كلَّ قول لفظ، ولا ينعكس.

والمراد بالمفرد: ما لا يدلُّ جزؤه على جزء معناه، وذلك نحو زيد؛ فإن أجزاءه وهي الزاي والياء والدال، إذا أُفردت لا تدلُّ على شيء مما يدل هو عليه، بخلاف قولك: غلام زيد، فإن كلًّا من جزئيه وهما الغلام وزيد داٌّل على جزء معناه، فهذا يسمَّى مركبًا لا مفردًا).

4- دفع الاعتراضات المقولة أو المتوقَّعة عن التعريف المترجح، وهذا متولِّد عن منهجية ضبط الحدِّ بألفاظ مرتبة ومتدرجة وموجزة، وسبكها بالشكل المقترح منطقيًّا بقوله: (فإن قلتَ: فلم لا اشترطت في الكلمةِ الوضعَ كما اشترط من قال: الكلمة لفظ وضع لمعنًى مفرد؟ قلت: إنما احتاجوا إلى ذلك؛ لأخذهم اللفظَ جنسًا للكلمة، واللفظ ينقسم إلى موضوع ومهملٍ؛ فاحتاجوا إلى الاحتراز عن المهمل بذكر الوضع، ولما أخذت القول جنسًا للكلمة وهو خاص بالموضوع، أغناني ذلك عن اشتراط الوضع.

فإن قلت: فلِمَ عدلتَ عن اللفظ إلى القول؟ قلت: لأن اللفظَ جنسٌ بعيد لانطلاقه على المهملِ والمستعمل كما ذكرنا، والقول جنس لاختصاصِه بالمستعمل واستعمال الأجناس البعيدة في الحدود معيبٌ عند أهل النظر).

5- ساق الأدلة على صحة الذي ساقه في أثناء الشرح، مع مناقشة الاعتراضات التي قد تخلُّ باستقامة الحد.


6- تبع اصطلاح المناطقة في تعريفه المفرد: (ما لا يدل جزؤه على جزء معناه)، أما النحاةُ فالمفرد عندهم هو: (الملفوظُ بلفظ واحد عرفًا، والمركب ضده).

7- صرَّح باعتماد منهج المناطقة بقوله: (معيب عند أهل النظر)، والمقصود بهم هم المناطقة.
ومن خلال هذا العرض والتحليل يظهر مدى تأثير الحدِّ المنطقي في تعريف ابن هشام رحمه الله للكلمة.
والحمد لله رب العالمين.



استشهاد 4 اطفال وإصابة آخرين بجروح إثر استهداف الطيران المروحي حي باب النيرب ببرميل متفجر

$
0
0
استشهاد 4 اطفال وإصابة آخرين بجروح إثر استهداف الطيران المروحي حي باب النيرب ببرميل متفجر 25 08 2016..




صور من مجزرة معرة النعسان بريف إدلب راح ضحيتها 9 شهداء جراء قصف طيران الاحتلال الروسي

$
0
0
صور من مجزرة معرة النعسان بريف إدلب راح ضحيتها 9 شهداء جراء قصف طيران الاحتلال الروسي على البلدة 22 08 2016..


شباب الثورة السورية / تويتر
20 ذو القعدة, 1437







سلطات ميانمار تواصل منع الروهنغيا من السفر لأداء فريضة الحج

$
0
0
سلطات ميانمار تواصل منع الروهنغيا من السفر لأداء فريضة الحج

وكالة أنباء أراكان ANA



تواصل حكومة ميانمار سياسات التمييز والفصل العنصري ضد أقلية الروهنغيا في البلاد حتى بعد انتقال السلطة للنظام الديمقراطي، حيث تمنع الإجراءات والسياسات التي تنتهجها الحكومة الروهنغيين من السفر لأداء مناسك الحج والعمرة منذ عدة عقود، وبهذه الإجراءات حرمت ميانمار أكثر من مليون ونصف روهنغي مسلم من أداء هذا الركن من أركان الإسلام، على اعتبار أن الروهنغيا دخلاء وليسو مواطنيين أصليين في البلاد، -على حد زعمهم- وقد شكّل القرار العسكري الذي اتخذته حكومة ميانمار السابقة عام 1982م قراراً مفصلياً وهاماً في القضية حين اعتبر الروهنغيا عرقية غير أصلية في البلاد ونزعت بموجب هذا القرار المواطنة من جميع الروهنغيين، وفي هذا الصدد تقول السيدة مريم خاتون (45 عاماً) من ولاية أراكان: نحن نعيش في ولاية أراكان في وضع مأساوي للغاية حيث نعيش عزلة شاملة عن العالم الإسلامي وكأننا في سجن كبير حيث حرمتنا السلطات الميانمارية من الوثائق الرسمية منذ أن نزعت مواطتنا وصرنا لا نستطيع السفر للحج، ولا نستطيع الانتقال من منطقة إلى أخرى مشيرة إلى أن السلطات الميانمارية تمنعنا أيضاً من التكسب والتجمع لأداء الصلوات وتضايقنا في كل ذلك، ونحن ننتظر اليوم الذي تعاد فيه حقوقنا المسلوبة ونستطيع تحقيق حلمنا لأداء مناسك الحج. ويضيف السيد: نعيم الله صديق (62 عاماً ): لقد انتظرنا طويلاً ونحن نتمنى اليوم الذي نستطيع أن نشارك فيه المسلمون لأداء فريضة الحج، وفي كل عام نبكي حزناً على ما نعيشه من ظروف فرضتها علينا حكومة ميانمار وأملنا في الله كبير.


ومثل هؤلاء الروهنغيين في ميانمار يحلم مئات الآلاف من اللاجئين الروهنغيين في كل من ماليزيا وإندونيسيا وبنغلاديش وتايلند والهند وغيرها بأداء فريضة الحج ولكنهم يقفون عاجزين أمام صخرة الوثائق الثبوتية اللازمة للسفر حيث يعيش غالبيتهم في هذه الدول دون وثائق رسمية تتيح لهم السفر والتنقل، وهؤلاء ممن فروا من سياسات التطهير العرقي والإبادة الممارسة ضدهم في ميانمار .


الجدير بالذكر أنه ورغم انتقال السلطة إلى النظام الديمقراطي في ميانمار إلا أن ملف الروهنغيا لا زال مغلقاً بسبب تعنت السلطات وإصرارها على المواقف السابقة التي كانت الحكومة العسكرية قد فرضتها وسارت عليها بحق أقلية الروهنجيا، ولم تظهر في الأفق حتى اللحظة أية بوادر انفراج لهذه الأزمة العالمية



التقليد والانفلات آفتا العصر

$
0
0
التقليد والانفلات آفتا العصر


عقيل حامد






يظن البعض أن التعصب قائم على العشيرة والدين والمذهب فقط والحق خلاف ذلك فقد ذم العلماء التعصب للباطل بكل إشكاله وصوره ومدحوا التعصب للحق والتمسك به ومن أوائل ما قرأنا ودرسنا عن التعصب تعصب الجهلاء إلى مذهبهم وعقيدتهم وتمسكهم بها اشد التمسك حتى وان جاء الدليل واضحا ونصا صريحا جليا مع المخالف لأنهم تربوا على مقوله باطله (من لا شيخ له فشيخه الشيطان) ومقولة (خليها برقبة عالم واطلع منها سالم) هاتان المقولتان اللتان زرعهما في عقولهم ونفوسهم أهل البدع والأهواء ليجعلوهم عبيدا لهم فيسهل عليهم حملهم وتوجيههم إلى ما يريدون الوصول إليه من حطام الدنيا الفانية ونشر عقائدهم الباطلة وأفكارهم المنحرفة وآخرون يتسترون بحديث لا أصل له (اختلاف أمتي رحمة) فيذكروه للناس على أنه حديث للرسول - صلى الله عليه وسلم - ليمرروا من خلاله آراءهم وأفكارهم المخالفة للقرآن والسنة بكل وضوح وصراحة وآخرون يتسترون بحديث لا يصح أيضا وهو (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) ليمرروا من خلاله أخطاءهم وزلاتهم وأخطاء العلماء وزلاتهم لتكون لهم مبررا لفعل ما يريدون وهذا لا يجوز شرعا ولا يصح عقلا وخذ مثالا على ذلك الصحابي الجليل ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه كان ينفي صلاة الضحى وهذا الحديث في البخاري (....فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، جَالِسٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَإِذَا نَاسٌ يُصَلُّونَ فِي المَسْجِدِ صَلاَةَ الضُّحَى، قَالَ: فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صَلاَتِهِمْ، فَقَالَ: بِدْعَةٌ....) وكما هو معلوم للجميع أن صلاة الضحى ثابتة ولا يختلف عليها اثنان فلو استسلمنا لقول ابن عمر رضي الله عنه وتركنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل هذا من العدل والإنصاف في شيء؟ وهل يجوز رد قول رسول الله بقول شخص ولو كان أعلم الناس ومن الصحابة الكرام فهذا لا يقوله عاقل فضلا عن عالم لأن القرآن والسنة تحضنا وتأمرنا على طاعة الله ورسوله قال تعالى ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [المائدة: 92]، وقوله تعالى ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]، وهذه الآية الكريمة واضحة الدلالة على وجوب الأخذ بكل ما جاء به الرسول الكريم وعدم ترك أي شيء منه ولهذا ذم الله تعالى المشركين على تركهم ما جاءهم من الحق المبين وتمسكهم بما كان عليه أبائهم وأجدادهم من العقائد المنحرفة والعادات المنكرة حتى سقطوا في الشرك والضلال المبين قال تعالى ﴿ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 53]، وقال تعالى ﴿ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 22]، فهؤلاء تعصبوا لإبائهم وأجدادهم وتركوا الحق الذي جاءهم فما أشبه حالهم بحال الكثيرين اليوم ممن يتعصبون لشيوخهم ويوالون ويعادون عليهم وكأن الدين معهم والعصمة لهم وهم من يبلغون مراد الله إلى الخلق أجمعين، فسبحان الله ما أشبه أهل الباطل قديما وحديثا فمنهجهم واحد وفكرهم جامد ولا يعرفون ويعترفون إلا بمن هوته قلوبهم وكانوا عنه راضين، بل وصل الأمر ببعض الجهلاء أن يبدع أحدهم أخاه ويرميه بالبدع والضلال بل حتى وبالكفر فانظر أخي الكريم كيف يعمي التعصب العيون عن رؤية الحق ويمنع القلوب من إدراك الشرع الحنيف وإتباعه ولا أجد مثالا استدل به على ما أقول أشد بهاء وانصع بياضا يوضح ما أريد من ما نقل عن أتباع المذهبين الحنفي والشافعي من تحريم زواج أحدهما من الأخر، وتنازل بعض الأحناف فجوزوا زواج الحنفي من الشافعية إنزالا لها بمنزلة أهل الكتاب، الله أكبر، وذلك بسبب خلافهم في مسألة الاستثناء في الإيمان فالشافعية يجوزونه والأحناف يحرمونه فمن قال (أنا مؤمن أن شاء الله) فهو مؤمن عند الشافعية، كافر عند الأحناف لأنهم يرون الاستثناء تشكيك في وجود الإيمان والشك كفر عند الحنفية والمذاهب الأخرى والحق في المسألة التفصيل (فإن كان الاستثناء صادراً عن شك في وجود أصل الإيمان فهذا مُحرّم، بل كفر؛ لأن الإيمان جزم، والشك يُنافيه، وإن كان صادراً عن خوف تزكية النفس والشهادة لها بتحقيق الإيمان قولاً، وعملاً، واعتقاداً، فهذا واجب خوفاً من هذا المحذور، وإن كان المقصود من الاستثناء التبرك بذكر المشيئة، أو بيان التعليل، وأن ما قام بقلبه من الإيمان بمشيئة الله، فهذا جائز) تلخيص الحموية، وهذه القصة ذكرتها على الرغم من قدمها لأنها عادت من جديد في هذه الأيام فبسبب الأحداث الأخيرة التي وقعت بين السلفيين هداهم الله وأصلح حالهم ذهب شخص إلى بيت رجل ليخطب أبنته فسأله والد الفتاة أنت من جماعة من؟ من فلان لو علان؟ فتفاجئ الخاطب وتدارك الأمر وسرعان ما هرب بحيلة وأخرى وقال الحمد لله الذي عرفني بكم قبل أن تقع الفتنة، فالوالد أراد أن يتحقق من الخاطب هل هو من أهل البدع والضلال وربما الكفر عنده أو من أهل التوحيد والسنة حسب رأيه وفهمه، فانظر أخي الكريم كيف مزقنا التعصب وأهلكنا ودمر الأمة وجعلها فرقا وأحزابا متصارعة يأكل بعضها البعض ولا يفوتني أن أذكر قول العلامة الألباني (إننا كنا نعاني من التقليد فإذا بنا نعاني الآن من الانفلات) وأقول رحمك الله يا شيخ فبعدك هجم علينا التقليد والانفلات معا وحار الحليم يعالج من فالتقليد كنا نعانيه من غيرنا ووقعنا فيه اليوم نحن والانفلات صار لنا أشهر من نار على علم حتى أصبحا آفتا العصر، أصلح الله حال الأمة وردها إلى دينها القويم وصراطها المستقيم.





آداب السفر (2)

$
0
0
آداب السفر (2)


الشيخ عادل يوسف العزازي






(5) التوبة والتحلل من المظالم:
قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58].


ينبغي للمسافرِ أن يبدأ بالتوبةِ من جميعِ المعاصي والمكروهات، ويخرجَ من مظالم الخلق، ويقضي ديونَه، ويردَّ الودائع، ويستحلَّ كلَّ من كان بينه وبينه معاملةٌ في شيء أو مصاحبة؛ أي: يطلب المسامحة من النَّاس.


ويكتب وصيتَه، ويُشهدُ عليها، وإذا لم يتمكَّن من قضاءِ جميع ديونِه، فيوكل من يقضي عنه؛ قال الخطابي - رحمه الله -: "ولا يخرجُ إلى الغزوِ إلا بإذن الغُرَماء إذا كان عليه لهم دَيْن عاجل، كما لا يخرجُ إلى الحجِّ إلا بإذنهم، فإن تعيَّن عليه فرضُ الجهادِ، لم يعرج على الإذن"[1].


ويترك النفقةَ لأهله ومَن تلزمه نفقته عليهم إلى حينِ رجوعه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كفى بالمرءِ إثمًا أن يحبسَ عمن يملك قوتَه))، وفي رواية: ((كفى بالمرءِ إثمًا أن يضيعَ مَن يقوت))[2].


(6) إرضاء والديه:
ينبغي عليه أن يرضي والديه؛ فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصَّلاةُ على وقتِها))، قلت: ثم أي؟ قال: ((برُّ الوالدين))، قلت: ثم أي؟ قال: ((الجهادُ في سبيلِ الله))[3].


وعن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: جاء رجلٌ إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنه في الجهادِ، فقال: ((أحيٌّ والداك؟))، قال: نعم، قال: ((ففيهما فجاهِدْ))[4].


وعنه - رضي الله عنه - قال: جاء رجلٌ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: جئتُ أبايعك على الهجرةِ، وتركتُ أبويَّ يبكيان، فقال: ((ارجع إليهما فأضحِكْهما كما أبكيتَهما))[5].


وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - أنَّ رجلاً من أهلِ اليمن هاجر إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((هل لك أحدٌ باليمن))، قال: أبواي، قال: ((قد أَذِنَا لك؟))، قال: لا، قال: ((فارجع إليهما فاستأذنهما، فإنْ أذِنَا لك فجاهد، وإلا فبرَّهما))[6].


وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((رغِمَ أنفُه، ثم رغم أنفُه، ثم رغم أنفه))، قيل: مَن يا رسولَ الله؟ قال: ((من أدرك والديه عند الكِبَرِ أو أحدهما ثم لم يدخل الجنَّة))[7].


قُلتُ: وإرضاء الأبوين من حُسنِ الصُّحبة، وهم أحقُّ النَّاس بحسنِ الصحبة؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجلٌ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله، من أحقُّ النَّاسِ بحسن صحبتي؟ قال: ((أمُّك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمُّك))، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك))[8].


وورد في "طبقات الشَّافعية": لا يجوزُ للولدِ السَّفر في تعلُّمِ ما هو من فرضِ كفاية، ولا في تجارةٍ إذا منعه أحدُ الوالدين.


وأمَّا إذا كان سفرُه للجهادِ، ففيه تفصيلٌ بيَّنه الإمامُ الخطابي - رحمه الله - فقال: "الجهادُ إذا كان الخارجُ فيه متطوعًا، فإنَّ ذلك لا يجوزُ إلا بإذنِ الوالدين، فأمَّا إذا تعين عليه فرضُ الجهادِ، فلا حاجةَ به إلى إذنِهما، وإن منعاه من الخروجِ، عصاهما وخرجَ في الجهاد، وهذا إذا كانا مسلمَيْنِ، فإن كانا كافرين فلا سبيلَ لهما إلى منعِه من الجهاد فرضًا كان أو نفلاً، وطاعتهما حينئذ معصيةٌ لله، ومعونة للكفَّار، وإنما عليه أن يبرَّهما ويطيعَهما فيما ليس بمعصية"[9].


إياك وعقوق الوالدين:
فالعاق لا ينظرُ الله إليه؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "ثلاثة لا ينظرُ الله إليهم يوم القيامة؛ العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنَّان"[10].


والعاق حرَّمه الله على الجنَّة؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاثةٌ لا يدخلون الجنَّة: العاقُّ لوالديه، والدَّيوث، والرَّجُلة))[11].


ومعنى ((الديُّوث)): الذي يقرُّ أهلَه على الزِّنا.

و((الرَّجُلة)): هي المترجِّلة المتشبهة بالرِّجال.

وعقوق الوالدين يحولُ بين العبدِ وبين الدرجاتِ العالية:
عن عمرو بن مرة الجهني قال: جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أرأيتَ إن شهدتُ أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليتُ الخمس، وأدَّيتُ زكاةَ مالي، وصمتُ رمضانَ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من مات على هذا كان مع النَّبيين والصِّديقين والشُّهداءِ والصَّالحين يوم القيامة هكذا - ونصب أصبعيه - ما لم يعقَّ والديه))[12].


قصة عجيبة:
تأمَّل هذه القصةَ العجيبة التي أوردها الحافظُ المنذري في كتابِه "الترغيب والترهيب" وعلَّق الألباني - رحمه الله - على الإسنادِ بأنه: حسن[13]: عن العوام بن حوشب قال: "نزلتُ مرة حيًّا وإلى جانبِ ذلك الحي مقبرة، فلمَّا كان بعد العصرِ انشقَّ فيها قبرٌ، فخرج رجلٌ رأسُه رأس حمار، وجسده جسد إنسان، فنهق ثلاث نهقات، ثم انطبقَ عليه القبر، فإذا عجوزٌ تغزل شعرًا أو صوفًا، فقالت امرأة: ترى تلك العجوز؟ قلت: ما لها؟ قالتْ: تلك أمُّ هذا، قلتُ: وما كان قصتُه؟
قالت: كان يشربُ الخمر، فإذا راح تقولُ له أمُّه: يا بني، اتق الله، إلى متى تشربُ الخمر؟! فيقول لها: إنما أنتِ تنهقين كما ينهقُ الحمار، قالت: فمات بعد العصرِ، قالت: فهو ينشقُّ عنه القبرُ بعد العصر كلَّ يوم فينهق ثلاث نهقات، ثم ينطبقُ عليه القبر"؛ قال المنذري - رحمه الله -: رواه الأصبهاني وغيره، حدَّث به أبو العباس الأصم إملاءً بنيسابور بمشهدٍ من الحفَّاظِ، فلم ينكروه.


(7) ولتكن نفقته من حلال:
قال النووي - رحمه الله -: "إذا سافر لحجٍّ أو غزو أو غيرِهما، فينبغي أن يحرصَ أن تكون نفقتُه حلالاً خالصة من الشُّبهة، فإن خالفَ وحجَّ أو غزا بمالٍ مغصوب عصى، وصحَّ حجه وغزوه في الظَّاهر، لكنَّه ليس حجًّا مبرورًا"[14].


ومعنى هذا أنه قد أبرأ ذمتَه بأداءِ الفرض، لكن أين القَبول، وهل ينفعُه حجُّه إذا لم يكن مبرورًا؟
لقد كان السَّلف يحرصون على قَبولِ الأعمال، فهذه هي الغايةُ المطلوبة لنيلِ الثَّواب، وهل يليقُ بالعاقلِ أن يحرصَ على إصلاحِ هيئته، حتى إنه ليسعى في إصلاحِ نعله، ثم لا يسعى في إصلاحِ عملِه وقلبه؟!


قال عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما -: "لو أعلمُ أنَّ الله تقبَّل مني سجدةً واحدة، لكان أحب غائب أنتظرُه الموت؛ لأنَّ الله يقول: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27]".


واعلم - أخي الحبيب - أنَّ كلامَ النووي السابق لا يعني إباحته للنفقةِ الحرام في غير الغزو والحج، ولكن المقصود مزيد الاعتناء والاهتمام بأمورِ العبادة.


وقد ثبت في الحديثِ أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ الله أمرَ المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجلَ يطيلُ السَّفر؛ أشعثَ أغبر يمدُّ يديه إلى السَّماءِ: يا رب يا رب، وملبسُه حرام، ومطعمه حرام، وغُذِي بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك))[15].


[1] معالم السنن (2/38 - هامش أبي داود).

[2] مسلم (996)، وأبو داود (1692)، واللفظ له.

[3] البخاري (2782) (527)، ومسلم (85)، والترمذي (173)، (1898).

[4] البخاري (3004)، ومسلم (2549)، وأبو داود (2529)، والترمذي (1671)، والنسائي (6/10).

[5] صحيح: رواه أبو داود (2528)، والنسائي (7/143)، وابن ماجه (2782).

[6] رواه أبو داود (2530)، وأحمد (3/75)، وقال الألباني: صحيح، انظر صحيح الجامع (892).

[7] مسلم (2551)، والترمذي (3545).

[8] البخاري (5971)، ومسلم (2548).

[9] معالم السنن (2/38 - هامش سنن أبي داود).

[10] رواه النسائي (5/80)، والبيهقي في السنن (8/288)، والحاكم (2/43)، وقال: صحيح الإسناد، وابن حبان (7340) في صحيحه، وقال الشيخ الألباني: حسن صحيح؛ انظر الصحيحة (674).

[11] هو تتمة الحديث السابق.

[12] رواه أحمد في زوائد السنن (2/243)، غاية المقصد في زوائد المسند للهيثمي، والطبراني في مسند الشاميين رقم (2939)، وابن حبان (3438)، وابن خزيمة (2212)، وقال الألباني: صحيح؛ انظر صحيح الترغيب (2515).

[13] انظر صحيح الترهيب والترغيب (2/665)، رقم (2517).

[14] المجموع (4/385).

[15] مسلم (1015)، والترمذي (2989)، وأحمد (2/328).





كيف الأمر إذا لم تكن جماعة؟ ( قراءة في الخطاب المنزل )

$
0
0
كيف الأمر إذا لم تكن جماعة؟ ( قراءة في الخطاب المنزل )
شريف محمد جابر



تأتي هذه القراءة الموجزة في الخطاب المنزّل (الكتاب والسنّة) لتعالج قضيّة مهمّة يعيش آثار الخلل في فهمها وتطبيقها العالمُ العربيّ والإسلاميّ بأسره.


فحين تشعّبت الأهواء، وتعدّدت الأطروحات والخطابات التي تخالفُ بشكل مباشر ما جاء في الخطاب المنزّل، كان لا بدّ من العودة إلى هذا الخطاب؛ ليرى القارئ الكريم كيف تتناسق النصوص القرآنيّة والحديثيّة وتتآلف بشكل يبعثُ على التقدير والامتنان الكبيرين لحملة هذا الدين ممّن نقل لنا تلك الأحاديث الشريفة من علماء الأمة رحمهم الله وجزاهم خير الجزاء؛ حيث لا يجد القارئ أيّ تصادم في معاني هذه الأحاديث، بل يراها تسير منسجمة في ركاب واحد، ووجهة واحدة، وطبيعة واحدة!

وحين تتعدّد الأطروحات البدعيّة التي تصبّ في عقل القارئ المسلم عبر وسائل الإعلام المختلفة، وتتشعّب الأهواء وتتتابع الفتن في هذا العصر = يكون في التمسّك بهذا الخطاب المنزل مع تفعيل منهج أصول الفقه - كما هو عند أهل السنة والجماعة وكما أشرنا في أواخر المقال - خير عصمة للمسلم المعاصر من الزلل والافتتان، ومن الوقوع في أعيان البدع وغوايات الأطروحات المضلّلة التي تعتمد التزييف والاجتزاء؛ بحيث تُبنى الأطروحة البدعيّة على نصّ واحد أو سياق من النصوص يُفهم بخلاف ما هو عليه، وبخلاف منهج أصول الفقه المعتبر، ويتمّ إسقاط النصّ على مناط مغاير للمناط الذي جاء فيه!

ومن ثمّ كان لا بدّ من العودة إلى الأصول، إلى الخطاب المنزّل كما جاء في الكتاب والسنّة؛ كي نحقّق البصيرة في الواقع، ونسير في درب الرشاد بعلم وهدى وكتاب منير.

• • •


جاء في صحيح البخاري باب "كيف الأمر إذا لم تكن جماعة": عن حذيفة بن اليمان: «كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير وكنتُ أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنَّا كنَّا في جاهلية وشر فجاءنا اللهُ بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم»، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دخن»، قلت: وما دخنه؟ قال: «قومٌ يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر»، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها»، قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: «هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا»، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك».

