Quantcast
Channel: منتدى فرسان الحق فرسان السُـنة خير الناس أنفعهم للناس
Viewing all 1343 articles
Browse latest View live

مسؤولية الإنسان في القرآن الكريم

$
0
0
مسؤولية الإنسان في القرآن الكريم


أ. د. عباس توفيق





الأنا والآخر




يكشف القرآن الكريم للإنسان مسؤوليتَه إزاء نفسه والآخرين؛ بأن يُوقفه أولاً على ضرورة أن يدرك ذاته، وكيف قدِم إلى هذا العالم، وما هو دوره فيه، وإلى ماذا سيكون مآله؛ فإدراكُه لذاته وللغاية من وجوده يجعله يحيا حياتَه كما يريد اللهُ - تعالى - له فيها، ويتعامل مع الآخرين بشكل منظمٍ، ويتفاعل مع ما يحيط به بطريقةٍ إيجابية، ولقد لفت القرآنُ الكريم نظرَ الإنسان إلى التفكير في أصل خَلْقه في آيات مختلفة؛ كقوله - سبحانه -: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴾ [الطارق: 5]، وكقوله: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾ [الطور: 35].



إن هذه الآيات ومثيلاتِها تدعو الإنسانَ إلى أن يتأمل نفسه؛ ليستكشف كيف كان إيجاده إعجازيًّا عظيمًا، فهو لم يأتِ من لا شيء - أي من عدم - بل من تراب شكَّل قوامه الجسدي.



ويرى الإنسان في حياته اليومية أن النبات هو الذي يخرج من التراب، ولكنه إذ يُعرَّف بأنه هو أيضًا خُلِق منه، فإنه سيرى نفسه أمام إعجازٍ كان غافلاً عنه، وهو تحويل هذا العنصر - التراب - بما له من صفاتٍ وخصائصَ معروفة ومتعلقة بالنبات إلى صفاتٍ وخصائصَ مغايرة تمامًا تخص اللحمَ والعظم والدم (الإنسان)، ثم كيف يتحول المتناوَل من نبات الأرض إلى أشياء لا علاقة لها بالنبات، بل بالبنية اللحمية والعظمية.



وإن من شأن هذا الإدراك أن يدفعه إلى التساؤل عن القوة التي تقف وراء استمرارية هذا التحويل والتغيير والإيجاد، فإذا اكتشفها وعلِم أنها قوة الله - سبحانه وتعالى - آمَنَ به خالقًا، وأخضع له إرادته الفردية، وحمل رسالته التي كلَّفه بها؛ ولهذا فإن القرآنَ الكريم يركِّز على هذه الخَصيصة الحاسمة "الخلق" - خلق الإنسان والحيوان والكون كله - في مجادلة غير المؤمنين: ﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إلى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾ [الغاشية: 17]، ﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ [النحل: 20]، ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ [الفرقان: 3]، ﴿ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ﴾ [الواقعة: 57 - 59]، وغيرها كثير.



وإذا قبِل الإنسان وجود خالق له، فإنه سيتلقى الغاية من هذا الخَلق والإيجاد بالقبول، ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [ص: 27]، ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴾ [الدخان: 38]، ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، وإذا كان ما في الأرض مخلوقًا للإنسان، فإن الإنسان مخلوقٌ لغاية أخرى، وهي عبادة الله تعالى، والعبادة هي سر إيجاد الإنسان، ومن المعلوم أن العبادةَ لا تقتصر على الواجبات والمناسك المعروفة، بل تتسع لتشملَ كلَّ ما من شأنه أن يُسهمَ في عمارة الأرض، وبناء العلاقات الإنسانية على أسسٍ من المعرفة بالله - تعالى - وبمنهجه، والأمل في رضاه.



إن إدراك الإنسان لهذه المهمة، وقيامَه بها بحسب ما رُسم له - سيوصلانه إلى رضوان الله تعالى، ولئن غفل، فسيكون في ضلال، وإزاء هذه الحالة التي تكون هكذا أو هكذا، تتحدد مسؤوليتُه تجاه نفسه ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ﴾ [آل عمران: 30]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ﴾ [الحشر: 18]، ﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ﴾ [النساء: 84]، ﴿ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ﴾ [الأنعام: 104]، ﴿ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ﴾ [لقمان: 12]، ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ﴾ [فصلت: 46، الجاثية: 15]، وغيرها كثير.



وأيًّا من هذين السبيلين اختار الإنسان، فإنه سيجد اختياره منعكسًا على صِلَته وعلاقته بالآخرين، فإذا ما كان ظالمًا لنفسه، فلا يُنتظر منه أن يكون "عادلاً" مع الآخرين، بل إنه سيُفلسف ظلمه؛ ليقنع الآخرين بتقبُّله على أنه حق وليس ظلمًا، أوَلم يقل فرعون: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 29]؟



ولا يعكس الظالم الصورة المرجوة، وليس هو النموذج الذي يريده القرآنُ الكريم ليدب على الأرض، وإنما الصورة والنموذج هو مَن يتمثل القرآنَ العظيم في ذاته وتفكيره ومسلكه، وهو ما يتحقق في الإنسان المسلم بمقدار ما يتحقق فيه تمثُّلُ القرآن الكريم.



إن "الآخر" الذي يتعامل معه الإنسان المسلم قد يكون من ذوي القربى، أو من ذوي الأخوة في العقيدة، أو المشترك في الصفة الإنسانية، وقد أرشد القرآنُ الكريم المؤمنين به إلى كيفية التعامل مع كل هؤلاء في مختلف الحالات والصور.



ويجد المتتبِّعُ لآياته الكريمات أن قسطًا منها يمكن درجه ضمن "العموم"، وأن قسطًا آخر يخص فئة دون فئة، وحالة دون أخرى، ومن الآيات العامة قوله - تعالى -: ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحسانا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ إيمانكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ﴾ [النساء: 36]، فهؤلاء المذكورون في الآية داخلون في العموم؛ إذ قد يكونون مسلمين، وقد يكونون من غيرهم، وعلى الإنسان المسلم أن يُظهر هويتَه المحْسِنة المتواضعة في تعامله مع هؤلاء، بصرف النظر عن نوع الصلة الرابطة بينه وبينهم، وبدون التفات إلى مقدار وجاهتهم، والإعراض عن هذه الخصيصة يعني التجردَ من صفة الإحسان والتواضع، والوقوعَ في الدائرة التي لا يحبها الله - تعالى.



وكذلك الحال في قوله - سبحانه -: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134]، و"الناس" عموم غير مخصص بالمسلمين، وكذلك الإنفاق ليس مقصورًا على أهل العقيدة الواحدة، بل هذه الآية من الآيات التي يستنتج منها الإحسان إلى مخلوقات الله تعالى؛ فالمفروض في الإنسان المسلم أن يكون مصدر رحمةٍ لمن يُحيط به، وعطفٍ على ما هو مسخَّر له، وإن هذه الرحمة هي النورُ الذي يضيء للآخرين طريقَهم، ويحبِّب إليهم دينَ الله - تعالى.



وليس الآخر دائرةً كبيرة يَعجِز الإنسانُ عن معرفة مداها؛ وإنما هو مجموعة من الدوائر يتحرك في خلالها بحسب قدراته وخصائصه الذاتية، وتبدأ هذه الدوائرُ بالأهل والأقارب والجيران، وتمتد لتشملَ أبناء البلدة، وأبناء الوطن، والإنسانَ في كل مكان، وقد يكون بالإمكان درج هؤلاء جميعًا في حلقتين اثنتين، أُولاهما: هي الأهل؛ أي: ذوو الرَّحِم، وثانيتهما: هي مَن عداهم، ويعمل القرآن الكريم على مَزْج هاتين الفئتين على أساس العقيدة؛ ليجعلهما حلقةً واحدة، تشتد أواصر أفرادها بعضهم ببعض أو تضعف بحسب إيمانهم، وإن لم تكن بينهم صلاتُ نسب؛ انظر إلى قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإيمان وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [التوبة: 23]، وكذلك إلى قوله - تعالى -: ﴿ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الممتحنة: 3]، وقوله في قصة نوح - عليه السلام -: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [هود: 45، 46].



فرابطة الدم تشكِّل "أهلاً" بالمفهوم الاجتماعي الوضعي لا بالمفهوم الديني، و﴿ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [هود: 46] إنما يلفت النظر إلى ضرورة أن يكون نسيج المجتمع المسلم قائمًا على الرابطة بمفهومها الديني، غير أن هذا لا يعني قطع رابطة الدم أو تمزيقها، بل تظل تُراعَى، وخاصة في صلة الإنسان بوالديه؛ شريطة ألا يكونَ ذلك على حساب العقيدة والإيمان، ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ﴾ [لقمان: 15].



إن الحلقتين اللتين تقوم عليهما البنية الاجتماعية هما: الجماعةُ المسلمة؛ وتضم إليها أصحابَ العقيدة الواحدة، والجماعةُ غير المسلمة؛ وتضم كلَّ من لا يؤمن بالعقيدة الإسلامية، وإن كانوا من الناحية الاجتماعية أقرب الأقربين.



وصلة أفراد الحلقة الأولى بعضِهم ببعض ينبغي أن تكون خيرًا وبرًّا وتواصيًا بالخير والمناصرة، وقد قال الله - تعالى - فيهم: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29]، وأما الحلقة الثانية، فهم كافرون، أو من أهل الكتاب، ولكلٍّ من هذين القسمين ضوابطُه في الحرب والسِّلْم والمعاملات.



التعاملمعالكافرين:

والتعامل مع هؤلاء يقوم على عدة ركائزَ، أهمها:

1- الدعوة إلى الإيمان بالله والإسلام، ولا تكون هذه الدعوة بالقتال ولا بالعنف، بل بالحكمة والموعظة الحسنة؛ امتثالاً لقوله - تعالى -: ﴿ ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125].



2- إجارة المشرك من غيرِ أن يكونَ هذا الجوار ثمنًا ليعتنق المستجير الإسلام؛ قال - تعالى -: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 6]، وهذه الإجارة هي واحدةٌ من الفرص المتاحة للدعوة إلى العقيدة الإسلامية.



3- عدم نقض العهد مع المشركين ما دام أنهم لم يَنقضوه، والحفاظ على العهد بشرطه من علامات التقوى وإن كان مع مشرك؛ قال - تعالى -: ﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 7].



4- عدم موالاة الكافرين، وإذا مالأَهم المسلمُ خشية على نفسه لظرفٍ ما، فلا بد له أن يعلمَ أن الله - تعالى - عالمٌ بما في مكنون نفسه، وأنه إن اضطر فلا بد أن تكون موالاته ظاهرية، وأن تكونَ لبواعثَ حقيقية؛ ولهذا فإنه يحذِّر المسلمين في قوله: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ [آل عمران: 28].



وإن هذه الآية تفك العرى القلبية والوجدانية التي تربط المؤمنين بغيرهم؛ ذلك أن الجماعةَ المؤمنة ترتبط بالله - تعالى - ويجمع بينها رابطُ الإيمان، وأن ما يفعلونه هو من أجل الله، ومن ثم فإنهم إن وَالَوُا الكفار حقيقةً أو ودُّوهم، فإن من شأن ذلك أن يفتح البابَ لنخر الجماعةِ المسلمة من داخلها.



وما دامت الصلة والقطيعة تكونان من أجل الله، فإن الموالاة لا تكون إلا لمن هو مستمسكٌ بمنهج الله تعالى، والحياد عن هذا الخط يمثل خطرًا فعليًّا يعرِّض المسلم نفسَه له، ويُستثنى من ذلك - كما ذكرت - التقيَّة التي تكون باللسان في حالات معينة، زمانًا ومكانًا، وعندما تكون شوكةُ أعداء الله أمضى، مع ضرورة المحافظة على القلب من أن تختلطَ خلجاته بالموالاة الظاهرية، أو أن تصيرَ الموالاة عاملاً يضر المصالح العامة للفئة المؤمنة؛ ولهذا فإن البارئ - عز وجل - يحذِّر الناسَ من نفسه؛ لأنه - سبحانه - لا تخفى عليه خافية، ولئن نجَّى الإنسانُ نفسَه من عذاب الدنيا بتقيَّةٍ قلبية زعم أنها لسانية، فإن ذلك لا يجوز على الله - تعالى - ولا يُجيرُه من عذابه يوم القيامة، وإن جاز على أقرانه وأصحابه في الدنيا.



وأما إذا لم تكن هناك حربٌ أو لم يعلن الكافرون حربًا على المسلمين، فإن الله - تعالى - يرشد عبادَه المؤمنين إلى طريق البِرِّ والقِسط، فيقول في كتابه الكريم: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8].



القاعدة الأساسية إذًا هي أن المسلمين منهيُّون تمامًا عن موالاة الكافرين، فإن لم يكن هناك قتال، فإن المسلمين سِلْمٌ لمن سالمهم، والآية الآنفة واضحةُ المقصد في هذا الصدد، وإنهم يتخذون الدعوةَ بالحسنى منهجًا لهم وطريقًا.



إن السِّلم في الشريعة الإسلامية حالةٌ ثابتة، لا يغيِّرها غيرُ وقوع العدوان على المسلمين، فضلاً عن جهاد الطلب، وعليهم في هذه الحال أن يكونوا يدًا واحدة وثابتة في الميدان لردِّ العدوان، ولحماية الدين وحَمَلتِه من المسلمين.



وعندما تقع حرب، فإن ذلك لا يسوِّغُ قيامَ المسلمين بتجاوز الحدِّ بدعوى ردِّ القتال، بل إن عليهم - حتى في هذه الحالة التي تخرُجُ النفوسُ فيها عن السيطرة - أن يكونوا عادلين في قتالهم؛ أي: ألا يظلموا أعداءهم، ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190].



إن الإسلامَ يُرسي قاعدة جوهرية في المعاملة، وهي العدل في كل الأحوال، سواء كانت حربًا أم سلمًا، ومع كل الجهات، سواء كانت عدوة للمسلمين أم لم تكن؛ فالمسلمون هم الفئة الموالية لله تعالى، وهو - عزَّ في علاه - لا يحب الظلم، وكذلك لا بد أن تكونَ أعمال مَن يواليه متوافقةً مع صفاته - سبحانه وتعالى - في العدل، وأن يتجنَّبوا الاعتداء والظُّلم، حتى وإن كانوا في ميدان المعركة يقاتلون أعداء الله.



التعاملمعأهلالكتاب:

والآيات التي تختص بهذا الصنف تقع في مستوياتٍ مختلفة؛ فبعضها - ولعله هو أكثرها - يبين عقيدة أهل الكتاب والتغييرات التي طرأت عليها بفعل الأحبار والرهبان، ومن شأن هذه الآيات أن تُبصِّر المسلمين بحقيقة عقائدِ أهل الكتاب؛ لكي يكونوا على بينةٍ منها وهم يتعاملون مع معتنقيها.



ولا تشتمل الآياتُ الدائرة في هذا الإطار عمومًا على إرشادات للمسلمين حول كيفية التعامل مع أصحاب الديانات السماوية، ومن هذه الآيات قوله - تعالى -:

﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146].



﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64].



﴿ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ﴾ [المائدة: 70].



﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [المائدة: 72]، وغيرها.



كما أن آياتٍ أخرى تكشف للمسلمين خطط التعامل التي كان يتواطأ عليها أهل الكتاب، من ذلك مثلاً قوله - تعالى -: ﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 72، 73].



وتقوم خطة هؤلاء - كما هو جلي - على بَذْرِ التشكيك في نفوس المسلمين، وذلك من خلال إظهار الإيمان، باعتبارهم باحثين عن الحق ومتبعين له، ولكنهم وجدوا في الإسلام بعد أن دخلوا فيه تفصيلاتٍ لم يكونوا يعرفونها من قبل، وأنهم بعد أن عرَفوها عدَلوا عن رأيهم وقناعاتهم الجديدة؛ فقد تبيَّنوا أن الحقَّ ليس في الإسلام، بل في الدين الذي كانوا يعتنقونه أولاً، وكان من شأن هذا السلوك أن يثيرَ الشبهة في نفوس الذين نظروا إلى أهل الكتاب على أنهم أهلُ علمٍ بالدين وخبر السماء.



وتشير الآية إلى أن طائفةً من أهل الكتاب تواطأت على ذلك من غير تفريقٍ بينهم - أي: اليهود والنصارى - إذ لا فرق بينهم، ما داموا يوحِّدون خطتهم لهدم الدين الإسلامي، وإثارة البلبلة بين معتنقيه، والشكوكِ في نفوس مَن كان يراقب الوضعَ أو يفكِّر في الدين الجديد.



ومع أن من شأن هذا المسلك أن يثيرَ البلبلة الفكرية، ويمس السلم الاجتماعي، إلا أن القرآنَ الكريم ردَّ على هؤلاء بما يَكْبِتُهم، ومن غير أن يشنَّ عليهم حربًا: ﴿ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ ﴾؛ فالذي يحدد الدينَ الحقَّ ليس هو هؤلاء البشر، بل الله - سبحانه - صاحبُ الدِّين ومُنزله.



ولقد بيَّن الله - تعالى - لعباده في آية أخرى أن موقفَ أهل الكتاب الرافض لدين الإسلام، والمخطِّطَ لإرجاع معتنقيه عنه - لم يكن صادرًا عن بحثهم الفعلي عن الحقيقة، ولا عن أن الحقَّ كان معهم، بل عن حَسَدِهم عندما تبيَّنَ لهم أن الإسلامَ هو دين الحق والصِّدق واليقين، وأن المسلمين هم الذين فازوا به.



ومن الغريب أنهم - وبدلاً من أن يُقبلوا على المسلمين ليشاركوهم النهل من ذلك الخير - سَعَوْا إلى إخراج المسلمين منه؛ ليُحرَموا منه كما كانوا هم محرومين منه، فيصبحوا سواءً في الحرمان، وهذه حالة مَرَضيَّة تستحق الشفقة لا العنف؛ ولهذا أمر الله - تعالى - عبادَه المسلمين بأن يتجاوزوا هذا الكيدَ بالعفو والصفح: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 109].



ولأن طوائفَ من أهل الكتاب لم يكونوا يُظهِرون الإخلاصَ في علاقاتهم بالمسلمين، وإنما كانوا بالأحرى يُبطِنون مؤامراتٍ ودسائسَ؛ فقد حذَّر الله - تعالى - المسلمين من أن يتخذوهم أولياءَ من دون المؤمنين، شأنهم في ذلك شأن ما ينبغي أن يكون عليه موقفُهم من المشركين، مبينًا أن المسلم الذي يخلص لهم المودة على حساب المسلمين، فإنما يصطف إلى جانبهم، ويصبح من زمرتهم، على حين أن من الواجب على المسلمِ أن يبقى في إطار ولاية الله وأنصاره، لا أن يصيرَ في دائرة ولاية أعدائه؛ فقد قال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 51].



ولأهمية هذا الأمر؛ فقد تكرَّر التنبيهُ إليه بعد آيات قليلة في قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 57].



وعدم اتخاذ أهل الكتاب أولياءَ لا يعني أن يكون التعاملُ معهم سيئًا، بل على العكس تمامًا يحثُّ الإسلامُ على أن تكون معاملةُ غير الظالمين منهم بالحسنى من غير ضعفٍ، فما دام القرآن الكريم يدعو المؤمنين إلى سلوك سُبُل الحكمة في الدعوة إلى الله، فإن هذه الدعوةَ عامةٌ لتشمل كلَّ مَن لا يؤمن بعقيدة الإسلام، سواء كان من أهل الكتاب أم من غيرهم.



وفضلاً عن ذلك، فإن الله - تعالى - يرشد عبادَه إلى مجادلة أهل الكتاب بالعقل والمنطق، وأن يظلوا أعلى يدًا منهم، لا أن يقودَ العطف والتواضع إلى أن ينكسروا أمامهم أو أن يُهِينوا عزتهم: ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 46].



وهذه المجادلة أو المحاورة تكون مع أصحاب العقيدة الصحيحة؛ لبيان ما بين الديانتين من صلاتٍ، ومن أجل إقناع الآخرين بضرورة الأخذ بالصورة الأخيرة من صور الدعوة إلى الله، وهي المتمثلة في الدين الإسلامي الحنيف، وأما "الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ"، فإنهم والمشركون سواءٌ بعد أن انحرفوا عن التوحيد.



إن الآيات التي ذكرناها، والتي تُظهر حقيقةَ عقائد أهل الكتاب، وما أصابها من تغييرٍ، أو التي تَكشف عن الدسائس والمكايد - تمثِّل صفحةً من صفحات المعركة العقائدية بين الإسلام ومناوئيه، ولئن تمكنت العقيدة الصحيحة من النفوس، فإن الغَلبةَ ستكون لحامليها، ولكن إذا نجح المناوئون في تهوينها في النفس، أو في زعزعة قوَّتها في القلب، فإن الهزيمةَ والانكسار سيبدأان، ومن هنا شكلت هذه الآيات الكريمات ومثيلاتُها الأرضيةَ النظرية العقائدية للفئة المؤمنة بالله تعالى؛ لكي يدركوا حقيقةَ عقيدتهم، وحقيقة عقائد الآخرين، ولكي يكون في مقدورهم إذ ذاك البصرُ بما يجول في خواطر الآخرين، وبما يفعلونه من جهة، ولكي يكون لديهم ما يردُّون به سهام المعركة، ويحفظون به العقيدةَ صحيحةً نقية من جهة أخرى.



وإن هذا المسعى يأخذ مسمَّى المعركة مع المنحرفين الضالِّين من أهل الكتاب، وأما مَن حافظ منهم على نقاءِ دينه الذي شرعه الله لِمِلَّته، فإن ما يجري بينه وبين المسلمين هو الحوارُ والمجادلة بالتي هي أحسن؛ لتبيان طريق الحق، ولا يُكرَه على دينه مَن لا يرتضي الإسلامَ من هؤلاء، بل لهم الحق الكاملُ في الأمن والأمان في نسيج المجتمع الإسلامي، ويُباح للمسلمين أن يخالطوهم مخالطةً كاملة عن طريقي الطعام والزواج.



طعامأهلالكتابونساؤهم:

وموقف الإسلام من هاتين المسألتين واردٌ في قوله - تعالى -: ﴿ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ﴾ [المائدة: 5].



وتُظهِر هذه الآيةُ سماحةَ الإسلام مع غير المسلمين من أهل الكتاب؛ فهو لا يكتفي بأن يكفُلَ لهم حريةَ ممارسة الشعائر الدينية ومزاولة الحياة الطبيعية في راحة وأمان، بل ييسِّر امتزاجهم بالمجتمع المسلم من خلال تبادل الزيارات، والمشاركة في بناء الحياة الأسرية، وهذانِ العاملانِ من أقوى العناصر في البناء الاجتماعي المتماسك، وعندما نقارن هذا الموقفَ بمثيله من المشركين نجد البونَ شاسعًا؛ ذلك أن المشركين نَجَسٌ، فلا يحلُّ للمسلم تناولُه، ولا يُسمح له ببناء أواصر الزواج مع الجانب المشرك؛ ﴿ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ﴾ [البقرة: 221].



ومردُّ هذا إلى أن الزواجَ وسيلة من وسائل جمع القلوب لبناء الأسرة السليمة، التي سيظهر منها مَن يحمل الرسالة ويخدم الدين، واجتماعُ الزوجين على العقيدة الواحدة هو أهمُّ أساس لبناء الأسرة السليمة الناجحة، حتى وإن كان المظهرُ الجمالي لصاحب العقيدة أدنى مِن سواه؛ فالزواج وسيلة الوصول إلى تكوين اللَّبِنة الاجتماعية التي يقوم عليها بنيانُ المجتمع برمَّته؛ ومن ثم فإنه ليس غاية في حد ذاته، ولا بد لهذه الوسيلة أن تكون متناسبة بين الزوجين في أهمِّ شيء، وهو الإيمان، وعلى هذا؛ فإن الزواج بين طرفين أحدهما مسلم والآخر مشرك حرامٌ، ولا تزول حرمتُه إلا بإعلان الطَّرَف المشرك إسلامَه، وقد بين القرآنُ الكريم العلة من التحريم بـ: ﴿ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ﴾ [البقرة: 221].



ومع أن الكتابيات لَسْنَ مسلمات، فقد أباح الله - تعالى - التزوُّج بهن؛ لوجود جامع وأصلٍ بينهن وبين المسلمين، وهو الإيمان بالله، وإن كان هذا الإيمان مختلفًا بين الجانبين في تفصيلات.



واختلف العلماء المسلِمون في حدود الإباحة هذه؛ فمنهم من اشترط في الكتابية أن تكونَ نقية الديانة من التشويهات التي أحدثها علماؤهم ليُباحَ للمسلم التزوجُ بها، وكره بعض الصحابة التزوُّج بالكتابية؛ من أجل الحفاظ على المرأة المسلمة والإبقاء على فرصها في الزواج.



وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - إذا سُئِل عن نكاح اليهودية أو النصرانية قال: "إن الله حرَّم المشركاتِ على المسلمين، ولا أعلم من الشرك شيئًا أعظمَ مِن أن تقول: ربها عيسى ابن مريم، وهو عبدٌ من عبيد الله"؛ (أحكام القرآن للجصاص 2/ 409)، ولم يحلَّ ابنُ عباس - رضي الله عنه - الكتابيةَ إذا كان أهل الكتاب في حالة حرب مع المسلمين (نفسه 2/411)، غير أن الجمهور يأخذ قوله - تعالى -: ﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ [المائدة: 5] على عمومِه وشموليته، بغضِّ النظر عن تفصيلات عقيدتها.



والمرأة الكتابية التي يباح التزوُّج بها هي المُحصنَة؛ أي: العفيفة الطاهرة، ويجمع القرآن الكريم بينها وبين المرأة المسلمة في هذه الصفة شرطًا لزواج المسلم؛ لنظره إلى الغايات البعيدة في بناء الأسرة القويمة، كما أنه يساوي بينهما في الحق الذي يترتب على الزواج، وهو أن يؤتيَها أجرَها بقصد الزواج، وليس بقصدٍ آخر؛ كالسفاح؛ أي أن تكون المرأةُ لأي رجل، أو المخادنة، وهي أن تكون المرأةُ لرجل معين من غير زواجٍ.



وأما زواج المسلمة بالكتابي، فهو غير جائز ألبتة، وسبب إباحة الكتابية للمسلم ومنع المسلمة من الكتابي مردودٌ إلى أن الكتابية تنتقل إلى بيت الزوجية، فتعيش في جو مسلم، وأن الإسلام هو الذي يكون مهيمنًا على الأسرة وما حولها، وأن الطفل ينتسب إلى أبيه ويتبعُهُ في دينه، وعلاوة على ذلك فإن المسلمَ يؤمِنُ بالعقيدة الصحيحة للكتابية، ويحمله هذا الإيمانُ على الإحسان إليها، واحترام عقيدتها، وتجنُّب ظلمها، بينما تنتقل المسلمة - إذا تزوجت بالكتابي - إلى بيئة غير إسلامية، وسينتسب أبناؤها إلى أبٍ غير مسلم، ويتبعونه في دينه، ومن ثم فإن ذريتَها تمثِّل خسارة للأمة الإسلامية، فضلاً عن أن الكتابيَّ لا يؤمن برسالة الإسلام، ووقوع الضرر النفسي على المرأة المسلمة ممكنُ الحصول - والحال هذه - بأن يظلمَها زوجُها الكتابي، ولا يحترم عقيدتها ودينها، وربما يضطهدها بسبب عقيدتها.




إن الإسلام لا يفصل الفرد رجلاً كان أم امرأة عن محيطِهِ الاجتماعي، وسلامة هذا الفرد من الناحية النفسية والعقائدية والاجتماعية هدفٌ جوهري، ومن هنا تظهر مسؤولية الإنسان الفردية، كما أن هذا الإنسان يعيش في وسط متباين في العقيدة والنظم، ومن ثم؛ فإن تعاملَه في هذا الوسط محكومٌ بما يحقِّق السلامة الجماعية، وإذا ما كان كل فرد متمتعًا بالسلامة المطلوبة، كان المجتمعُ مستقرًّا وطاهرًا وبنَّاءً وخليقًا أبناؤه في أن يكونوا حَمَلةً للأمانة التي أوكلها اللهُ تعالى إلى الإنسان.






الإعلام والرويبضة والسنوات الخداعات

$
0
0
الإعلام والرويبضة والسنوات الخداعات


أبو أنس عبدالوهاب عمارة





الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم.


وبعدُ:
يكثر في عالمنا بين الأقران والزملاء وأصحاب المهنة والحرفة الواحدة التنافس، وربما في كثير من الأحيان يؤدي إلى التناحر، وقد يستعمل فيه الفجور والافتراء والتدليس، ولا سيما التنافس في مجال السياسة والحكم, وما يصنعه إعلامنا من تشويه للمصلحين وتزييف للحقائق، وهذا ليس بدعا من الأمر فهو على مر العصور، ولذلك أردت أن أرسل في ذلك رسائل، سائلا المولى عز وجل التوفيق والسداد والنفع بهذه الكلمات.


ورسائلي: رسالة إلى كل مفترَى عليه يقف عاجزا عن رد الكيد والشبه، وربما في بعض الأحيان مكتئبا، ورسالة إلى كل مفترٍ جبار يختال ويكذب، وربما يصدق في كثير من الأحيان نفسه.


ورسالة إلى المجتمع الحائر المضَلَّل الذي يُمَارس عليه ما كان يُمَارس من قِبَل سحرة فرعون قبل إيمانهم، والذي يمثلون عليه دور الوطنية والشرف والنزاهة وربما في كثير من الأوقات يخيَّل إليه من سحرهم أنها حقيقة.


أما رسالتي إلى كل مصلح ومناضل: فهذه ضريبة لا بد أن تدفع ولست الأول ولا الأوحد: أيها المناضل المصلح الوطني المفترى عليه، يا من تعجز عن رد كيل الاتهامات والافتراءات لست الأول ولست الأخير ولست الأوحد، فمن قبلك الأنبياء والرسل فموسى عليه السلام اتهم وما كانت تهمته إلا أنه عفيف حيي ستِّير.


روى البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا، لاَ يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شيء، اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلاَّ مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ، إِمَّا بَرَصٌ وَإِمَّا أُدْرَةٌ وَإِمَّا آفَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى فَخَلاَ يَوْمًا وَحْدَهُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى الْحَجَرِ ثُمَّ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إِلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا، وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ، فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الْحَجَرَ، فَجَعَلَ يَقُولُ ثوبي حَجَرُ، ثوبي حَجَرُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلإٍ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ، فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ، وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ، وَقَامَ الْحَجَرُ فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ، وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ﴾ [الأحزاب: 69]".


ولكأني بموسى وهو يشفق على قومه من زيغهم وضلالهم وهو يعاتبهم على إيذائهم له ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الصف: 5]وإيذاء بني إسرائيل لموسى وهو منقذهم من فرعون وملئه، ورسولهم وقائدهم ومعلمهم إيذاء متطاول متعدد الألوان، وجهاده في تقويم اعوجاجهم جهاد مضن عسير شاق.


ويذكر القرآن في قصص بني إسرائيل صورًا شتى من ذلك الإيذاء ومن هذا العناء، ولم يتوقف إيذاء موسى عليه السلام على اتهامه في جسده، بل أوذي موسى عليه السلام من فرعون يوم أن أراد قتله متهما نبي الله بالإفساد ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر: 27] ولماذا ذروني؟ إن أردت أن تقتله فاقتله في صمت، كيف ذلك؟ لا بد للأجهزة الأمنية والمخابراتية والإعلامية أن تعمل وتهيئ الناس والرأي العام لرفض موسى وأنه إرهابي وخارج على القانون ويستحق القتل ويوم أن يقتل يقول الناس استرحنا منه وهذا ما يمارس عللى الإسلام الآن من تشويه وتزييف.


كان بنو إسرائيل يتسخطون على موسى وهو يحاول إنقاذهم من فرعون، ويتعرض لبطشه وجبروته وهم آمنون بذلتهم له! فكانوا يقولون له لائمين متبرمين: ﴿ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ﴾ [الأعراف: 129] كأنهم لا يرون في رسالته خيرًا، أو كأنما يحمِّلونه تبعة هذا الأذى الأخير!


وما كاد ينقذهم من ذل فرعون باسم الله الواحد الذي أنقذهم من فرعون وأغرقه وهم ينظرون،، حتى مالوا إلى عبادة أصنام لقوم يعكفون عليها ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾ [الأعراف: 138] إله؟ ومن الذي أنقذكم ومنَّ عليكم بالنجاة من فرعون وقد أدرككم الغرق أو ليس الله الواحد القهار؟!


وما كاد يذهب لميقات ربه على الجبل ليتلقى الألواح، حتى أضلهم السامري: ﴿ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه: 88] فبعدما أن من الله عليهم وظلل عليهم الغمام وأطعمهم المن والسلوى ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[البقرة: 57] جعلوا يتسخطون على طعامهم في الصحراء: المن والسلوى، فقالوا ﴿ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ... ﴾ [البقرة: 61] وفي حادث البقرة التي كلفوا ذبحها ظلوا يماحكون ويتعللون ويسيئون الأدب مع نبيهم وربهم وهم يقولون: ﴿ ... ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ... ﴾ [البقرة: 68]﴿ ... ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا... ﴾ [البقرة: 69]﴿ ... ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 70]﴿ ... فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [البقرة: 71] ونلاحظ التعبير القرآني وهم يخاطبون موسى عليه السلام بكلمة [ربك] و:كأنه ليس ربا لهم ورب موسى وحده!! ثم طلبوا يوم عطلة مقدسًا فلما كتب عليهم السبت اعتدوا فيه.


وأمام الأرض المقدسة التي بشرهم الله بدخولها وقفوا متخاذلين يصعرون خدهم في الوقت ذاته لموسى ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ﴾ [المائدة: 22] فلما كرر عليهم التحضيض والتشجيع تبجحوا وكفروا: ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24] ذلك إلى إعنات موسى بالأسئلة والاقتراحات والعصيان والتمرد، وتذكر الآية هنا قول موسى لهم في عتاب ومودة: ﴿ ... لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ... ﴾ [الصف: 5]، وهم كانوا يعلمون عن يقين،، إنما هي لهجة العتاب والتذكير..