لقد قال الدجّالون المحرّفون للناس خلافًا لأمر الله ورسوله: اسمعوا لهذه "الفرق" التي حلّت بعد الخلافة وأطيعوها، واعتزلوا كل عمل إسلامي يسعى إلى إعادة وضع "الجماعة" المأمور به شرعًا! بل زعموا أنّ هذا الخطاب هو خطاب رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - لأمّته، ولم يكتفوا بذلك، بل جعلوا الاعتزال مناقضا لأي عمل آخر نحو تغيير هذه الأوضاع رغم الأمر الربّاني الواضح في ذلك!

والحديث واضح في أنه أمرٌ للفرد المسلم: "فاعتزل تلك الفرق كلّها"، والاعتزال إسقاطٌ لشرعية الفرق الخارجة عن الجماعة، كما يعضد ذلك روايات أخرى سيأتي ذكرها، لكن نقول هنا: إنّ الأمر "بالاعتزال" لا يتناقض مع العمل للتغيير؛ فالمسلم يعتزل أوضاع "الفرقة"، ويعمل مع إخوانه المسلمين لإعادة أوضاع "الجماعة" المأمور بها شرعًا، فليس ثمّة تناقض بين الأمرين!

فالآيات تأمر بذلك:
قال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]فأمر بالاعتصام على هيئة "الاجتماع" على الإسلام، ولم يأمر بمجرّد الاعتصام الفردي بالدين كلًّا على حدة، وإنّما بالاجتماع على ذلك وإنهاء حالة الفرقة، فهذا تكليف واضح لإنشاء شرعية "الجماعة".

وقال تعالى: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: 13]، فأمر بإقامة الدين، وخاطب بذلك الجماعة كما في الآية السابقة، فهو خطابٌ جماعيٌّ للأمة في الآيتين يأمر بإقامة الدين من خلال الجماعة، وينهى عن الفرقة ويأمر بإسقاط شرعيّتها.

وفي ذم الفرق والتفرّق عن الجماعة جاءت هذه الروايات الصحيحة:

عن عبدالله ابن عباس عن الرسول - صلّى الله عليه وسلّم -: "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات، إلا مات ميتة جاهلية" (صحيح البخاري،وفي مسلم بألفاظ قريبة جدا).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من خرج عن الجماعة ومات، مات ميتة جاهلية» (حديث صحيح، رواه مسلم).

وعن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات فميتته جاهلية! ومن خرج من أمتي يضرب برها وفاجرها، لا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهدها، فليس من أمتي! ومن قتل تحت راية عِمِّيَّةٍ، يدعو لِلْعَصَبَةِ، أو يغضب لِلْعَصَبِيَّةِ، أو يقاتل للعصبية، فقتلة جاهلية» (حديث صحيح، أخرجه أحمد).

وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة، وعصى إمامه ومات عاصيًا، إلخ»، (حديث صحيح، رواه ابن أبي عاصم، وابن حبان، والحاكم، ورواه البخاري، بنحوه، في الأدب المفرد بإسناد صحيح).

وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: «من نزع يده من الطاعة، فلا حجة له يوم القيامة، ومن مات مفارقاً للجماعة، مات ميتة جاهلية» (حديث صحيح، رواه أحمد، وابن أبي عاصم).

قلت: هذه الأحاديث كلّها تدلّ على وجوب وجود الجماعة، كما دلّت الآيات السابقة عليها، ولمّا كانت القاعدة أنّه "ما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب" = كان العمل لإيجاد "الجماعة" بمفهومها الشرعي واجبًا شرعيّا.

فالخلاصة: أنّ الحديث الأول أعلاه أمر بالتزام الجماعة، فإن لم تكن جماعة أمر باعتزال كل ما يحلّ مكانها من "الفرق"، فهو خطاب فردي واضح باعتزال كل الأوضاع التي تحول بين الأمة وبين الاجتماع على الإسلام وإقامة الدين،، ومن ثم كان من مفهومًا جدّا أمره باعتزال فرق الباطل؛ لأنّ العمل لإقامة الدين من خلال الجماعة لا يتحقق في ظل بقاء هذه الفرق، فوجب إسقاط شرعيّتها.


لقد أوهم فقهاءُ الضلالة الناسَ بأنّ التعامل مع هؤلاء الحكام يكون بناء على: "تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع" كما جاء في رواية مسلم، ولم يدركوا أن هذا متعلق بالإمام الذي معه وصف "الجماعة" كما جاء وصف نفس الحالة في رواية البخاري: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم".

فمن خلال الجمع بين ثلاث روايات صحيحة للحديث نجد أنّ الحالة التي أمر بالتزام السمع والطاعة بها جاءت على النحو التالي:
في رواية مسلم: "تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع".

في رواية أبي داود: "إن كان لله خليفة في الأرض، فضرب ظهرك، وأخذ مالك، فأطعه وإلا فمت وأنت عاض بجذل شجرة".

في رواية البخاري: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم".

فنفهم أنّ السمع والطاعة هو لخليفة المسلمين، ولمن معه وصف "الجماعة"، فهل هذه الفرق التي تجتمع اليوم على القوميّة العربية (كحزب البعث العربي نموذجا) وتقود الأمة بغير كتاب الله معها وصف الجماعة؟!

ويعضد ذلك كما قدّمنا تمام رواية البخاري؛ إذ سأله حذيفة: "فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعضّ بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك»، ففي حال عدم وجود إمام للمسلمين ولا "جماعة" كان وصف الأنظمة القائمة مكانها بأنّها "فرق"، وكان الأمر باعتزالها، ثم كان الأمر - كما تبيّن الآيات والأحاديث التي أوردناها - بإنهاء حالة الفرقة وإقامة الجماعة التي تقيم الدين.

وثمّة فائدة مهمّة أخرى من روايات الخروج عن الجماعة التي ذكرناها في سياق واحد أعلاه، فقد جاء في الحديث الصحيح: "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات، إلا مات ميتة جاهلية" (صحيح البخاري، وفي مسلم بألفاظ قريبة جدا)، فكان الأمر بالصبر معلّلا بأن هذا الأمير معه صفة "الجماعة"، دلّ على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "فإنّه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية"، ومن ثم كان من العبث الأمر بالصبر وإعطاء السمع والطاعة لفرق خرجت هي عن الجماعة، واستباحت دماء المسلمين وأموالهم، وتولّت الكفار، وضيّعت أمن المسلمين ومقدّراتهم!

ثم تأتي الأحاديث الصحيحة دالة على إسقاط السمع والطاعة بالكليّة عن كل من تجاوز حالة الإتيان بالمعصية إلى حالة تعريف الأمة ما تنكر وإنكار ما تعرف، أي تعريفها الكفر وإنكار الإسلام عليها وتنحيته عن حياتها، فالحالات التي جاء الأمر بالتزام السمع والطاعة لها كما في حديث حذيفة أعلاه (بالإضافة إلى كونها "خلافة" و"جماعة") جاء في وصفها: "تعرف منهم وتنكر"، وكانت لها مناط السمع والطاعة، ولكن الحالات الأخرى هنا لها وصف آخر تماما وهو: "يعرّفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون" وكذلك: "يأمرونكم بما لا تعرفون، و يعملون بما تنكرونفالوصف هنا وصف آخر، وهو ليس مجرّد معصية يأتيها الحاكم فنكرهها، بل فيه معنى إضلال الأمة وحرفها عن مسارها في الدين؛ إذ يكون المعروف منكرًا ويكون المنكر معروفًا عند هؤلاء! بل جاء في رواية صحيحة عن عوف بن مالك الأشجعي أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قال: "تفترق أمّتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة على أمّتي قوم يقيسون الأمور برأيهم؛ فيحلّون الحرام ويحرّمون الحلال" (أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ورجاله رجال الصحيح)، فمن تكون هذه الفرقة إن لم يكن هؤلاء الذين يعرّفون الأمة ما تنكر وينكرون عليها ما تعرف من دين الله؟! (كالعلمانية والقومية واللبرالية وغير ذلك من الفرق الحاكمة)، نأتي إلى الروايات:
عن عبادة بن الصامت من رواية طويلة قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبا القاسم محمدًا يقول: إنه سيلي أموركم بعدى رجال يعرّفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى الله، فلا تعتلوا بربكم" (صحّحه الألباني في صحيح الجامع، والسيوطي في الجامع الصغير بألفاظ متقاربة وذكره ابن كثير في جامع المسانيد والسنن).

عن عبادة بن الصامت عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم -: "ستكون عليكم أمراء من بعدي، يأمرونكم بما لا تعرفون، و يعملون بما تنكرون، فليس أولئك عليكم بأئمة" (حسّنه السيوطي في الجامع الصغير).

عن عبدالله بن مسعود عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم -: "إنه سيلي أمركم من بعدي رجال يطفئون السنة ويحدثون بدعة ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها قال ابن مسعود: يا رسول الله كيف بي إذا أدركتهم؟ قال: ليس يا ابن أم عبد طاعة لمن عصى الله، قالها ثلاث مرات" (ذكره أحمد في مسنده بسند صحيح، وصحّحه أحمد شاكر، والألباني في السلسلة الصحيحة، والذهبي في المهذّب).

وإسقاط الطاعة في الروايات مطلقٌ؛ دلّ عليه قوله عليه الصلاة والسلام: "فلا طاعة لمن عصى الله"، فهي مطلقة، بخلاف قوله مثلا: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، فهنا قُيّد نزعُ الطاعة بالمعصية، ولكن يطاع في المعروف، أما في رواية عبادة فإسقاط الطاعة جاء مطلقا، أي إسقاط الشرعية عن الحاكم، دلّ عليه أيضا قوله في الرواية الثانية: "فليس أولئك عليكم بأئمة"، وهو واضح في إسقاط الشرعيّة، وإسقاطُ الشرعية وإنْ لم يكن يعني الخروج بمفهومه الذي حدّده الفقهاء وهو الخروج بقوة السلاح، فهو يعني دون أدنى شك ضرورة إسقاط شرعيّة الفرقة الحاكمة من خلال كل ما تستطيعه الأمة، ببيان عدم شرعيّتها، وبالعمل الحثيث الجادّ على إيجاد شرعيّة بديلة تحلّ مكانها، وتحقّق مفهوم "الجماعة" الشرعي بأنسب السبل وأقلها ضررا على الأمة.

ثم تأتي الأحاديث التي تشترط للصبر على الأمراء والتزام السمع والطاعة لهم شروطًا معيّنة مثل: "ما قادكم بكتاب الله"، أو: "ما أقاموا الدين"، وأنّهم لو نكصوا عن ذلك كان الواجب إسقاط شرعيّتهم، وكانت معاداتهم مشروعة:
عن أم حصين الأحمسيّة عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - أنه قال: "إن أمّر عليكم عبد حبشي مجدع فاسمعوا له وأطيعوا ما قادكم بكتاب الله" (صحيح ابن ماجة، وصحّحه الإمام الألباني).

عن معاوية بن أبي سفيان: "أنه سيكون ملك من قحطان، فغضب، فقام فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فإنه بلغني أن رجالا منكم يحدثون أحاديث ليست في كتاب الله، ولا تؤثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأولئك جهالكم، فإياكم والأماني التي تضل أهلها، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحد إلا كبه الله في النار على وجهه، ما أقاموا الدين" (صحيح البخاري).

عن أبي هريرة عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم -: "إنّ لي على قريش حقا وإنّ لقريش عليكم حقا ما حكموا فعدلوا وائتمنوا فأدوا واسترحموا فرحموا" (ذكره الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح، وصحّحه أحمد شاكر).

فما لم يقودوا الأمة بكتاب الله (كمن يقودها بالولاء القومي العربي بديلا عن الإسلامي، وبالتشريعات الغربية بديلا عن الشريعة الإسلامية)، وما لم يقيموا الدين = فلا سمع لهم ولا طاعة، وكان واجب الأمة هو العمل لإقامة الدين من خلال إقامة شرعيّة الجماعة التي تحلّ محلّ أوضاع الفرقة تلك، ويكون هذا العمل محكومًا بالنظر في مآلات الأمور، واجتناب أعلى المفسدتين؛ بحيث تتحقّق القدرة على ذلك دون إحداث مفسدة أكبر على الأمة في الدماء أو في الدين أو غير ذلك.

ثم تأتي أهمّيّة الرواية الثالثة، رواية أبي هريرة؛ حيث أسقط الحق الذي لقريش - وهي جهة الحاكم -، وهو حق السمع والطاعة، وذلك بحدوث مناط يسوده الظلم الشديد وارتفاع الرحمة وخيانة الأمانة، وهو يُفَسّر في سياق حديث عُبادة الذي سبقه لتطابق الحكم فيهما، هذا المناط الذي في روايتي حديث عبادة، وحديث أبي هريرة مختلفٌ أشد الاختلاف عن المناط الذي أمر فيه بالصبر، كما جاء الروايات التالية:
عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنها ستكون بعدي أثرة، وأمور تنكرونها!»، قالوا: (يا رسول الله، كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟!)، قال: «تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم»، (حديث صحيح، أخرجه مسلم)، فيكون الأمر على الشكل التالي:

وعن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم، ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا"؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية، أو في الثالثة، فجذبه الأشعث بن قيس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا، وعليكم ما حملتم» (إسناده جيد قوي، أخرجه مسلم).

عن عوف بن مالك الأشجعي عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - أنه قال: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم قالوا قلنا: يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولى عليه وال، فرآه يأتي شيئا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة" (صحيح مسلم).

وبالجمع بين الروايات يكون الأمر على الشكل التالي:
الرواية الأولى: المناط: (أثرة وأمور تنكرونها)، الحكم: (تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم).

الرواية الثانية: المناط: (يسألونا حقّهم، ويمنعونا حقنا)، الحكم: (اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا، وعليكم ما حملتم).

الرواية الثالثة: المناط: (يأتي شيئا من معصية الله)، الحكم: (فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة).

فنجد هذا التناسق المحكم بين هذه الروايات الثلاث، يتجلّى في تطابق المناط - وإن كان بألفاظ مختلفة - مع تطابق الحكم فيه، وهو الصبر على الأثرة والمعاصي الفردية للحاكم، مع عدم نزع اليد من الطاعة، ولا يعني ذلك بطبيعة الحال عدم أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر والأخذ على يده إن اشتدّ انحرافه من خلال أهل الحلّ والعقد كما تدلّ أحاديث صحيحة أخرى، لكنّه أمر هنا بالصبر، ولم يأمر بإسقاط السمع والطاعة أي بإسقاط الشرعية؛ لأنّهم أئمة يقيمون الدين ولكن يأتون شيئًا من المعاصي الفردية وبعض الأثرة سواء في تقسيم الأموال أو غير ذلك.

أمّا الروايات السابقة (روايتي عبادة ورواية ابن مسعود) فقد كان المناط مختلفًا، وبناء عليه كان الحكم مختلفا:
رواية عبادة الأولى: المناط: (يعرّفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون)، الحكم: (فلا طاعة لمن عصى الله، فلا تعتلوا بربكم).

رواية عبادة الثانية: المناط: (يأمرونكم بما لا تعرفون، و يعملون بما تنكرون)، الحكم: (فليس أولئك عليكم بأئمة).

رواية ابن مسعود: المناط: (يطفئون السنة ويحدثون بدعة ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها)، الحكم: (ليس يا ابن أم عبد طاعة لمن عصى الله، قالها ثلاث مرات).

وهكذا يسقط السمع والطاعة في هذا المناط الذي هو درجة من الانحراف توجب إسقاط شرعية الحاكم، يضاف إلى هذه الروايات ما ذكرناه من رواية أم حصين الأحمسية التي جاء فيها الشرط واضحًا حاسمًا: "فاسمعوا له وأطيعوا ما قادكم بكتاب الله"،فاشترط للسمع والطاعة قيادة الأمة بكتاب الله، ففهمنا من ذلك أنّه حين أمرَ بالتزام السمع والطاعة للإمام كان يتحدّث عن أئمة يقودون الأمة بكتاب الله دون أدنى شكّ، رغم ما يأتونه من معاص فرديّة ومنكرات وبعض الأثرة.

وبالإضافة إلى ما ذكرناه من أدلّة على أنّ نزع السمع والطاعة مطلقًا يعني إسقاط الشرعية عن الحاكم، أي: عدم اعتباره إمامًا شرعيّا مع العمل على تغييره، كما دلّ مفهوم النصوص المباشر، والنصوص الأخرى التي أكّدت المعنى، بالإضافة إلى ذلك فإنّ هناك دليلا ثالثا يؤكّد أن "نزع اليد من الطاعة" معناه إسقاط شرعيّة الحاكم ومشروعيّة منابذته، وضرورة العمل لتغييره بمن يقيم الدين ويحقّق الجماعة، وهو ما مرّ معنا قبل قليل من رواية عوف بن مالك الأشجعي عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - أنه قال: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم قالوا قلنا: يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولى عليه وال، فرآه يأتي شيئا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة" (صحيح مسلم).

فقد سألوا الرسول - صلّى الله عليه وسلّم -: "يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك"؟ قال: "لا، ما أقاموا فيكم الصلاة"، ثم قال: "ألا من ولى عليه وال، فرآه يأتي شيئا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة"، فهم سألوه عن المنابذة، فبيّن لهم، ثم أمرهم بعدم نزع اليد من الطاعة، فكان مفهومًا أن "المنابذة" تعني "نزع اليد من الطاعة"، وأنه - - صلّى الله عليه وسلّم - - حين يأمر في أحاديث أخرى بنزع اليد من الطاعة، يكون ذلك إسقاطًا واضحًا لشرعيّة الحاكم، وتأكيدًا على ضرورة تغييره!

حقيقة إسقاط الشرعية، واجتيالُ المضلّين:
إنّ إسقاط الشرعية وإن كان مختلفًا عن الخروج على الحاكم بالقوة والسلاح، فهو شيء آخر مختلفٌ عن الصبر والتزام السمع والطاعة، إنّه جهد في سبيل تغيير المؤسّسة الحاكمة من خلال إسقاط شرعيّتها، والعمل على إيجاد شرعيّة بديلة تحقّق مفهوم "الجماعة"، وتقيم دين الله في الأرض، حتّى وإن كان ذلك عملا سلميّا تراكميّا، لا ينزع إلى قوة السلاح، لكن لا يجوز بجميع الأحوال أن تكون صفة "الجماعة" المأمور بها شرعًا معطّلة غائبة، وأن تكون صفة "التفرّق" هي السائدة مكانها، ثم لا يكون للأمة مع ذلك أدنى جهد في العمل لتغيير هذه الأوضاع! لا يوجد شيء في دين الله يسوّغ هذا التنصّل من تكاليف الشرع، ولا يمكن تبرير قول من يقول للأمة: اسمعي وأطيعي للفرق القائمة مكان الجماعة! واصبري ولا تقومي بأي جهد لإقامة دين الله وإقامة شرعية الجماعة! لا يمكن تبرير هذا القول؛ لأنّه مخالف لما أمر به الله عزّ وجلّ في كتابه، ولما ظهر بوضوح في السنّة النبويّة الشريفة.

لقد كان اجتيالُ المضلّين من أصحاب هذه الدعوات المخالفة للسنّة متمثّلا بوضع الأمة بين طرفين لا ثالث لهما: إمّا أن تصبروا وتسمعوا وتطيعوا ولا تفكّروا في شيء اسمه تغيير ولا عمل جماعي إسلامي لإقامة دين الله في الأرض، وإمّا أن تخرجوا بالسلاح، وهذا فيه ما فيه من الدماء والمخاطر على الأمة، فضلا عن كونه مشروطًا بظهور الكفر البواح، ثمّ ضيّقوا دائرة الكفر البواح بحيث لا يظهر عندهم إلا إن صرّح الحاكم بمقولة كفرية صريحة! فحتّى لو حكم النظام بشريعة غير شريعة الله، وبدّل الولاء الإسلامي وأحلّ مكانه الولاء القوميّ الجاهلي، فالكفر البواح عندهم لم يظهر بعد[1]!

وهكذا وضع هؤلاء المضلّون الأمة بين طرفين لا ثالث لهما، مع أن الأمر كما بيّنا ليس محصورًا في هذه الثنائيّة، ولقد ظهر خلال هذه القراءة الوجيزة تهافت قولهم بالصبر والتزام الطاعة لهذه الفرق التي خرجت من الجماعة ولم تُقم الدين، أمّا قولهم باستحالة الخروج بالقوة المسلّحة لِما فيه من مضار ومخاطر على الأمة، فهو وإن كان يحمل الكثير من الصحّة بناء على قواعد أصول الفقه كمعيار المصالح والمفاسد، وحدّ الاستطاعة ووجود القدرة وغير ذلك من الاعتبارات الفقهية،، رغم ذلك فهم يجعلونه – تزييفًا للحقّ - الوجه الآخر الوحيد للصبر والسمع والطاعة!

وكأنّما كان من المحتّم على هذه الأمة أن تخضع للتفرّق المنهيّ عنه شرعًا، وتتنازل عن واجب إقامة الدين وتحقيق شرعيّة الجماعة لمجرّد أنّها لا تستطيع الخروج المسلّح على هذه الفرق! وكأنّ الوسائل لإسقاط شرعيّة الحاكم بجهد يطول أو يقصر قد انعدمت، ووسائل العمل الجماعي لإقامة الدين وتحقيق الجماعة قد انعدمت،، ولكن أنّى لهم ذلك وهذا كتاب الله حاضرٌ وتلك سنّة رسوله - صلّى الله عليه وسلّم - تبيّن لنا معالم الرشاد والهداية؟!

• • •


ثم أخيرًا لا بدّ من التأكيد على الوسائل المشروعة للتغيير - بالإضافة إلى ما مرّ معنا - كما هي في الخطاب المنزّل، فإنكار المنكر بل والعمل لتغييره هو واجب لا يجوز للأمّة أن تنفكّ عنه؛ لكثرة النصوص التي تأمر بذلك، حتى وإنْ كان الحاكم يُقيم الدين ويحقّق مفهوم الجماعة – كما سيأتي معنا - فلا بدّ من أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر حتى يعود إلى الجادة، وحتى لا ينحرف أكثر مما هو عليه، ولا بدّ من اعتزاله في حالات؛ لإظهار عدم الرضى عن حاله كوسيلة للضغط نحو التغيير، ولا بدّ من الأخذ على يده وتقويمه في حالات، وليس الأمر إمّا صبر وسمع وطاعة أو خروج بالسلاح كما يروّج المضلّون!

الأمر بالإنكار عليهم لردّهم عن منكرهم:
قال تعالى: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 78، 79].

وفي مسند الإمام أحمد بسند صحيح عن قيس بن أبي حازم، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه خطب فقال: "يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير ما وضعها الله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105] سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنّ الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكروه يوشك أن يعمّهم الله بعقابه"، (مسند الإمام أحمد، إسناده صحيح، صححه الإمام أحمد شاكر).

عن أم سلمة رضي الله عنها أنّه عليه الصلاة والسلام قال: "إنه سيكون عليكم أئمة تعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، فقيل: يا رسول الله أفلا نقاتلهم ؟ قال: لا ما صلوا" (صحيح الترمذي).

عن جابر بن عبد الله عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - أنه قال: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، و رجل قام إلى إمام جائر فأمره و نهاه، فقتله" (صحّحه السيوطي في الجامع الصغير، والألباني في السلسلة الصحيحة).

عن أبي قبيل عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أنه صعد المنبر يوم القمامة فقال عند خطبته: "إنما المال مالنا والفيء فيئنا فمن شئنا أعطيناه ومن شئنا منعناه"، فلم يجبه أحد، فلمّا كان في الجمعة الثانية قال مثل ذلك فلم يجبه أحد، فلما كان في الجمعة الثالثة قال مثل مقالته، فقام إليه رجل ممن حضر المسجد فقال: "كلا، إنما المال مالنا والفيء فيئنا فمن حال بيننا وبينه حاكمناه إلى الله بأسيافنا"، فنزل معاوية فأرسل إلى الرجل فأدخله فقال القوم: "هلك الرجل"! ثم دخل الناس فوجدوا الرجل معه على السرير، فقال معاوية للناس: "إن هذا أحياني أحياه الله، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "سيكون بعدي أمراء يقولون ولا يردّ عليهم، يتقاحمون في النار كما تتقاحم القردة"، وإني تكلمت أول جمعة فلم يردّ عليّ أحد، فخشيت أن أكون منهم، ثم تكلمت في الجمعة الثانية فلم يردّ عليّ أحد، فقلت في نفسي: إني من القوم! ثم تكلمت في الجمعة الثالثة فقام هذا الرجل فردّ عليّ فأحياني أحياه الله"! (مجمع الزوائد للهيثمي: رجاله ثقات، وصحّحه الألباني في السلسلة الصحيحة)، الشاهد: استدل الصحابي والخليفة معاوية بن أبي سفيان بقوله عليه الصلاة والسلام: "سيكون بعدي أمراء يقولون ولا يردّ عليهم، يتقاحمون في النار كما تتقاحم القردة" على فعل هذا الرجل الذي ردّ عليه ما قال ليردعه عنه، فارتدع معاوية رضي الله عنه واستجاب واعترف بخطئه وهذا من فضائله!

الأمر باعتزالهم كوسيلة للضغط وإظهار عدم الرضى عن حالهم:
عن عبد الله ابن عبّاس رضي الله عنه أنّه عليه الصلاة والسلام قال: "سيكون أمراء تعرفون و تنكرون، فمن نابذهم نجا، و من اعتزلهم سلم، و من خالطهم هلك" (صححه الإمام الألباني في صحيح الجامع).

عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أنّه عليه الصلاة والسلام قال: "ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس، و يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منكم، فلا يكونن عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا خازنا" (صحّحه الإمام الألباني في صحيح الترغيب).