وكانت النهاية أنهم زاغوا بعدما بذلت لهم كل أسباب الاستقامة، فزادهم الله زيغًا، وأزاغ قلوبهم فلم تعد صالحة للهدى، وضلوا فكتب الله عليهم الضلال أبدًا: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 108].


ويحذر الله الذين آمنوا من كل ما يؤذي النبي -صلى الله عليه وسلم-، لينفر حس كل مؤمن من أن يكون كهؤلاء المنحرفين الملتوين الذين يضربهم القرآن مثلًا صارخًا للانحراف والالتواء،﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ﴾ [الأحزاب: 69].

وقد برأ الله موسى مما رماه به قومه، ﴿ ... وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ﴾ [الأحزاب: 69] ذا وجاهة وذا مكانة، والله مبرئ رسله من كل ما يرمون به كذبًا وبهتانًا،[في ظلال القرآن بتصرف كبير].


وحال موسى حال كل المصلحين ﴿ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴾ [الذاريات: 52].

وحسبك أنَّهم افتروا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه.


روى البخاري عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضى الله عنه- قَالَ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَسْمًا فَقَالَ رَجُلٌ إِنَّهَا لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ - قَالَ - فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَسَارَرْتُهُ فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا وَاحْمَرَّ وَجْهُهُ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّى لَمْ أَذْكُرْهُ لَهُ - قَالَ - ثُمَّ قَالَ "قَدْ أُوذِىَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ".


وروى البخاري ومسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْجِعْرَانَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ وَفِى ثَوْبِ بِلاَلٍ فِضَّةٌ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْبِضُ مِنْهَا يُعْطِى النَّاسَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ، قَالَ "وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ"، وفي رواية [خِبْتُ وَخَسِرْتُ] فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضى الله عنه دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ، فَقَالَ "مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّى أَقْتُلُ أَصْحَابِي إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ".


وهؤلاء يطعنون في النيات والمقاصد بغير دليل إلا ظن السوء؛ فهذا الرجل لو قال: يا رسول الله كيف تعطي فلانًا وفلانًا، للمؤلفة قلوبهم.


الألوف وتترك خيار المهاجرين والأنصار؟ لربما كانت لمقالته وجه، فلما قيل له هذا القول تأسى بموسى، عليه السلام.


روى البخاري ومسلم عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قال: بَعَثَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ - رضى الله عنه - إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْيَمَنِ بِذُهَيْبَةٍ في أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا، قَالَ فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ بَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ، وَأَقْرَعَ بْنِ حَابِسٍ وَزَيْدِ الْخَيْلِ، وَالرَّابِعُ إِمَّا عَلْقَمَةُ وَإِمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلاَءِ، قَالَ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ "أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ في السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً"، قَالَ فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، نَاشِزُ الْجَبْهَةِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، مُشَمَّرُ الإِزَارِ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، اتَّقِ اللَّهَ، قَالَ "وَيْلَكَ أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الأَرْضِ أَنْ يَتَّقِىَ اللَّهَ"، قَالَ ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ، قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ أَضْرِبُ عُنُقَهُ قَالَ "لاَ، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّى"، فَقَالَ خَالِدٌ وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ في قَلْبِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "إِنِّى لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ قُلُوبَ النَّاسِ، وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ" قَالَ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ وَهْوَ مُقَفٍّ فَقَالَ "إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ"، وَأَظُنُّهُ قَالَ "لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ"، والنصوص في ذلك كثيرة.


أمثلة على أذى المنافقين للمؤمنين:
وكان المنافقون والمرجفون في المدينة في الصدر الأول هذا حالهم، يتتبعون سقطات المؤمنين وزلاتهم ويجعلون ما ليس بعورة عورة، كما روى البخاري ومسلمعَنْ أَبِى مَسْعُودٍ -رضى الله عنه- قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بشيء كَثِيرٍ فَقَالُوا مُرَاءٍ، وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ فَقَالُوا إِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا، فَنَزَلَتِ ﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 79].

عَنْ أَبِى السَّلِيلِ قَالَ وَقَفَ عَلَيْنَا رَجُلٌ في مَجْلِسِنَا بِالْبَقِيعِ فَقَالَ حَدَّثَنِي أَبِي أَوْ عَمِّي أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْبَقِيعِ وَهُوَ يَقُولُ "مَنْ يَتَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ أَشْهَدُ لَهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، قَالَ فَحَلَلْتُ مِنْ عِمَامَتي لَوْثًا أَوْ لَوْثَيْنِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِمَا فَأَدْرَكَنِي مَا يُدْرِكُ بَنِى آدَمَ فَقَعَدْتُ عَلَى عِمَامِتِى فَجَاءَ رَجُلٌ وَلَمْ أَرَ بِالْبَقِيعِ رَجُلًا أَشَدَّ سَوَادًا أَصْغَرَ مِنْهُ وَلاَ آدَمَ يَعْبُرُ بِنَاقَةٍ لَمْ أَرَ بِالْبَقِيعِ نَاقَةً أَحْسَنَ مِنْهَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَدَقَةٌ قَالَ "نَعَمْ"، قَالَ دُونَكَ هَذِهِ النَّاقَةَ، قَالَ فَلَمَزَهُ رَجُلٌ فَقَالَ هَذَا يَتَصَدَّقُ بِهَذِهِ فَوَاللَّهِ لَهِيَ خَيْرٌ مِنْهُ، قَالَ فَسَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ "كَذَبْتَ بَلْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ وَمِنْهَا"، ثَلاَثَ مِرَارٍ ثُمَّ قَالَ "وَيْلٌ لأَصْحَابِ الْمِئِينَ مِنَ الإِبِلِ"، ثَلاَثًا قَالُوا إِلاَّ مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ "إِلاَّ مَنْ قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا"، وَجَمَعَ بَيْنَ كَفَّيْهِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ "قَدْ أَفْلَحَ الْمُزْهِدُ الْمُجْهِدُ"، ثَلاَثًا الْمُزْهِدُ في الْعَيْشِ الْمُجْهِدُ في الْعِبَادَةِ، رواه أحمد.


ويقول الشهيد سيد قطب: والقصة المروية عن سبب نزول هذه الآية، تصور نظرة المنافقين المنحرفة لطبيعة الإنفاق في سبيل الله وبواعثه في النفوس.


أخرج ابن جرير - بألفاظ مختلفة - قال: حث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الصدقة [يعني في غزوة تبوك] فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف فقال: يا رسول الله مالي ثمانية آلاف، جئتك بنصفها وأمسكت نصفها، فقال: "بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت" وجاء أبو عقيل بصاع من تمر فقال: يا رسول الله أصبت صاعين من تمر صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي، قال: فلمزه المنافقون، وقالوا: ما الذي أعطى ابن عوف إلا رياء، وقالوا: ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا؟


وفي روايات أخرى أنهم قالوا عن أبي عقيل، وهو الذي بات يعمل ليحصل على صاعين أجر له، جاء بأحدهما لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنه إنما أراد أن يذكر بنفسه!


وهكذا تقوَّلوا على المؤمنين الذين انبعثوا إلى الصدقة عن طواعية نفس، ورضا قلب، واطمئنان ضمير، ورغبة في المساهمة في الجهاد كلٌّ على قدر طاقته، وكلٌّ على غاية جهده، ذلك أنهم لا يدركون بواعث هذا التطوع في النفوس المؤمنة، لا يدركون حساسية الضمير التي لا تهدأ إلا بالبذل عن طيب خاطر، لا يدركون المشاعر الرفرافة التي تنبعث انبعاثًا ذاتيًا، لتلبي دواعي الإيمان والتضحية والمشاركة، من أجل هذا يقولون عن المكثر: إنه يبذل رياء، وعن المقل! إنه يذكر بنفسه، يجرحون صاحب الكثير لأنه يبذل كثيرًا، ويحتقرون صاحب القليل لأنه يبذل القليل، فلا يسلم من تجريحهم وعيبهم أحد من الخيرين، [في ظلال القرآن].


شارك في العمل السياسي أو لم يشارك، نزل إلي ميدان التحرير أو لم ينزل، شارك بأغلبية في الانتخابات أو بأقلية، والدستور وتشكيله، والحكومة يتركوها لتعمل أو يسحبون الثقة منها فهم ملامون في الحالين، ولو قالوا: [الشعب والجيش إيد واحدة؟] لقالوا هناك صفقة مع المجلس العسكري، ولو رشحوا مرشحا للرئاسة لقالوا لأن المجلس العسكري تخلي عنهم وفسدت الصفقة بينهم.
وَما أَحَدٌ مِن أَلسُنِ الناسِ سالِما
وَلَو أَنَّهُ ذاكَ النَبِيُّ المُطَهَّرُ
فَإِن كانَ مِقدامًا يَقولونَ أَهوَج
وَإِن كانَ مِفضالًا يَقولونَ مُبذِرُ
وَإِن كانَ سِكّيتًا يَقولونَ أَبكَم
وَإِن كانَ مِنطيقًا يَقولونَ مِهذَرُ
وَإِن كانَ صَوّامًا وَبِاللَيلِ قائِمًا
يَقولونَ زَرّافٌ يُرائي وَيَمكُرُ
فَلا تَحتَفِل بِالناسِ في الذَمِّ وَالثَنا
وَلا تَخشَ غَيرَ اللَهِ فَاللَهُ أَكبَرُ

عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ - رضي الله عنه - فَعَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا، فَشَكَوْا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لاَ يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ إِنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لاَ تُحْسِنُ تُصَلِّي قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّى بِهِمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا أَخْرِمُ عَنْهَا، أُصَلِّى صَلاَةَ الْعِشَاءِ فَأَرْكُدُ في الأُولَيَيْنِ وَأُخِفُّ فِي الأُخْرَيَيْنِ، قَالَ ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلًا أَوْ رِجَالًا إِلَى الْكُوفَةِ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلاَّ سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِى عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ قَالَ أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لاَ يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ، وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلاَ يَعْدِلُ في الْقَضِيَّةِ، قَالَ سَعْدٌ أَمَا وَاللَّهِ لأَدْعُوَنَّ بِثَلاَثٍ، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ، وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الْكِبَرِ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي في الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ.


بل قالو علي الله افتراء عليه: ﴿ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ [الصافات:151-154].


﴿ لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ [آل عمران:181] ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءَ..... ﴾ [المائدة:64].


الصبر على الإصلاح: أوصيك بقول ربنا ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان:17] فما دمت ملتزما بدينك فلا بد أن تبتلى وتمتحن وليس لك بعد الله إلا الصبر.


وإليك سورة العصر ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3].


و عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "أَلاَ لاَ يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ فَإِنَّهُ لاَ يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ وَلاَ يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ أَوْ يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ" رواه أحمد.


﴿ وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [إبراهيم:12].

كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا أَنِ اكْتُبِي إِلَىَّ كِتَابًا تُوصِينِي فِيهِ وَلاَ تُكْثِرِي عَلَيَّ، فَكَتَبَتْ عَائِشَةُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى مُعَاوِيَةَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ "مَنِ الْتَمَسَ رِضَاءَ اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَاءَ النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ"، وَالسَّلاَمُ عَلَيْكَ؛ رواه الترمذي وصححه الألباني.


أما رسالتي إلى وسائل التزييف والتضليل إلى وسائل الإعلام المغرضة التي تنشر الفتن بين الناس وتشيع الضلال والزيف.


أيها المفتري ارحم نفسك: ارحم نفسك من عذاب اللهومن لعنة التاريخ الذي لا يرحم وسيذكرك بما فعلت.


عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بن شداد أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ "مَنْ أَكَلَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَكْلَةً فَإِنَّ اللَّهَ يُطْعِمُهُ مِثْلَهَا مِنْ جَهَنَّمَ وَمَنْ كُسِىَ ثَوْبًا بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَكْسُوهُ مِثْلَهُ مِنْ جَهَنَّمَ وَمَنْ قَامَ بِرَجُلٍ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُومُ بِهِ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، أَبُو دَاوُدَ وأحمد والحاكم و قال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وصححه الألباني.


فمن يتقرب إلى ذي سلطان أو غيره بالكلام في أخيه المؤمن، والافتراء عليه في حوار أو مناظرة أو محاضرة مدفوعة الأجر فيعمل أجير عند أصحاب الهوى، وأن ينسب إليه ما لم يقل مقابل شيء يناله من الدنيا، فإن كان هذا الشيء أكلة، أطعمه الله مثلها من النار وأيضًا لو كان الأمر مما يتعلق بالكساء والثياب فله مثل ذلك من النار.


روى مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ "بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِى كَافِرًا أَوْ يُمْسِى مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا"، يبيع دينه ببرنامج تليفزيوني أو وظيفة أو مرتب أو ترقية أو حافز..


﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النور:19].

وبعض الناس قد يشارك من حيث لا يعلم في نشر الرذيلة في المجتمع، أو في نشر الجرح في الفضلاء، فيقول: قال فلان كذا وكذا.


﴿ ... وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ[النور:15].

وهو بهذا ينشر الجرح ويشيعه، وبعض الناس يتشفى حتى يقول لك في معرض الغيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون، حسبنا الله ونعم الوكيل في فلان، فيُظهر التوجع، ويظهر الحسرة، فتقول: ما شاء الله، ما أشفقه على عباد الله، ثم يقول: هدى الله فلان بن فلان فعل كذا وكذا، غفر الله له، الله يرده إلى صوابه!


لقد أصبحت الأمة الإسلامية في زمنٍ العامل فيه بالسنة في غربة، وهو المجروح، وهو الذي تنصب عليه السهام، بينما أصبح المخالف للسنة كأنه الوسط، المعتدل فكرًا ومنهجًا!!!


﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا[الأحزاب:58].

عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ "إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الاِسْتِطَالَةَ في عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ" رواه أبو داود وصححه الألباني.


عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "الرِّبَا سَبْعُونَ حُوبًا أَيْسَرُهَا أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ" ابن ماجة وصححه الألباني الحوب بضم الحاء المهملة وفتحها هو الإثم، وفي رواية صححها الألباني (الربا سبعون حوبا وأيسرها كنكاح الرجل أمه وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم).

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "لَمَّا عُرِجَ بِى مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ فَقُلْتُ مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ في أَعْرَاضِهِمْ" أَبُو دَاوُدَ وأحمد وصححه الألباني.


عَنْ أَبِى بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ قَلْبَهُ لاَ تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ في بَيْتِهِ"، أبو داود وأحمد وصححه الألباني.


عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ "يَا مَعْشَرَ مَنْ قَدْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لاَ تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تُعَيِّرُوهُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ في جَوْفِ رَحْلِهِ" قَالَ وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْبَيْتِ أَوْ إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ.
الترمذي وصححه الألباني.


روى البخاري ومسلم عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَي قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ لأَنْقَلِبَ فَقَامَ مَعِيَ ِيَقْلِبَنِي، وَكَانَ مَسْكَنُهَا في دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَمَرَّ رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَسْرَعَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ"، فَقَالاَ سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِى مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ في قُلُوبِكُمَا شَرًّا"، أَوْ قَالَ: "شَيْئًا" وما أكثر الشرور التي يقذفها شياطين الإنس من خلال الأثير في أجهزة الإعلام.


نرى إعلامنا اليوم - الكثير منه - وبعض الناس يعمل عمل الذباب لا يرى إلا القاذورات والنجاسات والسوءات فيسلِّط عليها الأضواء والكاميرات، ويقيم من أجلها النقاشات والحوارات، لا من أجل أن يطهِّر المجتمع ويجنِّب الناس السوءات، لا بل من أجل أن يضخِّم الزبالة في المجتمع وينشرها في أرجائه، ويُصيب من لم يُصب بها، فتعم الفوضى وتنتشر النار في الهشيم، فلماذا هذا؟ وما الفائدة العائدة عليهم من تدنيس أوطانهم وتخريب بلادهم؟


لا تكن زبَّالا:- مع كامل احترامنا للزبَّال ومهنته وشخصه فهي مهنة شريفه ولكن لضرب المثل - الزبال يأتي الحديقة لا من أجل أن يبحث عن الأزهار والأشجار ولكن من أجل أن يبحث عن الزبالة والقمامة وفضلات الناس، فلا تقع عينه إلا على الزبالة وربما لا يري الأزهار ولا تعني له شيئًا، وحتى الزبّال يجمع الزبالة ليواريها عن أعين الناس، فلا تكن في نظرتك للناس والمجتمع كنظرة الذباب الذي يفسد ليستفيد أو النمل الذي لا يهمه إلا نفعه الشخصي أو الزبَّال، بل كن كالنحل وكن نخلة كلها نفع، وحتى لو وقعت عينك على سوأة فاسترها وأصلحها كما يصلح الزبَّال الحدائق ويبعد عنها القمامة.


الحذر من الظن:
فإن الظن أكذب الحديث، يقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن قوم: ﴿ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًَّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية:32] وأكثر معلومات الناس ظن، لأن المصادر التي نتلقاها في الأربع والعشرين ساعة من سبيل الظن، وليست من سبيل اليقين، ولا يوثق بأخبارها؛ لأنها ليست مرشحة لتعطي الأخبار الصحيحة المعقولة،ونحن نقول: [كلام جرائد] فكلام الفضائيات والإعلام في غالبة لا يسمن ولا يغني من جوع ولا ينبغي أن ينبني عليه شيء وخاصة وأنها هي هي نفس الأجهزة ونفس الأشخاص دون أدنى تغيير التي كانت تسبح بحمد النظام السابق وتمجد في المخلوع وفي سيد ة مصر الأولي وقال عز من قائل: ﴿ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [يونس:36] إنها الحملة الشعواء المسمومة لتشويه صورة الإسلام حتى يظن البسطاء من الناس أن الإسلام والشريعة لا تصلح لزماننا والعياذ بالله.


روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا"، مأخوذة من النجش وهو: الزيادة في السلعة وهو لا يريد أن يشتريها،وسوء الظن يولد في الإنسان عندما يترك هذه الفضائل، فتنقطع الأخوة والبغضاء ويقع الحسد والبغي، ويقع العدوان والفتنة، وأصل ذلك كله ناشئ من سوء الظن -والعياذ بالله- وقال بعض السلف -وهو من الكلام المفيد-: إنما يُسيء الظن بالله خبيث النفس، قالوا: كيف ذلك؟! قال: إنه تترشح صفاته فتخرج في غيره، أي: هو نفسه خبيثة والعياذ بالله، وأعماله وباطنه خبيث، فيترشح ذلك كما يترشح الإناء، ويخرج بشكل إساءة الظن بالناس.


فيأتيه -مثلًا- القول الصادق فيقول: لا، هذا القول كذب، وإذا قيل له: لماذا؟ يقول: ماذا لو كان صاحبه كاذبًا؟! لأنه هو -نفسه- يقول القول وهو كاذب والعياذ بالله.


ويوصف له الإنسان بالتقوى فيقول: لا، هذا ليس بتقوى، لماذا؟ قال: هناك أشياء لا تدري أنت عنها ولا تعلمها، لماذا؟ قال: لأنه يظهر التقوى ويعمل في الباطن أعمالًا خفيه، فهو في الحقيقة يتكلم عن نفسه، وأصدق الناس ظنًا بإخوانه المسلمين هو أسلم الناس باطنًا، وهذه قاعدة؛ لأنه لا يتصور أن أحدًا يقول الحق ثم يفعل هذه الموبقات ولذا فإنه لا يتهم بها الناس؛ لكن الذي يفعلها -والعياذ بالله- يتهم الآخرين بلا دليل إلا دليل سوء الظن فقط.


قال المتنبي:

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه
وصدَّق ما يعتاده من توهّم

وقال ابن المبارك: المؤمن يطلب معاذير إخوانه، والمنافق يطلب عثراتهم ومن علامات شقاء الأمة أن تشغل بنفسها عن أعدائها.


نصيحة عمر للأمة بحسن الظن: أورد ابن الجوزي في مناقب عمر خطبة عظيمة، وأوردها ابن سعد في طبقاته، قال فيها: أيها الناس! ألا إنما كنا نعرفكم إذ بين أظهرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- وينزل الوحي وينبئنا الله من أخباركم، ألا وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد انطلق وانقطع الوحي، وإنما نعرفكم بما تقولون، مَن أظهر خيرًا ظننا به خيرًا وأحببناه، ومن أظهر شرًا ظننا به شرًا وأبغضناه عليه، سرائركم بينكم وبين ربكم..


ويبين الله سبحانه وتعالى أن الظنون تعصف بالناس عصفًا، وتأخذ بالعقول أخذًا إلا من رحم الله - عز وجل - من أهل الإيمان ومن اعتصم بمنهج القرآن وتابع المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴾ [الأنعام:116].


إنهم أقوام رضوا بالتلفيق، وأخذوا بالتشكيك، وما عرفوا النور في آيات الله سبحانه وتعالى، وما عرفوا الاستقامة في منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما عرفوا الثبات على الحق والاعتصام به؛ لأنه الطريق الموصل إلى رضوان الله - عز وجل - من غير حيرة ولا اضطراب، ومن غير شك ولا ارتياب.


حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه واستحضار تاريخه المشرف: روى البخاري ومسلم عن عَلِيٍّ بن أبي طالب رضى الله عنه قال: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَالزُّبَيْرَ وَأَبَا مَرْثَدٍ وَكُلُّنَا فَارِسٌ قَالَ "انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ حَاجٍ - قَالَ أَبُو سَلَمَةَ هَكَذَا قَالَ أَبُو عَوَانَةَ حَاجٍ - فَإِنَّ فِيهَا امْرَأَةً مَعَهَا صَحِيفَةٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَأْتُونِي بِهَا"، فَانْطَلَقْنَا عَلَى أَفْرَاسِنَا حَتَّى أَدْرَكْنَاهَا حَيْثُ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَسِيرُ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا، وَكَانَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِمَسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ، فَقُلْنَا أَيْنَ الْكِتَابُ الَّذِى مَعَكِ قَالَتْ مَا معي كِتَابٌ، فَأَنَخْنَا بِهَا بَعِيرَهَا، فَابْتَغَيْنَا في رَحْلِهَا فَمَا وَجَدْنَا شَيْئًا، فَقَالَ صَاحِبِي مَا نَرَى مَعَهَا كِتَابًا، قَالَ فَقُلْتُ لَقَدْ عَلِمْنَا مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ حَلَفَ عَلِىٌّ وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لأُجَرِّدَنَّكِ، فَأَهْوَتْ إِلَى حُجْزَتِهَا وَهْىَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ فَأَخْرَجَتِ الصَّحِيفَةَ، فَأَتَوْا بِهَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، دَعْنِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "يَا حَاطِبُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ"، قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ، إِنِّى كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا في قُرَيْشٍ - يَقُولُ كُنْتُ حَلِيفًا وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا - وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ لَهُمْ قَرَابَاتٌ، يَحْمُونَ أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي، وفي رواية (أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي، وَلَيْسَ مِنْ أَصْحَابِكَ هُنَاكَ إِلاَّ وَلَهُ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ)وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي، وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ لاَ تَقُولُوا لَهُ إِلاَّ خَيْرًا"، قَالَ فَعَادَ عُمَرُ فَقَالَ يَا رَسُولُ اللَّهِ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، دَعْنِي فَلأَضْرِبَ عُنُقَهُ، قَالَ "أَوَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ أَوْجَبْتُ لَكُمُ الْجَنَّةَ"، فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ السُّورَةَ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ... فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [الممتحنة: 1].

يقول سيد قطب: وقد قيل في هذا الحادث: إن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلًا من المهاجرين، وكان من أهل بدر أيضًا.


وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم بل كان حليفًا لعثمان، فلما عزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على فتح مكة لما نقض أهلها عهد الحديبية أمر المسلمين بالتجهيز لغزوهم، وقال: "اللهم عَمِّ عليهم خبرنا"، وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جماعة من أصحابه بوجهته، كان منهم حاطب، فعمد حاطب فكتب كتابًا وبعثه مع امرأة مشركة قيل من مزينة جاءت المدينة تسترفد إلى أهل مكة يعلمهم بعزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على غزوهم، ليتخذ بذلك عندهم يدًا، فأطلع الله تعالى رسوله على ذلك استجابة لدعائه، وإمضاء لقدره في فتح مكة، فبعث في أثر المرأة، فأخذ الكتاب منها.


وأول ما يقف الإنسان أمامه هو فعلة حاطب، وهو المسلم المهاجر، وهو أحد الذين أطلعهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على سر الحملة.


وفيها ما يكشف عن منحنيات النفس البشرية العجيبة، وتعرض هذه النفس للحظات الضعف البشري مهما بلغ من كمالها وقوتها؛ وأن لا عاصم إلا الله من هذه اللحظات فهو الذي يعين عليها.


ثم يقف الإنسان مرة أخرى أمام عظمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو لا يعجل حتى يسأل: "ما حملك على ما صنعت" في سعة صدر.


وعطف على لحظة الضعف الطارئة في نفس صاحبه، وإدراك ملهم بأن الرجل قد صدق، ومن ثم يكف الصحابة عنه: "صدق لا تقولوا إلا خيرًا"، ليعينه وينهضه من عثرته، فلا يطارده بها ولا يدع أحدًا يطارده، بينما نجد الإيمان الجاد الحاسم الجازم في شدة عمر: "إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه"،، فعمر رضي الله عنه إنما ينظر إلى العثرة ذاتها فيثور لها حسه الحاسم وإيمانه الجازم، أما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فينظر إليها من خلال إدراكه الواسع الشامل للنفس البشرية على حقيقتها، ومن كل جوانبها، مع العطف الكريم الملهم الذي تنشئه المعرفة الكلية، في موقف المربي الكريم العطوف المتأني الناظر إلى جميع الملابسات والظروف..


ثم يقف الإنسان أمام كلمات حاطب، وهو في لحظة ضعفه، ولكن تصوره لقدر الله وللأسباب الأرضية هو التصور الإيماني الصحيح،، ذلك حين يقول: "أردت أن تكون لي عند القوم يد،، يدفع الله بها عن أهلي ومالي"،، فالله هو الذي يدفع، وهذه اليد لا تدفع بنفسها، إنما يدفع الله بها، ويؤكد هذا التصور في بقية حديثه وهو يقول: "وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله" فالله حاضر في تصوره، وهو الذي يدفع لا العشيرة، إنما العشيرة أداة يدفع الله بها..


ولعل حس رسول الله الملهم قد راعى هذا التصور الصحيح الحي في قول الرجل، فكان هذا من أسباب قوله -صلى الله عليه وسلم-: "صدق، لا تقولوا إلا خيرًا".


لقد تذكر له ماضيه النضالي الجهادي المشرف فمن اتصف بالنضال والجهاد في وقت الأزمات في وقت العسرة أيتصف بالخيانة ويبيع بلده في وقت الرخاء والتمكين؟! لقد شهد بدرا وكان من السابقين الأولين المجاهدين.


وأخيرًا يقف الإنسان أمام تقدير الله في الحادث؛ وهو أن يكون حاطب من القلة التي يعهد إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسر الحملة، وأن تدركه لحظة الضعف البشري وهو من القلة المختارة، ثم يجري قدر الله بكف ضرر هذه اللحظة عن المسلمين، كأنما القصد هو كشفها فقط وعلاجها! ثم لا يكون من الآخرين الذين لم يعهد إليهم بالسر اعتراض على ما وقع، ولا تناج بالقول: ها هو ذا أحد من استودعوا السر خانوه، ولو أودعناه نحن ما بحنا به! فلم يرد من هذا الشيء، مما يدل على أدب المسلمين مع قيادتهم، وتواضعهم في الظن بأنفسهم، واعتبارهم بما حدث لأخيهم،، [في ظلال القرآن بتصرف].

وليست هذه دعوة للخيانة أو التساهل في الوطنية وحب الدين فلقد نهى عن موالاة أعداء الله سواء من المشركين أو من اليهود، ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[المجادلة:22] وذلك ليتم التميز والانفراد والمفاصلة من جميع الوشائج والروابط غير رابطة العقيدة وغير وشيجة الإيمان.


عن ابْنِ أَبِى مُلَيْكَةَ قَالَ لَمَّا هَلَكَتْ أُمُّ أَبَانَ حَضَرْتُ مَعَ النَّاسِ فَجَلَسْتُ بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ فَبَكَيْنَ النِّسَاءُ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ أَلاَ تَنْهَى هَؤُلاَءِ عَنِ الْبُكَاءِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ "إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ فَقَالَتْ أَمَا وَاللَّهِ مَا تُحَدِّثُونَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ كَاذِبَيْنِ مُكَذَّبَيْنِ وَلَكِنَّ السَّمْعَ يُخْطِئُ وَإِنَّ لَكُمْ في الْقُرْآنِ لَمَا يَشْفِيكُمْ ﴿ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [النجم: 38] وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ "إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"، الحديث عند البخاري ومسلم والنسائي.


فظنت عائشة رضي الله عنها أن هذا النص يخالف ما ثبت عندها من كلامه -صلى الله عليه وسلم-؛ بل يخالف مقتضى القرآن الكريم.فلم تتهم النيات بل وجدت لقول عمر وابن عمر في الخير محملا فحملته على الوجه الأحسن واستحضرت صدقهما وتاريخهما، وقد حقق العلماء المسألة وتم التوفيق بين القولين.


رسالتي إلى المجتمع: اعلم أخي الكريم أننا في وقت فتنة يحتاج إلى تمحيص وتدقيق فربما الذي تصدّق هو الكذوب، وربما من تأتمن هو الخائن.


فكلنا نري من زوِّرت له الانتخابات في عهد المخلوع يخرج بكل بجاحة وبلا حياء ليثقف الناس وينصحهم ويرشدهم من يرشحون للرئاسة من خلال الفضائيات صاحبة المصالح, ويعيب على من زورت ضده الانتخابات ويصفهم بالأنانية والتكويش وعدم الحرص على الوطن.


فمَن عادته التزوير والتلفيق أيكون صادقا بعدما انتزعت من السلطة وانكشف تزويره وانفضح أمره أم أنه يود العودة بالتشويه والتلفيق؟!


وللأسف في بعض الأحيان يصدق المزور وينخدع الناس به وصدق الله ورسوله.


عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالَ الرَّجُلُ التَّافِهُ في أَمْرِ الْعَامَّةِ" رواه ابن ماجة وأحمد والحاكم وقال هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه وتعليق الذهبي في التلخيص: صحيح، وصححه الألباني وفي رواية أحمد "إِنَّ أَمَامَ الدَّجَّالِ سِنِينَ خَدَّاعَةً" و"الْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ في أَمْرِ الْعَامَّةِ".


فلا تشارك في هذه المنظومة العفنة واربأ بنفسك عن الخوض في قيل وقال روى البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لاَ يُلْقِى لَهَا بَالًا، يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لاَ يُلْقِى لَهَا بَالًا يَهْوِى بِهَا في جَهَنَّمَ".


كيف نتلقى الأخبار: إن الله عز وجل قد قص لنا في القرآن قصة عظيمة جعل فيها لأمة الإسلام درسًا عظيمًا ونافعًا، امتد في الزمان شهرًا كاملًا، وكان يتعلق بأعظم إنسان كان في هذا الوجود وهو النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويتعلق بعرض عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وذلك عندما أثار أهل النفاق ما أثاروه، فجاء التوجيه لأهل الإيمان: ﴿ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ [النور:12].

يأتي أبو أيوب قبل أن تنزل البراءة من فوق سبع سماوات إلى أم أيوب ويقول: يا أم أيوب! أرأيت لو كنت مكان عائشة أيمكن أن تفعلي ما رميت به عائشة رضي الله عنها؟ قالت: لا والله! قال: فوالله! لعائشة خير منك وخير من نساء العالمين. فقالت هي: يا أبا أيوب! أرأيت لو كنت مكان صفوان أيمكن أن تفعل ما رمي به صفوان؟ قال: لا والله! قالت: فصفوان والله خير منك.


فلم هذه الظنون المرجفة؟ لم هذه الأوهام السوداء التي تجعلك تنظر إلى هذا شزرًا، وتحمل لهذا غلًا وبغضًا من غير ما شيء إلا كلام ساقط أو اتهام باطل؟! انظر إلى الآية القرآنية: ﴿ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16] بهتان أن تنال من عرض أخيك المسلم، بهتان أن تنطق بالفاحشة فتشيعها بين أهل الإيمان وفي مجتمع الإسلام، أين أنت من اليقين؟ أين أنت من (البينة أو حد في ظهرك)؟ سيما إذا تعلق الأمر باتهام في عرض، وأخطر من ذلك، اتهام في اعتقاد فهذا يكفر وهذا يبدع وهذا يفسق وهذا يرجم بالغيب، نسأل الله عز وجل السلامة من كل هذا.


رد غيبة أخيك: لا يكفي أن تكون صامتا ولحم أخيك يؤكل فعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ "مَنْ ذَبَّ عَنْ لَحْمِ أَخِيهِ بِالْغِيبَةِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنَ النَّارِ"، رواه أحمد وصححه الألباني.


عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ "مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، الترمذي وصححه الألباني.


وجوب التثبت في الأقوال قبل نقل الأخبار:فإن الله جل وعلا قد قال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6]، تأمل كيف أن الله عز وجل حرم الظن السيئ بالمؤمنين، فالظن الجزافي الذي لا يعتمد على شيء حرمه الله جل وعلا، ثم لما حرم هذا الظن، حرم سلوك السبيل الذي يؤكد هذا الظن، وهو: التجسس، لأن الإنسان عندما يتجسس، فإنما يحاول أن يؤكد ظنًا عنده؛ فحرم الله سوء الظن، وحرم السبيل لتأكيد هذا الظن، وهو التجسس، وحرم الغيبة التي هي التكلم بما تأكد له من التجسس. وهذا كله لحماية أفراد المجتمع المسلم من جميع الآفات والشرور.


روى مسلم عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ"، كثيرًا ما تسمع قولًا فتسأل قائله: هل رأيت بأم عينيك؟ هل سمعت بأذنيك؟ هل حضرت بنفسك؟


فيقول: كلا، بل قالوا أو زعموا أو أخبروني، من أولئك القوم؟ إننا لا نريد هذا المنهج الذي أُشعلت بسببه كثير من الفتن، وكثير من صور الإرجاف في مجتمع المسلمين.


عَنْ أَبِى مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ قِيلَ لَهُ مَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ في زَعَمُوا قَالَ "بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا"، أخرجه أَبُو دَاوُدَ والبخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني.


كما قال عمر بن عبدالعزيز عندما بلّغه بعض الناس خبرًا عن آخرين: إن كنت كاذبًا فحسبك بالكذب إثمًا، وإن كنت صادقًا فحسبك بالنميمة إثمًا.


عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَفَعَهُ قَالَ "إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا"؛ الترمذي.


فاتق الله في نفسك.


عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ "كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ"، أَوْ "يُوشِكُ أَنْ يَأْتِي زَمَانٌ يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً تَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ وَاخْتَلَفُوا فَكَانُوا هَكَذَا"، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَقَالُوا وَكَيْفَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ "تَأْخُذُونَ مَا تَعْرِفُونَ وَتَذَرُونَ مَا تُنْكِرُونَ وَتُقْبِلُونَ عَلَى أَمْرِ خَاصَّتِكُمْ وَتَذَرُونَ أَمْرَ عَامَّتِكُمْ"، رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد و الحاكم و قال الحاكم: " صحيح الإسناد "، و وافقه الذهبي، وصححه الألباني.


قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ ذَكَرَ الْفِتْنَةَ فَقَالَ "إِذَا رَأَيْتُمُ النَّاسَ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَخَفَّتْ أَمَانَاتُهُمْ وَكَانُوا هَكَذَا"، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ قَالَ فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ كَيْفَ أَفْعَلُ عِنْدَ ذَلِكَ جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاكَ قَالَ "الْزَمْ بَيْتَكَ وَامْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَخُذْ بِمَا تَعْرِفُ وَدَعْ مَا تُنْكِرُ وَعَلَيْكَ بِأَمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَامَّةِ"، قال الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة خرجه أبو داود و أحمد والحاكم وقال: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي، و قال المنذري و العراقي: " سنده حسن "، نقله المناوي في " الفيض"، وأقرهما و هو كما قالا.


نسأل الله العلي القدير أن يعيننا علي الحق وأن يرزقنا الثبات عليه ما حيينا وأن يلهما الصبر على لأوائه إنه ولي ذلك والقادر عليه.


وأن يجعلنا ممن قال فيهم رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم "لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ" رواه مسلم.


﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الصافات: 180 - 182].

والصلاة والسلام على من
عظمت جميع خصاله
صلوا عليه وآله




الهوى يعمي ويصم!

$
0
0
الهوى يعمي ويصم!


الشيخ عبدالعزيز بن محمد العقيل







إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفِره، ونعوذ بالله مِن شرور أَنفُسنا ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم على الخِيرة مِن خَلقِك، والمصطفى من عبادك؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبِه وأتباعه أجمعين.

وبعد:
فعِندما يُريد شخص تنفيذ مآربه، فإنما يَنظر إليها ويسمع بعَين وأُذن، وبهذا فإن ما يُسمَّى بحرب الإرهاب التي تزعَّمَتها أمريكا، قد صار بعَين وأُذن إن لم يَكن أَعمى وأَصم، لا يَنظر ولا يَسمع إلا بمكْر اليهود وخِداعهم، فأحداث أمريكا استُغلَّت مِن قِبَل اليهود ضد المسلمين عربهم وعجَمهم، وجعلوا آثار هذه الأحداث وسيلةً لفَرض طُغيانهم وجبَروتهم ومَكرِهم على المسلمين، فأخذوا يَعيثون في الأرض فسادًا دون نظر أو تفكُّر، فدكَّوا المدن والجبال، وأفسدوا الأرض والهواء، وقتَلوا وشرَّدوا البشَر ممَّن لا ذنبَ لهم فيما ادَّعت به ضدَّ أشخاص باعتداء عليها إن لم يكن مِن اليهود أنفسهم أو لهم فيه يدٌ طائلة.

إن مكر اليهود وخِداعهم يَقلب الحقائق أمام الأعمى الأصمِّ الذي لا يَنظر إلا تحت قدميه، وهذا وأمثاله بذلك مُسيَّر لا مخيَّر؛ ولهذا يُبارك زعماء أمريكا ما يفعله اليهود في فلسطين ضد شعبٍ أعزلَ؛ مِن هدْم للقُرى، وقتْل للأبرياء، وإفساد في الأرض والحرث، ولا يرى هؤلاء اليهود أنهم بذلك أصْل للإرهاب، وجذور الإرهاب نبتت في أرضهم، ولكنهم - كعادتهم - حولوا هذه الوحشية إلى أنه دفاع عن النفس، أما الذين يُدافعون عن أنفسهم ووطنهم بالحِجارة، فإنهم - في نظر أمريكا - إرهابيُّون؛ تصديقًا لليهود حتى في اتهامهم للفلسطينيين بأنهم سفينة الأسلحة، ولو قيل: إنها للفلسطينيين، ألا يكون ذلك حقًّا للفلسطينيِّين في مُقابل ما يَملكه اليهود من القنابل الفتاكة، والطائرات والدبابات المدمِّرة، والتي تمدُّها بها أمريكا؟ ولو قيل: إن كلاًّ مِن الفلسطينيين واليهود يُدافع عن نفسه، ألا يَنبغي أن يكون هناك تناسبٌ بين القوتين ولو كان قليلاً؟! ولكنَّ الهوى يُعمي ويصمُّ! وهذا لأن الحكم للأقوى، ولو كان الحق للضعيف ومَن يدافع عنه أو يؤيِّده، تُقام ضده الدنيا ولا تقعد.

إن وسائل إعلام أمريكا - والتي يُديرها اليهود - تشنُّ الحملات الماكِرة والمُغرضة والشَّرسة ضدَّ السعودية، والمؤيِّدة لحق الفلسطينيين في بلادهم والدفاع عن أنفسهم، ولعلَّ هذه الحملة الشرسة من إعلام الغرب ضدَّ السعودية؛ لما لها مِن ثِقل، ووقوف مع الحق، وقبول وتأييد، وهذا أكثر ما يَخشاه اليهود مِن انعكاسات وتأثيرات على أعمالهم الشريرة ضدَّ الفلسطينيين، فمنذ ما يَزيد على خمسين سنةً سكَت العالَم إلا القليل منهم أمام المُستعمرين الصهيونيين، وأُيدتْ من قِبَل النصارى ومَن شايعهم ممن غرس هذه النبتة الفاسدة في فلسطين؛ تخلصًا من أذى اليهود لهم، ولشَغْل المسلمين في أوطانهم، ولعلَّ ما حدث يكون ابتلاءً وامتحانًا للمسلمين دولاً وشعوبًا؛ ليُحاسبوا أنفسهم، ويَعرفوا من أين أُتُوا، فيرجعوا إلى ربهم، ويُحكِّموا شرع الله، ويتسلَّحوا بالإيمان به - جل وعلا - وبالقوة الحسِّية التي أمَر الله بها المؤمنين، فيَجمعوا بين القوة المعنوية والقوة الحسية لإرهاب أعدائهم، فلا يفكِّر هؤلاء الأعداء في الاعتداء عليهم، ولا الوقوف أمام دعوتهم للإسلام الذي جاء لصالح البشرية في دُنياها وأُخراها، فكفَر به مَن كفَر، وتسلَّح بالسلاح الفتَّاك مَن تسلَّح؛ ليَمنعوا انتشاره ويُطفؤوا نور الله، فعاثوا في الأرض فسادًا بأسلحتهم الفتاكة، ونشَروا الرعب، وأفسدوا الأخلاق بمدنيَّتهم الزائفة، وأصبحوا كالأنعام لا يَعرفون معروفًا، ولا يُنكِرون منكرًا، وهم كالحيوانات في إشباع البطن والفرْج.

لقد آن لأمة الإسلام أن تعود إلى مجْدِها، وتتسلَّح بالسلاحَين المعنويِّ والحسي؛ لتُخلِّص البشرية مِن وَيلات الحروب الفتاكة، والمواد المُهلِكة، والأخلاق الهدَّامة، فإنها أمة رسالة سامية جاء بها خاتم الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليه - المبعوث رحمةً للعالمين؛ ليُخرج الناس مِن الظلمات إلى النور، ومِن عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد وحده لا شريك له، فمَن أطاعه سعد في دنياه وأُخراه، ومَن عصاه شقي في دُنياه وأُخراه؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ * قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [الأنبياء: 107، 108]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف: 128]، فمَن عبد اللهَ وحده، وامتثَل أوامره، واجتنَب نواهيه، سعد في دنياه وأخراه؛ فأمة الإسلام أمة رسالة سامية صالحة لكل زمان ومكان، وقد قال نبيُّنا - صلوات الله وسلامه عليه -: ((بلِّغوا عني ولو آية)).


فعلى أمة الإسلام أن تَعي رسالتها، وتُعيد مَجدها، وتتذكَّر أعمال أسلافها الصالِحين، وتحذوَ حَذوَهم في علاقتهم مع ربها، وعلاقتهم فيما بينهم ومع غيرهم؛ لتَسعد البشرية، وتسلَم مِن ويلات الدمار، ويَسعد مَن أطاع الله في دُنياه وأُخراه.

نرجو الله أن يُصلح أحوال المسلمين، وأن يَهديهم صِراطه المستقيم؛ إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم.





سلسلة أُسْدِ الغَابَة {15}|( غُبارُ فارس {سراقة بن مالك} - رضي الله عنه)| للشيخ سمير مصطفى

$
0
0
يسر إخوانكم فى منتدى
فرسان الحق :::: فرسان السنة
بالتعاون مع موقع الشيخ سمير مصطفى
أن يقدموا لكم سلسلة خُطب جديدة تحمل عنوان
(((
أُسْدُ الغَــابَــة)))

- الخطبةُ الخامسة عشر -
غُبارُ فَارِس { سُراقَةُ بنُ مَالِك } * رضى الله عنه *


لفضيلة الشيخ ( سمير مصطفى) حفظه الله تعالى



رابط فيديو wmv جودة ممتـــازة

رابط فيديو rmvb جودة متوسطـة
رابط صوت mp3 جودة عاليـة





لا تنسونا من صالح دعائكم

التنمية المستدامة وأهدافها

$
0
0
التنمية المستدامة وأهدافها
د. مصطفى عطية جمعة






لا شك أن التنمية هي غاية المجتمعات الحديثة، من أجل تحقيق الاكتفاء لشعوبها، وسعياً إلى مستوى حياتي يتيح العيش بكرامة لكل فرد من أفراد المجتمع، دون اللجوء إلى ذل الحاجة والطلب داخل المجتمع، أو الهجرة الاختيارية أو الإجبارية خارج المجتمع. ومن هنا، فإن تنمية المجتمع واستغلال موارده بشكل اقتصادي فاعل، دون إسراف وإهدار، لهو الهدف الأسمى لأية حكومة راشدة، تمتلك رؤية استراتيجية واضحة الهدف والمقصد.


ومن المنظور الإسلامي، فإن ما تقدّم يدخل ضمن مقاصد الشريعة دون شك، فغاية الشريعة الحفاظ على الكليات الخمس: الدين، النفس، العرض، المال، العقل. والحفاظ لا يتحقق للأفراد بمعزل عن المجتمع، وإنما من خلال استغلال موارد الوطن، وتنميتها، وحسن إدارتها، وهو ما يتقابل مع مفاهيم التنمية الحديثة، وحسن إدارة المجتمعات، وما يعرف باسم التنمية المستدامة، وهو يحتاج إلى دراسة من المنظور الشرعي، للنظر في علاقة التنمية بالمقاصد الشرعية عامة، والفروض الكفائية والعينية خاصة، وبعبارة أخرى: إعادة تأصيل مفهوم التنمية عامة والتنمية المستدامة خاصة.


وبداية، نشير إلى أن مفهوم التنمية Development برز في علم الاقتصاد حيث استُخدم للدلالة على عملية إحداث مجموعة من التغيرات الجذرية في مجتمع معين؛ بهدف إكساب ذلك المجتمع القدرة على التطور الذاتي المستمر بمعدل يضمن التحسن المتزايد في نوعية الحياة لكل أفراده. بمعنى زيادة قدرة المجتمع على الاستجابة للحاجات الأساسية والحاجات المتزايدة لأعضائه؛ بالصورة التي تكفل زيادة درجات إشباع تلك الحاجات؛ عن طريق الترشيد المستمر لاستغلال الموارد الاقتصادية المتاحة، وحسن توزيع عائد ذلك الاستغلال. فالتنمية هي النمو زائد التغيير، والتغيير بدوره اجتماعي وثقافي وكذلك اقتصادي، وهو كيفي مثلما هو كمي، والمفهوم الأساسي هو التحسين النوعي لحياة الناس[1].


لقد تطور مفهوم التنمية ليتجاوز المفاهيم الكمية، التي حصرت التنمية في أرقام وحسابات الاقتصادية، وليرتبط بالعديد من الحقول المعرفية والاجتماعية واشتمالها على مختلف قطاعات المجتمع، بهدف إحداث التكافؤ الاجتماعي والتوزيع العادل للثروة داخل الدولة، وكذلك إعطاء أولوية متقدمة لتنمية القدرات البشرية، فأصبحت هناك التنمية الثقافية التي تسعى لرفع مستوى الثقافة في المجتمع وترقية الإنسان، وكذلك التنمية الاجتماعية التي تهدف إلى تطوير التفاعلات المجتمعية بين أطراف المجتمع: الفرد، الجماعة، المؤسسات الاجتماعية المختلفة، والمنظمات الأهلية بالإضافة لذلك استحدث مفهوم التنمية البشرية الذي يهتم بدعم قدرات الفرد وقياس مستوى معيشته وتحسين أوضاعه في مجتمعه، وهو ما تطور بعد ذلك فيما يسمى " التنمية التشاركية " التي لا تدمج مختلف القطاعات والشرائح السكانية والفئات الاجتماعية في العملية التنموية، تمهيدا لإعلان " كوكويوك " بأن الغرض من التنمية " ألا يكون تنمية الأشياء بل تنمية الإنسان "، وأن " أية عملية لا تؤدي إلى تلبية الاحتياجات الأساسية للإنسان أو تعوقها فهي صورة مشوهة لفكرة التنمية"[2].

وإذا كان الاقتصاديون مختلفين في تحديد مفهوم التنمية، فهناك من يصنفها بأنها عملية نمو شاملة تكون مرفقة بتغيرات جوهرية في بنية اقتصاديات الدول النامية وأهمها الاهتمام بالصناعة والزراعة والتجارة، وهناك من ربطها بالتغيرات الاجتماعية والسكانية الإيجابية التي تحقق الرفاهية للشعوب.

وهي في جميع الأحوال الوسيلة المبتغاة لاستثمار الموارد الطبيعية، والبشرية في الأوطان، لأنها تجعل أبناء الوطن جميعهم في حالة استنفار لأن يقوموا بأنفسهم بتنمية بلدهم، غير منتظرين هبات من حاكم، ولا مساعدة من دول أجنبية، يعلمون قبل غيرهم أنها لا تمنح دون مقابل. كما أنها سبيل الأمة إلى الحضارة بمفهومها الشامل، ففرق بين التنمية والحضارة، الحضارة منتج نهائي للتنمية الشاملة، والتنمية سبيل في النهاية إلى حضارة زاهرة.

التنمية المستدامة:
بدأ استخدام مصطلح التنمية المستدامة كثيرا في الأدب التنموي المعاصر وتعتبر الاستدامة نمط تنموي يمتاز بالعقلانية والرشد، وتتعامل مع النشاطات الاقتصادية التي ترمي للنمو من جهة، وإجراءات المحافظة على البيئة والموارد الطبيعية من جهة أخرى، وقد أصبح العالم اليوم على قناعة بأن التنمية المستدامة هي السبيل الوحيد لضمان الحصول على مقومات الحياة في الحاضر والمستقبل، وطريق التقدم للمجتمعات، وتأمين حاجات الأفراد.

ظهر مفهوم التنمية المستدامة بقوة في أواخر القرن الماضي ليحتل مكانة هامة لدى الباحثين والمهتمين بالبيئة وصناع القرار تبلور هذا المفهوم خلال الثلاثين سنة الأخيرة من القرن العشرين، حيث يعتبر تقرير "نادي روما" الذي صدر سنة 1972م تحت عنوان " وقف التنمية "، هو نقطة البدء لهذا المفهوم الجديد للتنمية. ففي هذا التقرير دق الخبراء ناقوس الخطر إلى ما يمكن أن ينجم عن الوتيرة المتسارعة للتنمية الاقتصادية والتزايد الديموغرافي من استنزاف للموارد، وتلوث للطبيعة، والضغط على النظام البيئي، وقد أثار هذا التقرير في حينه جدلاً واسعاً بين المختصين الذين انقسموا إلى فريقين: فريق مؤيد لاستمرار عملية التنمية، وفريق يناصر المحافظة على البيئة، وذلك في تصور يجعل المسألتين (التنمية والمحافظة على البيئة) خيارين متناقضين، بيد أن فريقا من الخبراء الاقتصاديين من الشمال والجنوب انكبوا على دراسة هذه الإشكالية بعمق حيث توصلوا إلى أن ثمة إمكانية لوضع استراتيجيات تنموية توفق بين مطلب التنمية وضرورة الحفاظ على الموارد الطبيعية وحماية البيئة، كما جاء في تقرير فلونيكس Flunex وإعلان ستوكهولم العام 1974م، وقد سميت هذه المبادرة باستراتيجية " تنمية ايكولوجية ecodevelopement " غير أن هذا المصطلح الذي يترجم هاجس التوفيق بين التنمية الاقتصادية والمحافظة على البيئة سرعان ما سيتم استبداله من طرف السياسيين الأنكلوساكسون بمصطلح التنمية المسندة أو المدعومة (Sustainable developement) ثم بالتنمية المستدامة الذي ذكر للمرة الأولى العام 1980م من طرف الاتحاد الدولي للمحافظة على البيئة في تقرير له عنوانه "الاستراتيجية الدولية للمحافظة على البيئة" [3].


لقد كانت الضغوط المتزايدة على الإمكانات المتاحة في العالم المتقدم والعالم النامي سببا في ظهور التنمية المستدامة، بجانب النمو الديموغرافي، فالتزايد السكاني والضغط المتزايد على موارد الأرض، والسعي الحثيث لسد حاجات السكان، كان سببا في التوجه نحو البحث في الاستخدام الرشيد للموارد.


أما التنمية المستدامة فهي نابعة من مفاهيم التنمية بشكل عام، التي تسعى إلى تحسين نوعية حياة الإنسان مع مراعاة حماية البيئة والحفاظ على الموارد، وحسن استغلالها، وذلك لأن بعض إجراءات التنمية تستنزف الموارد الطبيعية، مما يؤدي إلى فشل عملية التنمية نفسها، سواء بشيوع التلوث البيئي أو ولهذا يعتبر جوهر التنمية المستدامة هو التفكير في المستقبل وفي مصير الأجيال القادمة.


وحول أهدافها: فهي تسعى عبر آلياتها ومحتواها إلى تحقيق جملة من الأهداف المحورية وأبرزها:
‌• تحقيق نوعية حياة أفضل للسكان: من خلال التركيز على العلاقات بين نشاطات السكان والبيئة، وتتعامل مع النظم الطبيعية ومحتواها على أساس حياة الإنسان، وذلك عن طريق مقاييس الحفاظ على نوعية البيئة والإصلاح والتهيئة وتعمل على أن تكون العلاقة في الأخير علاقة تكامل وانسجام.


‌• تعزيز وعي السكان بالمشكلات البيئة القائمة: وكذلك تنمية إحساسهم بالمسؤولية اتجاهها وحثهم على المشاركة الفعالة في إيجاد حلول مناسبة لها من خلال مشاركتهم في إعداد وتنفيذ ومتابعة وتقديم برامج ومشاريع التنمية المستديمة.

‌• احترام البيئة الطبيعية: وذلك من خلال التركيز على العلاقة بين نشاطات السكان والبيئة وتتعامل مع النظم الطبيعية ومحتواها على أساس حياة الإنسان، وبالتالي فالتنمية المستديمة هي التي تستوعب العلاقة الحساسة بين البيئة الطبيعية والبيئة المبنية وتعمل على تطوير هذه العلاقة لتصبح علاقة تكامل وانسجام.


‌• تحقيق استغلال واستخدام عقلاني للموارد: وهنا تتعامل التنمية مع الموارد على أنها موارد محدودة لذلك تحول دون استنزافها أو تدميرها وتعمل على استخدامها وتوظيفها بشكل عقلاني.



‌• ربط التكنولوجيا الحديثة بأهداف المجتمع: تحاول التنمية المستديمة توظيف التكنولوجيا الحديثة بما يخدم أهداف المجتمع، وذلك من خلال توعية السكان بأهمية التقنيات المختلفة في المجال التنموي، وكيفية استخدام المتاح والجديد منها في تحسين نوعية حياة المجتمع وتحقيق أهدافه المنشودة، دون أن يؤدي ذلك إلى مخاطر وآثار بيئية سالبة، أو على الأٌقل أن تكون هذه الآثار مسيطرة عليها بمعنى وجود حلول مناسبة لها.


‌• إحداث تغيير مستمر ومناسب في حاجات وأوليات المجتمع: وذلك بإتباع طريقة تلائم إمكانياته وتسمح بتحقيق التوازن الذي بواسطته يمكن تفعيل التنمية الاقتصادية، والسيطرة على جميع المشكلات البيئية.


‌• تحقيق نمو اقتصادي تقني: بحيث يحافظ على الرأسمال الطبيعي الذي يشمل الموارد الطبيعية والبيئية، وهذا بدوره يتطلب تطوير مؤسساتٍ وبنى تحتية وإدارة ملائمة للمخاطر والتقلبات لتؤكد المساواة في تقاسم الثروات بين الأجيال المتعاقبة وفي الجيل نفسه[4]



[1] انظر المزيد في: قاموس التنمية، دليل إلى المعرفة باعتبارها قوة، تحرير: فولفجانج ساكس، ترجمة: أحمد محمود، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، سلسلة العلوم الاجتماعية، 2009، ص30.


[2] المرجع السابق، ص32-33.

[3] البيئة والتمية والمستدامة، د. أحمد فرغلي حسن، مشروع الطرق المؤدية إلى التعليم العالي، مركز الدراسات والبحوث، جامعة القاهرة، ص11 وما بعدها. وانظر أيضا: نجيب صعب: جوهانسبورغ: قمة الخيبة، مجلة البيئة والتنمية، العدد (54 ) أيلول/سبتمبر 2002، ص:8 حيث أشار إلى تطور قضايا البيئة والتنمية.

[4] انظر للمزيد: البيئة والتنمية المستدامة، د. أحمد فرغلي حسن، م س، ص 17، 18








مؤسسة الزكاة في الإسلام

$
0
0
مؤسسة الزكاة في الإسلام
أحمد محمد عاشور




مَفْهُومُ الزَّكَاةِ:
الزَّكاة ركن من أركان الإسلام أوجبه الله تعالى على عباده، تطهيرًا لأموالهم وتزكيةً لها، وقد بيَّن العلماء مفهوم الزَّكاة ووضَّحوا الدَّليل على مشروعيَّتها، من القرآن الكريم والسُّنَّة المطهَّرة.


وعالمنا الجليل الأستاذ الدُّكتور شَوْقِي الفَنْجَرِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - كان له تعريفٌ للزَّكاة سطَّره في كتبه وشرحَه في محاضراته، وهو ما حاولتُ توضيحه في هذا المبحث، والَّذي قَسَّمْتُهُ إلى مطلبين، وهما:
المَطْلَبُ الأَوَّلُ: مَفْهُومُ الزَّكَاةِ وَأَدِلَّةُ وُجُوبِهَا.
المَطْلَبُ الثَّانِي: مَفْهُومُ الزَّكَاةِ عِنْدَ الدُّكْتُور/ مُحَمَّد شَوْقِي الفَنْجَرِيِّ.

مَفْهُومُ الزَّكَاةِ وَأَدِلَّةُ وُجُوبِهَا:
الفَرْعُ الأَوَّلُ: الزَّكَاةُ لُغَةً وَشَرْعًا:
أ‌. الزَّكاة لُغَةً: النُّموُّ والزِّيادة، يقال: زكا الزَّرعُ إذا نما وبورك فيه، وأيضًا تأتي بمعنى البركة، والصَّلاح، والتَّطهير؛ قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾ [الشمس: 9] أي: طهَّرها من الأدناس، ومثله قوله سبحانه: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ﴾ [الأعلى: 14]، وتطلق أيضًا على المدح، قال تعالى: ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النجم: 32].


وجاء في مقاييس اللُّغة: "(زَكَّى) الزَّاي، والكاف، والحرف المعتلُّ أصل يدلُّ على نماء وزيادة.


ويُقال: الطَّهارة زكاة المال، قال بعضهم: سُمِّيت بذلك؛ لأنَّها ممَّا يرجَى به زكاء المال، وهو زيادته ونماؤه.


وقال بعضهم: سُميت زكاةً لأنَّها طهارة، قالوا: وحجَّة ذلك قوله جلَّ ثناؤه: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ [التوبة: 103]، والأصل في ذلك كلِّه راجع إلى هذين المعنيين، وهما: النَّماء، والطَّهارة" [1].


جاء في النِّهاية: "وأصل الزَّكاة في اللُّغة: الطَّهارةُ، والنَّماءُ، والبركَةُ، والمدحُ؛ فالزَّكاة طُهرة للأموال، وزكاة الفطر طهرةٌ للأبدان" [2].


وسُمِّيَتْ بالزَّكاة؛ لأنَّها تزيد في المال الَّذي تخرج منه، وتوفِّره وتنمِّيه، وتَقِيهِ من الآفات [3].


وتُعرف الزَّكاة بالنَّماء؛ لأنَّها تنمِّي وتزيد الأجر عند الله – عز وجل -، إذ قال سبحانه: ﴿ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾ [الروم: 39].


"فالزَّكاة - وإن كان ظاهرها نقصانًا مادِّيًّا - إلَّا أنَّها تعود على صاحبها بأضعاف مضاعفة، قال تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261]، وبالتَّالي فإنَّها تؤدِّي إلى تشجيع الفرد، ودفعه نحو تنمية ماله واستثماره؛ حتَّى تخرج الزَّكاة من العائد أو الزِّيادة" [4].


ب‌. الزَّكاة شرعًا:
اسم لأخذ شيء مخصوص، من مال مخصوص، على أوصاف مخصوصة، لطائفة مخصوصة [5].
فالزَّكاة عبارة عن نصيبٍ مقدَّر شرعًا، في مالٍ معيَّن، يصرف لمالكٍ مخصوص يستحقُّه، بشرائط مخصوصة [6].


وقد جاءت الزَّكاة في القرآن على عدَّة معانٍ:
بمعنى: الأطهر، والأصلح لكم، كما في قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 28].
بمعنى: التَّوحيد، قال تعالى: ﴿ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ﴾ [عبس: 7].
بمعنى: الحلال، كما في قوله تعالى: ﴿ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا ﴾ [الكهف: 19]
بمعنى: البراءة، قال تعالى: ﴿ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ﴾ [الكهف: 74]
بمعنى: الصَّلاح والتُّقى، قال تعالى: ﴿ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ﴾ [الكهف: 81].
بمعنى: عود النَّفع على النَّفس، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ [فاطر: 18].
بمعنى المدح والسُّمعة، قال تعالى: ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النجم: 32].

الفَرْعُ الثَّانِي: حُكْمُ الزَّكَاةِ وَأَدِلَّةُ وُجُوبِهَا:
الزَّكاة ركن من أركان الإسلام الخمسة، وفرض من فروضه، فهي الرُّكن الثَّالث من أركان الإسلام ومبانيه الَّتي لا يقوم إلَّا عليها، ودليلُ فرضيتها ثابتٌ في الكتاب والسُّنَّة وإجماع الأمة.


أوَّلًا: الدَّليل من القرآن:
1- يقول الله تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [البقرة: 43].
2- وقال تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [البقرة: 83].
3- وقال تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [النور: 56]
4- وقال عزَّ مِنْ قَائِلٍ: ﴿ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ ﴾ [الأحزاب: 33].
5- وقال سبحانه: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [المزمل: 20].


ثانيًا: الدَّليل من السُّنَّة على وجوب الزَّكاة:
1- عن ابن عمر، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة، والحج، وصوم رمضان" [7].
2- عن ابن عباس أنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث معاذًا – رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إلى اليمن فقال: "إِنَّكَ تَأْتِى قَوْمًا منْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ بِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَا لِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ" [8].


ثَالِثًا: الإِجْمَاعُ:
فلقد أجمع المسلمون على وجوب الزَّكاة، وأنها أحد أركان الإسلام، وفريضة من فرائضه، واتَّفق الصَّحابة -رضي الله عنهم- في عهد أبي بكر – رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - على قتال مانعها [9].

مَفْهُومُ الزَّكَاةِ عِنْدَ الدُّكْتُور مُحَمَّد شَوْقِي الفَنْجَرِيِّ:
يرى الدُّكتور الفنجريُّ أنَّ مفهوم الزَّكاة يدور حول أنَّه حقٌّ مقدَّرٌ بتقدير الشَّارع، وهو يرى أنَّ القرآن والسُّنَّة هما اللَّذان حدَّدا وعاءَ الزَّكاة، ونصابَها، ومستحقيها، وسائرَ أحكامها [10].


كما يرى أنَّ القرآن والسُّنَّة قد عبَّرا عن الزَّكاة بلفظ الصَّدقة؛ للدِّلالة على الصِّدق في مساواة الفعل للقول والاعتقاد، فتعد كلُّ زكاةٍ صدقةً، ولكن لا تُعَدُّ كلُّ صدقةٍ زكاةً.


يقول الدُّكتور الفَنْجَرِيُّ: "وهي في المحصلة علاج عمليٌّ من حبِّ الدُّنيا، ووسيلة لإسعاد المرء" [11].


وهو يرى أنَّ الزَّكاة فريضةٌ على الغنيِّ، وليس فيها معنى التَّفَضُّل والامتنان على الفقير؛ إذ لا مِنَّةَ لأمين الصُّندوق (وهو المُزكِّي)، إذا أمره صاحبُ المال (وهو الله تعالى) أن يصرفه إلى مستحِقِّيه [12].


وفي النِّهاية يرى الدُّكتور الفَنْجَرِيُّ أنَّ الزَّكاة حقٌّ مقدَّر بتقدير الشَّارع، وعليه؛ فإنَّه لا يجوز بأيِّ حال من الأحوال الخلاف حول الأصول الإسلاميَّة في شأن تحديد سعر الزَّكاة، أو نصابها، أو مستحقيها، أو مباشرة ولي الأمر تحصيلها، وتوزيعها، وإن جاز الخلافُ حول تفاصيل تطبيقات الزَّكاة، أو كيفيَّة إعمالها، أو أسلوب أدائها [13].

وَخُلَاصَةُ القَوْلِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ:
عاملٌ تحفيزيٌّ للنُّموِّ الاقتصاديِّ، بتمويلها لعمليَّات الاستثمار، وتوظيف عناصر الإنتاج.
وعاملٌ تحفيزيٌّ للنُّموِّ الاجتماعيِّ، بتمويلها لعمليات الضَّمان الاجتماعيِّ والتَّكافل الاجتماعي.
وعاملٌ تحفيزيٌّ للنموِّ الماليِّ، بتمويلها لعمليات تمويل بنود الخزينة العامَّةِ بالموارد الماليَّةِ.
وعاملٌ تحفيزيٌّ للنموِّ السياسيِّ، بتمويلها لعمليات السِّياسةِ الماليَّةِ العامَّةِ، بالإنفاق على العاملين عليها، والمؤلَّفة قلوبهم، ونصرة الدَّعوة إلى الله [14].


[1] معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي (ت 395هـ)، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، بيروت، 1399هـ (3/18).

[2] النهاية في غريب الحديث والأثر، مجد الدين أبو السعادات بن محمد الجزري (ت606هـ )، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي- محمود محمد الطناجي، المكتبة العلمية، بيروت، 1399هـ، (2/307).

[3] الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، أيوب بن موسى الحسيني القريمي الكفوي، أبو البقاء الحنفي (ت 1094هـ)، عدنان درويش - محمد المصري، مؤسَّسة الرسالة – بيروت، ص 486.

[4] نظرات قرآنية حول أثر الزَّكاة في تحقيق التنمية الاقتصادية في المجتمع المسلم، بحث مقدم لمنتدى فقه الاقتصاد الإسلامي، دبي،2015، إعداد: د. أحمد عبد الكريم شوكه الكبيسي ، ص8

[5] تحرير ألفاظ التنبيه، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (676هـ )، تحقيق: عبد الغني الدقر، دار القلم – دمشق، ط1، 1408هـ، ص101.

[6] انظر: التعريفات، علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني (816هـ)، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1403هـ، ص114. وانظر: التوقيف على مهمات التعريف، زين الدين محمد المدعو بعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (ت 1031هـ)، عالم الكتب، القاهرة، ط1، 1410هـ، ص 186.

[7] متفق عليه: انظر: صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس"، حديث رقم (8)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس"، حديث رقم (4614).

[8] متفق عليه: انظر صحيح البخاري، كتاب الزَّكاة، باب وجوب الزَّكاة، حديث رقم (1395)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بني الإسلام على خمس، حديث رقم (132).