عن كعب بن عجرة: "خرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن تسعة خمسة وأربعة أحد العددين من العرب والآخر من العجم فقال اسمعوا هل سمعتم أنه سيكون بعدي أمراء فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه وليس بوارد علي الحوض ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم فهو مني وأنا منه، وهو وارد علي الحوض" (سنن الترمذي، صحّحه أحمد شاكر والألباني وغيرهم ممّن سبقهم من المحدثين).

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال: "يهلك أمتي هذا الحي من قريش، قالوا: فما تأمرنا ؟ قال: لو أن الناس اعتزلوهم" (صحيح مسلم، وورد في صحيح البخاري بلفط "يهلك الناس").


والأخذ على أيديهم وتقويمهم لردّهم إلى الجادة ومنعهم من الانحراف أكثر من ذلك واجبٌ في حالات:
عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - أنه قال: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ﴾ [المائدة: 78] إلى قوله ﴿ فَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 81] ثم قال كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا" (رواه أبو داود وهو صحيح، وصحّحه أحمد شاكر في عمدة التفسير).

عن النعمان بن بشير عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - أنه قال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا" (صحيح البخاري).

وفي خطبة أبي بكر من رواية أنس بن مالك: "أما بعد، أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإنْ أحسنت فأعينوني، وإنْ أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بالذلّ، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله" (ذكره ابن كثير في البداية والنهاية وإسناده صحيح)، الشاهد: "فإنْ أحسنت فأعينوني، وإنْ أسأت فقوموني".

عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - أنه قال: "أول من بدأ بالخطبة، يوم العيد قبل الصلاة، مروان، فقام إليه رجل، فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" (صحيح مسلم)، الشاهد: أن الصحابي الجليل أبا سعيد الخدري استدلّ بحديث التغيير باليد واللسان والقلب على مشروعية فعل الرجل، والرجل قد قام لمروان، ومروان خليفة يُقيم الدين لكنه أتى شيئًا منكرًا.

وعن عبدالله بن مسعود أنّه قال: "يكون عليكم أمراء يتركون من السنة مثل هذا، وأشار إلى أصل إصبعه، وإن تركتموهم جاؤوا بالطامة الكبرى، وإنها لم تكن أمة إلا كان أول ما يتركون من دينهم السنة، وآخر ما يدَعون الصلاة، ولولا أنّهم يستحيون ما صلّوا" (أخرجه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في التلخيص)، الشاهد قوله: "وإن تركتموهم جاؤوا بالطامة الكبرى"، فهو دليل واضح أن للأمة دور في ردع انحراف الأئمة وردّهم إلى جادة السنّة.

وهكذا، ظهر لنا دجل المحرّفين المموّهين؛ فقد أوهموا الأمة - كما قلنا - أن واجبها تجاه الحكام أيّا كانوا هو مجرّد الصبر والسمع والطاعة، وأن الوجه الآخر لذلك هو الخروج بالسلاح! فتبيّن لنا أن هناك مناطات أخرى بين "الصبر" وبين "الخروج بالسلاح" وهي كما جاء معنا:
إنكار منكرهم والردّ عليهم لردعهم عمّا هم فيه من انحراف.

اعتزالهم وعدم مخالطتهم كوسيلة للضغط عليهم وإظهار عدم الرضى.

الأخذ على أيديهم بتقويمهم وردّهم إلى جادّة السنة والرشاد.

إسقاط شرعيّتهم بإسقاط حقّ السمع والطاعة.

العمل الجماعي للتغيير كتكليف شرعي، وذلك بإنهاء حالة الفرقة وتنحية الشريعة، وإيجاد شرعية الجماعة لإقامة الدين.

فهذه كلّها واجبات ثابتة راسخة في الكتاب والسنّة ولا يمكن النكوص عنها، حتّى وإنْ لم يكن هناك مجال للخروج المسلّح كما ذكرنا، فكيف غفل - أو تغافل - هؤلاء المضلّون عن هذا الخطاب المنزّل الواضح الناصع؟!


لا يسعُنا إلا أن نقول: صدق الله العظيم، وصدق رسوله الكريم - صلّى الله عليه وسلّم -، وكذب الدجّالون المخادعون!



[1] تحدّثنا عن معنى الكفر البواح وظهوره في دراسة بعنوان "المناطات المختلفة لعلاقة المحكومين بالحكام".







من الأسباب المعينة على قيام الليل .. النوم على طهارة والتبكير بالنوم

$
0
0
من الأسباب المعينة على قيام الليل .. النوم على طهارة والتبكير بالنوم
د. محمد سليمان حمودة





النوم على طهارة:
فعن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوؤك للصلاة". متفق عليه

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يبيت على ذكر الله طاهرًا فيتعارّ من الليل، فيسأل الله تعالى خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه" رواه أبو داود وأحمد، صحيح الجامع 5754.


وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طهروا هذه الأجساد طهركم الله فإنه ليس عبد يبيت طاهرًا إلا بات معه في شعاره ملك، لا يتقلب ساعة من الليل إلا قال: اللهم اغفر لعبدك، فإنه بات طاهرًا". أخرجه الطبراني في الأوسط (5/ 204، رقم 5087" قال الهيثمي (10/ 128 ): إسناده حسن. وقال المنذري (1/231 ): إسناده جيد.

التبكير بالنوم:
ومن الأسباب المهمة إعطاء الجسد حقه من النوم لأنه لا يتصور أن يعيش الإنسان بدون نوم وراحة وهذه من دعوة الاعتدال التي جاء بها الإسلام الحنيف فالنوم بعد العشاء مبكرًا يعطي الجسد قسطًا من الراحة فإذا قام من الليل قام نشيطًا، وفضلًا على ذلك فإن النوم في أول الليل وصية نبوية كريمة، وخصلة من خصال الصالحين حميدة، وعادة صحية مجيدة، فعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان يستحب أن يؤخر العشاء، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها" رواه البخاري.



فائدة: نقل الحافظ ابن حجر رحمه الله عن القاضي عياض في قوله: "وكان يكره النوم قبلها" قال: لأنه قد يؤدي إلى إخراجها عن وقتها مطلقًا، أو عن الوقت المختار، والسمر بعدها قد يؤدي إلى النوم قبل الصبح، أو عن وقتها المختار أو عن قيام الليل.


وقال ابن رافع: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينش الناس بدرته بعد العتمة ويقول: قوموا لعل الله يرزقكم صلاة.




المساجد تبكي حال المسلمين اليوم

$
0
0
المساجد تبكي حال المسلمين اليوم


الشيخ محمود غريب الشربيني





الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:
ففي ((لسان العرب)): المسجَد والمسجِد: الذي يُسجد فيه، وقيل: كل موضع يتعبد فيه فهو مسجد.

وقال رب العزة سبحانه وتعالى: ﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ [التوبة: 17، 18].

وقال تعالى: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾ [الجن: 18].

وقال تعالى: ﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾ [الأعراف: 29].

وقال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُوا ْوَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31].

وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 114].

كان المسجد على عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مكانـًا للعبادة؛ من ذكر للَّه، وإقامة الصلاة، وتلاوة القرآن.

المساجد للصلاة والعبادة:
ففي الحديث المتفق عليه عن أنس بن مالك - رضي اللَّه عنه - قال: جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى بوله أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذنوب من ماء، فأهريق عليه. وفي رواية أنه - صلى الله عليه وسلم - قال للأعرابي: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر اللَّه عز وجل والصلاة وقراءة القرآن)).

ولم يأذن - صلى الله عليه وسلم - للأعمى الذي ليس له قائد أن يتخلف عن الصلاة في المسجد جماعة لما لها من فضل، ولعمارة المساجد، فعن أبي هريرة- رضي اللَّه عنه - قال: أتى رجلٌ أعمى، فقال: يا رسول اللَّه، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أن يرخص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: ((هل تسمع النداء بالصلاة؟)) قال: نعم. قال: ((فأجب)). رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.

وكان المسجد مكانـًا لتلقي العلم؛ فعن أبي هريرة- رضي اللَّه عنه - قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((... وما اجتمع قوم في بيت من بيوت اللَّه، يتلون كتاب اللَّه، ويتدارسونه بينهم، إلاَّ نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم اللَّه فيمن عنده)). رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه.

الحض على الجلوس بعد صلاة الصبح والعصر:
بل حض رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على الجلوس في المصلى بعد صلاة الصبح وصلاة العصر؛ فعن أنس بن مالك- رضي اللَّه عنه - قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى الصبح في جماعة، ثم قعد يذكر اللَّه حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة)). قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((تامة، تامة، تامة)). رواه الترمذي.

وعنه- رضي اللَّه عنه - قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((لأن أقعد مع قوم يذكرون اللَّه، من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس، أحب إليَّ من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون اللَّه من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إليَّ من أن أعتق أربعة)). رواه أبو داود.

بل رغب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في الجلوس في المصلى لانتظار الصلاة الأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي اللَّه عنه -: ((لا يزال العبد في صلاة ما كان في مصلاه ينتظر الصلاة، والملائكة تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، حتى ينصرف أو يحدث)). قيل: وما يحدث؟ قال: يفسو أو يضرط.

بل جعل الشارع الحكيم الجلوس في المساجد عامة، والتعلق بها من المنجيات يوم القيامة؛ فعن أبي هريرة - رضي اللَّه عنه - قال: سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((سبعة يظلهم اللَّه في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة اللَّه - عز وجل - ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في اللَّه، اجتمعا على ذلك، وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف اللَّه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر اللَّه خاليـًا، ففاضت عيناه))؛ متفق عليه.

المسجد بيت كل تقي!
وعن أبي هريرة - رضي اللَّه عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما توطن رجل مسلم المساجد للصلاة والذكر، إلاَّ تبشبش اللَّه تعالى إليه كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم)). رواه ابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والحاكم.

وعن أبي الدرداء - رضي اللَّه عنه - قال: سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((المسجدُ بيت كل تقي، وتكفل اللَّه لمن كان المسجد بيته بالروح والرحمة، والجواز على الصراط إلى رضوان اللَّه، إلى الجنة)). رواه الطبراني في ((الكبير)) و((الأوسط))، والبزار.

وكان المسجد إجمالاً على عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مكانًا للاعتكاف، وكان مكانـًا لتعليم الجهاد، ولتجهيز الجيوش والسرايا، وكان مكانـًا لاستقبال الوفود، وكان مكانـًا لجمع الصدقات وتوزيعها، وكان مأوى للفقراء والمساكين لنومهم وراحتهم، وكان يعالج فيه جرحى الحروب، وكان الأسير يربط في سارية المسجد، وكان بمثابة الجامعة لتعليم الصغار والكبار أمور دينهم.

هذا بعض من دور المسجد على عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مع أن المسجد أول ما بناه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما صوره لنا ابن سعد في ((الطبقات))، والبخاري ومسلم في ((صحيحيهما)) مختصرًا: (...وكان فيه شجرة غرقد، وخرب ونخل وقبور للمشركين، فأمر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بالقبور فنبشت، والخرب فسُويت، وبالنخيل والشجر فقطعت وصفت في قبلة المسجد، وجعل طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، والجانبين مثل ذلك أو دونه، وجعل أساسه قريبـًا من ثلاثة أذرع، ثم بنوه باللبِن، وجعل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يبني معهم، وينقل اللبِن والحجارة بنفسه ويقول:
اللهم لا عيش إلاَّ عيش الآخره
فاغفر للأنصار والمهاجره

وكان يقول: ((هذا الحمال لا حمال خيبر، هذا أبر ربنا وأطهر)). وجعل قبلته إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب: بابـًا في مؤخره، وبابـًا يقال له: باب الرحمة، والباب الذي يدخل منه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وجعل عُمُدَه الجذوع، وسقَّفه بالجريد، وقيل له: ألا تُسقِّفه؟ فقال: ((لا، عريش كعريش موسى)). وبنى إلى جنبه بيوت أزواجه باللبِن، وسقفها بالجريد والجذوع)).

الجدران باللبن والعمد من الجذوع والسقف من الجريد، وكان مفروشـًا بالتراب والحصى، أما المساجد اليوم، فحدث ولا حرج.. فقد تباهى الناس بتشييد المساجد، فقد روى أبو داود والنسائي وابن ماجه عن أنس بن مالك- رضي اللَّه عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد)).

وروى ابن خزيمة وأبو يعلى عن أبي قِلابة قال: غدونا مع أنس بن مالك إلى الزاوية، فحضرت صلاة الصبح، فمررنا بمسجد، فقال أنس: لو صلينا في هذا المسجد، فقال بعض القوم: حتى نأتي المسجد الآخر، فقال أنس: أيُّ مسجد؟ قالوا: مسجد أحدث الآن، فقال أنس: إن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سيأتي على أُمتي زمان يتباهون في المساجد، ولا يعمرونها إلاَّ قليلاً)).

وعن ابن عباس، رضي اللَّه عنهما، قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أُمرت بتشييد المساجد)). وقال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى. رواه أبو داود، وأخرج البخاري قول ابن عباس معلقـًا.

والمراد من التشييد رفع البناء وتطويله.

اهتم الناس في هذه الأيام بتشييد وزخرفة المساجد، ولا عبرة عند الكثير منهم بتربية الرجال فيها وعمارتها، وكأني بجدران المساجد تئن، كما أَنَّ الجذع الذي تركه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لفراقه عندما صعد على المنبر وتركه...، فقد ترك الناس المساجد إلا من رحم ربي، والذي يريد أن يتعرف على الواقع الأليم، فلينظر إلى هذه المساجد في صلاة العصر أو في صلاة الفجر؛ ليعرف مدى حرص الناس على الصلاة في المساجد جماعة.

تربى الجيل الأول في المساجد، فدانت لهم الأرض وما عليها، وترك هذا الجيل المساجد، فأصبحنا كما يرى الجميع، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه.


فهل آن لنا أن نعود إلى ربنا... إلى سنة رسولنا... إلى مساجدنا لنتعلم فيها كل شيء، حتى تعود للمسلمين عزتهم؟‍‍!

نسأل المولى - سبحانه وتعالى - أن يكون ذلك قريبًا.

المصدر: مجلة التوحيد، عدد 1420 رجب هـ، صفحة 36.





من القواعد الأساسية لحفظ القرآن الكريم .. الإخلاص

$
0
0
من القواعد الأساسية لحفظ القرآن الكريم .. الإخلاص


محمود العشري







القاعدة الأولى: الإخلاص:

الإخلاص - يا صاحب القرآن - هو أهمُّ قاعدة في هذا الموضوع، بل وفي كل موضوع؛ وذلك أن الإنسان إذا عَمِل عملاً لا يبتغي به وجه الله - تعالى - فإن هذا العمل يكون مُحبَطًا؛ قال الله - عز وجل -: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الزمر: 65]، فإيَّاك إيَّاك أن تبتغي بالقرآن جاهًا، أو وجاهة، أو ارتفاعًا فوق الناس، أو إمامة للصلاة، أو أن يشار إليك، ويقال: هذا قارئ، أو تحصيل مال، أو أي عرض من أعراض الدنيا.



روى أبو داود - بسند صحيح - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن تعلَّم علمًا مما يُبتغَى به وجهُ الله - عز وجل - لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا، لم يجدْ عَرْف الجنة يوم القيامة))؛ يعني: ريحها.



وروى الإمام مسلم والنسائي وأحمد - رحمهم الله جميعًا - حديثًا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - يوضِّح فيه خطورة أن يفعل الإنسان الخير ابتغاء مرضاة الناس، وليس ابتغاء رضا الله - عز وجل؛ فقد قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن أول الناس يُقضَى يوم القيامة عليه رجلٌ استشهد، فأُتِي به فعرَّفه نعمه فعَرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استشهدتُ، قال: كذبتَ، ولكنك قاتلتَ لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أُمِر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلَّم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن، فأُتِي به فعرَّفه نعمه فعَرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلمتُ العلم، وعلمتُه وقرأتُ فيك القرآن، قال: كذبتَ، ولكنك تعلَّمت العلم ليقالَ: عالم، وقرأتَ القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أُمِر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسَّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كلِّه، فأُتِي به فعرَّفه نعمه فعَرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيلٍ تحب أن ينفقَ فيها إلا أنفقتُ فيها لك، قال: كذبتَ، ولكنك فعلتَ ليقال: هو جَوَاد، فقد قيل، ثم أُمِر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار)).



فكان من الممكن أن تسعَّر جهنم أول ما تسعَّر بقاتلٍ، أو بزانٍ، أو بشارب خمر، ولكن الله - عز وجل - أراد أن يوضِّح خطورة هذا الأمر، وخطورة طلب رضا الناس على حساب رضا الله - عز وجل - فجعل أول مَن يُقضَى عليهم يوم القيامة مجموعةً من غير المُخلِصين، الذين لم يضعوا في اعتبارهم ثواب العمل ورضا الله - عز وجل - بل طلبوا أعراض الدنيا فقط.



روى الحاكم - وقال: صحيح - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تعلَّموا القرآن وسَلُوا الله به الجنة، قبل أن يتعلَّمه قوم يسألون به الدنيا، فإن القرآن يتعلمه ثلاثة: رجل يباهي به، ورجل يستأكل به، ورجل يقرؤه لله)).



وكلما زاد إخلاصك عَظُم أجرك عند الله - تعالى؛ وذلك كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو حديث جامعٌ في أمر الإخلاص؛ حيث قال عمر - رضي الله عنه -: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنما الأعمال بالنيَّات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمَن كانت هجرته إلى دنيا يُصِيبها، أو إلى امرأة يَنكِحها، فهجرتُه إلى ما هاجر إليه)).



وكلما أكثرت من النوايا الصالحة عَظُم أجرك كذلك؛ فقد ينوي الإنسان بعملٍ صالح واحدٍ أكثرَ من نيَّة صالحة، وهنا - في مقام حفظ القرآن الكريم - تستطيع أن تعدِّد النوايا الصالحة أيضًا: لماذا نحفظ القرآن الكريم؟ لماذا نحرص على حفظه كاملاً؟



إليك - أخي يا صاحب القرآن - هذه العشرين، اجعلها نيات، أو مبشرات، أو محفزات، المهم العمل، فافهم معي، وانطلق، والله المستعان.



1- القرآن تجارة رابحة، وكل الناس تعاملُك لتربحَ منك إلا الله؛ فإنه يعاملك لتربح منه، قال عثمان - رضي الله عنه -: "يا أيها الناس، إن ربكم أنزل هذا القرآن ليُعمَل به، فاتخذوا تلاوتَه عملاً"، وقال - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 29، 30].



2- تلاوة القرآن بالأمر المباشر من الله - تعالى - فاستحضر النيَّة عند تلاوة القرآن العظيم، أنك تتلوه استجابةً لأمر الملك العظيم، قال الكبير المتعالِ - سبحانه وتعالى -: ﴿ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴾ [النمل: 91، 92].



3- في تلاوة القرآن حِصْن حَصِين، وملجأ منيع لتَالِيه، ﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ﴾ [الكهف: 27].



4- كل إنسان يبحث عن نسبة يتشرف بها ويفتخر، وإنه لحلمٌ فعلاً أن ينتسبَ إنسان إلى الملك القدُّوس، فهل تُرِيد أن تنال هذا الشرف؟!



قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح ابن ماجه: ((إن لله أَهْلِين من الناس))، قالوا: يا رسول الله، مَن هم؟ قال: ((هم أهل القرآن، أهل الله وخاصته)).



5- التنافس على الخير مطلوبٌ، وأن تكون خير الناس مرتبةً لا تطال، ولكن ذلك ليس بالمحال، وأهل القرآن الذين هم أهلُه خير الناس؛ ففي البخاري عن عثمان - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم -: ((خيرُكم مَن تعلَّم القرآن وعلَّمه)).



6- قال - تعالى -: ﴿ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾ [عبس: 15، 16]؛ السَّفَرة: هم الملائكة، كرام بررة؛ أي: خَلْقهم كريم، وأخلاقهم طاهرة، إن الفلاح كل الفلاح في التشبه بهؤلاء الكرام، فأتقن تكن معهم؛ ففي البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الماهر بالقرآن مع السَّفَرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويَتَتعتع فيه، وهو عليه شاقٌّ، له أجران)).



7- لكل إنسان ريح وطعم يشمه ويتذوَّقه أهل الإيمان، ويشهد الواقع بذلك، فللمعاصي ريح خبيثة، تظهر على العصاة والمذنبين، أسأل الله أن يتوب علينا وعلى المسلمين أجمعين، وللطاعات روائح وطعومات، والقرآن يغيِّر طعم الإنسان وريحه؛ ففي البخاري عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَثَل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمَثَل الأُتْرُجَّة، ريحُها طيِّب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمَثَل التَّمْرة، لا ريح لها وطعمُها حلو، ومَثَل المنافق الذي يقرأ القرآن كمَثَل الرَّيحانة، ريحُها طيِّب وطعمها مُرٌّ، ومَثَل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمَثَل الحنظلة، ليس لها ريح، وطعهما مر)).



8- قال - تعالى -: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ﴾ [التين: 4، 5]، الله - سبحانه وتعالى - يرفع ويخفض، بيده مقادير الخلق، فاللهم ارفعنا ولا تضعنا، وفي مسلم عن عمر - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين)).



9- يوم القيامة أهواله عظيمة، يحتاج الإنسان إلى مَن يقف معه، ويشفع له عند ربه، في يومٍ يغضب الله فيه غضبًا لم يغضبْ قبله مثلَه، ولن يغضب بعده مثله؛ قال - تعالى -: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ [البقرة: 255]، والقرآن شفيع مشفَّع؛ ففي مسلم عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم -: ((اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه)).



10- يتحاسد الناس على المظاهر وعلى الدنيا وعلى الأشكال، وكل ذلك عَرَض زائل، والغبطة الفَرَح بالنعمة على عباد الله وتمنِّي مثلها، ولا يُغبَط في هذه الدنيا مثل حامل القرآن؛ ففي البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا حسدَ إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن؛ فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)).



11- في القيامة قد يخف ميزان العبد، ويحتاج إلى حسنة واحدة، حسنة واحدة فقط، وقد يدور على الناس ولا يُعطِيه أحدٌ، الكل يقول: نفسي نفسي، أمامك فرصة اليوم بالعشرات، وويلٌ لمن غلبت آحادُه عشراتِه، اقرأ واغتنم بالعشرات، بالمئات، بالآلاف، بالملايين، ما بين مستقلٍّ ومستكثرٍ، ولا حرجَ على فضل الله - تعالى؛ ففي صحيح الترمذي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن قرأ حرفًا من كتاب الله، فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرفٌ، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)).



12- نفسُك تعملُ، إن لم تشغلْها بالحقِّ شَغلَتْك بالباطلِ، وحتى الشغل درجاتٌ تتفاوت بين حق وأحق منه، وفاضل ومفضول، ولكنْ مع الله وأنت تتعامل مع الكريم - سبحانه - لا يحرمك فضله، إذا عَرَفت فضله، ففي صحيح الترمذي عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الرب - تعالى -: مَن شغله القرآن وذكري عن مسألتي، أعطيته أفضلَ ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله على سائر الكلام، كفضل الله على خلقه)).



13- القلوب تمتلئ وتفرغ، وفراغ القلب خراب، والبيت الخرب تسكنه البوم والغربان، والقلب الخراب تسكنه الوساوس والهموم والأحقاد والأنكاد.. اعمُرْ قلبك بالقرآن يستنِرْ ويتطهَّرْ؛ ففي صحيح الترمذي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الذي ليس في جوفه شيءٌ من القرآن كالبيت الخرِب)).



14- في صحيح مسلم عن أبي سعيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أهل الجنة ليَتَراءَون أهلَ الغرفِ من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدُّرِّي الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب))، سبحان المَلِك! الجنة خمسمائة درجة، ما بين كل درجة ودرجة مسيرة خمسمائة عام، فانظر كم الفرق بين الأدنى والأعلى؟! واللهِ إنها لمسافةٌ لا تُتصوَّر! ولكن لماذا يرضى بالنزول مَن يستطيع العلوَّ؟! وفي الجنة درجتُك على حسب ما معك من القرآن! ولن تُعطَى هنالك مصحفًا تقرأ منه، إنما هو الحفظ والإتقان؛ ففي صحيح الترمذي عن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال - صلى الله عليه وسلم -: ((يُقَال لصاحب القرآن: اقرأ وارتقِ ورتِّل كما كنتَ تُرتِّل في الدنيا؛ فإن منزلتَك عند آخر آيةٍ تقرأ بها)).



15- حقُّ الوالدين عظيمٌ، وقلما يستطيع أحدٌ أن يوفِّي والديه حقَّهما، أمَّا إذا تولَّى المَلِك العظيم - تبارك وتعالى - إيفاءَ الوالدين هذه الحقوق، فإن الكريم - سبحانه - إذا أعطَى أعطَى بغير حساب، وأهل القرآن يتولَّى الله عنهم - سبحانه - أداءَ حقِّ الوالدين، بشرط أن يعمل الرجل بالقرآن؛ ففي صحيح أبي داود عن سهل بن معاذ الجُهَني - رضي الله عنه - عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن قرأ القرآن وعَمِل بما فيه، أُلْبِسَ والداه تاجًا يوم القيامة، ضوؤه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم، فما ظنكم بالذي عمل بهذا))، فالحديث يبيِّن بلا شك أن ثواب الآباءِ الذين يحفِّظون أبناءهم القرآن سيكونُ كبيرًا جدًّا، وهي فرصةٌ لتذكير الآباء باستغلال سنِّ الأطفال الصغيرة للتحفيظ؛ لأن ذاكرتَهم أقوى بكثير من ذاكرة الكبار، وقديمًا قالوا: التعليم في الصغر كالنَّقْش على الحجر.



16- من أمتع المشاعر والأحاسيس الشعور بالأمان، وإذا كان الحذر من عذاب الله لازم لكل إنسان، فكيف بك إذا عَرَفت أن القرآن أمان، هل لك أن تنصرف من مَأْدُبة الله؟! إذا أحببت القرآن فأبشِر بالأمان؛ فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم -: ((اقرؤوا القرآن؛ فإن الله - تعالى - لا يعذِّب قلبًا وعى القرآن، وإن هذا القرآن مأدبة الله، فمَن دخل فيه فهو آمن))؛ والحديث صحَّحه الحافظ في الفتح.



17- كن على يقين من الأمان مهما كان، إذا وعى قلبك القرآن، وتأكَّد إن حَفِظتَه وعَمِلت به أنك لن تدخل النار، ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك مثلاً، فقال في الحديث الصحيح في مسند الإمام أحمد: ((لو أن القرآن في إهابٍ، ثم ألقي في النار ما احترق)).



18- الحب نعمة، وقد يشتهي الإنسان أحيانًا أن يحبَّه بعض الناس، وقد يشتهي أن يحبَّ هو الآخر بعض الناس، ولكنه لا يستطيع، وإذا كان في المعاملة مع الله ليس الشأن أن تحب، إنما الشأن أن تُحَب، فكيف الشأن إذا كان ممكنًا أن تُحِب وتُحَب؟!



خُذْ هذه الهدية من السلسلة الصحيحة: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن سرَّه أن يحب الله ورسوله، فلينظر في المصحف، ومَن سرَّه أن يحبه الله ورسوله، فلينظر في المصحف)).



19- سبحان الملك العظيم، الذي لا يعلم قدرَه إلا هو - سبحانه وتعالى - وإن من الواجب على كل البشر، اللازم لكل الخلق، تعظيم الله وإجلاله - سبحانه جل جلاله، فانظر كيف يشترطُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإجلال الله - تعالى - إكرام حامل القرآن، فأي إكرام بعد هذا الإكرام؟! وأي إهانة لمن رغب عن هذا الإكرام وتخلَّى عنه؟! ففي صحيح أبي داود عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من إجلال الله إكرامَ ذي الشَّيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط)).



20- حامل القرآن يقدَّم في الآخرة كما يقدَّم في الدنيا، هذا حقه؛ إكرامًا من الله - تعالى - له، وانظر معي كيف آثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حامل القرآن، وقدَّمه حتى في القبر! ففي البخاري عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: كان - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الرجلين من قَتْلَى أُحُدٍ في ثوب واحد، ثم يقول: ((أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟))، فإذا أشير له إلى أحدهما قدَّمه في اللحد.



ملاحظة:

اعلم أن المذهب الصحيح المختار، الذي عليه مَن يُعتمد من العلماء، أن قراءة القرآن أفضل من التسبيح والتهليل وغيرهما من الأذكار، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك، والله أعلم.



ومع هذه النوايا هناك نوايا كثيرة أخرى؛ منها على سبيل المثال:

1- نية القراءة الكثيرة للقرآن: فالذي يحفظ القرآن يستطيع أن يقرأ القرآن بصورةٍ أكبر عن طريق التسميع لما يحفظ، وذلك في أماكن لا يستطيع فيها أن يُخرِج مصحفَه ويقرأ، فمثلاً وهو يسير في الطريق، أو عند قيادة السيارة، أو ركوب المواصلات المزدحمة، وهو لا يستطيع أن يخرج مصحفه، أو عند وجوده في مكان لا يتوفَّر فيه مصحف، في عيادة طبيب، في مكتب، في سفر، أو في أي مكان آخر، ولا يخفى عليك يا صاحب القرآن أن الحرف من القرآن بعشر حسنات، والثواب هائل لا يتخيَّله العباد!



2- نية قيام الليل بما تحفظ: فالإنسان قد يَفْتُر عن القيامِ إذا كان في كلِّ مرة يقرأ سورًا معيَّنة بعينِها، ولا يحفظ غيرها، أما إذا كان حافظًا للقرآن، فهو يتجوَّل كل يوم في سورة، ويستمتع بكتاب الله - عز وجل.



3- نية أن تنال شرف أن تكون من حُمَّال القرآن: وبذلك يدافع القرآن بكامله عنك يوم القيامة، وهذا مطلب عزيز، وهدف عظيم تُبذَل من أجله الأرواحُ والأبدان.



4- نية الوقاية من عذاب الآخرة: روى الدارمي - بسند صحيح - عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - أنه قال: "اقرؤوا القرآن، ولا يغرنَّكم هذه المصاحف المعلَّقة، فإن الله لن يعذِّب قلبًا وعى القرآن".



5- أن تعلِّمه غيرك: فأنت إذا حَفِظت القرآن ونقلتَه إلى غيرك تحفيظًا وتجويدًا وتفسيرًا، كان هذا بيانًا بأنك أصبحت من خير هذه الأمة، لم أَقُلْه أنا، بل قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه البخاري عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: ((خيرُكم مَن تعلَّم القرآن وعلَّمه)).




6- أن تكون قدوة حسنة للمسلمين ولغير المسلمين: فنحن نريد الطبيب الملتزم الحافظ، والمهندس الملتزم الحافظ، وكذلك الفلاَّح الملتزم الحافظ، والنجَّار الملتزم الحافظ، فإذا أضفنا إلى الحفظ والالتزام تفوُّقًا في المهنة، كانت هذه دعوة متحرِّكة، وسيربط الناس بسهولةٍ بين التفوق في المهنة والمهارة فيها والآداب في ممارستها، وبين الإسلام والالتزام وحفظ القرآن، وهذه دعوة بالقدوة، لا تعدلُها دعوة أخرى.



هذه بعض النوايا الطيبة في حفظ القرآن الكريم، ولا شك أن هناك نوايا صالحة أخرى في حفظ هذا الكتاب الجليل، والأمر على إطلاقه بين المسلمين.





واجباتك في العقيدة

$
0
0
واجباتك في العقيدة
د. شيرين لبيب خورشيد







أُخَيَّة، حان الوقت لتتعرفي على خالقك العظيم الله جلَّ جلاله، سخر للإنسان جميع ما في السموات والأرض لتتنعمي بما سخره الله لك، فهلا نذهب سوياً إلى عالم الغيب نقرأ كتاب الله ونتدبر ونتأمل سوياً حتى تخرجي بإيمان جازم يقيني لا تزعزعه مهبات الرياح ولا فتن الدنيا ومباهجها:
أنت بالفطرة تؤمنين بوجود الله - عز وجل - وأنت في عالم الذر الميثاق آمنت أنه لا إله إلا الله، آمنت أنّ الله خالق كل شيء ومالك كل شيء، له الأمر وله استسلم جميع ما في هذا الكون خضوعاً وتذللاً بحب وليس قهراً، حبّاً لله لما أنعم عليهم بهذه النعم.


تعرّفت على أعدائك الداخلية والخارجية، فهل ستتركين زمام أمرك معهم، أم ستقفين وقفة جد وحزم أمامهم وتصدينهم عن إكمال مسار حياتك حتى قراءتك لهذه الموسوعة، هل ستنفضين غبار الغفلة عن قلبك؟ قل ستفتحين قلبك للفيوضات الربانية لتدخل وتتربع هي بدل أعدائك.


علمت أن الحواس محدودة ولا يمكن لحواسنا معرفة الغيب، وأن الحواس لا تدرك سوى ما تشاهده أو تسمعه أو تتذوقه أو تتلمسه أو تستنشقه.


وعلمت أنّ العقل الكائن في القلب أيضاً محدود وحدوده الزمان والمكان الذي أنت فيه، وحدوده فقط لمعرفة الحق وضحض الباطل، وأنّ العقل إذا ما غذيته بالعلم وسلحته بإرادة جازمة كان معيناً لك على أعدائك، ولكن إن ظللت تتخذين الجهل سبيلك فلا حول ولا قوة إلا بالله.


أيضاً علمت أن الأمور الغيبية لا يمكننا معرفتها إلا عن طريق الخبر الصادق، ألا وهو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلمت أننا إذا أردنا أن نكون مؤمنين ويطلق علينا اسم الإيمان يجب أن نصدق الخبر بيقين إنه من عند الله.


لذا أريد منك وضع قاعدة مهمة جداً ألا وهي: الأمور الغيبية التي لا نراها، لا يمكننا أن نتخيلها أو نشبهها بما نراه حولنا، ولا يمكننا القياس بأمر مشاهد عياناً مع أمر غيبي، فحين أذكر لك أي أمر غيبي لا تسرعي بإعطاء هذه النفس الأمارة والشياطين الدخول إلى قلبك وتقديم الفتن والشبهات لك لكي تتركي السير على الصراط المستقيم.


ولكي لا يكون الإنسان مثلما يقول الشاعر إيليا أبو ماضي في قصيدته المشهورة التي اتخذها المغني عبد العليم أغنية (أعتبروها الأهم ضمن مجموعته من الأغاني).
وعنوانها الطلاسم من ديوانه (الجداول).


تأملي لوعته، تأملي حزنه الدفين تأملي الغم الذي يعيش في أنحاء جسده، قلبه يملاؤه الارتاياب والشك والقلق يقول:
جئت لا أعلم من أين، ولكن أتيت
ولقد أبصرت قدامى طريقاً فمسيت
وسأبقى سائراً إن شئت أن أبيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟
لست أدري!!
أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود؟
هل أنا حرٌ طليق أم أسير في قيود؟
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود؟
هل أتمنى أنني أدري ولكني لست أدري!!
وطريقي ما طريقي؟ أطويل أم قصير؟
هل أنا أصعد أم أهبط فيه وأعوز؟
أأنا السائر في الدرب أم الدرب تسير؟
أم كلانا واقف والدهر يجري؟
لست أدري.
أتراني قبلما أصبحت إنساناً سوياً
كنت محواً أو محالاً أم تراني كنت شيئاً
ألهذا اللغز حل؟ أم سيبقى أبدياً.
لست أدري، ولماذا لست أدري؟
لست أدري.

لست أدري تلك إجابته عن التساؤلات التي شغلت باله، (لست أدري) إجابة عن أسئلة من أين وإلى أين وأين المصير؟


هذه ليست فقط لهذا الشاعر بل هي ما تربي عليها جيلنا الماضي منذ ألف عام هجري، حيث بعد القرن الثالث للهجرة وما توصل إليه المسلمون الأوائل من فتوحات قبل المشرق والمغرب، ترجموا كتب الفلاسفة اليونانية، ومنها لسقراط وأفلاطون فهذه الفلسفة لعمالقة الفلاسفة في وقتهم "لست أدري" من أقوالهم (الشيء الذي لا أزال أجهله جيداً أنني لست أدري).


أما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعن جنبتي الصراط سوران، فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعند رأ س الصراط داع يقول: استقيموا على الصرط، ولا تعوجوا، وفوق ذلك داع يدعو، كلما همّ عبدٌ أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه)).


ثمّ فسره فأخبر:
أن الصراط هو الإسلام، وأن الأبواب المفتحة محارم الله وأن الستور المرخاة حدود الله، وأن الداعي على رأس الصراط هو القرآن، وأن الداعي من فوقه واعظ الله في قلب المؤمن.


الصراط المستقيم هو صراط الله المستقيم الذي رسمه الله لهم، وكلفهم أن يسلكوه ويلتزموه، هذا الصراط المستقيم الواضح المعالم، الشامل لجميع أمور حياتهم اليوميه، والمطلوب منهم في هذه الرحلة العابرة الفانية، التي تأتي بعدها حياة البقاء للحساب والجزاء، أن يسلكوا الصراط المستقيم الشامل التصديق الجازم بالقلب، الذي تفكر وتأمّل وتوصل إلى الحقائق الفكرية العملية واعترف بقلبه أنه يجب أن يسير على هذا الصراط، الشامل على العمل الصالح، بنية خالصة لوجه الله ابتغاء مرضاته ولكن كيف نتعرف على هذا الصراط إن لم نقرأ كتاب الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هذا القرآن يدعوك إلى السير على صراط نجاتك وسعادتك ويهديك إليه.


ففي هذا الصراط مفاهيم الإيمان، وأركانه، وعناصره وأحكامه، ومفاهيم الإسلام، ومفاهيم التقوى والبر والإحسان بمراتبها، ودرجات كل منها، وفضائلها، ومواعيد الجزاء بالثواب عليها، ومفاهيم المعاصي والآثام والمخالفات وتعدّي حدود الله، وما يترتب عليها من جزاء العقاب.


والمهم في ذلك أنك أنت ستختارين؛ ماذا تريدين؟
وأنت لك الحرية في اتخاذ قرارك، هل تريدين السير على هذا الصراط؟ أم أن فضولك سيجعلك تتسائلين عن هذه الأبواب لماذا وضعت؟ وما هذه الأبواب المفتحة ولماذا عليها ستور؟ وهل يمكنك الدخول إليها، وسؤال نفسك لِمَ تريدين الدخول إليها؟ إن علمت أن هذه الستور هي حدود الله، ومحظور عليك الدخول إليها، ومحظور أن تتجازويها، وأن من دخلها أساء لنفسه وعصى الله -عزّ وجل- مع أنك يمكنك أن ترضي نفسك الأمارة بالسوء لإشباع شهواتك وأهوائك، مع ذلك جعل الله -عزّ وجل- لك واعظ في قلبك يردعك عن الولوج إلى هذه الأبواب وهذا الواعظ هو القرآن الكريم، يدعوك ويدعو جميع الناس إلى السير على الصراط المستقيم ولقد وضّح لك كل شيء وأنا دربك في الدنيا والآخرة.


وبيّن لك ماذا ينتظرك في نهاية هذا الصراط، هل تحركت مشاعرك الوجدانية؟ هل تحركت نداءاتك الداخلية التي قذفها الله -عزّ وجل- عبر إلهامك؟ هل شدّتك إلى أن تكوني صادقة مع نفسك وصدق استسلامك لله -عزّ وجل-؟


اعلمي أن هذه المشاعر والنداءات الداخلية هو صوت الضمير الذي يأتيك بالعظة والتذكر، وتنهاك وتأمرك بما أمر الله -عزّ وجل-؟ وتقول لك ارحمي نفسك ولا تظلميها واتركي الستائر مسدلة وأكملي المسير على الصراط المستقيم.


قال تعالى: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 187].
﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 229].
وقال تعالى: ﴿ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ [الطلاق: 1].


وأول طريق الصراط هو معرفة الله ومعرفة أسمائه الحسنى ومعرفة صفاته العليا، لكي تحققي الإيمان الجازم بأنه لا إله إلا الله والإيمان له أركان: أما أركان الإيمان فهي كالتالي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره.


أما معنى أركان: جمع ركن، وركن الشيء جانبه القوي، كما أن لكل بناء لا يقوم إلا على الأسس قوية ثابتة. كذلك فإن بناء هذا الدين لا يقوم إلا على تلك الأركان أما الإيمان في اللغة: للتصديق الجازم.


أما شرعاً: هو التصديق بالقلب، والاقرار باللسان، والعمل بالأركان.
قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾ [البقرة: 3].



أما شرح هذه القاعدة فهي كالتالي:






تنتقل الخاطرة والصورة عبر الحواس إلى النفس والنفس هي المصنع الذي يخرج نتيجة عامل التلقي والاستفهام والمتوقف على الفطرة وبعدها إلى المرجعية وهي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وأما خط الحياة ألا وهي أصل علاقته بما يحيط به هل الله -جل جلاله- هو الأول في حياتك تليها نفسك ثمّ الآخر [الله - أنا - الآخر] لكي يتوازن الإنسان مع ذاته أي يجب أن يكون أمر الله -عزّ وجل- هو الأول في حياتك، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 24].


لذا يجب أن يكون لديك الحافز لكي تجعلي أوامر الله -عزّ وجل- هي الأحب في حياتك قبل كل شيء أنعمه الله عليك.
الله ثمّ نفسك تعطيها حقها عليك ولا تؤثري حق الآخر على نفسك وبذلك تكوني قد أديت بحق خط الحياة، قال تعالى قبل هذه الآيات: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [التوبة: 23].


إنّ هذه العقيدة لا تحتمل في القلب شريكاً، فإما تجرد لها، وإما إنسلاخ منها وليس المطلوب أن ينقطع المسلم عن الأهل والعشيرة والزوج والولد والمال والعمل والمتاع واللذة، ولا أن يترهبن ويزهد في طيبات الحياة... كلا إنما تريد هذه العقيدة أن يخلص لها القلب، ويخلص لها الحب، وأن تكون هي المسيطرة والحاكمة، وهي المحركة والدافعة. فإذا تمّ لها هذا فلا حرج عندئذ أن يستمتع المسلم بكل طيبات الحياة، على أن يكون مستعداً لنبذها كلها في اللحظة التي تتعارض مع مطالب العقيدة.


ومفرق الطريق هو أن تسيطر العقيدة، أو يسيطر المتاع، وأن تكون الكلمة الأولى للعقيدة، أو يسيطر المتاع، وأن تكون الكلمة الأولى للعقيدة أو لعرض من أعراض هذه الأرض. فإذا اطمأن المسلم إلى أن قلبه خالص لعقيدته فلا عليه بعد هذا أن يستمتع بزينة الله والطيبات من الرزق -في غير سرف ولا مخليلة- بل إن المتاع بها حينئذ لمستحب، باعتباره لوناً من ألوان الشكر لله الذي أنعم بها ليتمتع بها عباده، وهم يذكرون أنه الرازق المنعم الوهاب.


وهكذا تتقطع أواصر الدم والنسب إذا انقطعت آصرة القلب والعقيدة. وتبطل ولاية القرابة في الأسرة إذا بطلت ولاية القرابة في الله. فلله الولاية الأولى، وفيها ترتبط البشرية جميعاً، فإذا لم تكن فلا ولاية بعد ذلك، والحبل مقطوع والعروة منقوضة، ولا يكتفي السياق بتقرير المبدأ، بل يأخذ في استعراض ألوان الوشاج والمطامع واللذائذ، ليضعها كلها في كفة ويضع العقيدة ومقتضياتها في الكفة الأخرى: الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة (وشيجة الدم والنسب والقرابة والزواج) والأموال والتجارة (مطمع الفطرة ورغبتها) والمساكن المريحة (متاح الحياة ولذتها) وفي الكفة الأخرى: حب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيل الجهاد بكل مقتضياته وبكل مشقاته. الجهاد وما يتبعه من تعب ونصب، وما يتبعه من تضييق وحرمان، وما يتبعه من ألم وتضحية... ومجاهدة النفس ومجاهدة الهوى ومجاهدة شياطين الجن والإنس.


وما يكلف الله الفئة المؤمنة هذا التكليف إلا وهو يعلم أن فطرتها تطيقه - فالله لا يكلف نفساً إلا وسعها - وإنه لمن رحمة الله بعباده أن أودع فطرتهم هذه الطاقة العالية من التجرد والاحتمال، وأودع فيها الشعور بلذة علوية لذلك التجرد لا تعدلها لذائذ الأرض كلها... لذة الشعور بالاتصال بالله، ولذة الرجاء في رضوان الله، ولذة الاستعلاء على الضعف والهبوط، والخلاص من ثقل اللحم والدم، والارتفاع إلى الأفق المشرق الوضيء. فإذا غلبتها ثقله الأرض ففي التطلع إلى الأفق ما يجدد الرغبة الطامعة في الخلاص والفكاك.




أمي تأخذ من راتبي

$
0
0
أمي تأخذ من راتبي
أ. لولوة السجا


السؤال

ملخص السؤال:
فتاة تعمل في وظيفة وتأخذ راتبًا، وأمُّها تأخذه منها بحجة أن هذا من حقها، والوالد غير موافق على ذلك، وتسأل الفتاة: ماذا أفعل مع أمي، فأنا أخاف العقوق؟

تفاصيل السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا فتاةٌ في العشرين مِن عمري، أعمل في وظيفة وأتقاضى ٧٠٠٠ ريال، تأخذ أمي منها ٥٠٠٠ ريال، وترى ذلك مِن حقِّها، فهي تقول: أنا أمك ومِن حقِّي أن أطلبَ ما أشاء!


أبي غير راضٍ عن ذلك، لكن ليس بِيَدِه شيء لأن أبي قد طلق أمي، ويعيش بعيدًا عنا، وأمي متزوجة مِن غيره.


أمي لا تحتاج كل هذا المال الذي تأخذه مني، فهي غنية ومتزوجة، وأبي غيرُ راضٍ عن ذلك، ويقول لي: يجب عليك أن تدَّخري مَعاشك للمستقبل؛ لكي يكونَ لديك رأسُ مال، وليس مِنْ حَقِّ أمِّك أن تأخذَ مِن راتبك شيئًا؛ لأنها متزوجة، ولديها زوجٌ يُنْفِق عليها، وكلامه صحيح؛ فأنا حقًّا أريد أن أدَّخِرَ راتبي للمستقبل، وفي الوقت نفسه لا أريد أن أعصي أمي في شيء!


رأي أبي أن أعطيها ألفًا فقط، وليس ٥٠٠٠، ويريد أن أفتح حسابًا بنكيًّا باسمي وأضع فيه مالي، وهو سيعطيني مصروفًا شهريًّا زيادة عن عملي.


أنا في حيرة من أمري، ولا أعرف ماذا أفعل؟ أخشى أن أوافق رأي أبي وأعصي أمي، خاصَّة أنها تُحبني.


كل ما أريده هو رضا الوالدين، فماذا أفعل؟ أميل إلى رأي أبي

لكني أخاف أن تحزن أمي بسبَبِي

الجواب

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَنْ والاه، وبعدُ:


فحقيقة إنَّ هذه الاستشارة تُعَدُّ مِنْ أصعب الاستشارات التي واجهتْني؛ لتعلُّقها بالوالدين، ولكون الأمرِ محيرًا جدًّا.


وإني لأُحَيِّي فيك تلك المشاعر الحانية تجاه والدتك، والتي هي حقيقة البِرِّ حين تبذلين جل مالك لإسعادها، ولم تعترضي عليها برغم غناها الظاهري، فبوركتِ مِن بُنية، وبُورك لك في علْمِك وعمَلِك ومالك!


أقترح أن تقنعي الوالد بألا يَحْرِمَك فرصةَ برِّها، وأخبريه بأنَّ بِرَّكِ بها قد يكفيك الله به هَمَّ المستقبل، إن كان خائفًا حقًّا على مستقبلك؛ لأني أخشى أن يكونَ الدافعُ لوالدك هو شيئًا مِن الغيرة أو غير ذلك، فإنْ وافق فالحمد لله، وإن رفَض وأَجْبَرك على غير ذلك فأنت هنا ستكونين مَعْذورةً أمام والدتك.


وأحبُّ أن أُنَبِّهَك إلى قضيةٍ قد لا تكون ظاهرةً بالنسبة لك ولوالدك، وهي احتمالُ أنْ تكونَ والدتُك بحاجة لهذا المال برغم ما ذكرتِ مِن غنى زوجها؛ وذلك لأنَّ الأمور كثيرًا ما تتعارَض مع ظاهِرها فقد يكون الزوجُ غنيًّا، لكنه بخيلٌ أو شديدُ المحاسبة، مما دفع والدتك لطلَب هذا الكَمِّ من المال.



وعلى كلِّ حال، فأنتِ بهذه النية الطيبة لا بد وأن يجعلَ لك ربي مخرجًا مِن هذا المأزق، لذا فوِّضي الأمرَ إليه، واسْألِيه أن يُوَجِّهك لما يُحِبُّ ويرضى، وأن يكفيك الهمَّ؛ فهو سبحانه سميعٌ مجيبٌ.






كيف أحافظ على وقتي من الضياع ؟

$
0
0
كيف أحافظ على وقتي من الضياع ؟
أ. شروق الجبوري





السؤال



ملخص السؤال:

فتاة لديها مشكلةٌ في تضييع الوقت، وتريد حلًّا لتحافظَ على وقتها من الضياع بسبب شرود ذهنها.



تفاصيل السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا فتاة عمري 24 عامًا، مشكلتي باختصار هي: عدم القدرة على تنفيذ مخططاتي التي أضعها لعدم تضييع الوقت.




المشكلةُ ليستْ في كيفية وضع المخطط، فالحمد لله لديَّ من القدرات ما يكفي لدراسة وضعي ووضع مخطط يُلائم احتياجاتي؛ لأني مُطلِّعة على العديد من الكتب والمقالات المختصة في التنمية البشرية وتسيير الحياة بصفة عامة؛ فأضع أولوياتي، وأحدد مضيعات الوقت، وأضع أوقات للترفيه والراحة، وفي كل مرة أجدِّد المخطط حتى أصبح مثل الإدمان، والمشكلة أني لا ألتزم بالتنفيذ.




جربتُ العديد من الطرق والمخططات، لكن لم ينفعْ معي أي منها، وأنا حريصةٌ على عدم تَضْيِيع الوقت؛ لأن لديَّ العديدَ مِن الالتزامات.




قديمًا وقت دراستي في الجامعة كنت أسهر الليالي، وأنَفِّذ كل أعمالي، لكن بعد توجُّهي للحياة العملية كأستاذة، أشعُر أني غير مُسيطرة على نفسي في تنفيذ أعمالي الباقية، بل أبقى طول الوقت لأكثر مِن 3 ساعات شاردةً في أمور أخرى؛ كالتفكير في المستقبل، وأشياء ليس وقتها الآن، حتى أرى أن الوقت قد انتهى، ولم أُنجزْ أعمالي الضرورية.




أرجو مساعدتي في إيجاد حلٍّ لهذه المشكلة، وبارك الله فيكم


الجواب



ابنتي الكريمة، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

يُسعدنا أن نرحب بك في شبكة الألوكة، سائلين المولى القدير أن يُسددنا في تقديم ما ينفعك وينفع جميع المستشيرين.