[9] المغني، لابن قدامة المقدسي، (620هـ)، مكتبة القاهرة، 1388هـ،(2/434).

[10] الزَّكاة بِلُغَةِ العصر ، محمد شوقي الفنجري، طبع ضمن سلسلة دراسات إسلامية، العدد (137)، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، ديسمبر 2006م، ص53.

[11] الزَّكاة بِلُغَةِ العصر، ص55، مرجع سابق.

[12] الزَّكاة بِلُغَةِ العصر، ص56، مرجع سابق.

[13] الزَّكاة بِلُغَةِ العصر، ص60، مرجع سابق.

[14] انظر: معالم الفكر الاقتصادي عند الدكتور محمد شوقي الفنجري، ص165، نقلًا عن: الاستخدام الوظيفي للزكاة في الفكر الاقتصادي: غازي عناية، دار الجيل، بيروت، ط1، 1989م، ص10.





كيف تبني نفسك؟

$
0
0
كيف تبني نفسك؟
د. علي أحمد الشيخي




للشباب (5)

كيف تبني نفسك؟ [1]



لكل بناء أساسات، ومتى ما كانت أساسات البناء قويةً، عاش ذلك البناء طويلًا وأمِن ساكنوه، والإنسان مثل البناء تمامًا؛ يحتاج إلى اهتمام بأساساته، حتى يستطيع شق طريقه في الحياة؛ ليحقق أعلى طموحاته، ويساهم في عمارة هذه الأرض، واعلم أن كل إنسان ناجحٍ في هذه الحياة، كان بالأمس طفلًا باكيًا، وكل بناء شامخٍ كان يومًا ما أرضًا جرداء؛ فليس المهم من أنت اليوم، بل المهم من ستكون غدًا، ولكي يستطيع الشباب بناء أنفسهم جيدًا، يتطلب منهم الشروع مبكرًا في وضع أساسات جيدة لمهاراتهم وقدراتهم، والعمل على صقلها وتطويرها.

ومن الأساسات التي أُوصي بالاهتمام بها:
1- العلاقة مع الله:
اجتهد أيها الشاب في علاقتك مع رب العباد، وراقِبْه سبحانه في السر والعلن، وحافِظْ على الصلاة في جماعة؛ فإنها مكفرة للذنوب؛ لحديث: ((أرأيتم لو أنَّ نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟))، قالوا: "لا يبقى من درنه شيء"، قال: ((فذلك مَثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا))[2]، واجعل لك نصيبًا من قيام الليل ((نِعْمَ الرجل عبدالله، لو كان يصلي من الليل))[3].

واجعل لك نصيبًا من صيام النافلة؛ ليباعد الله به وجهك عن النار، وقد جاء في النسائي: ((لا يصوم عبد يومًا في سبيل الله إِلَّا باعَد الله تعالى بذلك اليوم النار عن وجهه سبعين خريفًا))[4]، والصوم أيضًا حصن ووِجاءٌ للشاب غير المتزوج ((.. ومَن لم يستطع، فعليه بالصوم؛ فإنَّه له وِجاء))[5].

وعليك بالمحافظة على الأذكار؛ ﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، والزم الدعاء واجعله كالهواء في كل حين، لا كالدواء الذي نستخدمه عند حاجتنا للشفاء، وزد رصيدك في أداء بقية الشعائر الدينية.

واعلم أن الشاب الذي ينشأ في عبادة الله يظله الله يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وفي الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سبعةٌ يظلهم الله يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلَّا ظله..)) وذكر منهم: ((وشاب نشأ في عبادة الله...))[6]، واحذر أن تسخر حياتك من أجل المال والشهرة، بل اجعلهما مطية لك إلى طاعتك لرب العباد.

2- الاجتهاد في الدراسة:
اجتهد في دراستك، وابتعد عن الكُسالى والمثبطين، وتحلَّ بحلية طالب العلم كما أوردها العلامة الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد، وحَوِّل المعارف التي تعلمتها إلى مهارات، واعمل على تطبيقها في تعاملاتك في الحياة، واعلم أنه لا توجد طريقة تدافع بها عن نفسك في هذا العالم سوى أن تتعمق في معرفة عالمك لتزداد قوة، يقول أينشتاين: "المعرفة في حد ذاتها ليست مهمة، أمَّا ما نصنعه بالمعرفة وكيف نستفيد منها، فهذا هو المهم"، واعمل على تنظيم وقتك بكفاءة، ولا تيئس عند الفشل؛ فما هي إلَّا خطوات على طريقك للنجاح؛ فمخترع الكهرباء "أديسون" لم ينجح في اختراع الكهرباء إلا بعد 999 محاولة فاشلة، وتأكد أن النجاح = 1% إلهام + 99% اجتهاد، وإياك والكِبْرَ والغرور؛ فهو عدو للعلم، فالغرور = 1 ÷ المعرفة، بمعنى أنه كلما زاد مقام المعرفة قلت قيمة الغرور، والعكس صحيح.

3- اختيار التخصص المناسب لميولك وقدراتك:
اذهب للتخصص المناسب لميولك وقدراتك، واستشر معلميك ومرشدك الطلابي، واستعن في تحديد قدراتك ببعض المقاييس كاختبار هولاند، واختبار تحديد تخصصك الجامعي لناصر الخزيمي، واختبار MBTI، وغيرها من المقاييس المتاحة على الشبكة، واحذر من البناء على تجارِب الآخرين؛ فكثير من الناس يتحولون إلى مستشارين وخاصة لخريجي الثانوية العامة، وتأكد أن تجاربهم هي بمثابة الحُفَر التي سوف تعترض طريقك في اختيار التخصص المناسب، ولا تَنْسَقْ وراء نظرة المجتمع لبعض التخصصات كالطب والهندسة والمحاماة؛ فقد يكون تخصصك في قسم نظري أفضل بكثير مما لو ذهبت لأحد التخصصات العلمية التي لا تتناسب مع ميولك ورغبتك، وعليك أن تفرِّق بين الحقائق والآراء، وهذا يشبه حال اثنين من الأصحاب: أحدهما اشترى سيارة (تويوتا شاص)، وآخر اشترى سيارة صغيرة (كامري) مثلًا، فاتفقا أولًا أن يذهبا في رحلة للصحراء لـ(التطعيس)، فهنا لا شك أن صاحب الشاص سيكون أكثر متعة وسيصل لوجهته دون عناء، بينما لو اتفقا أن يذهبا من الرياض إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، فهنا سينعكس الوضع وسيكون صاحب السيارة الكامري أكثر راحة وسيصل لوجهته قبل صاحبه بوقت طويل.. فاختر الوسيلة المناسبة لوجهتك دون تأثير الآخرين، وهذا يشبه تمامًا من يذهب لتخصص لا يتناسب مع قدراته، وتَمَثَّل أيضًا بحال الفراشة والنحلة؛ فالفراشة كثيرة الحركة لكنها تنهي جلسة عملها دون رحيق، بينما النحلة تكون أقل منها حركة لكنها تنهي عملها بشَهْدٍ فيه شفاء للناس، وما أكثر الفراشات في الجامعة! حيث ينتقل الطالب من قسم إلى قسم، أو يستمر في قسم واحد لكنه يقضي فيه ما يقرب من ثمان سنوات، وقد تزيد أحيانًا.

4- ضع لك أهدافًا واقعية قابلة للتحقق:
فالأهداف هي التي تساعدنا على تحقيق الأحلام، والشخص الذي لا يملك أهدافًا في الحياة هو كمن يمشي في طريق لا نهاية له، أو يريد الدخول على موقع لا عنوان له، وكالذي لا يعرف إلى أين يتجه، حيث سيصل إلى المجهول، والعبقري هو من يصيب هدفًا لا يراه الناس، ومن أكبر الأخطاء أن نراهن على أهداف صغيرة تقل كثيرًا عن إمكاناتنا وما ينتظره منا المجتمع، وتحتاج الأهداف منا إلى تركيز ومثابرة، والأهداف التي لا تُترجَم إلى خطط وأفعال هي مجرد أمانٍ وأحلام، وليس العاجز هو من لا يملك قدمًا وساقًا؛ وإنَّما العاجز من لا أهداف له، واعلم أنه لا يوجد هدف دون عائق، وتبقى الفروقات بين الناس أمام أهدافهم بين صامد ومكافح أو منهار أمام أصغر العقبات، يقول جون ماسون براون: "السعادة الحقيقية هي أن نفني أنفسنا من أجل تحقيق غاية عظيمة في الحياة".

5- فن التعامل مع الناس:
التودد إلى الناس نصف العقل، ويتطلب من الإنسان أن يتعلم مهارات الحوار والإقناع والإيجابية والتعاون، ولدى الغرب معاهدُ خاصة تدرس المهارات الاجتماعية، كطريقة التحدث المثلى، وكيف يكسب ثقة الآخرين، وكيف يكون لبقًا في حديثه، وغيرها من المهارات، وفي الإسلام منهج واضح للتعامل مع الغير، ولكن للأسف لا يطبق المسلمون منها إلا القليل، وحسن الخلق من الدين؛ فالدين المعاملة، وفي الحديث: ((أنا زعيمٌ ببيت في رَبَضِ الجنة لمن ترك المِراء وإن كان مُحِقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمَن حسُن خلُقه))[7]، وجِماع حُسن الخلق في أمرين: بذل الخير، وكف الشر. واحرص على الانطباع الأول؛ لأن العلاقة المستقبلية سوف تُبنى عليه بدرجة كبيرة.

6- اعتن بوقتك واستثمره في المفيد، واحذر لصوص الوقت:
يقول أسطورة التنمية البشرية كوب ماير: "افعل ما يجب عليك فعله، وقتما يتحتم عليك فعله، سواء أكنت تحب ذلك الفعل أم كنت لا تحبه"، ومن وسائل تعويد الإنسان على الدقة في الوقت هو أن يتعود مع أشخاص آخرين لتَكُون التربية جماعية، ومن أحسن طرق استثمار الوقت تنظيمُه؛ فالتنظيم أساس النجاح، وعوِّد نفسك على الاستيقاظ المبكر، وكن من جوقة المبكرين Early Rise، قال بعض السلف: "عجبتُ لمن يصلي الصبح بعد طلوع الشمس كيف يُرزَق؟"، وقال بعضهم: "من يصل مبكرًا، يجد له موقعًا".

7- استثمر الإجازات الكبيرة في التطوع أو العمل لكسب الخبرة:
فالوقت مما يُسأل عنه الإنسان يوم القيامة، والنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل؛ ولهذا أنصح الشباب باستغلال الإجازات الصيفية بالعمل في الشركات؛ كي يكتسبوا خبرة تنمي مهاراتهم، كما أنصحهم أيضًا بالانخراط في الأعمال التطوعية، فهذا مما يفتح لهم أبوابًا نحو المستقبل، وجاء في نصائح جاكسون براون لابنه عندما دخل الجامعة قوله: "شَجِّع أبناءك على العمل في أوقات فراغهم حالما يبلغون سن 16 سنة".

8- جرب ولا تخف من الفشل:
وتأكد أن الألماس والذهب لا يلمعان بدون احتكاك، وكذلك الإنسان لا يُصقل بدون تجارب، والكعكة لا تفوح رائحتها الزكية إلا عندما تمسها النار، فلا تَهَبِ التجارب، واستفد منها لصقل خبرتك، ودَوِّن في مذكراتك المحاولات الخاطئة والآليات التي اتبعتها؛ حتى لا تكررها مرة ثانية لأنها لن توصلك للحل الصحيح، يقول أينشتاين: "الجنون هو أن تفعل نفس الشيء مرة بعد أخرى بنفس الخطوات، ثم تتوقع نتائج مختلفة"، ويقول أيضًا: "المعرفة تأتي بعد الخبرة، فالمعرفة ليست المعلومة، وإنما مصدر المعرفة الوحيد هو التجربة والخبرة"، وقديمًا قيل: "خير لك أن تسأل مرتين، من أن تخطئ مرة واحدة".

9- اعمل على شحن بطاريتك:
نعني بالبطارية هي عزمك وطاقاتك وإيمانك وإيجابيتك، وهي تلك القوة التي تدفعك داخليًّا للعمل، وتؤكد عليك يومًا بعد يوم أنك قادر على تحقيق الكثير من أهدافك في الحياة، وأن طموحك يجب أن يظل عاليًا، وأنك قادر على الوصول إليه، وأن متعة الحياة هي أن تظل دومًا تضيف لنفسك الجديد؛ ولذا عليك أن تطور ذاتك بالقراءة وحضور الدورات التي تصقل مهاراتك؛ فالحياة ليست بحثًا عن الذات، ولكنها رحلة لصنع الذات، فاصنع من نفسك نموذجًا يصعب تقليده، وتعلم من كل شخص تقابله يمتلك شيئًا مميزًا لتضيف لنفسك شيئًا جديدًا، وتأكد أن مما يساعدك على الاحتفاظ بطاقتك أن يكون قلم التصحيح بيدك لا بيد الآخرين، وكن صادقًا مع نفسك عند تقييم معايير مشاريعك في الحياة، وزِن الأمور بميزان العقل، وساهم في شحن بطارية كل من تتعامل معه بالابتسامة والكلمة الطيبة والتحفيز والمشورة الصادقة، وثِق أنك ستكون أول المستفيدين؛ لأنك ستضمن لنفسك العيش في بيئة إيجابية.

10- ليكن لك مشروع في الحياة:
الميلاد الحقيقي للإنسان هو اللحظة التي يعثر فيها على مشروعه في الحياة، والشيخوخة المبكرة هي ألا تجد فكرة تعيش من أجلها، والله سبحانه وتعالى قسم بين العباد أرزاقهم وكذا أعمالهم، فقد تجد من فتح الله عليه في الصلاة، وثانيًا في الصوم، وثالثًا في الجهاد، وآخر في العلم، وهكذا، فالله لم يخلقنا هملًا في هذه الحياة، بل أَوجدَنا لعمارة الأرض وصناعة التاريخ، ومشروعُ العمر بدايته حلم، لكنه هو ما يُترجَم إلى واقع، وهو ذلك المشروع الذي يتبناه الإنسان فيكرس حياته من أجله، حتى يغدو خدمة يتعدَّى نفعها إلى مجتمعه المحلي، وقد يمتد إلى الإنسانية جمعاء، وهناك نجوم من أصحاب المشاريع التي خدمت الأمة على مر العصور، نذكر منهم: الخلفاء الراشدون والصحابة رضوان الله عليهم، كابن عباس وأُبَي بن كعب الأنصاري، وهناك من أجيال التابعين وتابعيهم إلى يومنا هذا كالبخاري ومسلم وابن قدامة وجابر بن حيان ومحمد بن عبدالوهاب والملك عبدالعزيز وابن باز وابن عثيمين والسميط وغيرهم، ومن غير المسلمين "توماس أديسون" مخترع الكهرباء، و"لاري بايج" وزميله "سيرجي برين" مصمما جوجل، ومخترع الإطارات المنفوخة للسيارات "دانلوب"، وغيرهم ممن خدم الإنسانية، وهناك من الآباء من ينذر ابنه لله عند الولادة، كما جاء في قوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [آل عمران: 35].

11- اعرف حقوقك وواجباتك:
عندما يعرف الإنسان كامل حقوقه، فإنه يستفيد من كل الميزات التي وُضعت لرفاهيته، وفي المقابل إذا عرف واجباته، وقف عندها فانتفى ظلم الغير، فعاش الناس في أمان ووئام، ومما يؤخذ على الكثير من الناس جهلهم وضعف ثقافتهم في مجال الحقوق والواجبات، كما يؤخذ على البعض مطالبتهم بحقوقهم مع نسيانهم للواجبات المطلوبة منهم، بينما هناك من يضحي ويبذل دون محاصَّة، وهؤلاء هم نجوم المجتمع.

12- محاسبة النفس:
يتطلب من الإنسان أن ينشئ لنفسه (فلترًا) يعرض عليه أعماله بين الحين والآخر؛ ليميز بين النفيس من الزائف، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوها قبل أن توزنوا"، واعلم أن الله سبحانه سيحاسب العبد على الصغير والكبير، والفتيل والقطمير، يقول تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8]، ويقول ميمون بن مِهران: "لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه"، ثم تأكد أيضًا أن قيمتك في المجتمع تتناسب طرديًّا مع محاسبتك لنفسك، فترتفع القيمة عند التدقيق والمحاسبة، وتنخفض عند التساهل أو الترك والإهمال.

وبعدُ أيها الشاب المبارك، هذه هي أبرز مناجم شحن الطاقة الإيجابية للنفس، فتزوَّد منها بما يمدك من حيوية تجعلك فاعلًا في الحياة، وإن احتجت لمزود طاقة آخر غير هذه، فخذ منه قدر حاجتك، والله معك، ﴿ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 35].



[1] د. علي أحمد الشيخي: مساعد مدير تعليم القنفذة سابقًا (متقاعد)، دكتوراه علم نفس تربوي، أخصائي تقويم تعليم بهيئة تقويم التعليم.


[2] صحيح مسلم (1/ 462).

[3] صحيح البخاري (2/ 49).

[4] سنن النسائي (4/ 174).

[5] مسند أحمد (2/ 15).

[6] صحيح البخاري (8/ 163).

[7] سنن أبي داود (4/ 253).








المهارات العشر لوقاية الفكر (6) المرجعية الواعية

$
0
0
المهارات العشر لوقاية الفكر (6) المرجعية الواعية
د. جمال يوسف الهميلي




المهارة السادسة: المرجعية الواعية




أكثر من 500 ألف فكرة يستقبلُها الشاب السعودي خلال سنِّ المراهقة: "متوسط عدد الساعات التي يقضيها الشاب السعوديُّ على النت 8 ساعات يوميًّا"[1]؛ أي: إنه خلال سنِّ المراهقة - من عمر 12إلى 18[2] (المرحلتين: المتوسطة والثانوية) - سيقضي أكثرَ من 17280 ساعة؛ أي: أكثر من مليون دقيقة، فلو تصوَّرنا أنه سيستقبِلُ فكرة واحدة كلَّ خمس دقائق، فهذا يعني: أكثرَ من 200 ألف فكرة من مختلف المواقع وبشتى الطرق، وقريبًا منها - أو أقل - في ميدان التعليم، وكذلك في الحياة الاجتماعية مع الأصحاب والأحباب، وغيرها من ميادينِ الحياةِ؛ فيكون مجموع ما يتلقَّاه الشاب يقارب 500 ألف فكرة خلال تلك السنوات؛ أي: إنها ليست أفكارًا، بل سيولًا من الأفكار!

هذه السيولُ قد تكون كارثيَّة؛ كما في سيول الأمطار، فالمطرُ نعمة لكنه قد يتحوَّل إلى نقمة؛ حين يؤدِّي إلى فيضانات وسيول تقتل وتدمِّر، ولا يقف شيءٌ في وجهها، فكان الحلُّ الأنسب هو توجيهَ تلك المياه إلى مجاري مقنَّنة، وحصرها في سدودٍ للاستفادة منها عند الحاجة، واستثمار طاقتها، وبذلك تتحوَّل السيول إلى نعمة بدلَ أن تكون نقمةً، وكذلك سيولُ الأفكار يمكن توجيهها واستثمارها، أو حبسُها واستخراجها عند الحاجةِ؛ فتكون تلك السيولُ نعمةً ربَّانية، وليس نقمةً إلهية!

وأول خطوات التوجيه والاستثمار لسيولِ الأفكار هو التدريبُ على المرجعيَّة الواعية:
عن خبَّاب بن الأَرَتِّ رضي الله عنه قال: "أتينا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّدٌ بُردةً في ظلِّ الكعبة، فشكونا إليه فقلنا: ألَا تَستنصِرُ لنا! ألا تدعو اللهَ لنا! فجلس مُحمَرًّا وجهُه، فقال: ((قد كان من قبلكم...)) صححه الألباني.

هكذا كانت التربيةُ على المرجعيَّة "فشكونا إليه"، فلا استسلامَ للأوهام وللأفكار والعيش في دائرةِ النفس والشيطان، بل الرجوع إلى أهل العلم والبيان والتقوى والإحسانِ، وهذا ليس خاصًّا بالأمور الكبيرة فقط:
فعن النعمانِ بن بشير رضي الله عنه قال: "أعطاني أبي عطيَّةً، فقالت عمرةُ بنت رواحة (الزوجة والأم): لا أرضى حتى تُشهِدَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيتُ ابني من عمرةَ بنت رواحة عطيَّةً، فأمرَتْني أن أشهدَك يا رسولَ الله؟ قال: ((أعطيتَ سائرَ ولدِك مثلَ هذا؟))، قال: لا، قال: ((فاتقوا اللهَ، واعدلوا بين أولادِكم))، قال: فرجع فردَّ عطيَّتَه"؛ رواه البخاري، نعم لقد تجذَّرت المرجعيَّة حتى عند النساء، وهذا كان أمام الابن؛ ليتربَّى هو كذلك على المرجعيَّة.

ولسنا نقصد المرجعية العمياءَ، بل نقصدُ المرجعيَّة الواعية، المبنيَّة على الملاحظة والفهم والتحليل، والسعي في معرفةِ الجانب الحقِّ، ومن هنا فلا قدسيَّةَ في المرجعية تلغي العقلَ، بل مرجعية تفتِّح الذهن، وتسمح بنقاش المستشار، وأحيانًا بطلب توضيح بعض مواقفه:
فهذا الحُبابُ بنُ المنذرِ رضي الله عنه يرجع إلى النبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم بعد أن نزلوا مكانًا في غزوة بدر، فيقول: أرأيتَ هذا المنزلَ، أمنزلًا أنزلَكَه اللهُ، ليس لنا أن نتقدَّمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأيُ والحرب والمكيدةُ؟ قال: ((بل هو الرأيُ والحرب والمكيدة))، قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزلٍ، امضِ بالناس حتى نأتيَ أدنى ماء من القوم، فنعسكر فيه، ثم نعوِّر ما وراءَه من الآبار، ثم نبني عليه حوضًا فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد أشَرْتَ بالرأي)) ثم أمر بإنفاذِه.

وفي موقفٍ من أعظم مواقف السيرة: بعد غزوةِ حنين وزَّع الرسول صلى الله عليه وسلم الغنائمَ، وأعطى قريشًا ولم يعطِ الأنصار؛ فدخل عليه سعدُ بن عُبادة رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحيَّ من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسِهم؛ لِمَا صنعتَ في هذا الفيء، قسمتَ في قومِك، وأعطيت عطايا عظامًا في قبائل العرب، ولم يكُ في هذا الحيِّ من الأنصار منها شيء! قال: ((فأين أنت من ذلك يا سعدُ؟))، قال: يا رسولَ الله، ما أنا إلا من قومي، قال: ((فاجمع لي قومَك في هذه الحظيرة))، قال: فخرج سعدٌ، فجمَع الأنصار في تلك الحظيرة... وفي حوار من أجمل الحوارات التاريخية، بيَّن لهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم السببَ، وزال العجبَ، وأبكى الأنصارَ، فلا أدري أأتعجبُ من صراحةِ الأنصار - ومنهم سعد رضي الله عنه - ووضوحهم؟ أم من تجاوبِ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وقبولِه، ثم بيانه وتوضيحه؟!

نعم، إنها المرجعيَّة الواعية التي تستشيرُ وتناقش، وتتحاور وتستوضِحُ، وتستجيب.
فمع تعدُّد الأفكار وتكاثرها، ومع سَعة المعارف وتنوُّعها، ومع زخم المعلومات وتناثرها، أليس من الضروري تدريب أنفسنا وأبنائِنا على المرجعية الواعية للاستثمار، قبل أن تدمِّرهم وتدمِّرنا سيولُ الأفكار؟


والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


[1] البوابة العربية لأخبار التقنية.

[2] البعض يقسم المراهقة إلى ثلاثة أقسام، تبدأ من سنِّ 11 إلى 21.







وصفة لتعزيز جهاز المناعة في فصل الشتاء

$
0
0
وصفة لتعزيز جهاز المناعة في فصل الشتاء





مجلة بلسم مجلة جمعية الهلال الاحمر الفلسطيني









يزداد الحرص الطبي في فصل الشتاء على منع حدوث زيادة في الوزن، نتيجة للكسل عن القيام بالمجهود البدني في الأجواء الباردة، وازدياد الرغبة في تناول الأطعمة الدسمة اتقاء للبرد. وشوربة الدجاج هي أحد الأطعمة الصحية المفيدة في منع حدوث زيادة وزن الجسم، كما أنها مفيدة في تخفيف أعراض نزلات البرد، والأهم، في رفع مستوى عمل جهاز مناعة الجسم.



ويشير الباحثون الأميركيون في مجال التغذية الطبية، إلى أن بدء وجبة طعام الغداء أو العشاء بتناول صحن من الشوربة، يعد من وسائل خفض وزن الجسم. ويعللون الأمر بأن تناول هذا الصحن من شوربة ذات سعرات (كالوري) حرارية قليلة، يخفض من مستوى الرغبة في الأكل، ويقلل من كمية طاقة السعرات الحرارية التي نتناولها خلال تلك الوجبة. وذلك بخلاف ما لو توجه أحدنا في وجبة الطعام نحو تناول الطبق الرئيسي، مباشرة من دون تناول الشوربة الخفيفة أو سلطة الخضار الطازجة.

طبق الشوربة
تحديدا، سبق للباحثين من جامعة ولاية بنسلفينيا الأميركية أن أجروا دراسة مقارنة بين تناول وعدم تناول، شوربة مكونة من مرق الدجاج والبروكلي والبطاطا والقرنبيط والجزر - كشوربة خضار بمرق الدجاج - قبل وجبة الغداء. ولاحظ الباحثون في نتائج دراستهم أن تناول الشوربة قلل بمقدار نحو الربع من كمية الأكل الذي يتناوله المرء عادة خلال وجبة الغداء.
وطور الباحثون دراستهم لتشمل شوربة مرق الدجاج من دون خضار، وشوربة الخضار المهروسة، وشوربة الخضار المقطعة بأحجام كبيرة. ووجدوا الفائدة نفسها لأي منها في خفض كمية الأكل خلال وجبة الطعام. وخلصوا في نتائجهم إلى النصح بأن تناول شوربة الدجاج مع الخضار يعد من الوسائل المفيدة لتقليل تناول كمية الطعام، وبالتالي لخفض وزن الجسم بالتدرج المريح. ونبهوا إلى أن هذه الفوائد لن تتحقق بتناول أنواع الشوربة المحتوية على كميات عالية من الدسم وكريمة القشدة، أو من نشويات قطع المعكرونة الصغيرة أو غيرها من الأنواع غير الصحية.
شوربة الدجاج
يمكن إعداد مرق شوربة الدجاج بطهي الدجاج كاملا في الماء المغلي، أو بطهي قطع معينة منه، أو بطهي عظام الدجاج، أو اللحم فقط، أو بالجلد، أو منزوع الجلد. ومرق شوربة الدجاج يمكن أن يكون قليل الدسم إذا ما أزيلت طبقة الدهن الطافية فوق المرق بعد الطهي، أو تم نزع الجلد والدهون قبل الطهي. وتشير مصادر التغذية الطبية بالولايات المتحدة إلى أن طهي الدجاج لفترة أطول، وسيلة لزيادة كمية عنصر الكالسيوم في شوربة الدجاج. ومعلوم أن الكالسيوم عنصر مهم لصحة العظم والقلب والأوعية الدموية.
وإذا ما أراد أحدنا كمية عالية من عنصر الحديد في الشوربة، فيمكنه ذلك بإضافة قطع من لحم الديك الرومي إلى قطع لحم الدجاج خلال الطهي لإعداد المرق، أو استخدام لحم وعظم الديك الرومي في إعداد مرق الشوربة.
والفوائد الصحية لشوربة مرق الدجاج تزداد إذا ما تم طهي الدجاج جيدا، وإذا ما أضيف الفلفل الأسود والبصل والفلفل الأخضر والبطاطا والجزر وغيرها من الخضراوات الطازجة الغنية بالمعادن والفيتامينات والمواد الكيميائية الأخرى النافعة للجسم.

فوائد شوربة الدجاج


ترى المصادر الطبية في الولايات المتحدة، وبعض المرافق الطبية فيها أيضا، أن شوربة الخضراوات بمرق الدجاج مفيدة في معالجة نزلات البرد، ومفيدة أيضا لرفع مستوى عمل جهاز مناعة الجسم. وهو ما يؤكد عليه الباحثون في "مايو كلينك" وجامعة هارفارد. ومن أقوى الدراسات الطبية حول فائدة تناول شوربة الدجاج في معالجة أمراض الجهاز التنفسي، هي التي نشرتها مجلة "طب الصدر" في عام 2000، للدكتور ستيفن رينارد، طبيب الصدر والعناية الفائقة، وزملائه الباحثين من المركز الطبي بجامعة نبراسكا في أوماها بالولايات المتحدة. وقال الباحثون هؤلاء في دراستهم: “شوربة الدجاج تحتوي على عناصر غذائية وفيتامينات تعمل على تخفيف حدة تفاعلات خلايا الدم البيضاء في جسم الإنسان عند الإصابة بالالتهابات الميكروبية . وهذه التأثيرات المضادة للالتهابات هي السبب في عمل شوربة الدجاج على التحسن المؤقت الذي يشعر المرضى به عند تناولها”.

ويضيف باحثون أميركيون آخرون، أن مرق الدجاج يحتوي على أحد أنواع الأحماض الأمينية، يسمى "سيستين". والأحماض الأمينية كما هو معلوم، هي المركبات الكيميائية التي تتكون البروتينات منها. وهذه المادة، كما يقول هؤلاء الباحثون، تظهر في مرق الدجاج عند الطهي، وهي شبيهة في التركيب بمادة "أسيتايل سيستين" المستخدمة من قبل بعض الأطباء في معالجة حالات التهاب الشعب الهوائية. ويستطردون بالقول: "وإذا ما أضيف البصل إلى الدجاج خلال الطهي وتم طبخه جيدا كي تزول رائحته، تتكون لدينا مادة (كيرسيتين) في شوربة مرق الدجاج تلك. وهذه المادة هي إحدى المواد الطبيعية التي تعمل كمضادات قوية للالتهابات، كما أنها تعمل أيضا كأحد مضادات الهيستامين الطبيعية المخففة من حدة الاحتقان والالتهابات في الجهاز التنفسي". هذا، ولا تزال شوربة الدجاج وإضافات الفلفل الأسود والبصل والخضراوات الطازجة، محل اهتمام علمي لتفسير تلك الراحة وذلك التحسن الذي يشعر به المصابون بنزلات البرد عند تناولهم لصحن ساخن من شوربة الدجاج بالخضراوات.


نسخة راديو الاذاعة بدون صدى مصحف عبد الباسط مرتل لاول مرة بجودة رهيبة كامل كله في مقطع صوتي واحد

$
0
0
نسخة راديو الاذاعة بدون صدى مصحف عبد الباسط مرتل لاول مرة بجودة رهيبة كامل كله في مقطع صوتي واحد



برواية حفص عن عاصم --- الرواية المشهورة






سماع
https://archive.org/details/83568358...635ording128kb



تحميل
https://archive.org/download/8356835...ecording__.mp3




وهنا مقسم 114 سورة


سماع
https://archive.org/details/128kb---...-aleza3a--full


تحميل كلي



_____قبل الرابط___________ملحوظة هامة






ملحوظة__اذا كنت تحمل ببرنامج انترنت داونلود مانجر بعد الضغط على الرابط التالي

انتظر قليلا حتى يظهر لك الحجم والصيغة

حتى يكون الملف بالصيغة الصحيحة ____ZIP____



_------------------____________والان مع الرابط



https://archive.org/compress/128kb--...RRENT,****DATA



سورة سورة

https://archive.org/download/128kb--...-aleza3a--full







وهنا المزيد



ما فات و ما يستجد لهذا القارئ خاصة ان شاء الله ____ مع الترتيب للاحدث _____تابعوا هنا__

https://archive.org/search.php?query...rt=-publicdate

















تلاوة و تلاوات خاشعة رهيبة --- يتم رفع المصاحف والتلاوات على ارشيف لتكون برابط واحد
ويتم التحميل عادة من اشهر المواقع مثل طريق الاسلام و نداء الاسلام و نداء الايمان و اسلام ويب و اسلام هاوس و قراء جدة
و موقع روائع التلاوات و موقع القران ام بي ثري و موقع شبكة المسلم و موقع القران تي في و موقع رياض القران و شبكة الصوت الاسلامي ____------______ --- جزاهم الله خيراااااااااااااااااا اجمعين









وهنا المزيد من مصاحف مقسمة صفحات مع الترتيب للاحدث

https://archive.org/search.php?query...rt=-publicdate











وهنا الاف الكتب قراءة اونلاين و تحميل صاروخي مع الترتيب للاحدث ---- تابع كل لحظة

https://archive.org/search.php?query...rt=-publicdate




















ونحن نجدد كل الروابط قريبا ان شاء الله نكملها كلها

من وجد اي رابط لا يعمل او اراد اي مادة صوتية او مرئية
فعليه ان يضغط على رابط المزيد ---في اي موضوع من مواضيعي

وووووووووو عليه ان يتعلم كيفية البحث في موقع ارشيف
وهنا الشرح اضغط هنا بسرررررررعة
https://archive.org/details/archive--__search

واليكم المفاجاة الذهبية من اهم الهدايا

هنا برنامج ايات الرهيب مصحف معلم صوت و صورة لكل القراء

مع معظم تفاسير القران مع مصحف مكتوب بجودة خيالية طبعة المدينة بتشكيل حفص و نسخة التجويد و بتشكيل رواية ورش

مع الشرح بالتفصيل

لللبرنامج كل هذا بحجم 120 ميجا اضغط هنا للشرح التفصيلي

وهنا التحميل اضغط بسرررررعة
https://archive.org/details/Ayat--1__2016



واليكم المفاجاة العملاقة الثانية

برنامج كلام الله

اصدار جديد --1--2016

برنامج معلم الكتروني صوت و صورة

فيه مزايا رهيبة خيالية لا تصدق
هنا الشرح التفصيلي الواضح اضغط هنا بسرعة
وهنا التحميل الصاروخي برابط واحد اضغط هنا بسررعة
https://archive.org/details/klam--__allah__1__2016


اليكم ايضا الهدية العملاقة الثالثة

مصاحف القران مكتوبة

يصيغة الباوربوينت الرهيبة

خمس مصاحف هنا
اضغط بسرررررعة
https://archive.org/details/powerpoint--__2016

اليكم ايضا

الشرح التفصيلي فيديو و كتابة

عن موقع ارشيف العملاق

كيف تبحث فيه عن كل ما تتمنى

والرفع و التحميل و التسجيل وكل شيء
اضغط هنا بسرررررررعة
https://archive.org/details/archive--__explain

















وهنا البحث في موقع ارشيف العملاق بحث عادي و بحث متقدم عن اي مصحف او عن اي صوتيات و مرئيات سماع اونلاين و تحميل صاروخي هنا

https://archive.org/advancedsearch.php?



وهنا الاف المصاحف متجددة مع الترتيب للاحدث تابعوا هنا

https://archive.org/search.php?query...rt=-publicdate


وهنا الترتيب تبعاا للاكثر تحميلا

https://archive.org/search.php?query...ort=-downloads






وهنا مصاحف القران مقسمة اجزاء و احزاب و اثمان و ايات و صفحات و سور و ارباع


مع الترتيب للاحدث

فتابع هنا

https://archive.org/search.php?query...rt=-publicdate















وهنا مصحف الحرم المكي 1436 النسخة الاصلية


سماع
https://archive.org/details/32586356...56858656845845

تحميل
https://archive.org/download/3258635...45_vbr_mp3.zip

























وهنا كل قراء العالم رمضان 1436 متفرقين مع الترتيب للاحدث



https://archive.org/search.php?query...rt=-publicdate













وهنا كل قراء العالم رمضان كل السنين من قبل و من بعد عام 1436 متفرقين مع الترتيب للاحدث


https://archive.org/search.php?query...rt=-publicdate














وهنا كل قراء العالم رمضان 1436 متجمعين في صفحة واحدة صوتي متجدد

https://archive.org/details/12346213...61234613461346










وهنا كل قراء العالم رمضان 1436 متجمعين في صفحة واحدة فيديو متجدد

https://archive.org/details/475423724374257757












اسماء جميع القراء في موقع نداء الاسلام و في موقع اسلام ويب الى تاريخ اول اكتوبر 2015 و جاري نشر المصاحف في المنتدى ان شاء الله


فتابعونا


أبو العينين شعيشع 2 أبو عبيد محمود الطبيب 3 أبوبكر علي أحمد الظبي
4 أحمد أبو المعاطي 5 أحمد أبوهاشم النورى 6 أحمد أحمد نعينع
7 أحمد أسامة الترجمان 8 أحمد أنس الزامل 9 أحمد إدريس
10 أحمد الحداد 11 أحمد الرزيقي 12 أحمد الرشيدي
13 أحمد الزارع 14 أحمد السعيد مندور 15 أحمد القصار
16 أحمد المصباحي 17 أحمد النفيس 18 أحمد بالقاسم البارقي
19 أحمد بن طالب حميد 20 أحمد بن عبد الرحمن العبيدي 21 أحمد بن عبدالله اللحدان
22 أحمد بن علي الحذيفي 23 أحمد بن علي العجمي 24 أحمد تميم المراغي
25 أحمد جليل 26 أحمد خضر الطرابلسي 27 أحمد خليل شاهين
28 أحمد سعود 29 أحمد سعيد العمراني 30 أحمد سليمان القضاة
31 أحمد سيد هاشم 32 أحمد عبد الله السعدي 33 أحمد عيسى المعصراوي
34 أحمد فايز الحراسيس 35 أحمد محمد ديبان 36 أحمد محمد الجبالي
37 أحمد محمد سلامة 38 أحمد محمد عامر 39 أسامة عدنان ابو جليل
40 أسامة مقبل 41 أشرف القشاش 42 أكرم السيد العلاقمي
43 أكرم بن إبراهيم آل حويس 44 أمير رحمن بن عباس 45 أمين عبدالله بربيد
46 أنس بن عبدالرحمن الميمان 47 أنس بن عيسى العمادي 48 أنس هوكا
49 أيمن أحمد الديب 50 إبراهيم الأخضر علي القيّم 51 إبراهيم الجبرين
52 إبراهيم الدردساوي 53 إبراهيم الشاوي 54 إبراهيم الشعشاعي
55 إبراهيم الوحيد 56 إبراهيم بن عبدالرحيم الخدري 57 إبراهيم بن عبدالله البديوي
58 إبراهيم بن علي العسيري 59 إبراهيم جمال القرجاوي 60 إبراهيم رمضان شعبان
61 إبراهيم سليم الدرملي 62 إبراهيم صقر الزعيم 63 إبراهيم علي عكر
64 إبراهيم محمد البلوشي 65 إبراهيم محمد الجرمي 66 إدريس أبكر
67 إسحاق دانيش 68 إسلام فكري 69 إسماعيل عزي
70 إسماعيل لونت 71 إياد موسى محمد 72 الحسن بن عبد الله برعيه
73 الحسيني العزازي 74 الدوكالي محمد العالم 75 الزين محمد أحمد
76 الشحات محمد أنور 77 العشري عمران 78 العيون الكوشي
79 الغوني طاهر إدريس 80 باسل الراوي 81 بسام بن عبد الرحمن البطحي
82 بشار شريف 83 بشر لطفي 84 بندر بن عبدالعزيز بليلة
85 بندر محمد الجعدي 86 توفيق بن سعيد الصايغ 87 جزاع بن فليح الصويلح
88 جعفر بني حمد 89 جعفر حوى 90 جمال شاكر عبد الله
91 جمعان بن حمود العصيمي 92 جمعة توفيق جمعة 93 حاتم المالكي
94 حاتم فريد الواعر 95 حسام خوجه 96 حسن عيسى المعصراوي
97 حسن محمد سعيد الحسيني 98 حسن محمد صالح 99 حسن مرعب
100 حسن هلالي 101 حسين بن عبد العزيز آل الشيخ 102 حسين خليل الياخندي
103 حمزة مدني 104 خالد أحمد بركات 105 خالد الجليل
106 خالد الزنبعي 107 خالد الشنو 108 خالد الغامدي
109 خالد القحطاني 110 خالد بن سليمان آل مهنا 111 خالد عبد القادر
112 خالد عبد الكافي 113 خالد عبدالرحمن محمد 114 خالد غريب السعيدي
115 خالد محمد بكري 116 خالد يوسف الجهيم 117 خليفة الطنيجي
118 خميس عبدالعظيم عيص 119 داوود بن عبد الوهاب العسعوسي 120 رجب صابر
121 رضا عبد المحسن 122 رمزي العايدي 123 رمضان الصباغ
124 زكريا محمد طرابلسي 125 زكي داغستاني 126 سالم عبد الجليل
127 سامي الدوسري 128 سجاد مصطفى كمال 129 سعد المجدوعي الغامدي
130 سعد بن سعيد الغامدي 131 سعد بن عبد الله البريك 132 سعود بن إبراهيم الشريم
133 سعود محمد الفايز 134 سعيد شعلان 135 سعيد عبد ربه
136 سفيان المجاهد 137 سلطان الروكان 138 سليم حمدان العنزي
139 سمير البشيري 140 سهل بن زين ياسين 141 سيد رمضان أبوخطوة
142 شحاته محمد علي 143 شوقي عبد الصادق عبد الحميد 144 شيخ بن أبي بكر الشاطري
145 شيرزاد بن عبد الرحمن طاهر 146 صابر عبد الحكم 147 صادق عبدالله النهاري
148 صالح بن سالم الصاهود 149 صالح عبد الحكيم 150 صالح مرعي
151 صلاح الجمل 152 صلاح الدين مغنم 153 صلاح الكردي
154 صلاح الهاشم 155 صلاح بن محمد البدير 156 صلاح بو خاطر
157 صهيب أحمد محمدي 158 صهيب مخللاتي 159 طارق عبد الغني دعوب
160 طلال الخضر 161 طلحة محمد توفيق 162 طه بن محمد الفهد
163 طه شهدي محمد 164 عادل بن سالم الكلباني 165 عادل بن عبد الله ريان
166 عادل مسلم 167 عبد الإله محمد هازع 168 عبد الباري بن عواض الثبيتي
169 عبد الباسط أبو العزم 170 عبد الباسط عبد الصمد 171 عبد الحكيم عبد اللطيف عبد الله
172 عبد الرحمن الجريذي 173 عبد الرحمن الدلالي 174 عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
175 عبد الرحمن بن علي الحوال 176 عبد الرحمن رخيص العنزي 177 عبد الرحمن محمد علي جبر
178 عبد الرزاق بن عبطان الدليمي 179 عبد الرشيد بن شيخ علي صوفي 180 عبد السلام عثمان
181 عبد العزيز بن سعود العويد 182 عبد العزيز بن عبد الله الأحمد 183 عبد العزيز بن محمد حكمي
184 عبد العلي اعنون 185 عبد الله الكندري 186 عبد الله النفجان
187 عبد الله الهزيم 188 عبد الله بن عبد الرحيم الكندري 189 عبد الله بن علي بصفر
190 عبد الله بن عوّاد الجهني 191 عبد الله بن محمد المطرود 192 عبد الله خيّاط
193 عبد الله طه سربل 194 عبد الله كامل 195 عبد الله محمد الرفاعي
196 عبد المجيد بن عبد الأحد الأركاني 197 عبد المحسن بن محمد العجيمي 198 عبد المحسن بن محمد القاسم
199 عبد المحسن بن ناصر العبيكان 200 عبد المنعم الطوخي 201 عبد المنعم عبد المبدىء
202 عبد الهادي أحمد كناكري 203 عبد الواحد بن رجاء المغربي 204 عبد الودود مقبول حنيف
205 عبد الولي أمير حسين الأركاني 206 عبد الوهاب المنيفي 207 عبدالباري عبدالرحمن العلمي
208 عبدالباسط أبوعبيد البرزي 209 عبدالرحمن الرحيمي 210 عبدالرحمن الزيني
211 عبدالرحمن بن جمال العوسي 212 عبدالرحمن صاهود الظفيري 213 عبدالرحمن كساب
214 عبدالرزاق بني ياسين 215 عبدالعزيز الزهراني 216 عبدالعزيز عكاشة
217 عبدالفتاح الطاروطي 218 عبدالفتاح عوينات 219 عبدالقادر ناصر الدين
220 عبدالكبير الحديدي 221 عبدالكريم الدغوش 222 عبدالكريم العداني
223 عبدالله أبوالوفا الصعيدي 224 عبدالله ابو قيان 225 عبدالله البعيجان
226 عبدالله بن محمد الجعدي 227 عبدالله عبدالفتاح بركات 228 عبدالله عبدالمحسن القرافي
229 عبدالمحسن محمد الطبطبائي 230 عبدالمنعم عبدالمبدىء 231 عبيد بن سالم العمري
232 عزيز عليلى 233 علاء الدليمي 234 علاء خليل الغرباوي
235 علاء نعمان 236 علي أبو هاشم 237 علي بن عبد الرحمن الحذيفي
238 علي بن عبد الله بن علي جابر 239 علي بن محمد القريني 240 علي صلاح عمر
241 علي عبد الحميد سعد 242 عماد بن محمد المنصري 243 عماد زهير حافظ
244 عمار عبد الله الساكني 245 عمار محمد العبيدي 246 عمر بن حسين باعيسى
247 عمر بن فريج الجهني 248 عمرو عطيه 249 عيد حسن أبو عشرة
250 عيسى بن علي العجمي 251 عيسى صلاح العنزي 252 غانم الحربي
253 غسان أبو خضره 254 فؤاد الخامري 255 فاتح جولاك
256 فادي الجبور 257 فارس عبّاد 258 فارس محمد قاسم الأعجم
259 فهد الغراب 260 فهد بن سالم الكندري 261 فيصل الخلاقي
262 قاسم بن محمد فضائل 263 قتيبة عبد الله الزويد 264 قيس هائل
265 كامل اللالا 266 كامل جاب الله الفشني 267 كريم منصوري
268 لطف الله حاتم 269 لقمان الحماد 270 مأمون البنغالي
271 مأمون الشمالي 272 ماجد الزامل 273 ماجد بن جابر العنزي
274 ماجد زبن 275 مازن الزرو 276 ماهر المعيقلي
277 ماهر عبد الرحمن شخاشيرو 278 ماهر محمد فرماوي 279 مبارك المبارك
280 مبارك بن حمد المري 281 مجدي البلتاجي 282 مجدي سالم
283 محمد أبو شوشة 284 محمد أحمد الزاهد 285 محمد أمين آي
286 محمد أيوب 287 محمد الأطرش 288 محمد الإبراهيمي
289 محمد الحميدي 290 محمد الزبيدي 291 محمد الزنان
292 محمد الغامدي 293 محمد القاسم 294 محمد المطر
295 محمد المهدي نجاتي 296 محمد الوائلي 297 محمد بن جاسم البراك
298 محمد بن سليمان المحيسني 299 محمد بن عبد الرحمن العريفي 300 محمد بن عبد العزيز الخضيري
301 محمد جاد 302 محمد جبريل 303 محمد حبش
304 محمد حربي 305 محمد حسن 306 محمد حسين الغزالي
307 محمد حمزة 308 محمد خليل قارىء 309 محمد رشاد الشريف
310 محمد سعيد خياط 311 محمد سليمان باتل 312 محمد صالح عالم شاه
313 محمد صديق المنشاوي 314 محمد صلاح نافع 315 محمد طه الجنيد
316 محمد طيب عبدالحليم 317 محمد عادل العمادي 318 محمد عبد الحكيم بن سعيد العبد الله
319 محمد عبد الكريم 320 محمد عبدالرشيد صوفي 321 محمد عبدالسميع اليوسفي
322 محمد عبدالعزيز 323 محمد عبدالواحد علي 324 محمد عبدالوهاب الطنطاوي
325 محمد عبده العميري 326 محمد عكة 327 محمد علي حسن
328 محمد عمر الجعادي 329 محمد عوض الحرباوي 330 محمد عويد الرشيدي
331 محمد فاروق منسي 332 محمد محمد الليثي 333 محمد محمد المنشد
334 محمد محمود الخوجة 335 محمد محمود الطبلاوي 336 محمد محمود الماذني
337 محمد محمود عوض 338 محمد مصطفى الزيات 339 محمد معوض عبدالعال
340 محمد نزار الدمشقي 341 محمد نيازي 342 محمود أبو الوفا الصعيدي
343 محمود الخشت 344 محمود الرفاعي 345 محمود حسن علي
346 محمود حسين منصور 347 محمود خليل الحصري 348 محمود عبدالحكم
349 محمود عبداللاه عبد العزيز 350 محمود عكاوي 351 محمود علي البنا
352 محمود محمد الكفري 353 محمود محمد رشاد الشيمي 354 محمود ممدوح محجوب
355 مسعود عبدالرشيد الحلفاوي 356 مشاري بن راشد العفاسي 357 مشعل بن يوسف المطر
358 مصطفى أحمد البنباني 359 مصطفى إسماعيل 360 مصطفى اللاهوني
361 مصطفى رعد العزاوي 362 مصطفى صالح الشريف 363 مصطفى عبدالله خليل
364 معاذ الدلال 365 معاذ الدويك 366 معاذ الكندري
367 معاذ محمد علي باشا 368 معمر السيد محمد حسن 369 مفتاح محمد يونس السلطنى
370 ملبس البارقي 371 منصور عبد الله الزهراني 372 مهند الحوراني
373 نادر القلاوي 374 ناصر العبيد 375 ناصر القطامي
376 ناصر بن علي الغامدي 377 نبيل بن عبد الرحيم الرفاعي 378 نزيه جمال اليافي
379 هاني بن عبد الرحيم الرفاعي 380 هاني خندقجي 381 هزاع البلوشي
382 هشام المقدشي 383 هشام عبد الباري محمد 384 واصل بن داود المذن
385 وديع حمادي اليمني 386 وليد بن حمد المرزوقي 387 وليد علي محمد النائحي
388 وليد محمد الضباعية 389 ياسر الفيلكاوي 390 ياسر بن إبراهيم المزروعي
391 ياسر بن راشد الدوسري 392 ياسر سرحان الديب 393 ياسر سلامة
394 ياسر عاشور إسماعيل 395 ياسر عبد الله 396 ياسر عبد الله القرشي
397 يحيى أحمد محمد الحليلي 398 يحيى حوى 399 يس الجزائري
400 يوسف أبكر 401 يوسف الشويعي 402 يوسف بن قاسم الصوفي
403 يوسف قبلان 404 يوسف كالو علي 405 يوسف مروان الديك
406 يوسف معاطي 407 يوسف نوح أحمد 408 يونس بن عبد العزيز الأرامبي

فيصل بن محمد الرشيد كمال صميدة محمود عبد الصمد الجيار
عبد الرحمن البيلي عبد الله السبعاوي محمد عارف العسلي
محمد قاسم القحطاني فالح الهاجري إبراهيم غسان الناجي
أحمد سعيد العمراني إسلام منتصر أيمن أحمد الديب
محمد علي أحمد السكندري رجب الشرقاوي مصحف الحرم المدنى لعام 1436هـ
أنس العمادي حسام الدين عبادي السيد مسلم
صلاح الدين الجزائري مهند سلام
صهيب جمال الملاح عبد الرحمن رخيص العنزى نادر القلاوي
عبد المطلب البودى آدم مشتاق الحافظ إسلام فكري الخطيب
مصطفى الغريب طه راجح هزاع البلوشى مصحف الحرم المكى لعام 1436هـ
محمد نور الدين السعدنى محمد علي أبو الحسن آدم بوصخرة
محمد الإبراهيمي همام الريان محمد الكريني الملوكي
وليد عبد الله الفص أيمن سويد محمد عبد اللطيف
أحمد مختار حمدان نايف السالم توفيق شقرون
وليد مهساس الجزائري عبد الرحيم أحمد أمين إبراهيم شحاته المغربي
حاتم المالكي الزين محمد أحمد محمد جمال الخواص
أحمد بن قاسم باعلي وسعيد عمران منصور رعد محمد الكوردي
محمد طه الجنيد أبو عبيده الليبي محمد عبد الحكيم الدماريسي
ناصر عبد الرحمن الحمد محمود منصور المعيقلي عيسى القرضاوى
توفيق بن شعبان الجزائري إسماعيل الجزائري رشيد إفراد
محمد عبد الباعث الفقى عبد العزيز القوري عبد القادر محمد الصوملي
محمد بن موسى عبد الحكيم الشبرمي مصطفى بن حمو نجار
حمزة عالم شاه سمير بلعشية المغربي عبد الباسط هاشم
محمد بن بركات يوسف بن نوح أحمد حسن سعيد
وليد البطراويش عمرو عبد الرازق أبو الوفا هاني كارم فتيح
عبد المنعم عبد الرحيم ليقاوي محمد صلاح عبد العزيز عادل حميد
حسين عشيش مصحف مكتمل جابر عبد الحميد جوهر القردلي
محمد الفاتح الزين محمد هلال الزبيدي شمس الإسلام بن محمد رحمان الأراكاني
عيسى الحجلاوي نور عبد الكريم نور الحسين المجدولي
ياسر سرحان الديب رضا علي الخلاقي سعد سلمان الزبيدي
وضاح خضر حسين رضا أحمد الجمل أحمد سيد هاشم
أبوالحسن محمد بن حسين هلال أحمد سعيد عبد الرازق الادهم
علي الجعفري العنزي عزت جمال عزت إياد عبد الحليم النجار
محمد عبد العظيم الباز محمد فوزي عبد الرحمن سمير سيف
أبو أيوب الجزائري أبو أويس محمد بازون الجزائري عصام الرباعي
أبو إسحاق الطنطاوى إسلام ياسين السيد أحمد بن عبد الله اللحدان‏
عماد المنصري كامل جاب الله الفشني عبد القادر محمد علي
عبد الله كامل الحفاظ القطريين خليفة الطنيجي
محسن نعيم بديع بديع جادو أنس جلهوم
حمزة الجزائري الهان توك العربي الكثيري
إبراهيم عبد الله الماس سيد أبو زيد يونس عوض علي
محمد جاسم الجبوري محمد حسن نور الدين إسماعيل عبد الله الشعراوى
محمد الأفغاني محمد زاهر عبد الله بن عبد الرحمن البعيجان
صلاح الجمل الناجي ولد بلال حسن إبراهيم القزاز
محمد إبراهيم حول يامن المصري سمير الليثى أبوأنس
محمد حسن الدرعمي محمد عبدلله مصطفى حسين الجسمي
محمد أحمد محمد عبد اللطيف سيد رمضان محمد إسماعيل السروى
خالد حسن الصلعاوي عبد الله عبد المجيد المصرى شيخنا ولد الحاج
جمال الدين الزيلعي محمود لقم استاذ زامري الماليزي
محمد أحمد داوود خالد سليمان زيتون أحمد على الكاملي
أحمد عيد مهنا محمد تميم الزعبي السيد القوصي
أحمد أبو بكر نافد إحسان محمد خضرة الحافظ خليل اسماعي
هانى حسين الزعبلاوى محمد سالم ابو مويس محمد رمضان محمد
محمد رشدي محمد تموري عز الدين بن أحمد عمارنه
عبد الله محمد الرحيمان عبد الرحمن رئيس الجسوي عبد الحميد احساين
أحمد طاهر سالم ولد محمد الأمين الملقب الداهن هيثم الجدعاني
عبد الرحمن الشحات محمد شهاب الحفناوي عبد الرحمن حمدي أبوالعنين
عبد اللطيف عفيف الورزازاي المغربي عبد اللطيف شمام أنس المحمدي
محمود عبد الرازق طه حسن صلاح بعلول منصور الزهراني
محسن سعيد الغازي محمد نور يحيى أحمد محمد سلامين
إبراهيم جبر أبو رحيق مصعب بن محمد فقيهي علي محمد هارب حجوري
لخضر بن الحمدي لزرق زايد ال عطية خالد نفادي الأزهري
خليل إسماعيل تامر تيمور حسن محمد البرزنجي
سرحان عادل سرحان مصطفى محمد عبد العزيز أحمد عطية
أبوالخير عبد اللطيف باري أحمد الهذيلي محمد عبد المؤمن
علاء عبد الوهاب محسن عبد العزيز حسن معلم إبراهيم الواجدي
رمضان شكور تامر علي عيسى مصطفي الفرجاني الترهوني
محمود شعبان محمد الصاوي عبد الباسط بن زايد الريدي
مصطفى طه الحسيني محمد زعرور محمود داوود دسوقي خطابي
عبد الله المكنوي مرضي شرف الدين أبو هريرة علاء نعمان
مصحف مكتمل محمود محمد عبد الوهاب باسل الراوي عبد الرحمن الناوي
عمر عبد البصير إبراهيم الجميلي محمود أحمد مروح
وليد الفلوجي محمد علي أحمد كوريبة محمود مصطفى النجار
أحمد الرباعي وقار يونس بن أمير حمزة مجدي طه
صلاح باعثمان هاني عبد الله أبوشيتة أحمد السعيد مندور
أحمد صابر العايدى عمرو الدماريسي المنياوي أحمد الحراسيس
محمد أحمد فايز عطيه بسيوني الحبيب زيد علي العباسي
محمد صلاح الدين كبارة بهجت السعيد النادى محمد السيد محمد القط
عبد الله يوسف إسماعيل المالكي عبد الرحمن الدلالي أحمد علي مرتضى
سعود لطيف الرميزان ياسين العساف يحيى نوح
محمد سلمان الدهاس عبد الرحمن فؤاد محمود الطوخي
حسين أبو المعاطى عدنان المصقري يوسف الجزائري
مصطفى حسين مصحف الحرم المكى لعام 1433هـ حمزة الفار
أحمد البطل عبد الرحمن عبد الله الظاهري حسن مصطفى الوراقي
أحمد حسين حلاوة طارق عبد الحكيم عبد الستار صالح عبد المقصود صالح
أحمد عبد الفتاح أحمد العوامي زكرياء زيني المغربي
محمد مكي عبد الملك بن عبد الله المصري عبد الرحمن الشوربجى
محمد نجيب الحسين سيد عبد العاطى محمد ركابي
عبد الرؤوف الجزائري حسام محمد الأجاوي عبد اللطيف محمد احميداني
هاني محمد نصر أحمد بن عباس العلي خالد القمبشاوي
رامي حسن أحمد غسان الناجي حميد الهوتي
ماهر شخاشيرو محمد شعبان أبو قرن مصطفى خميس
أحمد جليل مولوي بدر أحمد المغربي كمال المروش المغربي
عثمان الانداري فهد بن علي قحل علي عبد الله حسين الكميت
لطفي إبراهيم أحمد يوسف الدغوش مصحف مكتمل وائل دسوقي
حماده إسماعيل فوده عبد الله عبد العزيز الحارثي أحمد السيد محمد إسماعيل
علي راشد محمد طه شيحه إبراهيم كبوري
فاروق ماحي جمعة بن علي المهنا أحمد سمير الأبيوقى
فهد عبد الله المحمدي عبد العزيز المزيد عبد الكبير الحديدي
مال لله الجابر عاطف سند الغنيمى أحمد محمد العبيد
طارق يوسف عرفة عبد الكريم الدغوش إدريس أبكر
عبد الرحمن بن جمال العوسي بهاء الدين الطوالبة مصحف مكتمل أئمة قطريين
حميدي الطاهر الجزائري عزالدين عمارنه سعيد دباح الجزائري
أحمد محمد طاهر صلاح العراقي عثمان المسيمي
أبي الحسن هشام المحجوبي أبوطلحة البوسعيدي إسماعيل عبده محمد
يوسف معاطي إبراهيم بوعنني محمد السعيد ماهر
يوسف كالو علي إبراهيم الدرسي مشحوت آل مخلوف
تركي الرميح أحمد بدر الدين أسامة النجار
أنس الغامدي أحمد عماد سمان محمد السلمان
زمال كمال الجزائري محمد أحمد أيوب أبو مازن خالد المهنا
صالح الصاهود مفتاح محمد السلطني عبد السلام غالب السفياني
حسن بن محمد يحيى الدغريري مجدي سالم أحمد الحداد



ملحوظة هامة جداااااااااااااااااا

هذا رابط البحث في موقع ارشيف اذا اردت ان تيحث عن اي شيء

https://archive.org/advancedsearch.php


ستجد الخانة الثانية مكتوب فيها على اليسار كلمة
title
وامامها على اليمين مستطيل خالي

اكتب في المستطيل الخالي امام كلمة تيتل -----اكتب فيه اي شيء
ثم انتر او ثم اضغط على كلمة
search
اسفل الجدول الاول
وكلمة تيتل معناها العنوان --بعكس الخانة الاولى
any field
يعني اي مكان لكن لو كتبت امامها سيظهر لي نتائج كثيرة غير دقيقة
لكن الكتابة بجوار التتل افضل لكي يكون بحث اكثر دقة فانا مثلا ابحث عن مصحف العجمي
اكتب امام التتل كلمة العجمي
واذا اردت الملفات المبرمجة لبرنامج كلام الله
فاكتب في خانة البحث امام التتل كلمة---برنامج كلام الله ---ثم اكتب بجوارها اسم اي قارئ
واذا اردت اي مصحف مقسم صفحات او ايات
فاكتب في خانة البحث اسم اي قارئ و بجواره صفحات او ايات
حسب ما تريد
ولاحظ ان كتابة الكلمة حساسة
فحاول تجرب كل الاقتراحات يعني مثلا
مرة ابحث عن العجمي بالياء ---ومرة ابحث عن العجمى هكذا بدون نقط الياء
لان صاحب المصحف الذي رفعه لو كتبه بالياء اذن انا لازم اكتب في بحثي نقط الياء
لان موقع ارشيف دقيق في كتابة كلمة البحث بعكس جوجل الذي لا يدقق في كتابة كلمة البحث



لمزيد من الشرح العملاق عن موقع ارشيف وكل خصائصه

هنا فيديو و كتابة

هنااااااااااااااااااااااا__________ااااااااااااااا
https://archive.org/details/Arch1251252455415255215

اما الشرح العملاق لبرنامج كلام الله ______على موقع ارشيف ____مع التحميل


هناااااااااااااااااااااا____________________--------------------------

https://archive.org/details/klam--__allah__1__2016







اما الشرح العملاق و التحميل لبرنامج ايات وهو برنامج مشابه لبرنامج كلام الله
تعرف عليه و قارن بينهما و اختر ما تحب
هنااااااااااااااااااااااااااا_____________________ _____________اااااااااااااا


https://archive.org/details/Ayat--1__2016





والتحميل لبرنامج ايات لاي ويندوز هنا



https://archive.org/download/Ayat--1...t--1__2016.zip

التوحد.. اضطراب يزداد باضطراد

$
0
0



التوحد.. اضطراب يزداد باضطراد










الدكتور جابي كيفوركيان











يسمى التوحد، حسب التصنيف الأمريكي للأمراض DSM-IV-TR، باسم "الاضطراب التوحدي" Autistic Disorder. وحسب التصنيف العالمي للأمراض ICD-10 يسمى "توحد الطفولة" Childhood Autism. وإضافة الى مصطلح "التوحد" باللغة العربية، نرى أن بعض العلماء العرب يستخدمون أيضاً مصطلح "انطواء على الذات".

وينتمي التوحد الى مجموعة من الحالات النفسية التي تصيب الأطفال تحت سن الثالثة من العمر، وتؤدي الى قصور يشمل مجالات واسعة من التطور الاجتماعي والنفسي. وتعرف مجموعة هذه الحالات النفسية-العصبية باسم "الاضطرابات النمائية العامة" أو "الاضطرابات التطورية الشاملة" Pervasive Developmental Disorders. تنتمي اليها، إضافة الى التوحد، الاضطرابات الأربعة التالية:

اضطراب رت Rett’s Disorder.
اضطراب أسبرجر Asperger’s Disorder
اضطراب الطفولة التفككي Childhood Disintegrative Disorder.
اضطراب تطوري شامل، غير محدد (توحد غير نموذجي) Pervasive Developmental Disorder, NOS (Atypical Autism).


وتشترك الاضطرابات الخمسة المذكورة سابقاً، بالميزات التالية:


قصور شديد وشامل في التفاعل الاجتماعي المتبادل، وفي مهارات التواصل، أو قد تتطور على نحو غير مناسب، أو لا تتطور مطلقاً ، شذوذ في تطور وفهم اللغة.
سلوكيات ونشاطات واهتمامات نمطية Stereotype محدودة ومتكررة (تكرار الأفعال أو الأقوال غير المعقولة، أو تكرار الحركات تلقائياً وعلى نمط واحد).

تظهر هذه الاضطرابات في مرحلة الطفولة المبكرة، قبل سن ثلاث سنوات من العمر (عدا التوحد غير النموذجي). وعادة يبدأ الأهل بالقلق على طفلهم عندما يصل سن 18 شهراً من عمره، وذلك لعدم تطور اللغة كما هو متوقع في هذا السن. ويلاحظ أيضاً أن لدى 25 في المئة من الحالات تتطور اللغة بشكل قليل، غير أنها ما تلبث وان تتلاشى.
تسبب هذه الاضطرابات خللاً وظيفياً دائماً (مدى الحياة).
لا تؤثر هذه الاضطرابات سلباً على معدل متوسط العمر.
اهتمام مفرط في نشاطات محدودة المجالات، ويقاوم الطفل التغيير، ولا يستجيب بشكل لائق للبيئة الاجتماعية المحيطة به.
يعاني العديد من الأطفال المصابين بهذه الإضطرابات من درجات متفاوتة من التخلف العقلي.


التوحد

يعتبر التوحد من أكثر الإضطرابات النمائية المعروفة، التي قام الأطباء بدراستها حتى يومنا هذا.
ويعرف التوحد حسب ICD-10 بأنه اضطراب نمائي عام، يتميز بتطور غير طبيعي أو قاصر، يظهر قبل سن ثلاث سنوات من العمر، وخلل وظيفي في التفاعل الاجتماعي المتبادل وفي التواصل. وسلوكيات نمطية تكرارية محدودة. وهو أكثر شيوعاً عند الذكور منه عند الإناث بثلاث أو أربع مرات.
وأما حسب DSM-IV-TR فيعرف التوحد بأنه تطور غير طبيعي أو قصور ملحوظ في التفاعل الاجتماعي والتواصل، ومحدودية ملحوظة في النشاط والاهتمامات، ويجب أن تظهر على الأقل واحدة من الصفات المذكورة قبل سن 3 سنوات من العمر. وتختلف مظاهر وميزات التوحد اختلافاً كبيراً، وذلك حسب مستوى التطور والعمر الزمني للفرد.
أما جمعية التوحديين الأمريكية، فتعرف التوحد، بأنه عجز تطوري معقد، يظهر نموذجياً خلال السنوات الثلاث الأولى من العمر، وهو نتيجة اضطراب عصبي يؤثر في وظيفة الدماغ الطبيعية، وفي مجالات التفاعل الاجتماعي ومهارات التواصل. ويُظهر الأشخاص (الأطفال والبالغون) التوحديون صعوبة في التواصل الكلامي وغير الكلامي وفي التفاعل الاجتماعي وفي اللعب واللهو والنشاط، أثناء ساعات الفراغ. وينتمي التوحد الى مجموعة من خمسة اضطرابات نمائية – عصبية، تتميز بقصور شديد وشامل في عدة مجالات تطورية.