رغم أنَّ التراخي في أداء الواجبات والالتزام بالمسؤوليات يُعدُّ مِن العوارض التي تُزعج الكثيرين لعدم رغبتِهم في الاستسلام لها، لكن أسبابها في العموم تختلف باختلاف الأشخاص واختلاف ظروفهم، وأجد أنكِ يا عزيزتي قد اقتربتِ من السبب في إشارتكِ إلى شرودك طويلاً بأمورٍ تتعلق بالمستقبل، رغم أنها ليستْ في أوانها، وفقًا لوصفك لها.




وبحسب ما يَتبيَّن من سياق رسالتك أن أمر شُرودك يعتبر عارضًا جديدًا عليك، وأنه لم يكنْ يَنتابُك؛ لذا كنتِ أكثر التزامًا في السابق، وهو أمرٌ لا بُدَّ مِن وقوفك عنده، ويتطلب منك التفكير في المُستجدَّات، والعوامل التي دفَعَتْك للانْجِرار إلى تلك الأفكار التي ألقتْ بظِلالها عليكِ سلبًا.




ففي أغلب الأحيان يكون الاستماعُ لأحاديث من الأصحاب أو غيرهم من المحيطين هو السبب في إثارة انتباهك لها، كما قد يكون الأمرُ مُتعلقًا بأحداثٍ ومُتغيِّرات اجتماعية أو اقتصادية أو غيرها؛ ولذا لا بد لكِ مِن التعرُّف على المصدر أو المصادر التي تثير في نفسك تلك الأفكار، وإبعادها عنك، مِن خلال عدم مجالسة مثيريها أو الاستماع إليهم، فإنَّ مثلَ تلك الأفكار لا يقتصر أثرها السيئ على دفْعِك للشرود الذهني الطويل فقط، بل إنها تُثير فيكِ مشاعر القلق والتوتر وربما الإحباط أحيانًا، وهي عواملُ تُحبط همَّة الإنسان وتثبط عزيمته ودافعيته نحو الإنجاز، كما أنصحك في الوقت نفسه بتحرِّي الرفيقات المعروفات بدافعيتهنَّ نحو الإنجاز والتفوق؛ فإنَّ لذلك أثرًا مُهمًّا في إثارة الهمَّة والإصرار في نفسك، لا سيما وأن شخصيتك بالفعل تتميَّز بتلك الصفات.




كذلك أنصحك بتهيئة تفكيرك ليلًا قبل النوم بما ستقومين به في اليوم التالي مِن واجباتٍ، على أنْ يكون تفكيرك بها بشكلٍ يُثير اندفاعك ورغبتك على أدائها، ومن الضروري - وخاصة في الفترة الأولى - عدم الاضطلاع بواجبات كثيرة في نفس الوقت؛ تفاديًا للملَل والتعب، ومن ناحيةٍ أخرى فإن قيامك بنشاط محببٍ ومُرفَّهٍ لنفسك بعد قيامك بواجب أو بمجموعة من الواجبات، يُسهم كثيرًا في إبعاد الضجَر مِن القيام بها لاحقًا.




الشرودُ في أشياء ليس وقتها قد يكون بسبب مصاحَبة أناس وسماع كلامٍ منهم أو مِن غيرهم يُثير القلق فيما كانت الدراسة تشغلك عنهم، وهذه الأفكار لا تُسبب فقط الشرود، ولكن ربما تسبب القلق والإحباط؛ لذلك من المهم أن تبتعدي عن سماع هذه الأحاديث، وترافقي من تركيزهم على التفوُّق والنجاح، والتفكير في إنجاز أعمال اليوم التالي قبل النوم مع إثارة الدافعية تجاهه، واتباع أي إنجاز بأمر محبب يعدُّ تعزيزًا.





وأخيرًا، أختم بالدعاء إلى الله تعالى أن يصلحَ شأنك كله، ويُعينك على أمورك وينفع بك




وسنكون سعداء بسماع أخبارك الطيبة






أريد الزواج وغير قادر ماديا

$
0
0
أريد الزواج وغير قادر ماديا
أ. محمد شوقي





السؤال



ملخص السؤال:

شابٌّ يريد الزواج وليستْ لديه القدرةُ المادية على ذلك، حتى أثَّرَ ذلك على دراسته الجامعية، ويسأل: ماذا أفعل؟!



تفاصيل السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا طالبٌ جامعي في بداية العشرين من عمري، منذ خمس سنوات وأنا أفكِّر في الزواج ليلًا ونهارًا، مع أني لا أملك التكاليف المادية، وأعمل أعمالًا بسيطةً لا تُدِرُّ عليَّ دخلًا كبيرًا، حتى أثَّرَ ذلك على دراستي.




بحثتُ كثيرًا عن وظائف ذات دخلٍ مادي كبير، لكن ما وجدتُه لا يناسب طموحاتي التي أريدها.




أشيروا عليَّ ماذا أفعل؟


الجواب



وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

الأخ الفاضل، نرحِّب بك في شبكة الألوكة، ونشكر لك انضمامك لها، داعين الله تعالى أن يُسددنا في تقديم ما ينفعك، وبعدُ:

فلا شك أن الزواجَ مِن الأمور التي تُؤدي إلى الاستقرار النفسي والذهني، وقد حثت الشريعةُ المُطهَّرة على ذلك؛ فقال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ [الروم: 21]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج...)).




ومن ثَم لا أنكر عليك أبدًا التفكير فيه مِن أجل الاستقرار، لكن الاستغراق في التفكير حتى يكون الزواج شغلك الشاغل، وهو الهدف الأساسي مِن الحياة، فهذا ما أعارضك فيه أخي الكريم؛ إذ ذلك سيؤثر عليك بصورة سلبية من نواحٍ عدة؛ منها: أنه سيجعلك تُفكِّر في النساء والشهوات، وسيُعطلك عن طموحاتك وأهدافك التي كنتَ تخطط لها...، وغيرها من الأمور التي تعطل مسيرة حياتك، وهذا ما حدث عندما تأثرتْ دراستُك الجامعية بعملك، فقصرتَ فيها على حساب اهتمامك بالعمل من أجل الزواج!




أخي الكريم، الحياة ليستْ زواجًا فقط، وستعلم هذا بعدما تستقر وتهدأ نفسُك بعد الزواج مباشرة، وما أشير عليك به الآن أن تنتبه لدراستك أولًا؛ فهي سبيلُ التفوُّق سواء مِن الناحية المالية أو العملية، ثم لا بأس مِن البحث عن عمل أثناء دراستك لكن ليس مِن أجل الزواج، ولكن مِن أجل الإنفاق على نفسك، وتفوقك الدراسي، ثم إذا أنهيتَ دراستك فعليك أن تبحثَ عن زوجة صالحةٍ تعينك على أمور دينك ودنياك، فهذا هو الهدفُ الأول، وحتى لا أطيل عليك في كيفية الاختيار انظر مقال: أسس اختيار الزوجة، واستشارة: اختيار الزوجة، ففيها كيفية اختيار الزوجة.




وإن وجدتَ في الوقت الحالي - أعني: أثناء دراستك - فتاةً فيها الصفات السابق ذكرُها، فلا بأس مِن التقدم لأهلها، وعرض ظروفك عليهم بكلِّ صراحة ووضوحٍ، وإخبارهم أنك ما زلتَ طالبًا، فإن قبلوا فبها ونعمت، وإن لم يقبلوا فاجتَهِدْ في دراستك حتى تتخرج، ثم بعد الانتهاء عليك أن تبحثَ مرةً أخرى وستجد مَن تقِف معك وتُسعدك بإذن الله تعالى، ولا تتعجَّلْ فهذا مستقبلك.




وآخرُ ما أوصيك به قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب، مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغضُّ للبصر، وأحصن للفرج، ومَن لم يستطعْ فعليه بالصوم، فإنه له وجاء))؛ أي: حماية وصيانة من غلواء الشهوة، وشر المَنِيّ.




وفقك الله لكل خير، وأراح قلبك، وأزال همك، ورزقك زوجة صالحة







هل أترك عملي للتفرُّغ لتربية بناتي؟

$
0
0
هل أترك عملي للتفرُّغ لتربية بناتي؟


أ. فيصل العشاري





السؤال

أنا امرأة متزوِّجةٌ منذ عشر سنوات مِن رجلٍ مُلتزمٍ - والحمد لله, وعندي طفلتان: الأولى 8 سنوات، والثانية 4 سنوات، عملتُ لمدة عامَيْنِ في التدريس؛ بناء على رغبتي، ومُوافَقة زوجي، والآن أودُّ أن أتركَ العمل, لأبقى بجانب ابنتيَّ؛ كي لا يَشْعُرَا بتقصيرٍ مني كما السابق، لكن زوجي يَرْفُض أن أتركَ عملي، خاصَّة بعد أنْ حصلتُ عليه بصعوبةٍ, فهو يرى أنَّ هذه فُرصة في حياتنا لا يُمكن أن تتكررَ مرة أخرى، مع العلم أنه بتوقُّفي عن العمل ستزداد الديون وتتراكَم، علماً بأني أُسْهِم براتبي في مَصاريف المنزل، فماذا أفعل؟



أرشدوني.




الجواب

الأخت الكريمة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نشكر تواصُلكم وثقتكم في شبكة الألوكة .



سؤالك - أختنا الكريمة - يتعلَّق بموضوع التوازُن بين حقوق المعيشة الاقتصادية وحقوق الأسرة التربويَّة والأخلاقيَّة، وهو ميزانٌ دقيقٌ، بحاجةٍ لمزيدٍ مِنَ التحرِّي والضبط، ونحن نشيد بمُستوى التفاهم بينك وبين زوجك الكريم، والتعاوُن في بناء عشِّ الزوجية، والمُساهَمة في حَمْل العِبْء الاقتصادي بجانب الزوج، رغم أنَّ العمل ليس بواجبٍ عليك، وإنما هو محضُ تعاوُن منك مبنيٍّ على التفاهُم والانسجام.



لا شك أنَّ مَطْلَب تربية الأبناء مِن المطالِب المهمَّة والمُلِحَّة، بحيث لا تقتصر التربيةُ على مجرد رعاية الجسَد طبيًّا وكفايته مِن الطعام والشراب، بل التربية الأهم هي التربية الرُّوحيَّة والخُلُقيَّة، ورعاية الجوانب العاطفيَّة لدى الأبناء، وللأمِّ قِسْطٌ كبيرٌ في هذا الجانب، غير أنَّ هذا الأمر هو نسبيٌّ أيضًا، وليس هناك تحديدٌ مُعَيَّنٌ في هذا الأمر؛ فكم مِن أُمٍّ مُتفرِّغةٍ لأبنائها في البيت لا ينالون مِن تربيتها إلا نسبةً ضئيلةً، بينما قد تكون هناك أُمٌّ مشغولةٌ بوظيفةٍ صباحيَّةٍ، لكنها عند عودتها إلى أطفالها ولقائها بهم تعطيهم ما يستحقون مِن الرِّعاية العاطفيَّةِ، والاهتمام النفسي ما لا تعطيه تلك الأم!



إذًا سنخلص إلى مُعادَلةٍ مفادها: أنَّ التربية أمرٌ نسبيٌّ يعتمد على طريقة إدارة المنزل، وطريقة التواصل الوالدي مع الأبناء، وعليه فإننا نقترح عليك التالي:

- توافَقي مع زوجك على موضوع الاستمرار في عملك السابق؛ لتوفير الناحية الاقتصاديَّة، وحبذا لو تَمَّ تحديدُ هدفٍ معينٍ؛ كقضاء ديون، أو بناء منزل، أو إنشاء استثمار تجاري، وبمُجرد تحقيق الهدف الاقتصادي يُمكنك الرجوع بسلامٍ إلى المنزل بين بناتك لمزيد مِن العناية والاهتمام.



- التخطيط الجيد لموضوع تربية البنات في فترة الْتقائك بهنَّ، ويُمكن وضْعُ أهداف تربويةٍ شتَّى؛ مثل: زراعة قيمة تربوية مُعينة كل يوم - كالأمانة، والصِّدق - عبر حكاية قصة معهنَّ وما شابه، كما يُمكن توظيف مهاراتك التدريسية في هذا الجانب، على ألا يتحوَّلَ البيتُ إلى فصلٍ دراسيٍّ، وعلاقةٍ بين معلمة وتلميذاتها، بل أشعريهنَّ بعلاقة الأمومة، وإشباع الجانب النفسي لديهنَّ.



- بنتك الكُبرى في العادة ستكون مَشغولةً بدراستها في ذات الوقت الذي ستكونين أنت فيه مشغولةً بالتدريس، والبنتُ الصُّغرى يمكن إلحاقها بإحدى رياض الأطفال كذلك، وهذا عمليًّا يعني أنَّ وقت التربية سيكون لغيرك (للمدرسة) وليس لك، وسيبدأ وقتك معهنَّ مِن حين العودة من المدارس.



- تعلَّمي كيف تكسبين بناتك، وكيف تُقَدِّمين لهنَّ وجبةً نفسيَّةً مُشبعةً، عبر الاحتضان تارة، والتشجيع تارة أخرى، كما يمكنك تثقيف نفسك في هذا الجانب عبر القراءة والاطِّلاع، أو أخْذ دورات تخصصيَّة في مواضيع التربية، وإن كان هذا في الأصلِ جزءًا مِن ثقافة المدرس.




- برنامج التربية - بالطبع - لن تقومي به وحدك كأمٍّ، بل لا بُدَّ مِن مُشاركة الأب، فلكلِّ واحدٍ دورٌ لا يُحسنه الآخرُ! وما دام زوجُك متفهمًا لهذا الوضع، فسيكون خير مُعينٍ لك في هذه المهمة العظيمة.



نسأل الله تعالى أن يُوفِّقكما في تربية البنات، وأن يرزقكما عيشًا هنيئًا، ورضوانًا في الآخرة.






ضعف شخصيتي عند مواجهة الآخرين

$
0
0
ضعف شخصيتي عند مواجهة الآخرين


أ. سحر عبدالقادر اللبان



السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عمري 30 سنة، وقد كنتُ أعاني في المدرسة مِن قلة الأصدقاء، وعدم البحبوحة في التعامل مع الآخرين.

هذه المشكلة - كما يعلم الجميع - سببُها طريقة تربية الوالدين، والمعلمة التي درَّست لي مدَّة طويلة منذ الطفولة.

ليس هذا هو المهم الآن، المهم أني أُجرَح بسرعةٍ من مُعاملات الآخرين؛ فهذه تُبدِي استياءها من شيء فعلتُه، وأخرى تتكلم بغرورٍ، فأتأثر جدًّا مِن مثل هذه المواقف، وتأخذ حيِّزًا مِن تفكيري وطاقتي في كيفيَّة التعامل والرد على مثل ذلك.

ما دَفَعَنِي للكتابة هو أنني آخُذ دورة في اللغة الإنجليزية، وإحدى البنات الجدد أُعجبتْ بمكاني، وجاءتْ في اليوم الثاني، واستأذنتني في الجلوس فيه، ولم أُجِبْها، لكنها وبسرعة البرق جلستْ مكاني، وأنا أصبحتُ أجلس في مكان مُتْعِب للنظر، وغير مريح!

أريد استعادة مكاني، فكيف أتصرَّف مع مثل هذه المواقف؟ علمًا بأنني أحيانًا أتجنَّبها، وأحيانًا أدافع عن حقي، وأتساءل: لماذا لم تأخذ مكان المتحدِّثة اللبقة صديقتها؟ أو مكان تلك التي تعمل رئيسة قسم، التي تتضح قوة شخصيتها؟!

الذي أنوي فعله أن أذهبَ مبكرًا، وأجلس في مقعدي، ولكن لا أضمن أن تترصده وتجلس فيه في اليوم الثاني، أو أُفْهِمها أنني لا أرتاح في غيرِه، حتى لو أنها لم تحدثني أصلًا، لكن إن حدثتني فسأُواجهها، ولا أدري إلى أيِّ مدى ستمتد وقاحتها؟

علمًا بأنَّ مثل هذه المواقف تتكرَّر معي كثيرًا مِن أخواتي، فأصبر وأقول: إن المؤمن مُبتلًى.

أُريد توظيف ثقتي بالله في مثْلِ هذه المواقف، ولا أعرف كيف؟ لأنني أرتاح في القرب من الله - سبحانه وتعالى


الجواب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أهلاً بك - أختي - في قسم استشارات.

كثيرًا ما يردِّد بعضُ الأهل لأولادهم: "كونوا طيبين"، "لا تعاملوا مَن يظلمونكم كما يعاملونكم"، "سامحوا"، "اسكتوا" ، "لا تطالبوا بحقوقكم؛ فهذا عيبٌ".

وهكذا يكبر الأولاد وهم يظنون أن إظهار حقوقهم والمطالَبة بها أمر شائن، وأن الآخرين سينظرون إليهم على أنهم غير مؤدَّبين، أو طماعون.

للأسف الشديد هذه التربيةُ متفشِّية في مجتمعاتنا، ونربِّي أولادنا عليها، فكثيرًا ما نقول لهم: إن شكوا لنا أحدًا أخذ حقهم: ما لك وله، اترُكه لله، الله سيخلِّص لك حقك.

ونسينا تعليمهم أن ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر))، وأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، ونسينا أن نعلمهم أن صاحب الحق سلطان، وأنهم إن طالبوا بحُقوقهم فهم يُطالبون بأمرٍ مشروعٍ لهم، وإن تركوه فهم المخطئون، وهم إن لم يعملوا على أخذ حقوقهم والانتصار لأنفسهم لن ينصرهم أحد، وسيكونون في نظر الآخرين ضعفاء، من السهل التغلُّب عليهم والنيل منهم.

أختي الحبيبة، ليس عيبًا إن دافعتِ عن حقٍّ من حقوقك المشروعة، بل هو المطلوب، وليس عيبًا مُصارحة مَن تنجرحين منها ومعاتبتها، فالعتابُ غسلٌ للقلوب، وليس عيبًا أن تقولي رأيك في أي أمرٍ بصراحة، وأنت إن فعلتِ كلَّ هذا فأنتِ تستخدمين حقًّا مشروعًا لك، وتجعلين الآخرين يتورَّعون مِن الانتقاص من حقك، وأنت إن فعلتِ هذا فستشعرين أنك قوية، وإياك والخجل من الدفاع عن حقوقك، وتأكَّدي أنك ما دمتِ تطالبين بحقٍّ مشروع لك، فاللهُ لن يخذلك، وهو حليفك، وأن ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف))، وأن العفوَ عند المقدرة أن تكوني قادرةً على استرجاع حقك، لكنك سامحت وعفوت.


تحصَّني أختي بالله تعالى، واسأليه دائمًا أن يكونَ معك، ولا تخشي إلا هو، كوني مؤمنة قوية، وسترين كيف أن أمورًا كثيرة ستتغير في حياتك وفي نظرك.






دراستي وقهر أبي لي

$
0
0
دراستي وقهر أبي لي


أ. شروق الجبوري






السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كل الشُّكر للقائمين على هذه الشبكة المميَّزة.



لا أعلم ما أقول؟!



مشكلتي هذه سبَّبتْ لي الكثير مِن المتاعِب، لا أُخفي عليكم أنني أفكِّر في شرب المُسكِرات - الخمر وغيرها - نعم أفكِّر في ذلك؛ لأنسى ما أنا به، أعلم بأنَّ هذا الفعل محرَّم، وأنَّ هذا هُرُوب مِن المشاكل، لكنني تعبتُ!



كنتُ مِن المتفوِّقين في المرحلة الابتدائية, وانخفض مستواي في غمضة عين في المرحلة المتوسِّطة, لا أعلم إن كان ذلك بسبب خَلَلٍ في دماغي، أم لا! انخفض مستواي أكثر في الثانوية العامة, بسبب أصحاب السُّوء.



كنتُ في حفظ القرآن - منذ الصف الثاني الابتدائي وحتى الأول الثانوي - في المركز الأول أو الثاني، ثم بدأتُ أتغيَّر منذ المرحلة الثانوية؛ فتركتُ الحفظ بعد أن وصلتُ لـ(ثمانية عشر جزءًا), ونِسْبتي انخفضتْ كثيرًا؛ بعد أنْ كانتْ في الابتدائية في 90 %!



نجحتُ في الصف الأول الثانوي, واخترتُ تخصصًا علميًّا برغبتي, ونجحتُ في الصف الثاني - والحمد لله - أما في الصف الثالث فعندما رأتْ أمي نسبتي أصرَّتْ - بطريقة غير مباشرة - على أن أُعِيد السنة، فوافقتُ على ذلك, وأخبرتُ والدي, فنصحني بأن أكمل ولا أُعِيد السنة, لكنني أعدتُ السنة، لا أعلم برغبتي، أم لأرضي أمي؟



بدأت السنةُ الجديدةُ، وتفاجأتُ بأن مدرستي قد غيَّرت المناهج، المواد العلمية باللغة الإنجليزية, أخبرتُ والدي بأني أريد الانتقال مِن هذه المدرسة, فرفض! وتعقَّدت الأمورُ حتى أصبحتُ لا أريد إكمال الدراسة نهائيًّا!



رآني مُعَلِّمٌ كان يدرِّس لي السنة الماضية, وأشار عليَّ بأنْ أنتقلَ إلى مدرسةٍ أخرى؛ لأن المناهجَ تغيَّرتْ، وتحتاج إلى تأسيسٍ منذ البداية، فقلتُ له: إنَّ والدي رفض, قال لي: أحضرْه، وأنا أتفاهم معه, وسبحان الله؛ فسرعان ما أقنعه بكلمةٍ واحدة فقط, وكدتُ أبكي أمامه!



نقلتُ من المدرسة إلى مدرسة جيدةٍ لا بأس بها، تخرجتُ فيها بنسبةٍ أعلى, وبالطبع والدتي ليستْ راضية، ولكن لا يوجد حلٌّ أمامها, وأبي لا يهمه سوى النجاحِ فقط, لا يهتم بالنسبة أبدًا, والحمد لله على كل حال.



في المدة التي تركتُ فيها الدراسة - ليتني لم أسمعْ كلام والدتي - أُصِبْتُ بإحباطٍ بسبِبها وبسبب والدي, وأي عمل يطلبونه مني وأتأخَّر في أدائه - ولو لثوانٍ - يبدؤون في شتمي، وكنتُ حينما أسمع هذه الكلمات مِن إخوتي يكون الأمر عاديًّا، ولكن من أبي وأمي، فالأمر صعبٌ!



شعرتُ بعدها بأني فاشلٌ، ولا أستحقُّ العيش في هذه الدنيا، تمنَّيتُ أني لم أولَدْ.



بدأتُ السنةَ الجديدة بعد التخرُّج، وقد سجَّلتُ في الجامعة وقُبِلت فيها، ولله الحمد, أخبرتُ والدي بأني قبلتُ في قسم كذا، وسأدرسه لمدة ترمٍ، ثم أحوِّل إلى قسم آخر, كالعادة بدأ بتحطيمي، فقال: هذا التحويلُ يضيع مِن عمرك، فأخبرتُه بأني أستطيع أن أُنهِي الجامعة في أقل مِن أربع سنوات, لم يستمعْ لي, بدأتُ حينها أكذب عليه، وأخبرتُه بأني لا أُريد أنْ أُحَوِّلَ إلى أي قسم آخر, لكني سأحوِّل دون أن يعلمَ إلا بعد تخرُّجي!



بدأت الدراسة, وواجهتْني مشكلةٌ, وهي أني لم أتعلَّم قيادة السيارة, فكيف سأذهب إلى الجامعة؟ لدي إخوان كثر - ولله الحمد - سيُوصِّلونني إلى الجامعة، وأعود معهم، أو مع أحد أصدقائي, ولكن إلى متى ذلك؟



بدأ غيابي يزداد، فقلتُ لوالدي: سأُقدِّم اعتذارًا لهذا الترم؛ كي أتعلمَ القيادة, فترك لي الخيار، وحين قرَّرتُ أن أقدِّم الاعتذار أخبرتْني أختي بأن أمي قد حملتْ همًّا كبيرًا بسببي, فحزنتُ كثيرًا، لكن ماذا أفعل؟



طلبتُ مِن إخواني أن يعينوني على تعلُّم القيادة, ولكن للأسف تمنيت أن ليس لدي إخوة! تنازل لي أحدُهم عن سيارته, وقال: لا أملك الوقت لتعليمك, توفَّرت السيارة ولكن ما مِن معلِّم! ولم يتبقَّ على الترم الثاني إلا أسابيع معدودة، ولا أستطيع القيادة!



جاءني أبي قبل أيام وقال لي: لقد ضيَّعت عمرك, اتركِ الجامعة، وسجِّل في الكلية التقنية، فهي قريبة مِن منزلنا، وتستطيع الذهاب مشيًا إذا لم تجدْ أحدًا يُوصِّلك, فقلتُ له: سأفكِّر, فكرتُ وفكرت، ولم أعرفِ الرأي الصواب.



أبي حطَّمني في كل مجال! حتى التدريس، يقول: إنك لا تنفع للتدريس لأنك قصير القامة، فهل هذا صحيحٌ؟



أنا أريد أن أصبح دكتورًا في جامعة، وأمي مُصِرَّة أيضًا على ذلك، ولكن أبي إذا لم أسمعْ كلامه فسوف يُغَيِّر تعاملُه معي؛ بمعني: أنه لن يساعدني في أي شيء قبل تسجيلي في الجامعة، قال لي: لا تُسَجِّل في الجامعة، أنت لا تُحْسِن قيادة السيارات، والجامعة بعيدةٌ، سَجِّل في الكلية التقنية؛ فهي قريبةٌ منا! وأصبح يقول لي: لو سمعتَ كلامي لكان خيرًا لك، ولم تكنْ لتضيع عمرك.