النسبة الانتشارية


يحدث التوحد بمعدل 8 حالات من كل عشرة آلاف طفل (0,08 في المئة). في حين أشارت بعض الدراسات الى أن هذه النسبة قد تتراوح بين 2-29 حالة من كل عشرة آلاف طفل. ويبدأ التوحد بالظهور قبل سن ثلاث سنوات. وأود أن أشدد هنا (ويشاركني العديد من زملائي) على أنه في حال وجود صعوبة في تشخيص الحالات المعتدلة من التوحد، أن تعامل الحالة على أساس أنها توحد غير نموذجيAtypical Autism الى أن يصل الطفل سن الخامسة من عمره، وذلك لأننا لاحظنا عند العديد من الحالات، أنه عندما يصل الطفل سن الخامسة، إما أن تتلاشى سلوكياته غير الطبيعية، أو أنها تتطور لتصبح سهلة التشخيص على أنها توحدية.
والتوحد أكثر شيوعاً عند الذكور منه عند الإناث بمعدل 4-5 مرات. غير أن الإناث التوحديات أكثرعرضة للمعاناة من التخلف العقلي الشديد، مقارنة مع الذكور التوحديين. والتوحد يحدث في كل دول العالم ولدى العائلات من مختلف الشرائح العرقية والاجتماعية.
وأود أيضاً أن ألفت الانتباه، الى أن النسبة الانتشارية للتوحد آخذة بالارتفاع. ففي عام 1999 من القرن الماضي، عندما نشرت هذه المقالة في مجلة "بلسم"، التي تصدر عن جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، كانت النسبة الانتشارية للمرض تتراوح بين 2-5 حالات من كل عشرة آلاف طفل، أي ما يعادل 0,02 الى 0,05 في المئة. وقد يكون سبب ارتفاع النسبة الانتشارية للتوحد عائداً إما إلى تحسن وسائل التشخيص والإبلاغ عنها، أو الى الزيادة الفعلية في الحالات.


أسباب المرض


حتى تاريخ كتابة هذا المقال، لم يتمكن العلماء من إيجاد سبب واحد يكون باستطاعتهم الاعتماد عليه في تعليل اضطراب التوحد.
ومن منطلق أنه من الصعب تطابق وتشابه صورة سريرية واحدة تماماً على طفلين توحديين، أستطيع أن أقول أن هنالك عدة أسباب وعوامل لإصابة الطفل بهذا الاضطراب. كذلك أود أن أشدد على أنه لا توجد أي علاقة للتوحد بالتنشئة والتربية والبيئة التي يعيش وينمو فيها الطفل، لذلك على الأبوين أن لا يشعرا بتقريع الذات والذنب والتقصير في تربية وتنشئة طفلهم، في حال تبين لهما أنه يعاني من التوحد.


العوامل الجينية:


أشارت الدراسات إلى زيادة في معدل إصابة أشقاء الطفل التوحدي بالتوحد بمقدار يتراوح بين 49-199 مرة. أضف الى ذلك أنه في حال عدم إصابة أشقاء الطفل التوحدي بالتوحد، فهم معرضون للإصابة باضطرابات أخرى لها علاقة بتواصل المهارات الاجتماعية. كذلك فقد أظهرت التحاليل الترابطية (الإسهامية) إلى أن مناطق معينة من الكروموسومات 7 و 2 و 4 و 15 و 19 من المرجح أنها تساهم في الأساس الجيني للتوحد. كذلك فإن نسبة ظهور التوحد لدى التوأمين المتشابهين (وحيدي اللاقحة) أكثر من التوأمين غير المتشابهين (ازدواجيي اللاقحة).
وأشارت الدراسات أيضاً الى أن الأطفال التوحديين عرضة للإصابة ببعض الأمراض الجينية. فمثلاً واحد في المئة من الأطفال التوحديين يعانون أيضاً من متلازمة الكروموسوم الهش X. Fragile Syndrome، في حين 2 بالمئة من الأطفال التوحديين عرضة للإصابة بمرض التصلب المعجر Tuberous Sclerosis.

العوامل البيولوجية:


تؤكد المعلومة العلمية، التي تُظهر أن نسبة عالية من الأطفال التوحديين تعاني من التخلف العقلي، ونسبة أكثر من المتوقع أن تعاني من الصرع Epilepsy، على الدور المهم للعامل البيولوجي في إصابة الطفل بالتوحد. وقد أشارت الدراسات العديدة الى أن نحو ثلثي الأطفال التوحديين (69 في المئة تقريباً) مصابون بالتخلف العقلي.
وأود أن أشدد هنا على أن التوحد ليس تخلفاً عقلياً. والتصنيف التالي يبين ذلك:
- ثلث الأطفال التوحديين يتراوح تخلفهم العقلي بين تخلف عقلي بسيط الى تخلف عقلي متوسط.
- ما يقارب نصفهم يعاني من تخلف عقلي يتراوح بين الشديد والعميق.
- أما القسم المتبقي، فلا يعاني من التخلف العقلي مطلقاً.


وأما بالنسبة للصرع، فقد أشارت الدراسات الى أن نحو 4 الى 32 في المئة من الأشخاص التوحديين يعانون (أو عانوا في فترة زمنية معينة من حياتهم) من الصرع "التوتري – الارتجاجي" Tonic – Clonicأو ما يعرف باسم "الصرع الكبير" Grand mal وقد أظهر تخطيط كهربائية الدماغ EEG العديد من التسجيلات غير الطبيعية عند نحو 11 – 83 في المئة من مرضى التوحد.

في حين أظهر التصوير الطبقي للدماغ CT تضخم بطين الدماغ عند نحو 21 – 25 في المئة من مرضى التوحد. وأما التصوير بالرنين المغناطيسي MRI فقد أظهر قلة نمو Hypoplasia الفصيص المخيخي الدودي السادس والسابع، في حين أظهر تصوير رنيني آخر شذوذ قشري (تعدد صغر التلافيف Polymicrogyria).
كذلك فقد يصاحب التوحد حالات مرضية عصبية، وخاصة الحصبة الخلقية Congenital Rubella وبيلة الفنيل كيتون Phenylketonuria والتصلب المعجر.
وقد أشارت الدراسات العديدة الى أن نسبة لا بأس بها من الأطفال التوحديين يصابون بتشوهات خلقية بسيطة في الثلث الأول من الحمل. كذلك أشارت نفس الدراسات الى أن التاريخ المرضي لنسبة ليست بالقليلة من الأطفال التوحديين تظهر أنهم كانوا قد أصيبوا بمضاعفات أثناء فترة "حول الولادة" Perinatal (قبل الولادة بشهرين وبعدها بشهر تقريباً)، مقارنة مع باقي الأطفال.

العوامل المناعية:


أشارت العديد من الأبحاث والدراسات الى أن عدم التوافق المناعي Immunological Incompatibility قد يساهم في حدوث التوحد، حيث تبين أن كريات الدم البيضاء من النوع اللمفاوي Lymphocytes التي تخص الجنين قد تتفاعل مع الأجسام المضادة للأم، والذي بدوره يرفع إمكانية تلف أو خراب النسيج العصبي للجنين.
العوامل حول الولادة:


أشارت دراسة حديثة الى أن التاريخ المرضي للأطفال التوحديين يشير الى أن نسبة اصابة أمهاتهم بالنزيف بعد الثلث الأول من الحمل، إضافة الى وجود عقي (غائط الجنين) في السائل الأمنيوني عالية مقارنة مع باقي الأطفال. كذلك فقد أشارت نفس الدراسة الى أن التاريخ المرضي للتوحديين يشير الى أن نسبة إصابتهم بفقر الدم Anemia ومتلازمة الضائقة التنفسيةRespiratory Distress Syndrome في الشهر الأول بعد الولادة عالية مقارنة مع باقي الأطفال، وأن الأطفال التوحديين يكونون أكثر وزناً لدى الولادة.
العوامل الدماغية:


أشارت عدة دراسات الى أن نسبة ارتفاع الناقل العصبي "السيروتونين" Serotonin في دم الأطفال التوحديين (الذين لا يعانون أيضاً من التخلف العقلي) مرتفعة بشكل ملحوظ.
كذلك فقد أشارت نفس الدراسة الى تضخم المادتين الرمادية (السنجابية) والبيضاء في المخ لدى الأطفال التوحديين في سن سنتين (غير أن المخيخ يبقى سليماً). كذلك فقد لوحظ عند الأطفال المذكورين سابقاً كبر محيط الرأس في سن 12 شهراً. وقد يعود ذلك الى تضخم كل من الفص الصدغي Temporal Lobe والقذالي Occipital Lobe والجداري Parietal Lobe، في حين لم يطرأ تغير على الفص الجبهي Frontal Lobe.



تشخيص المرض


ولكي يستطيع الطبيب تشخيص التوحد عند الطفل، تم صياغة معايير من قبل عدة مراجع، وسأكتفي هنا بإيراد ما ورد في DSM-IV-TR لتشابه جميع المعايير في المراجع المختلفة نوعاً ما:

معايير تشخيص التوحد (DSM-IV-TR)

الفئة الأولى:

يجب أن تنطبق على الطفل ست فقرات أو أكثر، من البنود 1،2،3، شريطة تطابق فقرتين على الأقل من البند الأول، وفقرة واحدة من كل من البندين الثاني والثالث:


البند الأول: قصور نوعي في التفاعلات الاجتماعية:

الفقرة الأولى: قصور ملحوظ في استخدام العديد من السلوكيات غير الكلامية في سبيل تحقيق التفاعل الاجتماعي، مثل الحملقة (نظرة محدقة)، وتعابير الوجه، ووضعية الجسم والإيماء.
الفقرة الثانية: فشل في تطوير علاقة مع مجايليه مناسبة لمستوى النمو.
الفقرة الثالثة: الافتقار الى السعي التلقائي لمشاركة الآخرين المتعة والاهتمام أو الإنجازات (مثلاً، لا يُري أو يجلب أو حتى يشير الى الشيء الذي يسترعي اهتمامه).
الفقرة الرابعة: الافتقار الى التبادل الاجتماعي والعاطفي.



البند الثاني: قصور نوعي في التواصل:
الفقرة الأولى: تأخير أو افتقار كامل في اللغة الملفوظة، ولا يكون مصحوباً بمحاولة لتعويض ذلك من خلال أساليب اتصال بديلة، مثل الإيماء أو تعابير الوجه.
الفقرة الثانية: قصور ملحوظ في ملكة الكلام وعلى المقدرة في المبادرة بالحديث أو الحفاظ على استمراريته مع الآخرين.
الفقرة الثالثة: النمطية والتكرارية في استخدام اللغة، أو استخدام لغة خاصة به.
الفقرة الرابعة: الافتقار الى اللعب المتنوع والتخيلي التلقائي، أو اللعب الاجتماعي المقلد (الزائف) المناسب مع مستوى التطور.



البند الثالث: أسلوب محدود، نمطي ومتكرر، من السلوكيات والاهتمامات والنشاطات.
الفقرة الأولى: الانشغال بالقيام بأسلوب أو أساليب من الاهتمامات النمطية المحدودة وغير الطبيعية من حيث الشدة أو التركيز.
الفقرة الثانية: التمسك بعناد واضح بروتين أو طقوس غير عملية.
الفقرة الثالثة: حركات نمطية تكرارية، مثل التلويح أو التصفيق أو لوي الأصابع أو القيام بحركات معقدة لجميع أجزاء الجسم.
الفقرة الرابعة: الانشغال واللهو المستمران بأجزاء وأقسام وقطع الأشياء.





الفئة الثانية:

تأخر، أو تطور وظيفي غير طبيعي، على الأقل في مجال من المجالات التالية: التفاعل الاجتماعي، واللغة لغرض التواصل الاجتماعي، واللعب التخيلي أو الرمزي (شريطة أن تبدأ قبل سن الثالثة من العمر).


الفئة الثالثة:

الاضطراب لا يُعلل أو يُفسر على نحو أفضل باتجاه تشخيص "اضطراب رت" أو "اضطراب الطفولة التفككي"، (أي أن الصورة السريرية، لا تنطبق على الاضطرابين المذكورين).

الصورة السريرية


تظهر معظم حالات التوحد للأهل خلال السنة الثانية أو الثالثة من العمر، وذلك بسبب التأخر في تطور الطفل، وخاصة التأخير في تطور اللغة.
وأود أن ألفت الانتباه الى أن دراسة حديثة أظهرت أن متوسط العمر الذي يتم فيه تشخيص التوحد، هو 37 شهراً (وهذا لا يتم إلا من قبل الطبيب المختص).
غير أن الأطفال الذين يعانون من عوز اللغة يتم تشخيصهم بنحو سنة قبل الأطفال الآخرين، كذلك فإن التصنيفين الرئيسيين DSM-IV-TR و ICD-10 يشددان على وجوب ملاحظة النقص في التطور أو تأخره قبل سن الثالثة من عمر الطفل.

ويلاحظ على الطفل المصاب بالتوحد ميزات جسدية وآخر سلوكية.
الميزات الجسدية:

يصاب الأطفال التوحديون بنسبة عالية من التشوهات الخلقية البسيطة، مثل تشوهات في الأذن الخارجية وتشوهات أخرى، تعكس قصوراً في التطور النمائي العضوي في الجنين، وخاصة في أجزاء من الدماغ.
ويكون بمستطاع الأطفال التوحديين استعمال كلتا اليدين ببراعة متساوية في جميع الفترات العمرية.
كذلك فإن بصمات اليدين (والأصابع تحديداً) تظهر شذوذاً في الرسم الجلدي، مقارنة مع باقي الأطفال غير التوحديين.

الميزات السلوكية:

سأعتمد هنا نوعاً ما على المعايير التشخيصية للتوحد حسب DSM-IV-TR (والتي سبق ذكرها) مع شرحها بالتفصيل والتوسع بها:
قصور نوعي في التفاعل الاجتماعي:

لا يظهر الطفل التوحدي التودد والملاطفة الاجتماعية المتبادلة والمتوقعة، والتي تدل على التعلق والتفاعل مع والديه أو أفراد عائلته. فمثلاً، يلاحظ على الطفل الرضيع انعدام أو غياب الابتسامة المتبادلة والمعهودة لدى الأطفال الرضع الطبيعيين، وخاصة لدى مداعبتهم. كذلك لا يستمتع في حال قيام الأهل بحمله أو ضمه اليهم، حتى أنه لا يقوم بمد أو رفع يديه مشيراً الى رغبته بأن يُحضن أو يُرفع بين أكتاف والدته. وعندما تحاول والدته ذلك فمن المحتمل أن يقاومها ويتلوى ويتضايق بشدة. كذلك فإنه قليل (أو لا يُحسن) التواصل مع أهله عن طريق النظرات بالأعين.
وعندما يصل سن سنتين أو ثلاث سنوات من العمر يلاحظ عليه الانعزال والوحدة ورغبته باللعب لوحده دون سماحه لأحد (كباراً أو صغاراً) مشاركته بنشاطه.

وفي حال إلحاق الأذى به (أي في حال جرحه أو ضربه من قبل الآخرين) أو في حال استفزازه، أو حتى إيذائه نفسياً وعاطفياً، لا يلجأ لأهله طالباً العون والسلوى والمواساة. ويلاحظ أيضاً صعوبة تمييزه لأهله أو أبويه عن باقي الناس، ولا يظهر أي قلق عندما يُترك مع شخص غريب. ومع ذلك فإنه ينزعج في حال إجراء أي تغيير في معاملته العادية.
وعندما يصل الطفل التوحدي سن الذهاب الى المدرسة (عادة ما بين سن 5 الى 7 سنوات من العمر)، فمن المحتمل أن تقل سلوكياته الانعزالية. غير أنه يعاني من نقص في مهارة كسب الرفاق، ولا يرغب حتى في اللعب معهم، وقد يلعب لوحده لكن ليس بعيداً عنهم. وتتسم سلوكياته الاجتماعية بعدم اللباقة وغير الملائمة.
وأما من الناحية المعرفية فإن الطفل التوحدي أكثر مهارة في الواجبات والفروض المدرسية التي تتطلب استخدام حاسة البصر (المهام الحيز – بصرية)، مقارنة مع الفروض والواجبات التي تتطلب مهارات الكلام.
وفي سن البلوغ (اليفع) نلاحظ رغبة الشخص التوحدي في إقامة علاقة صداقة مع الآخرين من جيله، غير أن صعوبة التجاوب مع اهتمامات وأحاسيس وشعور الآخرين، تقف حجر عثرة في تحقيق أو نجاح الصداقة. وقد يصل الأمر الى أن ينبذ من قبل الآخرين بسبب سلوكياته الغريبة وغير اللبقة، مما يؤدي الى بقائه منعزلاً.
وبخصوص الشعور العاطفي والجنسي، فإن النساء والرجال التوحديين أناس عاديون مثلهم مثل الآخرين، لديهم الرغبة العاطفية والجنسية، غير أنه بسبب عوزهم للمهارات التواصلية، يفشل العديد منهم في كسب عطف ومحبة الطرف الآخر.
ويفتقر الشخص التوحدي الى التبادل الاجتماعي والعاطفي، ونعني بذلك عدم احساسه وتعاطفه مع مشاعر وعواطف الآخرين، سواء كانت مشاعر ود أو عداء، حزينة أو سارة، أي عدم اداركه لوجود مشاعر عند الآخرين من الناس، فيعاملهم وكأنهم قطع من الأثاث.
كذلك لا يشعر الشخص التوحدي مع الإنسان الذي يبدو عليه الضيق، ولا يدرك حاجة الآخرين الى الخصوصية، ولا يقوم يتغيير سلوكياته بناء على السياق والتغير المجتمعي أو البيئي.


قصور نوعي في التواصل:

يعتبر القصور في تطور اللغه وتأخرها وصعوبة استخدامها في التعبير والتواصل مع الآخرين اضافة الى شذوذها، من المعايير الأساسية في تشخيص التوحد.
ومن المهم ذكره ان صعوبات اللغة المذكورة سابقاً لدى الأطفال التوحديين ليست نتيجة امتناعهم عن التكلم او غياب الحافز لديهم في التكلم، بل هي نتيجة قصور تطوري.
وبخلاف الأطفال الطبيعيين، وحتى الأطفال المتخلفين عقلياً، فإن التوحديين يواجهون صعوبة في ربط الجمل المفيدة معاً (حتى لو كانوا يملكون ذخيرة كبيرة من المفردات). وحتى في حال تعلم الطفل التوحدي الحديث بطلاقة فإنه لا يهتم لرد فعل الشخص الموجه اليه الحديث.

وخلال السنة الأولى من حياة الطفل التوحدي تكون "تأتأته" ضئيله او غير طبيعية. ويصدر بعضهم اصواتاً بشكل تكراري مستمر (نمطي)، مثل، طقطقة، صراخ مفزع، وتلفظات لا معنى لها (هراء)، دون ان يكون لها هدف تواصلي.
وقد يردد ويعيد تكرار دائم لكلمات او مقطع من جملة يسمعها من اشخاص آخرين (قد تكون موجهة اليه او لا تكون موجهة له)، وتسمى هذه الظاهرة "صداء لفظي" Echolalia. وقد يصاحب ذلك ظاهرة تسمى "الضمير المعكوس"، فمثلاً قول الطفل التوحدي "انت تريد" بدلاً من قول "انا اريد" اي انه يستخدم الضمير "انت" بدلاً من "انا" والعكس صحيح، وهذه من المشاكل التي يجد المدرسون والأهل صعوبة في التغلب عليها. وعند نحو 51 في المئة من الأطفال التوحديين لا يتطور لديهم الكلام والحديث والجمل المفيدة وذات المعنى.
غير ان بعض الأطفال الأذكياء يظهرون افتتاناً خاصاً واستثنائياً بالأحرف والأرقام. واحياناً قد يبدعون ويتفوقون في مهام ومجالات معينة، او قد يملكون قدرات ومواهب خاصة وفريدة، فمثلاً، من المحتمل ان يتعلم الطفل التوحدي القراءة بطلاقة في سن ما قبل دخول المدرسة (الروضة)، بشكل مدهش، وتسمى هذه الظاهرة "فرط تعلم القراءة" Hyperlexia.

ويتراوح حاصل ذكاء (IQ) هؤلاء الأطفال من 90 الي 110 (طبيعي). وتكون مقدرة قراءة الكلمات عندهم فوق ما يتوقع من عمرهم. ومع ذلك فإن البعض منهم يعانون من صعوبة فهم ما يقرأون. وتتراوح نسبة الأطفال التوحديين الذين يمتازون بالقراءة من 5 الى 10 في المئة من مجموع الأطفال التوحديين. وكما ذكرت سابقاً فإن هؤلاء الأطفال يفتتنون بالأحرف والأرقام، لذلك نراهم ينجحون في تحليل اللغة المكتوبة، ونتيجة هذا يتقنون القراءة في عمر مبكر. ويلاحظ انه يكون باستطاعة بعض هؤلاء الأطفال تهجئة كلمة طويلة، مثل، برتقال، تلفزيون، قبل سن سنتين من العمر، وقراءة جملة مفيدة كاملة قبل ثلاث سنوات من عمرهم.
أسلوب محدود من السلوكيات والاهتمامات والنشاطات التكرارية (النمطية): تعرف النمطية بأنها تكرار الأعمال او الحركات تلقائياً، وعلى نمط معين، اي تكرار حركات غير معقولة، ودون معنى، وغير هادفة وبشكل منتظم، مثل: هز الرأس المتكرر، التلويح او التصفيق باليدين لمدة طويلة ودون توقف، وهز وارجحة الجسم بشكل متكرر.
ويصر الطفل التوحدي بطريقة غير طبيعية على اتباع نفس النمط من الحياة والنشاط ومقاومة التغيير، مثل: الإصرار على اتباع نفس الطريق الى المدرسة، وينزعج عند محاولة تغيير هذه الطريق والطلب منه ان يسلك طريقاً بديلة وقصيرة، توصله الى المدرسة بأسرع من الوقت المعتاد. ويرفض تناول الطعام اذا لم تعد المائدة بالأسلوب المعتاد يومياً، وينفعل وينزعج في حال تغير المكان المألوف للكرسي او للطاولة في الغرفة، او الإنتقال الى بيت جديد، او في حال تغير روتين تناول الطعام، فمثلاً عادة الإستحمام قبل تناول الطعام بعد ان كان قد تعود ان يفعل العكس.
وقد يثير التغيير المفاجئ في حياة الطفل نوبة من الفزع والخوف او نوبة "عصبية-مزاجية" Temper Tantrums والتي تتمثل بجيشان عاطفي وهيجان وغضب ويقوم برفس الأشخاص من حوله، ويرمي نفسه على الأرض، ويكبح (يحبس) نفسه حتى يصبح أزرق اللون.
كذلك فإن الطفل التوحدي يتعلق باشياء معينة وإستثنائية، اي انه يتعلق بأشياء غير اعتيادية، مثل: عند ذهابه للنوم يتعلق او يقوم بإحتضان علبة من الكرتون او صفيحة او وعاء معدني (في حين يحتضن الطفل السليم دمية او حيواناً اليفاً لدى خلوده للنوم). وعدا ذلك نلاحظ ان الطفل التوحدي ينشغل ويلهو باستمرار بأجزاء الأشياء (الدمى، الألعاب، السيارات..) وقد ينجذب لرائحتها او ملمس سطحها او الأصوات والضجيج الصادر عنها اثناء عملها او تشغيلها، او نتيجة اهتزازها وبشكل غريب (مثل اصدار الدمية لأصوات او كلام معين اثناء هزها او قلبها يميناً ويساراً). وأستطيع القول إن الطفل التوحدي يلعب ويلهو بالدمى والألعاب والأشياء بطريقة فريدة.
ويلاحظ في السنة الأولى من عمر الطفل التوحدي غياب اللعب الاستكشافي المتوقع في هذه السن، ولا يلعب الأطفال التوحديون ألعاباً تخيلية ولا يقومون بتمثيل ايمائي. وجميع نشاطات ولعب هؤلاء الأطفال يكون غالباً جاسئ (صارم)، تكراري، وعلى وتيرة واحدة وممل، وغالباً يقوم التوحديون بضرب ورمي الأشياء بعنف، ويظهرون تعلقاً شديداً بالجماد، مثل علبة شراب فارغة، سلك كهرباء.


ملاحظات مهمة


يعاني الأطفال التوحديون من امكانية الإصابة بالتهاب المسالك التنفسية العلوية وأمراض معدية بسيطة أكثر من النسبة المتوقعة في جيلهم. كذلك يعاني الأطفال التوحديون من الإمساك والإسهال والتجشؤ بكثرة. وتؤدي حرارة الجسم المرتفعة الى سهولة اصابة الطفل التوحدي بالتشنجات، مقارنة مع غيره من الأطفال مع أنه في كثير من الأحيان لا يبدو عليه الإعياء عندما ترتفع درجة حرارته.

وقد تختلف ردود فعل الأطفال التوحديين تجاه المنبهات والتأثيرات الخارجية (مثل الصوت والألم) فإما أن يستجيبوا الى هذه التأثيرات بشكل مفرط أو على النقيض، لا يستجيبوا أو يتأثروا بها مطلقاً. فمثلاً: لا يستجيب الطفل للكلام الموجه اليه ويظهر كأنه أصم، في حين يبدي اهتماماً وانجذاباً لصوت (تكتكة) ساعة اليد. وقد يكون للطفل التوحدي قوة تحمل الألم الشديد بشكل ملفت للانتباه، ولا يعطي ردة الفعل المألوفة لدى إصابته بالإيذاء الجسدي (لا يبكي ولا يطلب المساعدة والدعم). وكثير من الأطفال التوحديين يستمتعون بالموسيقى، وغالباً ما يدندنون نغماً معيناً.
وغالباً ما يلاحظ فرط الحركة والنشاط Hyperkinesis عند الأطفال التوحديين، غير أنهم نادراً ما يعانون من قلة الحركة Hypokinesis، وغالباً ما يكونوا عدوانيين، وقد يصابون بنوبات من العصبية Temper Tantrums لأقل إثارة. وغالباً ما يقوم الطفل التوحدي بإيذاء نفسه، مثل، ضرب رأسه بعنف، وقد يعض أو يخدش نفسه، اضافة الى نتف شعر رأسه. ويعاني الطفل التوحدي من مشاكل في التغذية والأكل، وقد يعاني من سلس البول الليلي (التبول اللاإرادي) والأرق.

وأرى لزاماً علي أن أذكر أن هنالك بعض المترجمين العرب الذين يستخدمون مصطلح "الفصم الذاتي" بدلاً من مصطلح "التوحد"، وهذا خطأ فادح، لأن التوحد ليس فصاماً Schizophrenia. والفصام نادر جداً تحت سن خمس سنوات من العمر. ويكون مصحوباً بضلالات Delusions وهلوسة Hallucinations وهذه لا توجد في المعايير التشخيصية عند الأطفال التوحديين.
وأود أيضاً أن أشدد على أن التوحد ليس تخلفاً عقلياً، غير أن أكثر من ثلثي الأطفال التوحديين (نحو 70 في المئة) يعانون منه. وفي هذه الحالة يجب أن تشخص الحالة على أساس أنها "توحد مصحوب بتخلف عقلي"، أي يجب إضافة تشخيص "التخلف العقلي" الى تشخيص "الاضطراب التوحدي".
ومع ذلك نلاحظ أن التخلف العقلي لا يدخل في أي فئة أو بند من بنود المعايير التشخيصية، أي أنه، مع أن ثلثي أو حتى ثلاثة أرباع الأطفال التوحديين يعانون من التخلف العقلي، غير أنه غير مطلوب كشرط أساسي لتشخيص التوحد بحد ذاته.
وحاصل الذكاء (IQ) هو الذي يحدد وجود أو عدم وجود التخلف العقلي عند الطفل، كذلك هو الذي يصنف درجات التخلف العقلي في حال وجودها. ويتراوح حاصل الذكاء عند الطفل الطبيعي من 90 الى 110، في حين عند الطفل المتخلف عقلياً يجب أن يكون حاصل الذكاء تحت 70.



ويصنف التخلف العقلي بناء على حاصل الذكاء:

- تخلف عقلي بسيط: حاصل ذكاء من 50 - 69.
- تخلف عقلي متوسط: حاصل ذكاء من 35 – 49.
- تخلف عقلي شديد: حاصل ذكاء من 20 – 34.
- تخلف عقلي عميق: حاصل ذكاء أقل من 20.
وأما حاصل ذكاء الأطفال التوحديين فيمكن تقسيمه حسب الترتيب التالي:
- 30 في المئة من الأطفال التوحديين يبلغ حاصل ذكائهم 70 وما فوق (طبيعي).
- 30 في المئة يتراوح حاصل ذكائهم ما بين 50 – 69 (تخلف عقلي بسيط).
- 40 في المئة يبلغ حاصل ذكائهم تحت المعدل 50 (تخلف عقلي متوسط أو شديد أو عميق).
للمزيد عن حاصل الذكاء "ما هو اختبار الذكاء (IQ test)؟"

مجرى وعواقب و علاج التوحد


الهدف من العلاج هو جعل الأطفال التوحديين قادرين على الاندماج في المدارس الخاصة بهم، وتطوير علاقة هادفة مع مجايليهم (أقرانهم) وتعزيز إمكانية العيش باستقلالية في الكبر.
ويعتبر التدخل الفردي المكثف (سلوكي، تثقيفي ونفسي) العلاج الأكثر فعالية. وكلما بدأنا العلاج مبكراً كلما كانت النتيجة مرضية نوعاً ما.
كذلك فإن هدف العلاج التقليل من الأعراض السلوكية من جهة، والمساعدة في تطوير الوظائف النمائية المفقودة أو المتأخرة من جهة أخرى، مثل اللغة ومقدرة الطفل على العناية بنفسه وتدبير أموره.
وإضافة الى ذلك فإن توفير الدعم المعنوي لأهل الطفل، وتزويدهم بالمشورة التربوية شرط أساسي لنجاح العلاج، فعادة ما يساور الأهل القلق والشعور بالذنب.
ويتمثل العلاج التثقيقي بإرسال الطفل التوحدي الى مدارس متفرغة للتعليم الخاص (اضافة الى العلاج السلوكي). كذلك فإن توفير برنامج لتدريب الأهل على تطبيق العلاج السلوكي في البيت – لخلق تناسق بين الأساليب المستعملة في المدرسة والأساليب المستعملة في البيت – يساعد على التسريع في اكتساب الطفل المهارات اللغوية والإدراكية والاجتماعية.
ولا يوجد شفاء تام من المرض، ولا ادوية خاصة بذلك، غير ان بعض الأدوية تساعد في السيطرة على الأعراض، فمثلاً، الأدوية المضادة للاكتئاب قد تساعد في التغلب على القلق، في حين تستعمل الأدوية المضادة للذهان احياناً للتغلب على المشاكل السلوكية.
والتوحد يبقى مع الطفل مدى الحياة، وله عواقب مرضية متسمة بالحذر والمجهول، غير أنه لا يؤثر سلباً في معدل متوسط العمر (أي أنه ليس مميتاً).
والتفاؤل عال جداً بالنسبة للأطفال التوحديين ذوي حاصل ذكاء فوق 70 وهؤلاء الذين يكون بمقدورهم استعمال لغة التواصل في سن 5-7 سنوات من عمرهم.
اما في سن البلوغ، فقد اشارت نتائج الدراسات الأمريكية الحديثة الى ان ثلثي الأشخاص التوحديين لا يتحسنون ويدخلون في فئة الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة (المعاقين)، ويعيشون معتمدين على اهلهم او المؤسسات الخاصة.
وأشارت نفس الدراسات الى ان 1-2 في المئة فقط من الأشخاص التوحديين يعيشون حياة طبيعية ومستقلة، وقادرون على كسب رزقهم. في حين يستطيع 5-20 شخصاً من الأشخاص التوحديين الوصول الى وضع طبيعي (غير انه يفضل ان يبقوا تحت المراقبة).
وعادة يتحسن وضع الطفل مستقبلاً (في سن البلوغ) اذا كان الأهل او المجتمع المحيط به داعمين ومتعاونين ومتفهمين لوضعه. ومع ذلك فقد يقوم البعض من الأشخاص التوحديين بإيذاء انفسهم او إيذاء غيرهم.
ويعاني نحو 4-32 في المئة من الأشخاص التوحديين البالغين من نوبات الصرع الكبرى Grand Mall، وهذا يؤثر سلباً في مستقبل حياتهم.
وبينت نتائج دراسة بريطانية صدرت حديثاً (بعد متابعة 68 طفلاً توحدياً حاصل ذكائهم فوق 50 لمدة تزيد عن 24 عاماً) ان 12 في المئة استطاعوا تحقيق مستوى عال من الإستقلالية ، في حين 10 في المئة كان لهم بعض الأصدقاء وكانوا قادرين على العمل، لكن كانوا بحاجة لبعض الدعم للعيش اليومي، أما 19 في المئة فاستطاعوا تحقيق بعض الاستقلالية، غير انهم كانوا يعيشون في بيت الأهل وكانوا بحاجة لدعم ومراقبة شبه كاملتين، كذلك فإن 46 في المئة كانوا بحاجة لمأوى خاص، إضافة الى دعم كامل. أما الـ 12 في المئة المتبقية فكانوا بحاجة لرعاية طبية في المستشفيات.



من سنن الوضوء غسل الكفين ثلاثا

$
0
0
من سنن الوضوء غسل الكفين ثلاثا
الشيخ دبيان محمد الدبيان





هذه سنَّتان من سنن الوضوء، فغسلُ الكفين في ابتداء الوضوء سنة، وكون الغسل ثلاثًا سنةٌ أخرى.

فأما غسل الكفين، فإن فيه تفصيلاً:
فإن كان بعد القيام من نوم الليل الناقض للوضوء، ففيه خلاف على النحو التالي:
فقيل: غسل اليد سنة، وليس بواجب، وهو مذهب الجمهور من الحنفية[1]، والمالكية[2]، والشافعية[3]، ورواية عن أحمد[4].

وقيل: غسل اليد ثلاثًا واجب، وإليه ذهب أحمد في الرواية المشهورة عنه[5]، وإسحاق، وداود الظاهري، وابن حزم [6]، والحسن البصري[7].

وقد ذكرت أدلة كل قول مع مناقشتها في بحث موسع في كتاب المياه، فأغنى عن إعادته هنا[8].

وإن لم يكن غسل اليدين على إثر نوم، فإنَّ غسْلهما سنة من سنن الوضوء[9].

وقيل: سنة مستقلة عند الوضوء، لا من الوضوء كالسواك، اختاره الخرسانيون من الشافعية[10].

والدليل على أن غسل الكفين سنة من الكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ ﴾[11].

فلم يذكُر غسل اليدين، ولو كان غسلهما فرضًا لذَكَره فيما ذكر.

وأما السنة، فأحاديث كثيرة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، منها: حديث عثمان في الصحيحين، وحديث عبدالله بن زيد فيهما، وحديث ابن عباس في البخاري، وحديث علي بن أبي طالب، وسوف يأتي ذكر متونها وتخريجها - إن شاء الله تعالى - عند الكلام على صفة الوضوء، كلها تذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يغسل كفيه في وضوئه، وفعلُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - دالٌّ على السنية إن كان على وجه التعبُّد كما هو الحال هنا.

وأما الإجماع، فقد نقله طائفة من أهل العلم:
قال ابن المنذر: "أجمع كل مَن نحفظ عنه من أهل العلم على أن غسْل اليدين في ابتداء الوضوء سنة، يستحب استعمالها، وهو بالخيار إن شاء غسلها مرة، وإن شاء غسلها مرتين، وإن شاء ثلاثًا، أي ذلك شاء فعل، وغسلهما ثلاثًا أحبُّ إليَّ، وإن لم يفعل ذلك فأدخل يده الإناء قبل أن يغسلها فلا شيء عليه، ساهيًا ترك ذلك أم عمدًا إذا كانتا نظيفتين"[12].

وقال ابن قدامة: "وليس ذلك - يعني غسل الكفين في الوضوء - بواجب عند غير القيام من النوم بغير خلاف نعلمه".

وأما الدليل على أن غسلهما ثلاثًا سنة أيضًا من سنن الوضوء، فالإجماع:
قال ابن رشد في بداية المجتهد: "اتفق العلماء على أن الواجب من طهارة الأعضاء المغسولة هو مرة مرة إذا أسبغ، وأن الاثنين والثلاث مندوبٌ إليهما".

وقال النووي في شرح مسلم: "وقد أجمع المسلمون على أن الواجب في غسل الأعضاء مرة مرة، وعلى أن الثلاث سنة"[13].

وسوف يأتي - إن شاء الله تعالى - أن السنة في الوضوء أن يتوضأ الإنسان مرة مرة، وأحيانًا مرتين مرتين، وأحيانًا ثلاثًا ثلاثًا؛ وذلك لأن العبادة إذا جاءتْ على وجوه مختلفة فالسنة أن تفعل كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ حتى يصيب السنة من جميع وجوهها، وفيها يتحقق الموافقة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في فعله وترْكه.

المبحث الأول: السنة أن يغسل كفيه قبل أن يدخلهما الإناء:
نص الفقهاء على أن السنة لا تثبت إلا بغسل الكفين قبل إدخالهما في الإناء، أو في الماء إذا كان الماء قليلاً[14].

وقيل: لا تتحقق السنة إلا إذا غسل يديه خارج الماء مطلقًا، سواء توضأ من نهر أو حوض أو إناء، وسواء كان الماء قليلاً أو كثيرًا، وهو قول في مذهب المالكية[15].

الدليل على أن غسل الكفين قبل إدخالهما في الإناء سنة:
(824-53) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله الأويسي، قال: حدثني إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، أن عطاء بن يزيد أخبره، أن حمران مولى عثمان أخبره أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء، فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق... الحديث. وأخرجه مسلم[16].

فلم يدخل يمينه في الإناء حتى غسلها ثلاثًا.

ومن أدخل يديه في الإناء قبل غسلهما، لم يضر ذلك وضوءه، فإن كانت يده نظيفة فالأمر ظاهر، يدٌ طاهرة لاقتْ ماء طهورًا فلم تؤثِّر فيه.

وإن كان في يده نجاسة، وتغيَّر الماء بالنجاسة، نجس إجماعًا، وإن لم يتغير الماء رجعتْ هذه المسألة إلى مسألة أخرى سبق أن حررت الأقوال فيها، وهي في حكم الماء إذا لاقته نجاسة فلم تغيِّره، وقد فصلت القول فيها في كتاب المياه.

المبحث الثاني: من توضأ ثم أحدث في أثناء وضوئه، فهل يعيد غسل يديه إذا أعاد الوضوء؟
فمن نظر إلى أن غسل الكفين من باب النظافة لأنهما آلة الوضوء، لم ير حاجة إلى إعادة غسلهما.

ومن نظر إلى كون الغسل ثلاثًا، ولم يكن غسلة واحدة، نظر إلى معنى العبادة، فقد أُعْطِيت الكفان حكم أعضاء الوضوء من التثليث في الغسل، ولو كان غسلهما من باب النظافة لكفى في ذلك غسلة واحدة؛ لأن اليد لو كان فيها نجاسة متحقِّقة كفى غسلها مرة واحدة تذهب بعين النجاسة، ومثل هذه المسألة المسألةُ التالية[17].

المبحث الثالث: هل يحتاج غسل الكفين إلى نية؟
في هذه المسألة قولان لأهل العلم:
من اعتبر غسل الكفين من سنن الوضوء، اعتبر فيهما النية.

ومن رأى أن غسلهما للنظافة، لم يعتبر النية في غسلهما، وعن الإمام مالك ما يقتضي الوجهين[18].

ولهذا السبب أيضًا اعتبر الخرسانيون من الشافعية أن غسل الكفين سنة مستقلة، وليست من سنن الوضوء كالتسمية والسواك عندهم.

واعتبار النية أرجح، حتى على القول بأنها شرعت للنظافة؛ لأن الطهارة إذا دخلتها أحكام العبادة المحضة غلبت عليها، فلم يُراعَ فيها السبب، فغسل اليدين حين دخله العدد غلبت عليه أحكام العبادة المحضة، ومثله غسل الجمعة؛ أصلُه إزالة الرائحة، فلما دخلت عليه أحكام العبادة لزمه الإتيان بها، وإن لم يوجد سببها، والله أعلم[19].


[1] بدائع الصنائع (1/20)، أحكام القرآن للجصاص (2/497)، العناية شرح الهداية (1/20،21)، الجوهرة النيرة (1/5)، البحر الرائق (1/17)، شرح فتح القدير (1/21)، حاشية ابن عابدين (1/111،112).

[2] المنتقى (1/48)، الخرشي (1/132)، الفواكه الدواني (1/134)،.

[3] الأم (1/39)، المجموع (1/214)، إحكام الأحكام (1/68،69)، حاشية البجيرمي على الخطيب (1/160).

[4] الفتاوى الكبرى (1/217).

[5] المغني (1/70،71)، الفروع (1/144)، الإنصاف (1/40)، مطالب أولي النهى (1/92).

[6] المحلى (1/155).

[7] المغني (1/70).

[8] (ص: 241).

[9] وفي مذهب الحنفية ثلاثة أقوال في حكم غسل اليدين:
يقول ابن نجيم في البحر الرائق (1/18): اعلم أن في غسل اليدين ابتداء ثلاثة أقوال:
قيل: إنه فرض، وتقديمُه سنة. واختاره في فتح القدير والمعراج والخبازية، وإليه يشير قول محمد في الأصل بعد غسل الوجه: ثم يغسل ذراعيه، ولم يقل يديه، فلا يجب غسلُهما ثانيًا.
وقيل: إنه سنة تنوب عن الفرض، كالفاتحة فإنها واجبة تنوب عن الفرض، واختاره في الكافي.
وقيل: إنه سنة لا ينوب عن الفرض، فيعيد غسْلَهما ظاهرَهما وباطنَهما، اختاره السرخسي، ثم قال: وظاهر كلام المشايخ أن المذهب الأول. اهـ
وهذا التفصيل إنما هو في مذهب الحنفية، وأما بقية المذاهب فإن غسل الكفين من سنن الوضوء، ولا ينوب عن الفرض، انظر الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (1/117)، الخرشي (1/132)، حاشية الدسوقي (1/96)، روضة الطالبين (1/58)، الحاوي الكبير (1/101)، المغني (1/70).

[10] المجموع (1/328، 388).

[11] المائدة: 6.

[12] الإجماع لابن المنذر (ص: 34).

[13] شرح مسلم (1/106، 114).

[14] مذهب الحنفية: إن كان الإناء صغيرًا، أو كبيرًا، وكان معه إناء صغير يغرف منه، فلا يدخل يده، وإن كان الإناء كبيرًا، ولم يكن معه إناء، توجَّه النهي إلى إدخال الكف، فلا مانع من أن يغرف بأصابعه ولا يدخل جميع كفه، قال ابن نجيم الحنفي في البحر الرائق (1/18): وكيفية غسلهما - كما ذكر في الشروح -: أنه إن كان الإناء صغيرًا بحيث يمكن رفعه، لا يدخل يده فيه، بل يرفعه بشماله، ويصبه على كفه اليمنى، ويغسلها ثلاثًا، ثم يأخذ الإناء بيمينه، ويصبه على كفه اليسرى ويغسلها ثلاثًا، وإن كان الإناء كبيرًا لا يمكن رفعه، فإن كان معه إناء صغير يفعل كما ذكرنا، وإن لم يكن يدخل أصابع يده اليسرى مضمومة في الإناء، ويصب على كفه اليمنى، ثم يدخل اليمنى في الإناء، ويغسل اليسرى. ثم قال: ولا يدخل الكف، حتى لو أدخله صار الماء الملاقي للكف مستعملاً إذا انفصل، وذكر قولاً آخر: بأنه لا يصير مستعملاً، وإن إدخال اليد في الإناء قبل غسله مكروه فحسب. وانظر حاشية ابن عابدين (1/110-111).
وقال في الشرح الصغير - وهو من كتب المالكية - (1/117): وسننه: غسل يديه إلى كوعيه قبل إدخالهما في الإناء إن أمكن الإفراغ، وإلا أدخلهما فيه كالكثير والجاري". اهـ

[15] قال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (1/117): وقيل السنة متوقفة على الغسل خارج الإناء مطلقًا، سواء توضأ من نهر، أو حوض، أو إناء، كان الماء قليلاً، أو كثيرًا. اهـ، وقال الخرشي (1/132): ويكون الغسل لليدين قبل أن يدخلهما في الماء، ولو على نهر. اهـ
وقال الدسوقي في حاشيته (1/96): واعلم أن كون الغسل قبل إدخالهما في الإناء مما تتوقف عليه السنة، قيل: مطلقًا؛ أي: سواء توضأ من نهر، أو من حوض، أو من إناء يمكن الإفراغ منه أم لا، كان الماء الذي في الإناء قليلاً أو كثيرًا. وقيل: ليس مطلقًا، بل في بعض الحالات، وذلك إذا كان الماء غير جارٍ، وقدر آنية الوضوء أو الغسل وأمكن الإفراغ منه، فإن تخلَّف واحد من هذه الأمور الثلاثة، فلا تتوقف السنة على كون الغسل خارج الماء، وعلى هذا القول مشى الشارح، وهو المعتمد. اهـ
وقال الماوردي الشافعي في الحاوي (1/101): غسل الكفين ثلاثًا قبل إدخالهما الإناء سنةٌ على كل متوضئ أو مغتسل، وليس بواجب، وهو قول الجمهور. اهـ
وقال النووي في الروضة (1/58): إن أراد غمس يديه في إناء قبل غسلهما، كُره إن لم يتيقن طهارتهما، فإن تيقنها فوجهان، الأصح لا يكره الغمس، قال النووي: ولا تزول الكراهة إلا بغسلهما ثلاثًا قبل الغمس، نص عليه البويطي، وصرح به الأصحاب؛ للحديث الصحيح، وقال أصحابنا: إذا كان الماء في إناء كبير، أو صخرة مجوفة بحيث لا يمكن أن يصب منه على يده، وليس معه ما يغترف به، استعان بغيره، أو أخذ الماء بفمه، أو طرف ثوب نظيف ونحوه، والله أعلم. وانظر في مذهب الحنابلة المغني (1/70).

[16] صحيح البخاري (160)، ومسلم (226).

[17] المنتقى للباجي (1/48).

[18] التاج والإكليل (1/242).

[19] المنتقى للباجي (1/48).

ضمن جولة في صحيح مسلم: الاستقامة ثمراتها وثوابتها ومعوقاتها

$
0
0
ضمن جولة في صحيح مسلم: الاستقامة ثمراتها وثوابتها ومعوقاتها
الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح






الحمد لله الذي خصَّ مَن استقام بكثيرٍ من الخيرات، وأعْظم ذلك قولُه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]، فما أعظمَه من فضلٍ! وما أشرفها من منزلة! وكفى بها مبتغى، ثمَّ الصَّلاة والسَّلام على خير الورى، خير مَن استقام وبها أمر، فقال: ((قُلْ: آمَنْتُ بِالله، ثُمَّ اسْتَقِمْ)).

وما أحوجَنَا للاستِقامة! خاصَّة بعد اهتِزاز ثوابت الاستِقامة عند البعض، فمِنَّا مَن يحتاج إلى استِقامة، ومنَّا مَن يحتاج إلى تجْديد الاستِقامة، ومتابعة النَّفس من زيغِها وتهاوُنِها وتساهلها، ولكَم بكى بعدما حكى زمانُنا اليوم نماذجَ ممَّن زاغت قلوبهم، فانتكسوا بعدما استقاموا، وحاروا بعدما كاروا، فنسألُ الله الثَّبات والسَّداد والزيادة، ونعوذ به من الحوْر بعد الكوْر، والنكوص بعد الاستقامة، وضمْن جولتِنا في التَّعليق على "صحيح مسلم" اخترت لك - أخي الحبيب - هذا الحديث، وفيه شيء من مباحث الاستِقامة، فإليك رعاك الله:
عنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدالله الثَّقَفيِّ - رضي الله عنْه - قالَ: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ لي في الإسْلامِ قَوْلاً، لا أسْأَلُ عَنْهُ أحدًا بَعْدَكَ - وفي حَديثِ أبي أُسامَةَ: غَيْرَك - قالَ: ((قُلْ: آمَنْتُ بالله، ثُمَّ اسْتَقِمْ)).

أوَّلاً: تَّخريج الحديث:
الحديث أخرجه مسلم في "كتاب الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام"، حديث (38)، وانفرد به عن البخاري، وأخرجه الترمذي في "كتاب الزهد، باب ما جاء في حفظ اللسان"، حديث (2410)، وأخرجه ابن ماجه في "كتاب الفتن، باب كفّ اللّسان في الفتنة"، حديث (3972).

ثانيًا: شرح ألفاظ الحديث:
(قَوْلاً لا أسْأَلُ عَنْهُ أحدا بَعْدَكَ)؛ أي: قولاً لا أَحتاج إلى أحدٍ بعدَك يفسِّرُه لي، فأعمل بما تقول وأكتفي به.

ثالثًا: من فوائد الحديث:
الفائدة الأولى: الحديث دليلٌ على حرص الصَّحابة - رضْوان الله عليْهم - على العلم وسؤال النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - عن أهمّ الأعمال وأحكمها، وعلى تعلُّم الدين.
الفائدة الثَّانية: حديث الباب من جوامع الكلِم التي أُوتيها النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ففي هذيْن الأمرين جَمع النبيُّ الدين كلَّه؛ ولذا بوَّب النَّووي عليه بـ "باب جامع أوْصاف الإسلام"، فالحديث شمل عمَل القلب وهو الإيمان، وعملَ الجوارح وهي الاستقامة، فهو شامل للظَّاهر والباطِن.
الفائدة الثَّالثة: الحديث دليلٌ على أنَّ جماع الخير في الاستقامة بعد الإيمان، ولأنَّ شأنَها عظيم أرشد النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - لها حينما سأله عن شيء جامع، وجواب النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو الموافق لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13].

ويتلخَّص الحديث عن الاستِقامة في المباحث الآتية:
معنى الاستِقامة:
معنى الاستقامة لغة: مصْدر "استقام"، مأخوذة من مادَّة (ق و م)، الَّتي تدلُّ على معنَيين، أحدُهُما: جماعة من النَّاس، والآخَر: اعتدال أو حزم، والمعنى الثَّاني هو المراد.
انظر: "لسان العرب" مادة (قوم).

وأمَّا في الشَّرع، فمِن أفضل التَّعريفات ما ذكره ابن رجب - رحمه الله - بقوله: "الاستقامة: هي سلوك الطريق المستقيم، وهو الدّين القويم من غير تعويج عنه يَمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطَّاعات كلّها الظَّاهرة والباطنة، وترْك المنهيَّات كلّها كذلك".
انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب ص (193).

وتنوَّعت أقوال السَّلف وتعدَّدت في مفهوم الاستِقامة، وبالجملة ترجع إلى ما ذكره ابنُ رجب - رحمه الله - وأنَّها تعني التمسُّك بالدين كلِّه والثَّبات عليه؛ ولذا يقول ابن القيِّم - رحِمه الله -: "فالاستقامة كلِمة جامعة، آخِذة بمجامع الدين، وهي القيام بين يدَي الله على حقيقة الصِّدْق والوفاء".
انظر: "تهذيب مدارج السَّالكين" ص (529).

جماع الخير في الاستقامة وهي طريق النجاة:
دلَّ على ذلك حديثُ الباب حديث سفيان بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ لي في الإسْلامِ قَوْلاً، لا أسْأَلُ عَنْهُ أَحدًا بَعْدَك، قال: ((قُلْ: آمَنْتُ بِالله، ثمَّ اسْتَقِمْ)).

فلمَّا كان شأن الاستقامة عظيمًا وهي أيضًا عزيزةٌ، أرْشد إليها النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعد الإيمان، فمن النَّاس مَن يأتي بالإيمان اعتِقادًا وقولاً وعملاً لكنَّه يعوجُّ في طريقه ويقصِّر في عمله، والاستقامة هي الثَّبات على طريق الحقّ والاستمساك به، فهي طريق النَّجاة؛ ولذا أمر الله - عزَّ وجلَّ - بها ورتَّب عليها فضائل عدَّة، كما سيأتي.

الاستقامة تكون في النيَّات والأقوال والأعمال:
فمَن زعم أنَّه استقام على شرْع الله - تعالى - وظاهره يخالف ذلك، وتراه ربَّما يشير إلى صدْرِه ويقول: "التقوى هاهنا"، فزعمه باطل ودعواه كاذبة، فاستِقامة القلب تنقاد إليها الجوارح، فهي امتِحانه ودليله، وكما قال الشَّاعر:




إن ما تدعيه حقًّا كذَّبته شواهد الامتحان

وكذا مَن استقام ظاهرُه ولم يستقم قلبُه، فاستقامته مخرومة، فليست هي الاستِقامة التي يريدها الله تعالى، فمَن عمر قلبه بفتن الشهوات وساء عمله، حمل قلبًا مسودًّا أو قلبًا قليل التعلق بربه ومهابته وخشيته، وإجلاله وتعظيمه والتقرب إليه بالعبادات القلبيَّة، فأنَّى لقلبِه استقامة؟!

وغالبًا ما يُظهر ما في القلْب اللسانُ، فتجده معبِّرًا عمَّا فيه، فمَن ساء قوله فكان كذَّابًا أو مغتابًا، أو نَمَّامًا أو فاحشًا بذيئًا، ونحو ذلك من آفات اللسان، فأي لسان استقام معه؟!

ولذا؛ فإنَّ الاستقامة تكون بالقلْب واللِّسان والجوارِح.

يقول ابن القيم - رحِمه الله -: "والاستِقامة تتعلَّق بالأقوال والأفعال والأحْوال والنِّيَّات، فالاستقامة فيها وقوعها لله وبالله وعلى أمر الله.

قال بعضهم: كن صاحب الاستِقامة لا طالب الكرامة، فإنَّ نفسك متحرِّكة في طلب الكرامة، وربّك يطالبك بالاستِقامة، فالاستقامة للحال بمنزلة الرُّوح من البدن، فكما أنَّ البدن إذا خلا عن الرّوح فهو ميت، فكذلك إذا خلا عن الاستقامة فهو فاسد ... وسمعتُ شيخ الإسلام ابنَ تيمية - قدس الله روحه - يقول: أعظمُ الكرامة لزوم الاستِقامة".
انظر: "مدارج السَّالكين" (2 /103)، وانظر تهذيبه ص (529).

ويقول ابن رجب - رحمه الله -: "أصل الاستِقامة استقامة القلْب على التَّوحيد ... فمتى استقام القلب على معرفة الله وعلى خشيته وإجلاله ومهابته ومحبَّته وإرادته، ورجائه ودعائه والتوكُّل عليه والإعراض عمَّا سواه - استقامت الجوارح كلّها على طاعته، فإنَّ القلب هو ملك الأعضاء، وهي جنوده؛ فإذا استقام الملك استقامت جنوده ورعاياه، وأعظم ما يراعى استقامته بعد القلب من الجوارح: اللِّسان؛ فإنَّه ترجمان القلب والمعبِّر عنه".
انظر: "جامع العلوم والحكم" (193) بتصرّف يسير.

فيا الله! كم تحتاج قلوبنا وألسنتنا وجوارحنا من مراجعة في استقامتها؟!

ليس مفهوم الاستِقامة عدم الوقوع في الذَّنب.

بل لا بدَّ من الذنب؛ ففي حديث أنس - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((كلّ ابن آدم خطَّاء وخير الخطَّائين التَّوَّابون))؛ رواه أحمد والترمذي.

والله - عزَّ وجلَّ - أمر مع الاستِقامة بالاستغفار من الذَّنب؛ ممَّا يدلُّ على أنَّ الاستقامة قد يقع فيها خلل، وهذا أمر وارد ويُجبر بالاستغفار؛ فقال تعالى: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت: 6].

قال ابن رجب - رحمه الله -: "وفي قوله - عزَّ وجلَّ -: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} إشارة إلى أنَّه لا بدَّ من تقصير في الاستِقامة المأمور بها، فيُجبَر ذلك بالاستِغفار المقتضي للتَّوبة والرّجوع إلى الاستقامة، فهو كقوْل النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - لمعاذ - رضِي الله عنْه -: ((اتَّق الله حيثما كنت، وأتْبِع السيِّئة الحسنة تمحُها))، وقد أخبر النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ الناس لن يطيقوا الاستِقامة حقَّ الاستقامة، فقال - عليْه الصَّلاة والسَّلام -: ((استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أنَّ خير أعمالكم الصَّلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلاَّ مؤمن))، وفي رواية للإمام أحمد - رحِمه الله -: ((سدِّدوا وقاربوا، ولا يحافظ على الوضوء إلاَّ مؤمن))، وفي الصَّحيحَين: ((سدِّدوا وقاربوا))، فالسَّداد: هو حقيقة الاستقامة، وهو الإصابة في جميع الأقوال والأعمال والمقاصد ... والمقاربة: أن يصيب ما قرب من الغرض إذا لم يصب الغرض نفسه، ولكن بشرط أن يكون مصمِّمًا على قصد السداد وإصابة الغرض".
انظر: "جامع العلوم والحكم" (1 /510) بتحقيق الأرناؤوط.

أمر الله - عزَّ وجلَّ - بالاستِقامة وحثَّ عليْها في عدَّة آيات، منها:
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30].
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 13، 14].
وقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7].
وقوله تعالى: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت: 6].
وقوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112].
وقوله تعالى: {قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [يونس: 89].
وقوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} [الشورى: 15]، وغيرها من الآيات الَّتي فيها الحثُّ على سلوك الصِّراط المستقيم، وهي كثيرة.

مِن ثمرات الاستِقامة:
مَن تأمل الآيات السَّابقة عرف أنَّ للاستِقامة ثمراتٍ عديدةً، منها:
1- تتنزَّل على أهل الاستِقامة السكينة؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} [فصلت: 30]، فالملائكة تتنزَّل عليهم بالسُّرور والحبور والبشرى في مواطن عصيبة، قال وكيع: "البشرى في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث".
انظر: تفسير القرطبي عند هذه الآية، وكذا "فتح القدير" للشوكاني.
2- الطُّمَأنينة والسَّكينة؛ حيثُ قال تعالى: {أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا}؛ أي: لا تخافوا ممَّا تقدَمون عليه من أمور الآخرة، ولا تحزنوا على ما فاتَكم من أمور الدنيا، وقال عطاء - رحِمه الله -: "لا تخافوا ردَّ ثوابِكم فإنَّه مقبول، ولا تحزنوا على ذنوبكم فإنِّي أغفِرُها لكم".
انظر المرجعَين السَّابقين.
3- البشرى بالجنَّة؛ فقال تعالى: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}، وهذا هو الهدَف الذي ينشدُه كلُّ مسلم، نسأل الله من واسِع فضله.
4- سَعة الرزق في الدُّنيا؛ قال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً} [الجن: 16]؛ أي: كثيرًا، والمراد بذلك سعة الرِّزق، وكما قال عمر بن الخطَّاب - رضِي الله عنْه: "أيْنما كان الماء كان المال".
انظر تفسير القرطبي على هذه الآية.
5- الانشراح في الصدر والحياة الطيبة؛ قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، ومن جاء بالاستقامة فقد عمِل أحسن العمل فاستحقَّ الحياة الطيّبة الهنيَّة.

سبُل تحقيق الاستِقامة والمحافظة عليْها:
للاستقامة والثبات عليها عدَّة مقوّيات ومغذّيات، منها:
1- فعل الطَّاعات والاجتِهاد فيها ومُجاهدة النَّفس عليْها:
ومن الأصول العقديَّة في مذهب أهل السنَّة والجماعة: أنَّ الإيمان يزيد بالطَّاعة وينقص بالمعصية، والأدلَّة على هذا الأصل كثيرة مستفيضة، وأهمّ ما يحافظ عليه العبد الصَّلوات الخمس وكذلك بقيَّة الفرائض، ويستزيد من النَّوافل ويكثر منها، وفي الحديث القدسي حديثِ أبي هُريرة - رضِي الله عنْه - مرفوعًا: قال الله - عزَّ وجلَّ -: ((وما تقرَّب إليَّ عبْدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ ممَّا افترضتُه عليْه، ومازال يتقرَّب إليَّ بالنَّوافل حتَّى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمْعَه الَّذي يسمع به، وبصرَه الَّذي يبصر به، ويدَه الَّتي يبطِش بها، ورجْله الَّتي يَمشي بها))؛ رواه البُخاري.

فيحفظ الله - عزَّ وجلَّ - جوارحَه فلا يصدر منْها إلاَّ ما يُرْضيه - سبحانه - وبهذا يكون حقَّق الاستِقامة.

2- الاشتِغال بالعِلْم الشَّرعي وطلبه:
قال ابن القيم - رحمه الله -: "به يُعرَف الله ويُعبد، ويُذكر ويُوحَّد، ويُحمد ويُمجَّد، وبه اهتدى إليه السَّالكون، ومن طريقِه وصل إليه الواصِلون، ومن بابه دخل القاصرون".
انظر: "تهذيب مدارج السَّالكين" (484).

3- الإخلاص في العلم والعمل:
فلا بدَّ من مجاهدة النَّفس على الإخلاص؛ فهو روح كل عبادة، وبه تستقيم النفس وتصدق مع الله في الأقوال والأعمال؛ قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم: 30].

4- الدُّعاء:
من مقويات الإيمان دعاء الله تعالى تحقيق الاستقامة والثبات عليها كما كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يسأل ربَّه الثَّبات على الدين، وقد أمرنا بقراءة الفاتحة في كلِّ ركعة، وفيها نسأل الله - تعالى - فنقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6، 7]، فندعو الله تعالى؛ لأنَّ الاستقامة والثبات عليْها بيد الله - تعالى - حيث قال: {مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39].

5- الإكثار من قراءة القرآن:
ومحاولة حفْظِه أو ما تيسَّر منه، وكذلك تدبُّره والعمل به من أهم الأمور في تحقيق الاستقامة؛ فقد جعله الله تعالى سبيلا لِمن أراد الاستقامة؛ فقال: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28]، وقال: {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} [الإسراء: 9]، وعلى العبد ألاَّ يترُك ملازمة القرآن سواء من حفْظِه أو من تلاوتِه، تلاوة نظر؛ فمع تدبُّره ينال العبد نصيبًا من زيادة الإيمان الَّذي هو سبب كلِّ استقامة.

6- الصّحبة الصالحة:
لأنَّ صحبة البطَّالين وأهل المعاصي تضعف الاستقامة، تأمَّل كيف أنَّ الله - تعالى - بعد أن أمر بالاستِقامة حذَّر من الركون إلى أهل المعاصي؛ لأنَّ هذا يؤثر على الاستِقامة، فقال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 112، 113].
قال أهل العلم: أي: لا تَميلوا إلى العصاة.

7- التوسط والاعتدال:
لا إفراط وغلو وتشديد؛ فإنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لن يشادّ الدين أحد إلا غلبه))؛ متَّفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((هلك المتنطِّعون)) - أي: المتشدِّدون - قالها ثلاثًا، والحديث رواه مسلم من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اكلفوا من الأعمال ما تطيقون))؛ رواه البخاري، وأيضًا لا تفريط باتباع الرُّخص والهوى في الفتاوى ونحوها، ولكن الوسط في ذلك وهو اتباع سنَّة النبي - عليْه الصَّلاة والسَّلام.

وهناك مقويات أخرى للإيمان، كالإكثار من ذكر الله تعالى، وذكر الموت، والحرص على سلامة القلب، ومجاهدة النفس والهوى والشيطان، بالابتِعاد عن الفتن ومواطن الغفلة، والخوف والحذَر من سوء الخاتمة، وتجديد التَّوبة والإنابة لله تعالى.

من معوقات الاستقامة:
فكما أن للاستقامة مغذّيات ومقوّيات فإنَّ لها معوقاتٍ؛ فإنَّ عكس ما تقدم من المغذيات تكون معوّقات للاستقامة، فإهْمال الطَّاعات والتقلُّل منها، وترك مجالس العلم والذِّكْر، وعدم مجاهدة النَّفس على الإخلاص، وترك الدّعاء وقراءة القرآن، ومصاحبة أهل المعاصي وتتبُّع الرخص أو الغلوّ في الدين، وكذلك التعرُّض للفتن والشهوات وأماكن الغفلات - كل هذه وغيرها ممَّا تضعف الاستقامة، ويُضاف إليْها أيضًا:
1- الاستهانة بالمعصية:
فإذا كان العبد ممَّن يستهين بالمعاصي وفي الخلوات مع الشَّهوات، كان ذلك سببًا في مرَض قلبِه وبُعْده عن ربّه، وفي مسند الإمام أحْمد قال النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((إيَّاكم ومحقّرات الذنوب؛ فإنَّهنَّ يجتمِعْن على الرجُل حتَّى يهلكْنَه)).
انظر: "صحيح الجامع" (2687).

وقد تكلَّم عن ذلك وأجاد طبيب القلوب ابن القيم في ذِكْر آثار المعاصي، فيحسن الرُّجوع إلى كلامه الشَّافي في كتابه "الجواب الكافي".
انظر: "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي" ص (106).

2- الانشِغال بالدنيا عن الآخرة:
قال النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما الفقرَ أخشى عليْكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدُّنيا عليْكم كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهْلِككم كما أهلكتْهم))؛ متَّفق عليه.
وكذلك التوسُّع في المباحات يضْعف القلب ويجرُّ إلى التَّقْصير في الواجبات.

3- الوسط السيئ:
فالوسط السيِّئ، سواء كان في الصحبة أو الوظيفة أو الأسرة أو المجتمع بشكل عامّ، ممَّا يضعف الاستقامة، وتقدَّم قول الله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 13].

أسأل الله أن يرزُقَنا إيمانًا صادقًا واستِقامة ثابتة على طاعتِه، إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليْه.






الفطرة... وجين الإيمان

$
0
0
الفطرة... وجين الإيمان


مصطفى محمد ياسين





الإنسان والتدين:
عندما نظر الإنسان حوله، ورفع إلى السماء نظره، هاله ما يجده من الظواهر الطبيعية، والنجوم اللامعة، وهذه الشمس العظيمة التي تملأ عليه الأرض دفئًا، والقمر والجبال... والرعد، فشعر بالخوف.

واستشعر في نفسه أن لهذا الكون إلهًا عظيمًا... وقوة مهيمنة تتحكم فيه... وتسيره... ولكنه لم يستطع، بعقله وقدراته الذاتية أن يهتدي لهذا الإله العظيم! فعبد الشمس...، وعبد أصنامًا صنعها بيديه!. وعبد القمر، وعبد الحيوانات... وعبد أسلافه الذين غيبهم الموت عنه... فضلّ طريقه إلى الخالق!

يقول العقاد في كتابه (الله): "إلا أن المشاهدات التي أحصاها علماء المقابلة قد تتوافى كلها إلى نتيجة يجمعون عليها؛ وهي: أن الإيمان بالأرواح شائع في جميع الأمم البدائية. وأن الأمم التي جاوزت هذا الطور إلى أطوار الحضارة، وإقامة الدول، لا تخلو من مظاهر العبادة الطبيعية، أو عبادة الكواكب على الخصوص، وفي طليعتها الشمس والقمر والسيارات المعروفة، وأن عبادة الأسلاف تتخلل هذه الأطوار المتتابعة، على أنماط تناسب كل طور منها حسب نصيبه من العلم والمدنية" أ.هـ

ويقول أيضًا قولا رائعًا في فطرة التدين في الإنسان: "ولقد أحس الإنسان قبل أن يفكر، فلا جرم ينقضي عليه ردح من الدهر في بداءة نشأته، وهو يفكر حسيًا، أو يفكر "لمسيًا"، فلا يعرف معنى الموجود إلا مرادفًا لمعنى المحسوس أو الملموس. فكل ما هو منظور أو ملموس أو مسموع، فهو واقع لا شك فيه. وكل ما خفي على النظر أو دق عن السمع واللمس فهو والمعدوم سواء."