وعدتُ أبي بأن أردَّ عليه, ولكنني إذا استمررتُ في الجامعة، فلن يهتمَّ بأمري, وإذا سمعتُ كلامه فبالتأكيد سوف يبذل جهدَه لتعليمي القيادة.



ليته يُرغمني على الالتحاق بكليةٍ لا أرغب فيها بالضرب، وليس بالتعامل الجاف، ومن الصعوبة أن أقنعَ أبي؛ لأني ما زلتُ في عينه طفلًا صغيرًا، لا يعرف مصلحةَ نفسه!



أرجوكم أريد حلًّا لمشكلتي! ماذا عليَّ أن أفعل؟




الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم



ابني الكريم، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

نحيِّي انضمامَك إلى شبكة الألوكة، ونسأل الله تعالى أن يُسَخِّرنا ويُسَدِّدنا في تقديم ما ينفعك وينفع جميع المستشيرين.



كما أحيِّي توجُّهك للمختصين بالسؤال عنْ حلٍّ لمشكلتك، وعدم استسلامك للوضع النفسي والأسري والأكاديمي، والذي يبدو أنك لا تشعر فيه بالرِّضا.



ابني الفاضل، مِن خلال استقرائي لرسالتك وما تضمنتْه مِن عبارات، وأسلوبك في وصْفِ بعض المواقف؛ أستشفُّ وُجود بعض الإخفاقات في تفسيرك لأفعالٍ ومواقف المحيطين بك، ولا سيما أفراد أسرتك، وقد أدَّتْ تلك الإخفاقات إلى تكوين انطباعات وأفكارٍ سلبيَّة لديك تجاههم، ثم تجاه نفسك، فأصبحتَ تُفَسِّر ردود أفعال والدك (بالقهر)، وتفسِّر عدم دراستك للنتائج قبل اتخاذ قراراتك (بالفشل)، وما إلى ذلك.



فلو كان والدك (يقهرك) كما تتصوَّر، فلماذا لم يصرَّ على إعادتك لمرحلة الثانوية، ويجبرك قسرًا على الانتقال للكلية القريبة مِن مسكنك، أو يرفض قطعًا تأجيلك لهذا الفصل الجامعي، وغير ذلك من الشواهد التي تضمَّنتْها رسالتك؛ فوالدُك - يا بُنَيَّ - لا يتَّصف بالاستبداد برأيه، ولكن لديه رؤية معيَّنة عن أسلوب اتخاذك للقرار السليم فيما يواجهك مِن مشكلات حياتية أو أكاديمية، بدليلِ اقتناعه بنقلك مِن مدرستك بعد أن بيَّن له أستاذُك ضرورة ذلك، وعدم اقتناعه بأسلوبك في طرْحِ المبررات، رغم قولك بأنك: (كدت تبكي!)، وكأنَّ أسلوبك تمثَّل في التوسُّل والإلحاح بدَل تقديم الحجة والبراهين.



ويبدو ذلك الموقف مُشابهًا لموقف أبيك اليوم مِن قرارك بتأجيل هذا الفصل، فصحيح أنَّ أمر تعليمك قيادة السيارة مهم، لكن اتخاذك القرار بتأجيل فصلٍ دراسي كامل لأجل التدرُّب عليها - بدون تهيئتك لأشخاص يضطلعون بذلك - لم يكنْ بالتأكيد قرارًا حكيمًا، ولم يتم حساب نتائجه جيدًا؛ إذ كان بإمكانك - مثلًا - الاستمرار في الدراسة والتفوُّق وإثبات جدارتك فيها هذا الفصل، ثم استثمار وقت العطلة بالاشتراك في معهد تعليم قيادة السيارات، وحينها كنت سترى بالتأكيد رأيًا ودعمًا مختلفَيْنِ من والديك وأهلك جميعًا.



أما الآن، فأجد أنَّ أمامك خيارين لإكمال دراستك الجامعية، ويعتمد كلٌّ منهما على فهمِك الصائب لآراء والديك ودوافعهم الحقيقيَّة، وعلى مدى صبرك وإصرارك في تحقيق أهدافك:

فالأول هو التسجيل في الكليَّة القريبة مِن منزلِك، واختيار تخصص قريب لما ترغب فيه، ثم اجتهادك في الدراسة والتفوُّق؛ لاستعادة ثقة والديك السابقة بك وبقدراتك الموجودة حقًّا لديك، كما يُمكنك تعلُّم مهارات القيادة أثناء العطل، أو بعد التخرُّج، وبعد ذلك يُمكِن لك الالتحاق بجامعة تكمل فيها دراسة البكالوريوس بتخصص يُقارب ما تميل إليه نفسُك.




أما الخيارُ الثاني، فهو إكمال دراستك الجامعيَّة الحالية، والصبر على ما يمكن أن تُواجهه مِن ردود أفعال مِن قِبَل والدك، الذي يمكن تغيير انطباعه عنك بسهولة عند رؤيته تفوقك واجتهادك، وإصرارك على المواصَلة دون شكوى أو تقديم المبرّرات.



وأخيرًا، أختم بالدعاء إلى الله تعالى أن يصلح شأنك كله، ويجعلك من البارِّين، وينفع بك، وسنسعد بعودتك بأخبار طيِّبة.






التنبيهات في التصحيفات والتحريفات (3)

$
0
0
التنبيهات في التصحيفات والتحريفات (3)
الشيخ فكري الجزار






التنبيهاتفي التصحيفات والتحريفات













(كراس 3)







تصحيفات مجلة "جذور"



1 - جاء في مجلة "جذور"[1] (17[2]/ 81):



"فإذا رجع الباحث إلى تواريخهم المظلمة، وجدها تنطق بالغدر والحقد والكيد"[3].







قلتُ: لا تستقيم العبارةُ هكذا؛ إذ لو كنَّا نعرفُ أنَّ تواريخَهم مظلمةٌ فكيف نطمع أنْ نجِدَ فيها وفاءً أو تسامحًا، أو إيثارًا؟! التواريخُ المظلمةُ ليست مظِنَّةً لهذه القيم والمعاني الجميلة.



فالصواب: "فإذا رجع الباحثُ إلى تواريخهم وجدَها مظلمةً، تنطق بالغدر والحقد، والكيد".







تنبيهٌ أول:



وضع (الفصلة) بعد قولِه "المظلمة" لا يصحُّ؛ لأنَّ ما بعدَها شديدُ التعلُّقِ بما قبلها.







فالصواب:



"تنطق بالغدر، والحقد، والكيد"؛ لأنها مفرداتٌ معطوفةٌ[4].







تنبيهٌ ثانٍ:



كُتب على غلاف المجلة: "فصلية تعني بالتراث وقضاياة" أمَّا "تعني" فتحريفٌ.



والصواب: "تُعْنَى".







وأمَّا "قضاياة" فخطأ.



والصواب: "قضاياه"، آخره هاء، لا تاء مربوطة[5].







2 - قال نفسُ الكاتب في نفس الموضع[6]:



"وناهيك بمن يبذل نفسَه تضحيةً رخيصَةً في سبيل صديقه".



قوله: "تضحيةً رخيصةً" لا يصح؛ فالتضحيةُ غاليةٌ مطلقًا، لا تكونُ رخيصةً أبدًا، إنما (الرخيص) ما يُضَحِّي به الإنسانُ - نفسُه، أو مالُه، أو غيرهما.







وقد لا يكونُ المُضحَّى به رخيصًا في ذاته (كالمال)، وقد لا يكون رخيصًا عند صاحبه (كالنفس)، لكنه يكون رخيصًا بالنظرِ إلى المُضَحَّى من أجلِه، كمن يطلب الشهادة في سبيلِ اللهِ.







فالصواب:



"وناهيك بمن يبذلُ نفسَه رخيصةً فِداءً لصديقِه".







وقلت: "فِداءً لصديقِه" لبيان المرادِ؛ إذ إنَّ قوله: "في سبيل صديقِه" غيرُ كاشفٍ عنِ المرادِ - فيما أرى.



ولا يُقال بأنَّ "تضحيةً" حالٌ منَ (البَذْلِ)؛ لأنَّ البَذْلَ في ذاتِه فيه دلالةٌ على الجودِ بما غَلَا، ففيه معنى التضحيةِ، فلا حاجةَ لذكرها. واللهُ أعلمُ[7].



♦ ♦ ♦







3 - وقال نفس الكاتب[8] في نفس الموضع[9]:



"ولقد تألقت في عصر ابن المقفع كواكبُ لامعةٌ في سماء الأدب، وكانت صلته بها صلةُ مودةٍ وحبٍّ، فهو صديقُ الجميع".



قولُه: "بها"، قد يصح على إرادة الكواكب، لكنه لا يصح مع قوله: "فهو صديقُ الجميع"؛ فإنَّ الكواكب لا تُصادَق، إنَّما يُصادَقُ مَن شُبِّهوا بالكواكبِ.



فالصواب: "بهم"، وبها يتَّسق الكلامُ.







4 - وقال[10]: "ألَا يكون الجمعُ بين صداقة الأضداد مما يُحدث لديهم الريبة في نفسِ عبدالله؟".



قوله: "نفس" أراها زائدة؛ إذ إنَّ (الريبة) قد تحدُثُ في نفوسِ (الأضداد) من صنيع ابن المقفع لما جمَعَ بين صداقاتهم.







ولا يُعقلُ أنْ تحدثَ (الريبة) في نفسِه هو؛ لأنه هو الذي جمَعَ بين صداقاتِهم. فهل يرتابُ في فعلِه، أو في نفسِه؟!



ولا يقالُ: أراد "في شخص عبدالله"؛ لأنَّ هذا القيدَ لا يقيدُ شيئًا في هذا المقام.



إنما قد يُقال: أراد "في عبدالله نفسِه"، تأكيدًا؛ لأنَّ التركيب المذكورَ لا يدل على هذا الاحتمال.







والصواب:



إمَّا: "...الريبة فيه"، وإمَّا: "في عبدالله"، وإمَّا: "في عبدالله نفسِه"[11].



♦ ♦ ♦







تصحيفات مجلة "الأحمدية" (1)



قال[12]: "وقد ينتج عن إخفاق الشعب الجزائري في المقاومة المسلحة... حالة من الركون والارتباك... لكنها لم تصل إلى حالة اليأس، والتراجع، والاستسلام، والقبول بالأمر الواقع، إلَّا لالتقاط الأنفاس...[13]"[14].







قوله: "لكنها لم تصل إلى حالة اليأس... إلَّا لالتقاط الأنفاسِ، والبحث عن أسلوب أكثر نجاعةٍ"، لا يصح؛ لأنَّ مَن يئس فقد توقف فكرُه، وانقطع أملُه.







ولذلك، تجدُه قد وقع في "الاستسلام، والقبول بالأمر الواقع"، فلا تراه يفكِّر في تغيير هذا الواقعِ الذي قهَرَه.



وكذلك من وصَل إلى "حالة التراجع"، قد تراجَع عن الطريق التي كان يراها حلًّا لمشكلته.







لكنَّ هذا الذي تراجَعَ عمَّا كان يراه حلًّا لمشكلته لا يخلو من أحد رجلينِ:



الأول: رجلٌ لم يجد فهمَه أو تَصورَه للحلِّ نافعًا، فرأى أنه لا بد من الاستسلام والخضوع.



الثاني: رجلٌ اقتنع بعدمِ جدوى ما كان يراه حلًّا، لكنه لم يَرَ ذلك نهايةً، بل لا بد أن يبحث عن حلٍّ آخر.



وهذا الثاني لا يستسلم، ولا يرضَ بالأمرِ الواقع. بل هو الذي يترك ما كان عليه بحثًا عن غيره مما قد يكون حلًّا.



لذا، لا يصحُّ هذا التعبيرُ بحالٍ.







وقال[15]: "وقد أسفرت عملية فرز وتصنيف اتجاهات الحركة الوطنية.... إلى الاتجاهات الرئيسية الكبرى الآتية:..."[16].



قولُه: "أسفرت إلى" لا يصح.



والصواب: "أسفرت عن".



أو: "أدَّت إلى".







وقال: "...فقد شَغَلَت مشكلةُ التخلفِ... جُلَّ كتاباتِه، فعكف يَدْرُسها دراسة علمية مركزة..."[17].



قولُه: "شغَلَتْ كتاباتِه فعكف يَدْرُسُها"، لا يصح بحالٍ؛ فإنَّ البَدَهيَّ أنَّ الإنسانَ يعكُفُ على الدراسة، والتحليل، أولًا. فإذا انتهى منَ الدراسة، كتبَ ما يراه نتيجةً صحيحةً لدراسته.







وقال: "لأنهم[18] تنسَّموا عبيرَ نمطٍ ثقافيٍّ وروحيٍّ متشابهٍ..."[19].



قوله: "نمطٍ متشابهٍ"، لا يصحُّ؛ لأنَّ التشابُهَ إنما يكون بين "أنماط"، أو عدةِ أشياء.



أما الشيء الواحدُ، أو "النمط الواحد" فإنما يُقال له: "متجانس، ومتناسق"، كما قال الباحث في نفس السطر.







وقال[20]: "... يعني أن يكون المجتمع فاعليًّا"[21].



قولُه: "فاعليًّا"، غريبٌ.



والصواب: "فاعلًا".







وقال: "... والدليلُ الأكيدُ على ذلك[22] انتصار[23] الفكرة الإسلامية القرآنية في الجزيرة العربية، التي أعقبها انتصارٌ حضاريٌّ شاملٌ لتلك الأمةِ المتخلفة"[24].







قولُه: "الأمة المتخلفة" لا يصحُّ؛ لأنه يجعلُ التخلُّف صفةً ثابتةً، وأنها قد بقيت مع "تلك الأمة".



والصواب: "التي كانت متخلفةً".



أو: "بعد تخلُّفها"، مثلًا.







قلت: ولا أراه يصح الاعتذار بقوله: "لتلك" على إرادةِ "التي كانت"؛ لأنَّ "تلك" في هذه المقامِ تُفيدُ مطلقَ البُعدِ في الزمانِ، فتحتملُ الأمرين:



1 - المسلمون في زمان ازدهارهم، قبلَ ألفِ عامٍ.



2 - العربُ قبلَ الإسلامِ.



فلا بد من التحديد.







تنبيهٌ:



هذه العبارةُ نقلها الباحث عن كتاب "مالك بن نبي مفكرًا إصلاحيًّا" - أسعد السحمراني - دار النفائس - بيروت - ط أولى (1986م)[25].



♦ ♦ ♦







قال[26]:[27] "أمَّا الحمام[28] فما معنى الحديث عنه وقد أصبح شيئًا من الماضي، وتحوَّل إلى حجرةٍ في كلِّ منزل، ولم يعد هناك منشأة متكاملة، ذات بيوت، وطقوس، وغايات"[29].







قولُه: "هناك"، لا يصحُّ؛ لأمرين:



الأول: ظهورُ عَوْدِ، أو تعلُّق "ولم يعد" بالحمام.



الثاني: أنه لا معنى لها في السؤالِ، إذ إنه ليس سؤالًا عن تطورِ الحمام.



فالصواب: حذف "هناك".







وقال: "فإنَّ ابن فارس يرى... لأنه متشعِّب الأبواب جدًّا، وقد نصَّ من هذه الأبواب على خمسة:..."[30].



قوله: "وقد نص من هذه الأبواب على خمسة". لا يصحُّ.







والصواب: "وقد نصَّ على خمسةٍ منها".



أو: "وقد نصَّ على خمسة من هذه الأبواب".



لكنَّ هذا الثاني ضعيف؛ لقُرب ذِكر "الأبواب"، فالأولى هنا الضمير.







وقال: "فثمة حمامات مثلًا لا تدور لا تتحرك بها الماء..."[31].



قوله: "لا تتحرك"، لا يصح؛ لأنَّ الماء مذكَّرٌ.



والصواب: "يتحرك".







وقال[32]: "... وهي مكتوبة بقلم يميل إلى النسخ، خالٍ من الضبط، به تجاوزات إملائية، خالٍ من الضبط"[33].



قولُه: "خالٍ من الضبط"، مكررٌ[34].







قال[35][36]: "وقد تبدَّت المقارنة[37] في اقتران تجاهل العارف بأسلوب التعطُّف، واندماجهما في سياقٍ واحدٍ؛ لأنَّ معنى المقارنة - عند القوم - أنْ يقترن بديعان في كلمة من الكلام".



وقال في التعليق: "يثيرُ مصطلح (المقارنة) إشكالات منهجيةً. ولعل من أطلقه يقصد الاقتران..."[38].







انظر إلى قول الباحث - في الأصل: "اقتران"، "اندماجهما"، مع ما نقله من قول ابن أبي الأصبع: "أن يقترن بديعان...".



ثم انظر إلى قوله في التعليق: "لعل مَن أطلقه يقصد الاقتران".



هل ينسجمُ القولان؟! أم قد غَفَلَ الباحثُ؟!!







وقال[39]: "كما أشار السَّكَّاكي إلى أسلوب التعريض... وأما النظر إلى الآية من جهة عِلم المعاني، فقد أفاض السكاكي...



♦ ♦ ♦







وبخصوص الفصاحة المعنويَّة واللفظية، تحدَّث عن... وفي ثنايا حديثه المطوَّل، يقف الدارسُ على إشارات تخُص فنون البديع، مثل...



ولم يتجاوز هذا الحدود، لأنه حرَصَ على اكتناه أبعادها الدلالية ممَّا أفاض في بسطه في جانبي البيان والمعاني"[40].







قوله: "هذا"، لا يصح.



والصواب: "هذه"؛ لأنَّ الحديث عن المعاني التي تعرَّض لبيانها السَّكاكيُّ في تلك الآية.



ولا يُقال: قد أراد الباحث الإشارةَ إلى السَّكَّاكي. فإنَّ هذا لا يصح من وجهين:



الأول: أنَّ السياق لا يُساعدُه.



الثاني: أنَّ مثلَ السَّكَّاكي لا يُشار إليه بـ "هذا"، وبالأخصِّ أنَّه يُثنى عليه.







وقال: "...حرَص بعضُهم على الإكثار، والتنقيب على الشاهد المناسب، مما أفضى بهم إلى أنْ يصطنعوا فنونًا لا يعثرون لها على شاهدٍ من بيان القرآن"[41].



قولُه: "التنقيب على الشاهد"، لا يصح؛ لأنَّ "نَقَبَ على القومِ" أي: صار نقيبًا عليهم.







و"نَقَب في الأرض" ذهب فيها.



و"نقَبَ عن الشيءِ": بحث.



و"نقَّب" - بتشديد القافِ - في الكلِّ: مبالغة[42].



فالصواب: "التنقيب عنِ الشاهد".



وقولُه: "حَرَصَ بعضهم على الإكثار.... مما أفضى بهم على أن يصطنعوا فنونًا".



كيف بحثوا عنِ الشاهد ثم اصطنعوا فنونًا؟![43]







قال[44][45]: "... في كتاب "المباحث المشرقية في الإلهيات والطبيعيات"، للإمام فخر الدين الرازي، حيث يقول: "الحلقة التي يجذبُها جاذبان متساويان حتى وقفت في الوسط، لا شك أنَّ كلَّ واحدٍ منهما فَعَل فيها فعلًا معوقًا بفعل الآخر..."[46].



قولُه: "فعلًا معوقًا بفعل الآخر"، لا بد أن يُضبط "معوَّقًا"، على اعتبارِ المفعولية في "فعل فعلًا".







قلت: وهذا لا يصح من وجهين:



الأول: أنَّ أصلَ الفعل في اللغة إنما يُراد به الفاعلية، لا المفعولية.



الثاني: أنَّ هذا هو نفسُ معنى قانون "لكل فعلٍ ردُّ فعلٍ..."، إنما يُراد به الفاعلية.



فالصواب: "معوِّقًا لفعلِ"، لا "بفعل".







قال[47]، [48]: "إليكم معشر الآتين[49] أسوق هذه المجموعة النفيسة، التي هي كمرآة تتجلى لكم منها الحالة الاجتماعية، والسياسية، والحربية، والعلمية و[50]الأخلاقية، والعائلية، التي كان في عصر النبوة"[51].



قولُه: "كان "، لا يصح.



والصواب: "كانت"، أي: التي وُجدت. أو التي كانت موجودة.







قال[52] [53]: "وفاتحة الحديث أنه ما كان لتراثيٍّ أو مَعنِيٍّ بالتراث أن يقع في يده كتاب يحمل عنوان (تاريخ خزائن الكتب في المغرب)[54] حتى يقرأه"[55].







قولُه: "ما كان لتراثيٍّ... أن يقع في يده كتاب... حتى يقرأه"، لا يصح؛ لأمرين:



الأول: "أنْ"، تجعَلُ العبارة نفيًا، أو كأنها تحذيرٌ من هذا الأمر.



الثاني: "حتى يقرأه"، لا تصح في هذا السياق، لأنهم يقولون: "ما كان لفلان أن يفعل كذا حتى يفعل كذا" أي: حتى يكون قد فعل قبله كذا.







وقد يأتون بالفعلين في الماضي فيقولون: ما فَعَل كذا حتى فَعَلَ كذا.



فالصواب: "ما كان لتراثيٍّ... يقع[56] في يده كتابٌ يحملُ... إلَّا ويقرؤه"،



أو: "... ولا يقرؤه".



أو: "... دون أنْ يقرأه".







قال[57] [58]: "فالعلم بلغات العرب وغيرها بيِّنٌ بنفسِه عند مَن أنصف التأمُّلَ"[59].



قوله: "فالعلم بلغات العرب... بيِّنٌ بنفسِه"، لا أراه صوابًا؛ لأنه كان يتكلم عن "إن مدار الاستقامة وإصابة الجادة في تحصيل العلم بالمعارف الشرعية إنما يكمن في علم[60] اللغةِ آلةِ هذا التحصيل المعرفي"[61].







والعبارة المذكورة لا تؤدي هذا المعنى.



فالصواب: "فأهمية" أو "فضرورة العلم... بيِّنٌ بنفسِه".







قوله: "وغيرِها"، موهِمٌ؛ قد يُفهَم منه "غير لغاتِ العرب"، ولا يتفق هذا المعنى مع السياقِ، فدلَّ على أنه غيرُ مرادٍ.



والصواب: "وغيرِها من علومِ اللغة"؛ على أن المراد بـ "لغات العرب" لهَجَاتُهم.



ومع ذلك، أرى الأولى حذفُها.







قولُه: "أنصف التأمل"، غريبٌ، أو غير صوابٍ.



والصوابُ: "أَمْعَنَ التأمُّلَ".







وقال: "ولا غرو من أن..."[62]، لا أعرفه، ولعله يجوز.



لكنَّ المشهور: "لا غرو أن..."، بغيرِ حرفِ الجرِّ.







وقال: "وإنَّ مطمَحَ نظر الفقيه، وقصارى مجهودِه أنْ يرفع الأستار عن الحجب القائمةِ بين العلوم الشرعية في مستوى ألفاظها، ودلالتها، و[63]المستوى الإدراكي في تجلياته الذهنية"[64].







قولُه: "أنْ يرفع الأستار عن الحجب القائمة" لا يصحُّ؛ لأن معناه أنَّ غاية مراد الفقيه إنما هو إظهارُ هذه الحجب.



ومنَ المؤكد أنْ ليس هذا مراد الباحثِ؛ لأنه غيرُ صحيح في العقولِ أنْ يكون ذلك غايةَ مرادِ الفقيه، وبعد تحقيقها يترك مهمةَ الاستنباط لغيرِه. ومَن يكون غيره؟!







ثم، إنَّه لا يصح - أيضًا - بدليل قولِه بعده: "... بحيث تنقشع معاناةُ الفقيه في الاستنباط الشرعي".



فهل "تنقشع" بفعلِ غيرِه؟



أو يكون معنى "الفقيه" في أولِ الكلام غيرَ معناه في هذه العبارة الأخيرةِ؟



ليس شيءٌ من هذين صحيحًا.



والصواب: "أن يزيلَ الحجبَ..." مثلًا.







وقال: "ومن هنا تأتي ضرورة التبحُّرِ في علوم اللغةِ العربية إلى درجة الواجب..."[65].



قوله: "تأتي إلى درجة الواجب"، له وجهٌ



بمعنى: "تصل إلى".



لكنَّ الصواب: "تَرْقَى إلى" أو "ترتفع إلى".







وقال[66]: "إذ يرى[67] أنَّ "أصول الفقه بوصفِه العلم الذي يؤسِّس منهجيةَ الفقهِ الاستنباطية؛ وأنَّ أقربَها إلى النهوضِ بمقتضياتِه العلمية هو علم الأخلاق"[68].







قوله: "أن..."، لا تجدُ فيه خبرَ (أنَّ)، إلَّا بقدرٍ منَ التأويل، والتكلُّفِ، بأنْ نقول أن: "بوصفه"، تعني: "بما هو عليه"، أو: "بما هو موصوف به"، أو "معروف به".







وعلى هذا يكون الخبرُ: "العلم". أي: "هو العلم الذي يؤسس...".



ويبقى معنى العبارةِ غيرَ واضحٍ، أو مبهمًا. بل غيرُ تامٍّ.



والصواب: "أنَّ (أصول الفقه هو العلم...)".



أو نقدِّر في العبارةِ سقطًا.







وقال: "ذلك أنَّ النصَّ الشرعي لا يقف في مواطنَ كثيرةٍ عند حدود الإبلاغ أو الإخبار، إنما يتجاوز أسوارَ الخطاب المباشر إلى مستوى الخطاب العميق، الذي يحتاج في فك مغاليقه إلى خبرة لغوية"[69].







قولُه: "فك مغاليقه"، فيه أمران:



الأول: أنه لا تصح "مغاليقه" مضافةً إلى "النص الشرعي".



الثاني: أنَّ "مغاليقه" تحتاج إلى "فتح"، لا إلى "فك".







إنما "الطلاسم" هي التي تحتاج إلى "فك". وليس في الشرع طلاسم، أيضًا. فلا مكان لشيءٍ من كلِّ ذلك.



إنما الصواب: "فهم أسراره"، أو: "فهم مضامينه"، أو: "فهم ما خفي منه"، مثلًا.







وقال[70]: "إنَّ هذه العراقيل المذكورة أيضًا كانت سببًا مباشرًا في قراءات تراثيةٍ متضاربةٍ أحيانًا، ومتناقضةٍ في أحايينَ أخرى؛ لذلك أن سيطرة أسلوب (الموافقات) وما تحلَّى به من سقط في عبارات عديدة دفع بكثيرٍ منَ المهتمين بالتراث الأصولي إلى إنجاز دراسات يحكمها الهوى"[71].







قوله: "قراءات تراثية"، لا أعرفه، وإنْ كان ظاهرًا أنه يعني: "قراءاتٍ للتراث".



قولُه: "أن سيطرة أسلوب.... دفع..."، لا يصح.



والصواب: "سيطرة... دفعت".







قوله: "سيطرة أسلوب... دراسات يحكمها الهوى"، لا أدري أي "هوى" مع "سيطرة"؛ فإنَّ سيطرة لا تترك مجالًا لأيِّ "هوى"، إلَّا "هوى" المتابعة.



فهل هذا ما يقصدُ؟ لستُ أرى ذلك في عبارتِه.







قولُه: "وما تحلى به من سقط في عبارات عديدة"، لا يصح؛ فإنَّ "تحلَّى" لا تكون إلَّا فيما هو نافعٌ، ومفيدٌ، وجميلٌ.



وليس السقط، ولو لم يتكرر، في شيءٍ من هذه المعاني.



والصواب: "تجلَّى فيه".







قوله: "إنجاز دراسات يحكمها الهوى" لا يصحُّ؛ لأنَّ "إنجاز" لا تكون إلَّا فيما هو محمودٌ، وليس من "الهوى" ما هو محمودٌ، إلَّا ما كان في موافقةِ الحقِّ[72].



وليس هذا مرادًا للباحث.







وقال[73]: "ورغبةً منا في تقديم دراسةٍ منصفةٍ للموافقات، من خلال قراءة هادئةٍ، بعيدةٍ عن المبالغة في الوصف، أو الإغراق في الحشد، قد نقع على حقيقةِ مضامين الكتاب، وعلى كنه آلياتِه"[74].







قولُه: "ورغبة منا في تقديم... من خلال قراءة هادئة... قد نقع..."، غيرُ تامٍّ؛ لأنَّ "رغبةً في تقديم" تحتاج إلى ما ترتب على هذه الرغبةَ من مثلِ "قمنا".







فالصواب: "ورغبة منا في تقديم... قمنا بقراءةٍ هادئةٍ... قد نقع بها...".



أو: "ورغبة.... حاولت قراءته قراءة هادئة... التي بها قد نقع".



وبهذا تستقيم العبارة.







وقال[75]: "... وبعبارةٍ أكثر أمنًا فإنَّ عربيةَ القرآنِ موجِبةٌ لكلِّ مُهمٍّ أو إدراكٍ"[76].



قولُه: "أكثَرُ أمنًا" غيرُ معروفٍ، في مثلِ هذا الموطنِ؛ الذي هو تعريفٌ، أو تحديدٌ للمعنى المراد.



والصواب: "أكثر دقةً"، أو: "أكثر تحديدًا"، أو: "أكثر وضوحًا"، وما أشبَهَ ذلك.


3 - تصحيفات مجلة "جذور" العدد (17).


17 - تصحيفات مجلة "تراثيات" العدد (4).


35 - تصحيفات مجلة "الأحمدية" (العدد 21).









[1] فصلية تعنى بالتراث وقضاياه - النادي الأدبي الثقافي - جدة.




[2] ربيع الآخر 1425 / يونيو2004م.




[3] "الصداقة كما يراها ابن المقفع" محمد رجب البيومي.




[4] انظر: "التنبيهات في التصحيفات والتحريفات" فكري الجزار - القاهرة - مكتبة العلم - طبعة أولى (1420هـ/ 1999م).




[5] الساعة 7:15 بعد عشاء الخميس 18 القعدة 1425، 30/ 12/ 2004م.




[6] مجلة "جذور" (17/ 82).




[7] الساعة 8:37 بعد عشاء الخميس 18 القعدة 1425، 30/ 12/ 2004م.




[8] محمد رجب البيومي.




[9] مجلة "جذور" (17/ 89).




[10] السابق.




[11] الساعة 10:43 ليلَ الخميس 18 القعدة 1425، 30/ 12/ 2004م.




[12] د. أحمد عيساوي - أستاذ الدعوة والإعلام والفكر الإسلامي - كلية العلوم الاجتماعية والعلوم الإسلامية - جامعة باتنة - الجزائر - وُلد في تبسة بالجزائر (1957م).




[13] بحث "مالك بن نبي.. المفكر الإسلامي العالمي، الذي استشرف قضايا عصرنا".




[14] مجلة "الأحمدية" (20/ 259) - دار البحوث للدراسات الإسلامية - دبي - توزيع صحيفة الأهرام - القاهرة.




[15] د. أحمد عيساوي.




[16] (ص260).




[17] (ص264).




[18] يعني أبناء المجتمع الواحد.8




[19] (ص305).




[20] د. أحمد عيساوي.




[21] "الأحمدية" (20/ 309).




[22] يعني حتميةَ مصاحبةِ التفوقِ العملي التطبيقي للتفوقِ الفكري والنظري لأيِّ أمةٍ من الأمم.




[23] ليس الإسلامُ فكرةً، وليته سكت، أو وقف عند هذا الحد، لكنه زاد "القرآنية". وهذا كلامٌ خطيرٌ جدًّا.

انظر بيانه في "النبراس- التصور الإسلامي" - كراس 2/ 51" لفكري. مخطوط.




[24] وكان الفراغ من قراءة هذا البحث في الساعة 9:45، صباح الخميس 16 من القعدة 1427، 7/ 12/ 2006م، ولكن، لم يُيسَّر لي تدوينُه في هذا الكراس المختص.




[25] الساعة 8:33 بعد عشاء الثلاثاء 28 من القعدة 1427، 19/ 12/ 2006، بسجن الوادي الجديد.




[26] د. فيصل الحفيان - منسِّق برامج معهد المخطوطات العربية بالقاهرة، ورئيس تحرير مجلته، وباحث في قضايا التراث واللغة - ولد في حمص بسورية (1959م).




[27] بحث "الحمَّام في التراث الإسلامي على ضوء تحفة الأنطاكي".




[28] يعني الحمَّام العام، المعروفَ في كتب الفقه.




[29] مجلة "الأحمدية" (20/ 322).




[30] (ص324).




[31] ص (324).




[32] د. فيصل الحفيان - نفس البحث.




[33] الأحمدية (ص325).




[34] الساعة 9:50 بعد عشاء الثلاثاء 28 من القعدة 1427، 19/ 12/ 2006م، بسجن الوادي الجديد، وبعد فراغي من قراءة هذا البحث بأكثر من أسبوعين تقريبًا.




[35] د. محمد إقبال عروي - أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب - وجدة - المغرب - ولد في القنيطرة (1962م).




[36] في بحث "ظاهرة التكلف الاستنباطي في علم بديع القرآن"... دراسة تحليلية - مجلة "الأحمدية" (21/ 269 - 298). رمضان 1426 / أكتوبر 2005م.




[37] اصطلاحات بديعية، معرفةٌ في البحث.




[38] نقله الباحث عن ابن أبي الأصبع في كتابه "بديع القرآن" تحقيق - حفني محمد شرف - دار نهضة مصر (بدون تاريخ).




[39] د. محمد إقبال عروي.




[40] الأحمدية (21/ 280).




[41] الأحمدية (21/ 294).




[42] انظر: "القاموس المحيط" (2/ 981/ 1) و"مختار الصحاح " (نَقَبَ).




[43] الساعة 10:40 بعد عشاء الثلاثاء 28 من القعدة 1427، 19/ 12/ 2006م، بسجن الوادي الجديد بعد الفراغ من قراءة البحث بأسبوع كاملٍ، وعشرِ دقائق.




[44] د. أحمد فؤاد باشا - أستاذ الفيزياء (وقت كتابة هذا البحث) - جامعة القاهرة.

أما الآن (2006م) - فهو أحد وكلاء الجامعة، أو أحد نواب رئيس الجامعة.




[45] بحث "أساسيات العلوم الفيزيائية المعاصرة في التراث العربي.. دراسة تأصيلية".




[46] مجلة "تراثيات" (4/ 38) - (جمادى الأولى 1425/ يوليو2004م). مجلة محكمة ربع سنوية - مركز تحقيق التراث - دار الكتب والوثائق القومية - القاهرة.




[47] عبدالمتعال سالم عاشور - من رجال التعليم (كذا).




[48] نقلًا عن "التراتيب الإدارية" (80).




[49] يخاطب الآتين بعد زمانه.




[50] ساقطة.




[51] مجلة "تراثيات" (4/ 67).




[52] د. فيصل الحفيان - باحثٌ في قضايا التراث والعربية، ومُنسِّق برامج معهد المخطوطات العربية - القاهرة.




[53] بحث "تاريخ خزائن الكتب بالمغرب.. قراءة في كتاب د. بنبين" - مجلة "تراثيات" (4/ 135 - 159). د. أحمد شوقي بنبين - مغربي، محافظ الخزانة الحسينية (للكتب) بالرباط.




[54] (1424هـ / 2003م) عن الخزانة الحسينية بالرباط. نقله عنِ الفرنسية د. مصطفى طوبي (تلميذ د. بنبين).




[55] مجلة "تراثيات" (4/ 135).




[56] مجلة "تراثيات" (4/ 135).




[57] د. عزيز عدمان - أستاذ محاضر بكلية العلوم الإسلامية - جامعة الجزائر - ولد في الجزائر العاصمة (1965م).




[58] في بحث بعنوان "موقع المعرفة اللغوية في استنباط الأحكام الشرعية عند الشاطبي (ت790هـ) - مجلة الأحمدية" (21/ 17 - 96).




[59] مجلة "الأحمدية" (21/ 22) - رمضان 1426/ أكتوبر 2005م - دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث - دبي - توزيع صحيفة الأهرام القاهرية.




[60] يعني: تعلُّم.




[61] الفقرة قبل موضع التعليق مباشرةً.




[62] مجلة "الأحمدية" (21/ 22).




[63] يعني: وبين المستوى.




[64] مجلة "الأحمدية" (21/ 24).




[65] مجلة "الأحمدية" (21/ 24).




[66] د. عزيز عدمان.




[67] الباحث/ طه عبدالرحمن.




[68] نقلًا عن كتاب "تجديد المنهج في تقويم التراث" (ص75) - طه عبدالرحمن - المركز الثقافي العربي - الدار البيضاء - المغرب - (1994م).




[69] مجلة "الأحمدية" (21/ 36).




[70] د. عزيز عدمان.




[71] مجلة "الأحمدية" (21/ 39).




[72] كما في الحديث الضعيف: ((لا يؤمن أحدُكم حتى يكون هواه تَبَعًا لما جئتُ به))، ومعنى الحديث صحيحٌ.




[73] د. عزيز عدمان.




[74] مجلة "الأحمدية" (21/ 39).




[75] د. عزيز عدمان.




[76] مجلة "الأحمدية" (21/ 41).




[77] مجلة "الأحمدية" (21/ 43).




[78] (4/ 133) - مكتبة الأسرة (2006م).




[79] عطفًا على "بالمعاني".




[80] يعني الحالتين المذكورتين.




[81] مجلة "الأحمدية" (21/ 43).




[82] محقق "الموافقات".




[83] وما أراه إلَّا متابعًا للشيخ: عبدالله دراز، ولستُ مُقرًّا لرأيهما، بل أرى خلافه.




[84] كما نقله الباحث.




[85] د. عزيز عدمان، في نفس البحث.




[86] مجلة "الأحمدية" (21/ 47).




[87] "الموافقات" (3/ 347) - مكتبة الأسرة - ط (2006م).




[88] مجلة "الأحمدية" (21/ 49).




[89] يعني لا تكفي مرتبةُ المبتدئ في علم العربية لمن رام الاجتهاد في الشريعة.




[90] مجلة "الأحمدية" (21/ 52، 53).




[91] (4/ 94).




[92] مجلة "الأحمدية" (21/ 50).




[93] ويمكن أنْ يقول - مثلًا -: "في النص نجد - أو نرى - الشاطبي يرسم..."، أو: "يرسم الشاطبي في هذا النص ملامح"، أو ما أشبه هذا.




[94] "الموافقات" (3/ 357، 358).




[95] يعني في تفسير القرآن.




[96] مجلة "الأحمدية" (21/ 52).




[97] "الموافقات" (3/ 357، 358).




[98] مجلة "الأحمدية" (21/ 55).




[99] مجلة "الأحمدية" (21/ 56).





[100] د. عزيز عدمان.




[101] مجلة "الأحمدية" (21/ 61).




[102] ولا أدري كيف نال هذا الباحث درجة الماجستير عن "سورة الفرقان: دراسة أسلوبية"، أين عنده هذه الأسلوبية؟!!

لم أجد بُدًّا من هذا التعليق بعد حوالي عشرين صفحةً من التصحيفات.




[103] الساعة 9:37، بعد عشاء الثلاثاء 13 من الحجة 1427، 2/ 1/ 2007م، بسجن الوادي الجديد.









ديداكتيك اللغة العربية: إشكالية الرؤية والاحتواء، والتسويغ اللساني

$
0
0
ديداكتيك اللغة العربية: إشكالية الرؤية والاحتواء، والتسويغ اللساني
إلياس خاتري


اتَّجه اختياري لهذا الموضوع لأسبابٍ أجدها وجيهة بالمعنى العلمي، وأُجمِلُها أساسًا في بُعدينِ: الأول يتمثَّل في كثافة التنظير الديداكتيكي لتدريسية اللغات، والثاني في احتوائه على مجموعةٍ من الإشكاليات، تعمِّق سؤال التدريس وتبلوره في جهاز مفاهيمي تربوي وبيداغوجي متماسِك، يعيد النَّظر في سبل وطبيعة وسائل تدريس اللغة العربية.

وقبل الشروع في مقاربة الموضوع، أودُّ أن أشير إلى جملة من القناعات بصدد الموضوع المقترح للمداولة والمحاورة والنِّقاش، بين يدي القارئ بكل أنواعه: المستفيد والناقد والمنتج، وأهم هذه القناعات: أنَّ موضوع تدريسية اللغات مجال للوصف والتحليل والتطبيق والأجرة.

ونشير إلى أنَّ الأمر فيما يخص هذا الموضوع متعلِّق بقضية من أهمِّ قضايا التربية والتعليم، وهي "تدريسية اللغات"؛ حيث إنَّ أي تصور مهما بلغت دقَّته، لسانيًّا كان أو تداوليًّا أو سيكولوجيًّا، على مستوى فرضياته وتصوُّراته ومفاهيمه - لن يكتسب نجاعة في مقاربة هذه المسألة، إلَّا إذا كان متفاعلًا مع الآخر ومندمجًا معه؛ بدليل تسمية المجال ووسمه بـ "علوم التربية"، وليس علم التربية، هذا يعني أنَّ علمًا واحدًا عاجز عن مقاربة هذا الموضوع؛ نظرًا للمتن الذي يشتغل عليه، والمتمثل في الظاهرة الإنسانية، وهي ظاهرة معقَّدة؛ نظرًا لطبيعتها، كما تؤكِّد أبحاث علم النفس التعلم، وخاصة ما طرحه "كاستون ميالاري"، وبالتالي فإنها تحتاج أكثر من علم؛ لأنها ظاهرة متعددة ومتقلِّبة ومتغيرة، وتطبعها النسبية بامتياز، ولا مجال للدقَّة فيها؛ لذا كانت "علوم التربية" العبارة الأنسب للتعبير عن المكونات الأساسية لمعالجة هذا الموضوع.

وما دمنا في مستهلِّ هذه الدراسة، وقبل الشروع في مقاربة موضوعاتها، وجب أن نحدِّد في البداية مجالها الإبستمولوجي بالأساس؛ حيث يمكن أن ندرجها معرفيًّا في إطار ما يمكن أن نسميه بـ "تدريسية اللغات"، أو ما يسمى في الأدبيات التربوية بـ "ديداكتيك اللغات"، وبالضبط تدريسية اللغة العربية، وقد تجمَّعتْ حول هذا الموضوع حصيلةٌ هامَّة من المعارف والتجارب والدراسات، وألِّفت فيها مجموعة من الكتب والمقالات والرسائل الجامعية.

إن هذا الموضوع في رأينا يؤدِّي إلى تطوير الإمكانيات اللغوية، وتحسين توظيفها بالشكل المطلوب في العملية التعليمية التعلمية خاصة، والتواصلية التداولية عامة.

"ولكن ما ينبغي الإشارة له لرفع كل التباس محتمل، هو أن هذا التخصص له مجموعة من المشارب والمداخل، كونه مجالًا تتقاطع فيه مجموعة من العلوم؛ كاللسانيات، وعلم النَّفس، وعلوم التربية وغيرها؛ بل إنه يستفيد من كلِّ النتائج المحصل عليها في هذه المجالات وغيرها دون أن يفقد استقلاله النسبي"[1].

كما سنعتمد - كتوضيح منهجي - في هذا الموضوع على نتائج الخطاب اللساني، والبرهنة على إمكانات استثمار نتائجه، والإفادة من تجاربه الميدانية والنظرية لتجويد تدريس اللغة العربية.

"وغني عن البيان أن البحث اللساني الحديث يعدُّ اللغات الطبيعية نسقًا من الرموز والعلامات، تخضع لتحويلات، وهو المنظور الذي نميل إليه؛ ذلك أن من إشكاليات الكتابة اللسانية العربية الحديثة - حسب الفاسي الفهري - تصوُّرَ اللغة العربية فوق اللغات، أو اعتبارها لغة مقدسة، والحق أنَّ اللغة العربية من منظور لساني صرفٍ لغةٌ طبيعية.

ويقول الفاسي الفهري في هذا الصدد: ليست اللغة العربية كما يدَّعي بعض اللغويين العرب لغة متميزة تنفرد بخصائص لا توجد في اللغات الأخرى، ومن ثمَّة لا يمكن وصفها بالاعتماد على النظريات الغربية التي بُنيت لوصف اللغات الأوروبية؛ بل لغة كسائر اللغات البشرية"[2].

إنَّ تدريس اللغة العربية بكل مكوناتها [الصرف، النحو، المعجم، التركيب، الصواتة، الدلالة] له مكانه هامَّة في الدراسات اللسانية والتربوية والأدبية والديداكتيكية الحديثة؛ حيث عَرفت هذه الدراسات تطورًا هامًّا في الآونة الأخيرة، وفي هذا الصدد يشير "محمد الدريج" للتمييز في إطار بيداغوجيا التعبير - في علاقة بتدريس اللغة العربية - بين الدراسة الأدبية واللسانية في التدريس، والتي ازدهرتْ في الآونة الأخيرة بفضل مجهودات أساتذة كليات الآداب بالخصوص؛ حيث ساهمت بجلاء في التعريف بالعديد من المناهج الحديثة، في تحليل مكونات الدرس اللغوي العربي وتطويره ليلائم خصوصيات كل مكون، حتى يكون مضمونًا تربويًّا ناجعًا، يستجيب لكل المقومات الديداكتيكية في تدريسية اللغات ومكوناتها.

ومن هذه المناهج نجد المنهج البنيوي، والمنهج البنيوي التكويني، والمنهج السميولوجي، والمنهج الشكلاني، والمنهج الموضوعاتي... وغيرها، ورغم كل هذا، وإن كانت مقاربتنا تستفيد من كل هذه الدراسات، فإننا سنركز بالأساس على الجوانب التربوية الديداكتيكية واللسانية، التي تسعى جاهدة إلى تحسين أداء كل من المدرس والتلميذ؛ لاكتساب مهارات وتقنيات في تعليم اللغة العربية وتعلمها.

إن تدريسية اللغة العربية مسألة أراها تأرجحتْ بين النظرية والتطبيق، أو بين التنظير والتقعيد على المستويات الأدبية والتربوية الصفية، وبين التصور اللساني في الأجرأة والتطبيق والمقاربة، بالتركيز على اللغة ومختلف مقوماتها وآلياتها ووظائفها.

ويأتي التركيز بعد كل هذا على الجانب السيكولوجي للفرد ومحيطه السوسيوثقافي، وبتفاعل كل هذه المكونات تنبلج آليَّة ناجعة لتدريس كل معطيات الدرس اللغوي بشكل ديداكتيكي هادف ومتين ومنشود، يراهن على الجودة والتميز في الأداء التربوي.

إذًا، ما هي خصائص هذه المعطيات؟
إن الانشغال بسؤال التدريس ومعطياته يشكِّل بدوره سؤالًا قابلًا للتحليل والتأويل، ويتمحور منصبًّا كظاهرة بيداغوجية، تعبئ كل مواردها لمعالجة سؤال التدريس وهويته؛ ليستقرَّ كظاهرة تعليمية بالوجود والكينونة والتطور لا محالة، مما يجعل من موضوع التدريسية موضوعًا محكومًا بعدة روابط وشروط وخلفيات ومقاصد؛ أهمها كما يرى التصوُّر اللساني: الرابط التداولي التواصلي والوظيفي للغة في التعليم والتعلم، وبالتالي فإن المتتبِّع المتقصي لسؤال تدريسية اللغات، أو الساعي إلى سبر أغوار هذا الموضوع، أو الناظر للمشهد الجدالي حوله، لا يمكن إلا أن يتساءل بدوره:
ما علَّة تداخل وتقاطع مجموعة من العلوم والحقول المعرفية؛ من لسانيات وعلم اللغة وعلم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وبعض العلوم العصبية والفزيولوجية... في طرق التدريس؟

كيف يمكن للتدريس أن يدمج كل هذه المعارف، خدمة لسنده ومتنه، ومقصده وغايته الأساسية والرئيسة، وهي التربية والتعلم؟
وربما قد يذهب بهذا التساؤل أيضًا إلى أبعد من هذا، ليكون هاجسًا خفيًّا وجليًّا في الآن نفسه.

هل بالفعل تطرح مسألة التدريس كل هذه الإشكاليات؟ ومن جهة أخرى: كيف تتفاعل معها في ممارسة صفِّية علمية ومنهجية؟

لا تتغيا هذه الأسئلةُ المحورية - كما قد يبدو - تعقيدَ المسألة المدروسة؛ بل إلى تأكيد مصداقية الموضوع ومشروعيَّته وحيويته، وإفادته من كلِّ التجارب السابقة في مختلف العلوم؛ لأنه ببساطة يقع في نقطة تقاطع إستراتيجية بينها.

لكن طبيعة النقاش الذي طال واستطال حول هذه الظاهرة، هو أنها "تكاد في بعض الأحيان أن تفرغ من حمولتها الغنيَّة والنابضة والحيوية؛ حيث تكاد بعبارة أن تستظهر أسئلة وتستبطن الأخرى، كما تستحضر قضايا معينة للتدريس وتغيب الأخرى"[3]، سواء تعلق الأمر بتدريسية اللغات أو بعض مكوناتها؛ فإنَّ كلا الموضوعين متكاملان ومتفاعلان بينهما؛ حيث يوضح ويفسر بعضهم البعض الآخر.

وكل هذا يأتي تأكيدًا لضرورة الابتعاد والنأي عن التصور الشكلي والصوري والوصفي في بناء طرائق التدريس، والدعوة إلى الاهتمام بالأجرأة في العمل الديداكتيكي ورصد الجواهر والكوامن الثاوية خلف طرائق التدريس وإمكانية تجويدها؛ بالتركيز على الجانب السياقي والتداولي والنفسي بالخصوص، والاستفادة منها ومن تطوراتها؛ لتطور بدورها الإمكانيات الديداكتيكية في الممارسة الصفية.

إن الديداكتيك أو علم التدريس أو فن التدريس - وغيرها من التسميات التي تعود لاختلاف الترجمات حول مفهوم واحد - هو مدخل أساسي للوقوف على الكثير من الصعوبات النظرية التطبيقيَّة التي تعترض المتعلم في مختلف مراحل تعلمه، باعتماد ما يسميه "شوفالار" آلية النَّقل الديداكتيكي؛ حيث إنَّها في إطار تعلمه للغات تجعله قادرًا على تغطية سلسلة من الانتقالات الأفقية والعمودية، خاصة العامة، المجدرة والمحسوسة؛ أي: تلك العمليات التي يمكن العثور عليها؛ سواء في مجال التدريس بكل نماذجه، أو بتطبيق منهج من مناهج التحليل؛ إذ من البديهي أن تتعاقَب مراحل التدريس وتتراكم النتائج المحققة بواسطة هذا المنهج أو ذاك؛ ذلك انطلاقًا من النقل الديداكتيكي الذي يفرز أشكالًا من التحويلات المعجمية والتركيبية، تبلور طرائقَ تدريسية فاعلة لمكونات الدرس اللغوي بشكل جلي[4].

لكن ما ينبغي الإشارة إليه، هو أن هناك إمكانيات مهمَّة لتطوير هذا الدرس؛ وذلك باستثمار التفاعلات المتبادلة بين مختلف العناصر المتداخلة في العملية التعليمية التعلمية، مع الاهتمام بالأهداف العامة والخاصة لتدريس اللغات وإستراتيجيات التعلم والاكتساب.

لكن هذا الاستثمار يجب أن يراعي الشروط السيكولوجية والسوسيولوجية والثقافية المؤثِّرة في الفعل التربوي بصفة عامَّة، وتدريس اللغة العربية بصفة خاصة؛ حتى لا يصبح الحديث عن ذلك مجرد ادِّعاء زائف؛ لأنَّنا من منطق الدارسين والباحثين نعرف بطريقة أو بأخرى الظروف المؤطرة للممارسة الصفية العملية في تدريسية اللغة العربية ومكوناتها.

"كما ينبغي من منطلق ديداكتيكي للمشتغل بالتدريسية، الالتزام بسلم مرن يمكنه من إدماج المعطى السيكولوجي وكل مستجداته لتطوير طرائق التدريس، مما يمكن من بناء صرح بيداغوجي متين، على مستوى تدريس اللغات المستهدفة، وجعل التفاعل من وسائل الربط الناجعة بين ما هو مكتسب وما هو قابل للاكتساب"[5].

إذًا، هذا التصور يجعل من البيداغوجيا التفاعلية في تدريسية اللغات، إحدى الإمكانيات المقترحة لتطوير الدرس اللغوي وتثمينه بالشكل المطلوب؛ لأنها تستند على ديناميةٍ تجمعُ بين كل طرائق العملية التعليمية التعلمية.

ويمكن القول: إنَّ تدريس اللغة العربية من منظور لساني وظيفي، هو مشروع يراود كلَّ الباحثين والمشتغلين بمجال ديداكتيك اللغات، وهو طموح مشروع، يروم تطوير اللغة العربية، وجعلها مسايرة لكلِّ تطلعات المستقبل، مما يتيح القول صدقًا: إن المدخل الأساسي لتطوير تدريس اللغة العربية هو استثمار ما جاءت به اللسانيات الحديثة، مما يستدعي حوسبة معجم اللغة، والتقعيد لنحو جديد يدعو للاقتصاد في القواعد اللغوية الواصفة للنَّحو التعليمي.

هذا ما يستدعي حسب رأي الباحثَيْن "مصطفى بوشوك، وعلي أيت أوشان" وغيرهم - الجمعَ بين النظريات اللسانية وديداكتيك اللغات، إضافة إلى الجانب التطبيقي والميداني، لتشخيص صعوبات المتعلمين ورصد أخطائهم اللغوية؛ بغية تطوير مناهج وتطوير طرق تدريس اللغة العربية في مختلف الأسلاك التعليمية.

وهذا ما يستدعي من جانب آخر إعادة النَّظر في المناهج الدراسية، والتجديد في المقرَّرات، والاستجابة لما جاء به الكتاب الأبيض[6] في هذا المجال، وفق مقتضيات المنحى اللساني المتطور[7]، "ومن الإكراهات التي تعرقل المسار التدريسي للغة العربيَّة: بعض العوامل التي تساهم فيها أسباب داخلية وخارجية انطلاقًا من الممارسة الفصلية، ومن هذه الإكراهات نجد ما يلي:
تدنِّي مستوى الإنجازات اللغوية لدى المتعلمين.
غياب منطق لغوي لديهم.
ضعف الرصيد المعجمي.

وهذا ما يحول دون المشاركة الفعَّالة في تطوير المهارات اللغوية، والتعبير بعربية سليمة محترمة لقواعد النحو العربي؛ وهذا لا يتعارض مع أفكار ومبادئ اللسانيات الحديثة، وخصوصًا اللسانيات التوليدية، التي لها مجموعة من النظريات التي تفسِّر بعض الأخطاء اللغوية؛ مثل "قيد الجزيرة الميمية" و"نظرية الربط ونظرية الإسناد والإعراب".

إن تدريس اللغات ليس بالأمر الهين، يستدعي مدرسًا مسلَّحًا بزاد معرفي نظري وإجرائي متين، ينهل جهازه المفاهيمي من حقول معرفية متنوعة، منها: ديداكتيك اللغات والبيداغوجيا واللسانيات بكل فروعها، خصوصًا التطبيقية والحاسوبية، إضافة إلى بعض العلوم الإنسانية الحديثة؛ كعلم النفس بكل أنماطه، وعلم الاجتماع وخصوصًا علم الاجتماع التربوي.

يتكرَّر هذا التأكيد على النهل من مختلف العلوم في تدريسية اللغات؛ نظرًا لطبيعة وخصوصية هذا المبحث، وضرورة استدعاء كل هذه التلوينات المعرفية؛ تأتي استجابة للممارسة التي يستدعيها للميدان.

وما دام الأمر يتعلَّق باللغة العربية، فإنَّ تدريسها يتعلَّق بالخضوع لما تقتضيه كرونولوجيا التعلم؛ أي: "إن تعليم العربية يقتضي الإيمان بأن الطبيعة الصوتية هي الأساس فيها، بينما الشكل الكتابي يأتي تاليًا على مرحلة التعلم بالسماع؛ لأن السمع سيد الملكات؛ فالكتابة في الواقع تعتبر تطورًا حديثًا نسبيًّا في التاريخ الإنساني، إذا ما قورنت باللغة الشفوية، وكثير من اللغات القديمة والحديثة ليس لها عنصر كتابي؛ أي: إنَّها لغةُ تخاطُبٍ فقط، وكثير من الناس يعيشون دون أن يكونوا قادرين على الكتابة أو القراءة؛ على أي حال فإنَّ الطبيعة الصوتية للغة تعني أن يبدأ تعليم اللغة بشكلها الصوتي الشفهي، قبل الكتابي؛ أي: أن يجيء تعليم الاستماع والكلام قبل القراءة والكتابة"[8].

كما يتطلَّب الأمر بالنسبة لمدرسي اللغة العربية معرفة مكامنها ومصادرها، ونسقها البنيوي والدلالي، إضافة إلى المعرفة العميقة بعلم النحو والعروض والبلاغة؛ أي: المعرفة بالمحددات التي تهيكل بنية الثقافة العربية، كما فصَّل فيها القول الدكتور محمد عابد الجابري[9]، ورصدها في ثلاث محددات، هي: البيان والعرفان والبرهان[10]، ويبدو جليًّا إذًا أنَّ تدريس اللغة العربية من منظور لساني حديث، سيعيدها للصدارة، ويعيد لها قوَّتَها ووظيفتها وحيويتها التداولية، وذلك" بـ:
تجديد وتوسيع متن اللغة العربية.
حوسبة معجم اللغة العربية.
استثمار الأفكار اللسانية، ونتائج البحث فيها في تدريس اللغة العربية.
استثمار التراث النقدي والبلاغي واللغوي العربي القديم لتطوير اللغة العربية.

إضافة إلى استثمار ما توصَّلتْ إليه فروع اللِّسانيات التطبيقية في معالجتها لتدريس مكونات اللغة العربية وقضاياها؛ معجمًا وتركيبًا، وصرفًا ودلالة وصواتة؛ وهذا ما يستدعي بالضرورة الإفادة من بعض الأبحاث بالخصوص؛ كاللسانيات التوليدية الحديثة مع الفاسي الفهري، واللسانيات الوظيفية مع أحمد المتوكل، وبعض أبحاث إدريس السغروشني وغيرها...

والهدف هو الخروج بمكون الدرس اللغوي من الطرائق التقليدية التي تتوخى الشحن، دون ربط التعلم بالسياق التداولي الذي يمكن أن يستثمر فيه قاعدة نحوية اكتسبها؛ الشيء الذي يظهر جمالية النحو العربي، وفكه عن العقد والصعوبة التي يَسِمُها به البعض، عن جهل أو بنيَّةٍ مبيَّتة، تستهدف النيلَ من اللغة العربية ككل؛ ويَرجِعون ذلك إلى معياريتها تارة، أو بالدعوة إلى حذف الإعراب، أو بإطلاق العنان للعاميات في كلِّ المنابر التواصلية والإعلامية (نستحضر هنا بعض الجرائد التي تكتب أعمدتها بالدارجة، كما تمَّ تدريج بعض الأفلام المكسيكيَّة بدعوى تقريبها من المواطن... لكن القصد أعمق من هذا؛ إنَّ هذا الأمر يجعل مهمة تطوير اللغة العربية في أعناق الباحثين، بالانفتاح على مستجدات اللسانيات المعاصرة، وتأهيلها لتأدية دورها الريادي في تطوير طرق التدريس، والمساهمة في البحث العلمي"[11].

ونقول بصريح التعبير: إنَّ كل المعطيات السابقة تمثِّل المدخل الأساسي لاختيار طريقة معينة للتدريس؛ أي: اختيار خطة شاملة يستعين بها المدرس لتحقيق الأهداف المطلوبة؛ من تعلُّم اللغة، وتحديد إجراءاتها وسبلها المنهجية، وإمكانياتها التربوية، وتقنياتها الصفية، في ارتباط مع وضعية تعليمية تعلمية؛ لتكوِّن مبادئ هادفة وفعالة لتذليل الصعوبات التي تعترض المعلِّم في ممارسته التي تتغيا إيصال مضامين تربوية هادفة، لبناء تصميم تدريسي "يُعنى بتوصيف القواعد والمبادئ والإجراءات اللغوية، وخلق نماذج ملائمة لتصميم وتخطيط منظومات التدريس، ويشير مصطلح (تصميم التدريس) إلى عملية منظمة، متصلة بتطبيق مبادئ التدريس والتعلم، في التخطيط للمواد والأنشطة التدريسية، أو هو عملية منهجية، أو منظومة لتخطيط منظومات التدريس؛ لتعمل بأعلى درجة من الكفاءة والفاعلية، لتسهيل التعلم، وعادة ما يستعان لإنجاز هذه العملية بما يسمى بمخططات التدريس"[12].

يرى كل مهتم بتدريس مكونات اللغة العربية "أن مكون الدرس اللغوي، يعد ركنا أساسًا من مكونات وحدة اللغة العربية، وتكمن أهميته في كونه (واسطة العقد) بين مكون النص الوظيفي (نص نثري أو شعري، يؤدي وظيفة في منظومة من القيم والمجالات)، ومكون التعبير والإنشاء؛ فينطلق لتدريسه من أمثلة النص الوظيفي، لدراسة الظاهرة، واستنباط القاعدة اللغوية؛ كما في (البدل - الممنوع من الصرف - المبتدأ - الخبر...)، ويتحقَّق اكتساب المتعلم للكفاية اللغوية إذا استطاع استثمار مخزونه اللغوي في مهارات مكوِّن التعبير والإنشاء؛ فيعبر بلغة فصيحة تراعي القواعد، وخصوصًا القواعد المدروسة في مستواه؛ كنصب المفعول به، ورفع الفاعل، والنسبة، والتصغير، والنداء... وتمكِّنه هذه المهارات من ترسيخ الظاهرة اللغوية، مما يجعله قادرًا على توظيفها واستعمالها في أساليبه الخاصة من خلال التطبيقات؛ لتقويم مدى اكتساب المتعلم للظاهرة اللغوية المدروسة، ومدى استيعابه وتمكُّنه من المهارات والكفايات اللغوية المراد بناؤها، وتهدف هذه الخطوات إلى تمكين المتعلِّم من تعلُّم الفصحى عن طريق التواصل بها وتوظيفها والتفكير من داخلها"[13]، ولكن:
كيف يفكر الإنسان من داخل اللغة؟
هل اللغة منهج للتفكير؟

إن سؤال التدريس جعل الباحث في "تدريسية اللغات" يطرح السؤال التالي:
"هل يفكِّر الإنسان باللغة؟
لا يوجد اتِّفاق كامل في الإجابة عن هذا السؤال، وهناك من المناطقة[14] من يرى أنَّ اللغة لا تستخدم إلَّا في التفكير في العمليات العقلية العليا، ونحن لا نميل إلى هذا الرأي، أمَّا بعض الصوفيين فاعتبَروا أنَّ التجارب الصوفية لا يصفها إلا من يعانيها، وأن وصفها باللغة غير ممكن.

ولكننا نميل للقول بأنَّ اللغة: نظام للأفكار والمعاني بألفاظ تناسبها؛ فاللغة هي منهج الإنسان في التفكير، وفي الوصول إلى العمليات العقلية والمدركات الكلية.

هنا يدور التفريق بين اللغة كنظام للتعبير عن العمليات العقلية العليا والمدركات السامية، وبين اللغة كمنهج للقيام بهذه العميات؛ فاللغة إذًا تجربة عقلية شعورية، يتمُّ التعبير بها من خلال تجربة لفظية مناسبة.

لكن هل يمكن القول: إنَّ اللغة آلية ووعاء للتعبير عما تمَّ إنتاجه في مرحلة التفكير باللغة؟ وهل اللغة منهج للتعبير؟
عندما يتكلَّم الإنسان، فهو يستعمل ألفاظًا وجملًا، وعلى هذا المنوال يمكن القول: إنَّ اللغة نظام للتعبير؛ فالإنسان العادي يعبِّر عن أفكاره باللغة، هذه الوظيفة وظيفة اتصالية؛ لأنَّ المتكلم المعلم في تعليمه للغة يراعي نوعية المتعلم؛ لأنه يريد التأثير فيه، كما يراعي في مستوى الكتابة نوعيَّةَ القرَّاء المستهدفين للغرض نفسه؛ هكذا نرى أن اللغة كنظام للتعبير، غير بعيدة عن اللغة كنظام للاتصال"[15].

إذًا، يمكن القول: إنَّ المنهج التعبيري يوازي الوظيفة التواصلية للغة، بينما منهج التفكير والإدراك اللغوي يوازي الكفاءة التأملية أو الغنوصية للغة؛ "لتكون العلاقة بين الكفاءة اللغوية والتواصلية مهمة جدًّا في المرحلة الأساسية التي هي التعلم، في حين تكون الكفاءة اللغوية عفوية ومرنة؛ بحيث إنَّها تصحح التلاعب بنظام اللغة اعتمادًا على مقاييس اللغة الأم، أمَّا الكفاءة التواصلية، فهي تنطوي على مبادئ مناسبة من الاستعداد واللياقة من جانب المتعلِّم لاستخدام إستراتيجيات ذات صلة تداولية، في التعامل مع حالات خطابية معينة، في إطار تعليم اللغة العربية، سواء للناطقين بها أو بغيرها".

ويمكن القول مما سبق: إنَّ الكفاءة اللغوية أساس الكفاءة التواصلية، ولا تتحدَّد كينونة ووجودية الكفاءة التواصلية في غياب الكفاءة اللغوية، ومع ذلك لا يمكن القول: إنَّ الكفاءة التواصلية نتاج تلقائي عن الكفاءة اللغوية؛ إذ تحدِّدها مجموعة من العوامل المتاخمة للطرف اللغوي، لكن هذا الأخير يعتبر العنصر المهم في تكوينها.

وبشكل أكثر دقَّة يجوز القول: إنَّ الكفاية التواصلية في منهجها تعتمد على التطوُّر الوظيفي للغة وليس التركيبي، من خلال منح المتعلمين طرق استثمار اللغة واستخدامها، وليس دراستها والتركيز على مكوناتها؛ لأن هذا يتم تدارسه في مستوى آخر من مستويات الدرس اللغوي.

وفي إطار تداولي تكون الطريقة الوظيفية - التواصلية - في جوهرها بديلًا للطريقة التركيبية من منظور شمولي مقارباتي لموضوع التدريسية، ويتم في هذا المستوى - المستوى الوظيفي للغة - سحب "أندري مارتيني" في الاتجاه الوظيفي، الذي أقرَّ أن هناك مجموعة من الوظائف اللغوية، لكن الوظيفة التواصلية هي أعلى وأهم وظيفة في سيرورة اللغة، ويتم التساهل مع الأخطاء اللغوية؛ حيث يتم التركيز في الأداء اللغوي التواصلي - في إطار تدريس اللغة العربية - على الطلاقة اللغوية، والتركيز عليها أكثر من الدقَّة في استخدام التراكيب النحوية؛ لذلك يتم الاستناد في هذا التصور على التطور الوظيفي والتداولي للغة، وليس التطور الهيكلي.

وهذا ما يجعل كل التصورات التربوية الحديثة تولي في الصفِّ الدراسي مركزية أكثر للمتعلم منه للمعلم.
وفي إطار هذا الأخذ والرد يجوز القول: إن اللغة ليست شيئًا جامدًا؛ بل نظام متحرِّك متناسل ومتنامٍ، على المستويين الفردي والجماعي.

لكن في عملية تعليم اللغة تفرز لنا البنية الممارساتية الصفية بعضَ التقاطعات؛ حيث إنَّ الأفكار التي تكون في ذهن المعلِّم لا توافق الأفكار التي تكون في ذهن المتعلم، على الرغم من التشابه الحاصل في بنية الإدراك، لكن ما يحدث من اختلاف عائدٌ لا محالة إلى الاختلاف في البنية الإبستمولوجية لكل منهما، وهذا هو بيت القصيد؛ إذ ما يحكم طبيعة هذه العلاقة في بُعدها البيداغوجي وما يطبعها هو الاختلاف والتباين في المعارف والخبرات؛ وهذا هو الباعث الذي يهيِّئ أرضيَّة خصبة لينبلج تعلُّم ناجع وفعال، يستجيب لكل الشروط التربوية.

إنَّ الغاية الأساسية من تدريس اللغات، هي "إرساء نظام لغوي في الذِّهن، وإقامة اللسان كملَكة لغوية سليمة وتجنُّب اللحن في الكلام، حتى إن استمع المتكلِّم أو قرأ أو كتب، كان ذلك بأسلوب سليم، واضح العبارة.

إن تعلم اللغة العربية إذًا هو عملية ذهنية واعية، هدفها بناء ملَكة لغوية واضحة النسق؛ لاكتساب السيطرة والتحكُّم في المستويات الصرفية والتركيبية والصوتية والدلالية والمعجمية، لامتلاك نسق لغوي متين، من خلال دراسة هذه المكونات وتحليلها، بوصفها محتويات معرفية بالأساس.

فتعلُّم اللغة يستند بالضرورة والأساس على الفهم والإدراك الواعيين لنظام اللغة؛ كشرط للتمكن منها وإتقانها، إذًا يجب - من منظور منهجي في تعلم اللغات - على الكفاية المعرفية المتصلة بكل المكونات اللغوية، أن تسبق الأداء اللغوي الواعي، وأن تكون محددة وشرطًا لحدوثه"[16].

وفي خضمِّ الحديث عن الكفاية المعرفية، في إطار تدريسية اللغات "يلزمنا التمييز بين الكفاية التواصلية متعددة اللغات، مقابل الكفاية التواصلية أحادية اللغة... ففي إطار التعدد اللغوي، تحدد الدراسات الحديثة الكفاية متعددة اللغات؛ على أنَّها مجموعة من المعارف والقدرات، التي تمكن من شحذ موارد السجل اللغوي للمتعلمين، فهي كفاية تواصليَّة متعددة اللغات، تركِّز على معارف ومهارات فعلية متنوعة، وتتميز بالشمولية والدمج بين اللغات المكونة لها؛ كما هو وارد عند (كوسط Coste)، في مقابل التصور التقليدي، الذي يرى أنَّ الكفاية التواصلية التي يكتسبها المتعلم في اللغة الأولى بالمدرسة هي كفايات تُضاف إلى الكفاية التواصلية في اللغة الأم، وأن الكفاية التواصلية في اللغة الأجنبية تُضاف إلى لغة المدرسة الأولى.

ففي هذا التصور الحديث ما يطبع الكفاية متعددة اللغات؛ ليس هو تجميعًا لمجموعة من الكفايات في لغات متعددة، بل هناك دمج، أو على الأقل ربط وتعالق بين مختلف مكونات هذه الكفاية، وليس التناظر هو ما يطبع مكونات الكفاية؛ بل الاختلاف بين تلك المكونات، فهي كفاية تشتمل على قدرات مختلفة، وتتميز بعدم التوازن بين مختلف السجلات اللغوية"[17].

وبناء على ما سبق: تكون الكفاية "متعددة اللغات" - ككفاية معرفية - إذًا لا تَنبني على معرفة أحادية؛ نظرًا لطابعها التعددي، بل تمنح من تنوُّع في المعارف وتلون في القدرات، تغني المعجم اللغوي للمتعلمين؛ بتركيزها على معارف فعلية بالأساس، تؤطرها شمولية في بناء مكوناتها المندمجة كما يرى (كوسط).

وعلى هذا الأساس تتجاوز هذه الكفاية منطق الكمِّ والتجميع والتخزين، إلى منطق الكيف والتعالق بين المكونات التي تحدد الكفاية؛ حيث نرصد تجلياتها المفرزة، ملموسة في الفعل التعليمي التعلمي.

بيبليوغرافيا:
محمد الدريج، نحو بيداغوجيا جديدة للتعبير، مقتضيات دراسة النصوص، الدليل التربوي.
مجلة الدراسات اللغوية والأدبية، مقال بعنوان: اللسانيات وتدريس اللغة العربية؛ عبدالوهاب الصديقي.
نجيب العوفي: الدليل التربوي، تدريسية النصوص، أسئلة النص وأسئلة المنهج.
محمد مسكي: الدليل التربوي، النص الأدبي وديداكتيك التحويل.
ميلود حبيبي: طرائق تدريس النص الأدبي بالمدرسة الثانوية المغربية وإمكانيات تطويرها، تدريسية النصوص، إشراف: محمد الدريج.
الكتاب الأبيض، المملكة المغربية، وزارة التربية الوطنية 2002.
طرق تدريس اللغة العربية، جامعة المدينة العالمية؛ نخبة من الأساتذة.
محمد عابد الجابري: أضواء على مشكل التعليم بالمغرب، دار النشر المغربية - الدار البيضاء 1973، ط 1.
رشدي طعيمة: في تعليم اللغة العربية، جامعة أم القرى، الجزء الأول.
فاطمة الخلوفي، دراسة بعنوان: أثر المقارنة بين اللغات في بناء كفاية متعددة اللغات والكفايات، ندوة دولية حول: ديداكتيك التعدد اللغوي، تعليم وتعلم اللغات، إشراف: فاطمة الخلوفي - علال بن العزمية.


[1] نحو بيداغوجيا جديدة للتعبير، مقتضيات دراسة النصوص - الدليل التربوي؛ محمد الدريج، ص: (5).

[2] عبدالوهاب الصديقي، مجلة الدراسات اللغوية والأدبية - مقال بعنوان: اللسانيات وتدريس اللغة العربية، ص: (68).

[3] نجيب العوفي: أسئلة النص وأسئلة المنهج - الدليل التربوي، تدريسية النصوص، إشراف: محمد الدريج، ص: (25).

[4] ينظر: محمد مسكي: النص الأدبي وديداكتيك التحويل - الدليل التربوي، ص (30).

[5] ميلود حبيبي: طرائق تدريس النص الأدبي بالمدرسة الثانوية المغربية وإمكانيات تطويرها - تدريسية النصوص، ص: (56).

[6] يعتبر الكتاب الأبيض أول وثيقة رسمية لمراجعة المناهج التربوية المغربية والتي التأمتْ جهويًّا وعلى الصعيد المركزي، بغرض إعادة النظر في المناهج الدراسية وتحيينها في أفق أجرأة اختيارات وتوصيات الميثاق الوطني للتربية والتكوين.
وعمل على أجرأة وتدقيق محتويات هذا الميثاق الذي ينطلق من الفلسفة التربوية لتحديد الاختيارات التربوية الموجهة لمراجعة (وبناء) مناهج وبرامج التربية والتكوين.

[7] ينظر: عبدالوهاب الصديقي: مجلة الدراسات اللغوية والأدبية - مقال بعنوان: اللسانيات وتدريس اللغة العربية، ص: (61).

[8] طرق تدريس اللغة العربية، جامعة المدينة العالمية، نخبة من الأساتذة، ص: (145).

[9] المسألة التعليمية المغربية حسب موقف محمد عابد الجابري: هي تصور فكري ذو طابع تركيبي معرفي، يصعب فهمه وتمثل أبعاده العميقة، في معزل عن المعالجة النسقية للتراث؛ بمعنى أن دور المرجعية الفكرية الثقافية في التراث العربي حاضرة بشكل كبير فيما يخص دورها الجوهري في التعليم والتعلم، خاصة تعليم اللغة العربية باعتبارها الرهان الأساسي للحفاظ على التراث وضمان استمراريته بكل فعالية.

[10] ينظر: عبدالوهاب الصديقي، مجلة الدراسات اللغوية والأدبية - مقال بعنوان: اللسانيات وتدريس اللغة العربية، ص: (62).

[11] عبدالوهاب الصديقي، مجلة الدراسات اللغوية والأدبية - مقال بعنوان: اللسانيات وتدريس اللغة العربية، ص: (63، 64).

[12] طرق تدريس اللغة العربية، جامعة المدينة العالمية؛ نخبة من الأساتذة ص: (38).

[13] عبدالوهاب الصديقي، مجلة الدراسات اللغوية والأدبية - مقال بعنوان: اللسانيات وتدريس اللغة العربية، ص: (65، 66).

[14] المناطقة: من يدرسون صور الفكر وطرق الاستدلال السليم، وفي المقام الأول يدرسون تخصصات الفلسفة والرياضيات وعلم الدلالة وعلم الحاسوب، ويعتبر أرسطو أول من كتب عن المنطق بوصفه علمًا قائمًا بذاته، وتمت الاستفادة من هذه العلوم لتطوير طرق تدريس اللغات.

[15] طرق تدريس اللغة العربية، جامعة المدينة العالمية؛ نخبة من الأساتذة ص: (138).

[16] رشدي طعيمة: المرجع في تعليم اللغة العربية، جامعة أم القرى، الجزء الأول، ص (399).

[17] فاطمة الخلوفي، دراسة بعنوان: أثر المقارنة بين اللغات في بناء كفاية متعددة اللغات والكفايات، ندوة دولية حول: ديداكتيك التعدد اللغوي، تعليم وتعلم اللغات، إشراف: فاطمة الخلوفي - علال بن العزمية، ص: (32، 33).



Viewing all 1343 articles
Browse latest View live