وقد كان "للحاسة الدينية" فضل الإنقاذ الأول من هذه الجهالة الحيوانية؛ لأنها جعلت عالم الخفاء مستقرَّ وجودٍ، ولم تتركه مستقر فناء في الأخلاد والأوهام، فتعلم الإنسان أن يؤمن بوجود شيء لا يراه ولا يلمسه بيديه. وكان هذا "فتحًا علميًا" على نحو من الأنحاء، ولم ينحصر أمره في عالم التدين والاعتقاد؛ لأنه وسع آفاق الوجود وفتح البصيرة للبحث عنه في عالم غير عالم المحسوسات والملموسات. ولو ظل الإنسان ينكر كل شيء لا يحسه، لما خسر بذلك الديانات وحدها، بل خسر معها العلوم والمعارف، وقيم الآداب والأخلاق.

الإسلام. وفطرة التدين:

يقول الحق في محكم التنزيل: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].

وكما مهد الخالق سبحانه وتعالى الأرض، وزودها بمقومات الحياة ليعيش عليها الإنسان إلى أجله الذي قدر له، كما قال تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 1، 2]

فقد مهد في النفس البشرية - قبل أن توجد على هذه الأرض - قابليتَها للإيمان بالخالق العظيم؛ فطرة وطبعًا؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 172].

ويزيدنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إيضاحًا في هذه الفطرة التي فطر الإنسان عليها فيقول: "كل مولود يولد على الفطرة (توحيد الله وعبادته، كما جاء بها الإسلام) فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه".

ذلك الطبع... طبع التدين في الإنسان، من فضل الله ورحمته به؛ لأنه ييسر للإنسان أن يقبل ويصدق ما أرسل به الرسل من عقيدة وشريعة، تنقذه من النار، وتدخله الجنة بإذن الله.

وأرسل الله رسله بالحق... ليهدوا الناس إلى الصراط المستقيم؛ فيعبدوا الله وحده لا شريك له... ويقفوا عند الحدود التي حدها لهم... ليختبر إيمانهم وإطاعتهم له سبحانه وتعالى وذلك هو جوهر الرسالات التي جاء بها كل الرسل.

قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36].

وكان نداء الله لرسله، وخطابه إليهم، كما هو لموسى عليه السلام: ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه: 14].

ومن نعمه السابغة على الناس: أنه أرسل إليهم الرسل لتدلهم على سبل الرشاد.

فيخاطب رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [النساء: 163 - 165].


وفي هذا البيان القرآني... فصل الخطاب!

ذلك، ما جاء في فطرة التدين..! استقراء من السلوك الإنساني الطبعي، وما جاء من إشارات في القرآن الكريم والسنة النبوية..، لتلك الفطرة التي أودعت في النفس البشرية لتيسر لها قبول التكليف الذي يأتي به الرسل من عند الله سبحانه وتعالى من البعث والحساب والجنة والنار وغير ذلك مما عرّفت به الشرائع السماوية.

معركة الإيمان. مع الكفر:

قص القرآن الكريم قصص كثير من الرسل مع أقوامهم، وكانت الدعوة إلى الله دائمًا محفوفة بالرفض والعناد، والإيذاء لمن اتبع الرسل في دعوتهم إلى عبادة الله وتوحيده، وتكذيب الرسل وإيذائهم في أنفسهم.

رُمي إبراهيم عليه السلام في النار لإحراقه، لكن الله سلمه.

وطُورد موسى وقومه من فرعون وجنده ليصلوا إليهم ويفتكوا بهم. وأنجى الله موسى وقومه، وأغرق فرعون وجنده!!

وصَبَر نوح على قومه تسعمائة وخمسين عامًا يدعوهم إلى عبادة الله، فلم يستجيبوا له، وأغرقهم الله بالطوفان، وأنجى نوحًا ومن معه!!

وانبرى مشركو العرب في مكة لدعوة الإسلام، وكذبوا رسول الله، وشككوا في القرآن الذي نزل عليه من السماء... وأوذي أصحابة... وقتل بعضهم من أثر التعذيب والمضايقة، وهاجروا إلى الحبشة مرتين.

وما كان الإسلام إلا دعوة لعبادة الله وحده، وقبول عقائده وشريعته، إنقاذًا للناس من عذاب ينتظرهم! ولقد نصر الله رسله. وعباده الذين آمنوا، ومكنهم في الأرض، وهزم الكفار والمشركين وأعوان الشيطان.

قال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55].

ونستعيد الأحداث حتى يستيقن الدعاة من النصر، ويصبروا على ما يلاقونه في سبيل الدعوة إلى الله، إدراكًا منهم لطبيعة الصراع وشدته، ليميز الحق معسكر المؤمنين.. من معسكر الضالين.

ولا تزال المعركة قائمة... والإسلام يكسب فيها مواقع جديدة!

العلم الحديث... وفطرة التدين:
ومما كشفه العلم حديثًا: "جين الإيمان"!

و" الجين" هو المورث، أو (حامل الصفة الوراثية) التي يعطيها للمخلوق الجديد... وهو يتخلق في بطن أمه. فمن (الجينات) ما يحمل لون الشعر، أو لون العين... أو الطول أو القصر... وغير ذلك مما يجيء عليه الإنسان إلى هذه الحياة الدنيا، ويتميز به عن إنسان آخر!

ويبلغ عددها (60.000-80.000) جين في الخلية الواحدة. وهي محمولة على عناصر أو وحدات تسمى (كروموسومات) وعددها (23) زوجًا في نواة الخلية. ويبلغ طول الخلية عشر المليمتر!

وقد استطاع العلم حديثًا، أن يعرف الخريطة المورثة في الإنسان (الجينوم البشري)، وفي غيره من الحيوانات. وقد وعد العلماء، عندما نشروا خبرهم هذا، أن تمكنهم هذه المعرفة من تخليص الإنسان من كثير من الأمراض، وتحسين قدراته، في المستقبل!

و"جين الإيمان" قد عرف وأخذ اسما هو (vmat2)، وبطل هذا الكشف هو العالم الأمريكي: (دين هامر) إخصائي علم الأحياء بالمعاهد القومية بولاية ميريلاند. وقد شرح أفكاره في كتاب له أسماه (جين الإيمان) ونتمنى أن يجد من ينشره باللغة العربية. يقول (د. ريموند بارنوود)، إخصائي علم الوراثة من ميريلاند: "لا يترتب على هذا الأمر (الكشف)، أن بعض الناس لديهم عقيدة إيمانية، والبعض الآخر ليس لديهم، وإنما نحن جميعًا لدينا اعتقاد في وجود قوة مهيمنة. وهو اعتقاد إيماني مبرمج في نظامنا الجيني، وشفراتنا الوراثية" أ.هـ.!!

وهذه الشهادة تعني: الفطرة التي فطر الناس عليها!

ويشرح (د. دين هامر) طريقته في الكشف عن "جين الإيمان" من خلال تطويره لنظرية "قياس كمي للقيم الروحية والروحانيات": "يحدد هذا النظام قيمة رقمية للشفافية أو قدرة الناس على ما وراء ذواتهم".

"وبقدر ما يكون الرقم عاليًا، يكون الإنسان متصالحًا ومتناغمًا مع مفردات الكون من حوله".

وقام "همر" بتطبيق هذا النظام على تؤأمين، لقياس قدراتهم، ومن ثم معرفة ما إذا كان المتطابقون وراثيًا لديهم "مستويات سمو ذاتي" متطابقة أو متماثلة.

وما إن تمكن "همر" من رصد وفرز أعلى الدرجات في "السمو الذاتي" حتى وازنها مع أنماط الحمض النووي (المادة الفاعلة في الجينات) وتمكن من تحديد (جين) وراثي نشط واحد، يدعو الناس إلى عبادة الخالق جل وعلا، وسمي (جين الإيمان) وهو يتولى تنظيم مستويات الكيماويات التي تفرز وتدعم الاتصال بين بعض أجزاء المخ.


ذاك ما نقلته صحيفة الرياض السعودية في عددها ليوم (25/3/2005م) وأخذناه عنها من (صفحة على الإنترنت).

وفي دراسة أخرى نقلتها مجلة (منار الإسلام) في عددها لشهر نوفمبر 2005م، عن صحيفة (الخليج) اليومية عن الباحثة النفسية (لورا كوينج)، من جامعة (منيسوتا) الأمريكية..

تقول الباحثة: "إنها أجرت تجربتها على (546) شخص، منهم 169 زوج من التوائم الحقيقية ويمتلكون إرثًا جينيًا متشابهًا تمامًا و104 أزواج من التوائم غير الحقيقية، أي لا يمتلكون إرثًا جينيًا متشابهًا.. وتم طرح لائحة من الأسئلة عليهم لمعرفة أهمية الدين والتدين في حياتهم (تأدية الصلوات واحترام الشعائر الدينية..، وكيف كان تأثير الدين فيهم في أثناء طفولتهم) فماذا وجدت؟

وجدت الباحثة أن السلوك أو الموقف كان متشابهًا بين أفراد التوائم المتشابهة، في مرحلة البلوغ، لكنه لم يكن كذلك بين أفراد التوائم غير المتشابهة.

لم تلحظ الباحثة أي اختلاف على كلتا المجموعتين، في مرحلة الطفولة إزاء مسألة الدين.. وهو ما يؤكد وجود قواعد وراثية "جينية" لها علاقة بمسألة التدين، إلا أن تأثير هذه القواعد يظهر بشكل تدريجي خلال مراحل النمو، وذلك حينما يتخلص الفرد من تأثير البيئة المحيطة، والأفكار المتوارثة التي تلقاها في أثناء الطفولة.

وهناك دراسات أخرى تؤكد هذه النتيجة، وهذا يدل أن الموضوع، يلقى اهتمامًا شديدًا في مراكز بحثية كثيرة تقول نتائجها الحقائق المكتشفة نفسها!

ونخلص من ذلك كله إلى تسجيل الحقائق التالية:

لقد جاء القرآن الكريم، منذ 14 قرنًا، وفيه من نفسه معجزة تدل على أنه كلام الله... المفارق لكلام البشر، وفيه أيضًا من البراهين والأدلة والأخبار والقصص والموعظة، على صدق ما أمر به، وصدق رسوله المبلغ عن ربه.

ولقد آمن بذلك من آمن، وكفر من كفر.

وقد وعد الله، في حينها كفار قريش وغيرهم وعدًا لم يخلفه؛ قال تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [فصلت: 53].

ولقد أراهم سبحانه وتعالى بعد وعده ذاك...كثيرًا من الآيات: من نصره للإسلام في الجزيرة العربية (في أنفسهم) كما تقول التفاسير المعتمدة، ثم نصره له في خارج الجزيرة على الفرس والروم، وإظهار الإسلام على الدين كله.

وفي هذا العصر ما زلنا نرى آيات الله... في النفس البشرية وفي آفاق الكون تنكشف مطابقة ومصدقة لحقائق القرآن الكريم وفاءً بذلك الوعد الصادق.

ويمكن الناظر في نتائج البحث العلمي المصدقة لحقائق القرآن الكريم أن يتبين أن هذه الكشوف العلمية المؤيدة لحقائق القرآن والسنة النبوية إنما تأتي في الغالب الأعم من علماء غير مسلمين! فكأنها منهم وإليهم ليتوجهوا إلى الإسلام مذعنين بأنه الحق الذي أيدته بحوثهم العلمية الصرفة.

كما أن هذه البحوث تأتي في سياق الوفاء بالوعد الذي قطعه الحق ليرى أولئك الناس أن القرآن حق وأن محمدًا صادق فيما بلغ عن ربه سبحانه وتعالى.

وأن التطابق المذهل بين حقائق القرآن الكريم وما يثبته العلم الحديث من حقائق.. لم يمول الإسلام بحثها... ولم يتدخل في إجرائها لا من قريب ولا من بعيد، وتأتي كما أسلفنا من غير أبنائه، وفي هذا العصر حيث تشتد الهجمة على الإسلام وأهله- إنما ترد ردًا حاسمًا: بأن هذا الدين الإسلامي هو الحق الذي بعث به محمدٌ للناس كافة، وهي حجة بالغة، تضاف إلى حجج الإسلام العظيم لكي يسلم البشر برسالة الإسلام لينقذوا أنفسهم من النار!.

يقول تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [الإسراء: 9، 10]


والله يتولانا بتوفيقه ورحمته وتأييده.

مراجع البحث:

القرآن الكريم.
الله: كتاب في العقيدة الإلهية - عباس محمود العقاد.
مجلة منار الإسلام العدد (370) نوفمبر 2005م.
صحيفة الرياض - يومية سعودية - 25/3/2005م.
الإنترنت- نبذة من كتاب (دين هامر).
مختصر تفسير ابن كثير - الصابوني.
الجينوم - عالم المعرفة - العدد 275 ترجمة د. مصطفي إبراهيم فهمي.





منهج المالقي في شرحه: الدر النثير

$
0
0
منهج المالقي في شرحه: الدر النثير


د. محمد حسان الطيان








ملخص البحث:
يتناول هذا البحث أثر المخطوطات الشارحة في فن القراءات القرآنية من خلال عرض نموذج جليل لهذه المخطوطات هو الدر النثير في شرح كتاب التيسير لعبد الواحد المالَقي (705هـ).

وهو يبين أولا المنهج العام الذي يكاد ينتظم كل ما ألف من متون في هذا الباب، من خلال عرضه لمنهج أبي عمرو الداني (444هـ) في كتاب التيسير.

ثم يعرض لمنهج المالَقي في شرحه للتيسير مبينا طريقته في شرح المتن، وما امتاز به من مقارنة كتاب التيسير بكتابي: التبصرة لمكي بن أبي طالب القيسي (437هـ) والكافي لابن شريح (476هـ) ملخصا أصول هذا المنهج في أمور خمسة هي:
1- الاستقصاء والشمول.
2- التعليل وتوجيه الأحكام.
3- التعليم وحل المشكلات.
4- تعقّب الماتن وتحقيق المتن.
5- العناية بعلوم اللغة.

1
-كتاب التيسير في القراءات السبع [1]:

مؤلِّفُه:
عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد، أبو عمرو الأموي الأندلسي القرطبِي ثم الداني، المعروف قديماً بابن الصيرفي، الإمام الحافظ المحدث شيخ مشايخ المقرئين ولد سنة (371هـ) بقرطبة، وابتدأ يطلب العلم سنة ست وثمانين ثم رحل إلى المشرق سنة سبع وتسعين فحجّ وأفاد علماً وقراءةً، ورجع إلى الأندلس سنة تسع وتسعين ثم سكن سرقسطة سبعة أعوام رجع بعدها إلى قرطبة، ثم استقرّ به المقام بدانية سنة (417هـ).

كان أبو عمرو من الأئمة في علم قراءة القرآن وطرقه ورواياته وتفسيره ومعانيه وإعرابه. ولم يكن في عصره ولا بعده من يضاهيه في قوة حفظه وحسن تحقيقه، وفي ذلك يقول: ((ما رأيتُ شيئاً قطُّ إلا كتبته، وما كتبته إلا حفظته، وما حفظته فنسيته [2])). وكانت لَه معرفة بالحديث وطرقه ورجاله ونقَلَتِه. قال عنه الذهبي: ((إلى أبي عمرو المنتهى في تحرير علم القراءات وعلم المصاحف مع البراعة في علم الحديث والتفسير والنحو وغير ذلك)).

أخذ أبو عمرو عن الجمِّ الغفير من مشايخ عصره وفي مقدمتهم أبو القاسم خلف بن إبراهيم ابن خاقان المصري الخاقاني (402هـ) وأبو الحسن طاهر بن عبد المنعم بن غَلْبون الحلبِي (399هـ) وأبو الفتح فارس بن أحمد الضرير (401هـ) وعبد العزيز بن جعفر بن خواستي الفارسي (412هـ) وأبو مسلم محمد بن أحمد الكاتب (399هـ).

قرأ على أبي عمرو وحدث عنه خلق كثير منهم أبو داود سليمان بن نجاح الأموي (496هـ) وهو أجلُّ أصحابه، وأبو القاسم أحمد بن عبد الملك بن أبي جمرة (بعد 530هـ) وأبو عبد الله محمد بن يحيى بن مزاحم الأنصاري (502هـ) وأبو القاسم خلف بن إبراهيم الطليطلي (477هـ).

صنف أبو عمرو تواليف كثيرة بلغت مئة وعشرين كتاباً جلّها في علوم القرآن، وعلى رأسها كتاب التيسير في القراءات السبع، وجملة من كتب القراءات كجامع البيان، وإيجاز البيان، والمفردات، والتمهيد، والإيضاح، والمفصح، والموضح، وله في رسم المصحف: المقنع، وفي نقطه: المحكم.

توفي أبو عمرو في سنة (444هـ) ودفن بدانية ومشى السلطان أمام نعشه، وشيعه خلق عظيم، رحمه الله تعالى [3].


• مادة الكتاب ومنهجُه:

موضوعُ كتاب التيسير هو القراءاتُ القرآنية على مذاهب القراء السبعة المشهورين بروايات رواتهم المعروفين، وقد صدّر الداني كتابه بذكرهم مترجماً لكلٍّ منهم، وهو لم يخرج في نهجه العام عن سنن المؤلفين في هذا الفن، وإنما حذا حذوهم فكان أنموذجاً للتأليف في فن القراءات. بيد أنه جاء استجابةً لرغبة في الاختصار والتسهيل: ( فإنكم سألتموني أحسن الله إرشادكم أن أصنف لكم كتاباً مختصراً في مذاهب القراء السبعة بالأمصار رحمهم الله، يقرب عليكم تناوله، ويسهل عليكم حفظه، ويخف عليكم درسه [4].). لذلك ما رسم المؤلف لنفسه خطة في الاختصار والإيجاز واليسر جاء فيها: ((... واعتمدت في ذلك على الإيجاز والاختصار، وترك التطويل والتكرار وقربت الألفاظ وهذبت التراجم، ونبهت على الشيء بما يؤدي عن حقيقته من غير استغراق...)). وقد رمى من هذه الخطة إلى تحقيق الغاية التي وضع الكتاب من أجلها وسمَّاه بها، وهي التيسير: ((لكي يوصل إلى ذلك في يسر ويتحفظ في قرب [5]).

لقد أخذ الداني نفسه بما رسم من خطّة، إذ تبدّت ضروب الاختصار والإيجاز والتيسير في مظاهر من كتابه، يمكن تبيّنها في كل قسم من أقسامه الرئيسية الثلاثة: الإسناد، والأصول، والفرش [6].

1- في الإسناد والقرّاء:
أي في باب ذكر أسماء القراء والناقلين عنهم [7]. وباب ذكر الإسناد [8]... وفي كل منهما ضرب من ضروب الاختصار:
أ- ففي الأول اقتصر الداني على ذكر روايتين لكل قارئ من السبعة: ((وذكرت عن كل واحد من القراء روايتين)) على حين حفلت جلُّ كتب القراءات التي تقدمته بتنوع الروايات واختلافها فابن مجاهد في السبعة يذكر لكل قارئ تلامذتَهُ وإن كثروا فتجاوزوا الخمسة والعشرين قارئاً- كما في تلامذة نافع [9]- ثم هو يعنى ببيان الخلاف بينهم ويناقش رواياتهم [10]. وابن مهران في المبسوط يستقصي في ذكر الروايات حتى تصل إلى تسع روايات لقراءة عاصم [11]، وسبع روايات لقراءة أبي عمرو [12]، على سبيل التمثيل.

ب- وفي الثاني اختصر الداني في ذكر الأسانيد فلم يستوعب طرقه المختلفة، بل اكتفى بذكر إسناد واحد للرواية وآخر للتلاوة لكلٍّ من الروايات التي اعتمدها، ثم ختم الباب بقوله: (فهذه بعض الأسانيد التي أدت إلينا الروايات روايةً وتلاوةً وبالله التوفيق [13]) ولم يستغرق ذلك كله سوى صفحات ست من نشرة التيسير، على حين استغرق ذكر الأسانيد في كتاب المبسوط مثلاً نحواً من ثمانين صفحة جاء في ختامها: (فهذه أسانيد القراءات التي قرأنا بها نقلاً وأخذناها لفظاً اختصرناها كراهية الإطالة فيها. [14])!.

2- في أبواب الأصول:
وهي الأبواب التي تتناول الأحكام العامة المبنية على قاعدة يطرد القياس عليها. ويتعلق الكلام عليها هنا بثلاثة أمور هي:
أ- التنبيه على الشيء بما يؤدي عن حقيقته من غير استغراق، وهذا ما جعل الكتاب أشبه بالمتون التي تقتصر على رؤوس المسائل بإيجازٍ ولكنه غير مخلّ؛ إذ إنه يستوعب كل مذاهب القراء التي اعتمدها وما تنطوي عليه من وجوه أداء مختلفة دون حشو أو إسهاب، بل يؤدي ذلك كله بأوجز عبارة ممكنة؛ من ذلك قوله في باب ذكر الهمزتين المتلاصقتين في كلمة: ((اعلم أنهما إذا اتفقتا بالفتح نحو﴿ أَأَنْذَرْتَهُمْ ﴾ [البقرة: 6] و﴿ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ ﴾ [البقرة: 140] و﴿ أَأَسْجُدُ ﴾ [الإسراء: 61] وشبهه فإن الحِرْميين وأبا عمرو وهشاماً يسهّلون الثانية منهما، وورش يبدلها ألفاً، والقياس أن تكون بينَ بينَ، وابن كثير لا يدخل قبلها ألفاً، وقالون وهشام وأبو عمرو يدخلونها والباقون يحقّقون الهمزتين [15]).

ب- الاكتفاء غالباً بذكر مثال واحد لكل ظاهرة من أحكام الأصول؛ ففي باب الإدغام الكبير مثلاً يذكر الداني أمثلةً لجملة من حروف الإدغام، ولا يكاد يتجاوز المثال الواحد للحرف إلا إن تطلبت الحالة تنوّعاً ما؛ كأن يسبق الحرف المدغم بساكن مرة وبمتحرك مرة أخرى نحو: ﴿ فِيهِ هُدًى ﴾ [البقرة: 2] و﴿ إِنَّهُ هُوَ ﴾ [البقرة: 37] [16] ثم هو لا يستنفد كل الحروف المدغمة وإنما يقيس على ما ذكر: ( وما كان مثله من سائر حروف المعجم حيث وقع) إنَّ كل مثال من هذه الأمثلة التي ذكرها الداني هنا غدا شبه عنوان في الدر النثير أفاض المالقي تحته بذكر جميع نظائره في القرآن الكريم على وجه الاستيعاب والحصر [17].

على هذا النحو من التركيز والإيجاز سار الداني في كل أبواب الأصول ثم ختمها بالقول: (فهذه الأصول المطردة قد ذكرناها مشروحةً على قدر ما يحتمله هذا المختصر من تقليل اللفظ وتقريب المعنى ليقاس عليها ما يروى منها فيعمل على ما شرحناه... [18]).

ج- عدم العناية بتوجيه القراءات والاحتجاج لها، شأنه في ذلك شأن المختصرات في هذا الفن كالعنوان والتلخيص، خلافاً لأكثر كتب القراءة التي لا تخلو من توجيه واحتجاج كالسبعة والتبصرة والإقناع والتذكرة [19]. وينطبق هذا الأمر على فرش الحروف كما ينطبق على الأصول.

3- في فرش الحروف:
وهو ما اختلف فيه القراء من حروف متفرقة لاتؤول إلى قاعدة تنتظمها أو أصل يجمعها، والكلام عليه- في التيسير- يتعلق بملحظين أيضاً:
أ- الإشارة إلى مذاهب القراء واختلاف رواياتهم بأوجز عبارة ممكنة؛ إذ ينص الداني على اسم القارئ أولاً (أو مجموعة منهم مختزلاً على طريقته التي بيّنها في المقدمة [20]) ويتبعه بقراءته، ثم يذكر قراءة الباقين دون النص على أسمائهم معتمداً مفهوم المخالفة. من ذلك قوله في فرش سورة البقرة: (نافع) ﴿ حَتَّى يَقُولَ ﴾ [البقرة: 214] برفع اللام، والباقون بنصبها [21])) وقوله في فرش سورة المؤمن: (الكوفيون ونافع) ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ ﴾ [الشعراء: 88] بالياء، والباقون بالتاء [22])). ومن تمام إيجاز الداني في عبارته أنه يسقط منها كلمة (قرأ) التي تعدّ شبه لازمة في فرش الحروف في معظم كتب القراءات.

ب- عمد الداني إلى ما لَه نظائر في فرش الحروف- مما لا يندرج تحت أصل من الأصول- فذكر نظائره في القرآن الكريم كله لدى أول ذكر له إن كان مما يطاق حصره، كقوله في فرش سورة البقرة: (ابن عامر) ﴿ فَيَكُونُ ﴾ [البقرة: 117] هنا، وفي آل عمران ﴿ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 47] وفي النحل، ومريم، ويس، وغافر، في الستة بنصب النون، وتابعه الكسائي في النحل ويس فقط. والباقون بالرفع [23])). وإن كان من الكثرة بمكان اكتفى بذكر المثال مشفوعاً بعبارة ((حيث وقع)) كقوله في فرش سورة آل عمران: (أبو بكر) ﴿ وَرِضْوَانٌ ﴾ [آل عمران: 15] بضم الراء حيث وقع ما خلا الحرف الثاني من المائدة وهو قوله: ﴿ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ ﴾ [المائدة: 16] والباقون بكسر الراء [24]).

أما الحروف التي تندرج تحت أصل من الأصول فلا يذكرها الداني في فرش الحروف البتة خلافاً لبعض كتب القراءات التي أعاد مؤلفوها ذكر بعض الحروف في الفرش أو ذكر أحكامها مع أنها تندرج تحت أصل من أصول القراءات، ككتاب التذكرة [25]، وكتاب العنوان، وكتاب التلخيص [26].


2-
الدر النثير والعذب النمير في شرح كتاب التيسير:

ترجمة المؤلف:
عبد الواحد بن محمد بن علي بن أبي السَّداد، أبو محمد، الأندلسي الأموي المالقي الشهير بالباهلي والبائع. عَلَمٌ حفلت مصادر التراجم بذكره منذ القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) [27] ولد بمالَقة (بفتح اللام) Malaga- وهي مدينة ساحلية تقع على الشاطئ الجنوبي الشرقي من الأندلس، كانت أيام دولة بني الأحمر العاصمة الثانية بعد غرناطة- ورافقت نشأته قيام مملكة غرناطة في النصف الأول من القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) وهو ينتسب إلى أسرة أوتيت حظاً غير قليل من العلم والفضل فأبوه الشيخ الأجل أبو عبد الله محمد بن علي، وخاله الولي الصالح أبو محمد عبد العظيم بن أبي الحجاج.

تلقى المالقي القراءات والتجويد والعربية عن جلّة علماء عصره في بلده مالقة كالشيخ الحسين بن عبد العزيز الأحوص الفهري (699هـ) والقاضي قاسم بن محمد الحجري السكوت (690هـ) والمقرئ الراوية عبد الرحمن ابن عبد الله بن حوط الله الأنصاري. ثم رحل إلى غرناطة وسمع على رواتها وكتب له بعضهم بالإجازة العامة كالمقرئ الراوية إسماعيل بن يحيى العطار الغرناطي، والإمام المؤرخ أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي وغيرهم كثير. ثم عاد إلى مالقة وقد برع في علوم شتى على رأسها القراءات والتجويد والنحو والفقه والأصول، مما خوله أن يكون خطيب مسجد مالقة الأعظم وأستاذ العامة والخاصة من أبنائها.

أمَّه الطلبة من كل مكان، وتخرّج به الكثيرون، كالقاضي محمد بن يحيى الأشعري المالقي (741هـ) والقاضي يوسف بن موسى الجذامي، والقاضي محمد بن عبد الله القيسي المالقي (750هـ) وسواهم.

خلَّف المالقي مصنفات عديدة في الفقه وعلوم القرآن أجلّها الدر النثير موضوع هذا البحث، وله كتاب الأصول الخمسة التي بني الإسلام عليها والمنتخب في فضائل القرآن [28] وغيرها. توفي سنة (705هـ) بمالقة، وكان الحفل في جنازته عظيماً.


* موضوع الكتاب ومحتواه:

لابد لنا قبل الشروع في دراسة الكتاب من تحديد زمن تأليفه لما لذلك من أهمية في دراسته، والحق أنه ليس في ما بين أيدينا من تراجم مؤلفه ما يحدد هذا التاريخ أو قريباً منه، بيد أن نسخة من نسخ الكتاب المخطوطة المعتمدة في التحقيق قيّدت ذلك، وهي نسخة مكتبة كوبريلي؛ إذ جاء في ختامها: (قال المؤلف رحمه الله: وكان الفراغ من تأليفه يوم الجمعة تمام ثلاثين لشهر ربيع الثاني من عام سبعة وتسعين وستمئة، والحمد لله رب العالمين. انتهى تعليق هذه النسخة المباركة في يوم السبت ثالث عشر من شهر رمضان سنة خمس وأربعين وألف).

وتتجلى أهمية هذا التاريخ (697هـ) في قربه الشديد من تاريخ وفاة المؤلف (705هـ) إذ يدل على أن المَالَقي وضع كتابه هذا في أخريات حياته بعد أن اكتمل تحصيله ونضج علمه واستحصد أمره واستوى فهمه، وأفاد من عمره المديد الذي قضاه عالماً ومعلماً، قارئاً ومقرئاً، واستمدَّ من تراثٍ غنيٍّ وعريق في القراءات وما إليها من علوم العربية.

أما موضوع الكتاب فهو القراءات القرآنية؛ إذ شرح فيه المَالَقي كتاب التيسير للداني أشهر كتب القراءات آنذاك، ومضى على سَنَنِه متتبعاً ترتيب أبوابه وفصوله، بيد أنه ألزم نفسه عرض ما فيها من أحكام على كتابَي التبصرة لمكي والكافي لابن شريح وأضاف إليها فصولاً وفقراتٍ قَدَّمَتْ لها، واستدركَتْ نقصَها، وشرحَتْ ما غمض من مصطلحاتها، ولا حاجة بي هنا إلى استعراض أقسام الكتاب وذكر أبوابه وفصوله لأن فيما عرضته من أبواب التيسير غنية [29]، وإنما سأقتصر على ما لم يرد هناك مما زاده المَالَقي على أبواب التيسير فأذكره تباعاً فيما يلي:

1- الإسناد: وقد ذكر فيه المَالَقي أسانيده إلى أصحاب الكتب الثلاثة: الدَّاني ومكي وابن شريح [30].

2- القسم الأول في تمهيد قواعد وتقرير أصول من باب الإدغام الكبير: وهو سبعة فصول سيأتي الحديث عنها [31].

3- المد بسبب الحرف الساكن ومد حروف التهجي: وهو كلام طويل زاده المَالَقي على باب المد والقصر مشيراً إلى أنَّ الدَّاني لم يذكره [32].

4- مسألة في توجيه أحكام النون الساكنة والتنوين الأربعة [33]: وردت إثر ذكر أحكام النون والتنوين.

5- فصل في تهذيب ترتيب التبويب [34]: وقد أورده في ختام أبواب الأصول قبل الشروع في فرش الحروف.

إن هذه الفصول بالإضافة إلى ما تقدم من أبواب التيسير وفصوله تمثل مجمل محتوى الكتاب.

• طريقته في عرض المادة:
سلك المَالَقي في عرض مادة شرحه طريقة واحدة لم يكد يتعداها، تتلخص في النقاط التالية:
1- يستهلّ المَالَقي معظم أبواب الكتاب بتمهيد يشرح فيه مصطلحات الباب، وهو تمهيد يقصر أو يطول تبعاً لحجم الباب وطبيعة مادته، فمثال الأول ما صنعه في بابَي الاستعاذة والبسملة [35]، ومثال الثاني ما صنعه في باب الإدغام الكبير حيث مهد للباب بذكر قواعد وتقرير أصول كسرها على سبعة فصول [36]. وسيأتي الكلام عليها في سمات المنهج [37]. وكثيراً ما ينهي المَالَقي تمهيده للباب بقوله: (وأَرجعُ الآن إلى كلامه في التيسير [38]).

2- يقتطع من كلام الدَّاني في التيسير عبارات يصدِّرُها بقوله: (قال الحافظ رحمه الله) وهي عبارات تطول وتقصر تبعاً لما تنطوي عليه من أحكام [39]، إلا أنها لا تتجاوز في الأعم الأغلب السطرَ الواحد، فإن تجاوز ما يبغي شرحه السطر اقتصر منه على كلمات وأشار إلى طوله بقوله: (إلى آخره) أو (إلى آخر كلامه) أو (الفصل) [40]. وإذا انحصرَتْ بغيتُهُ في تبيين مراد الدَّاني من كلمة أو عبارة قصيرة، فإنه يذكرها مصدَّرةً بقوله: (وقول الحافظ)) أو (وقوله) ثم يبين المراد منها مصدَّراً بكلمة (يريد) [41] وهو في تتبّعِه كلامَ الدَّاني يكاد يستغرق كل ما جاء في التيسير خلا مواضع يسيرة أَعرض عنها لوضوحها وعدم تعلّق أيّ إشكال بها، على أنه لم يدع أن يشير إلى ذلك وما أشبهه بمثل قوله (وكلامه إلى آخر الباب بَيِّنٌ وقد مرّ بيان مقتضاه [42]).

وعلى أنه أيضاً كان يتجاوز ما يرد في الأصل من الأمثلة دفعاً لما يقع من تكرار لها عند الشرح إلا إذا كان المثال نفسه مادة للشرح كما في أمثلة الإدغام الكبير.

3- يشرع في شرح عبارة الدَّاني مستهِلاً ذلك غالباً بكلمة (اعلم) حتى غدت هذه الكلمة هي الفاصل بين كلام الماتن وكلامه، وهو يرمي من شرحه إلى توضيح مقاصد الدَّاني في كلامه، وحلِّ ما فيه من إشكال، واستقصاء الأمثلة القرآنية التي يستوعبها ما ذكره من أحكام... إلى غير ذلك مما سيأتي بسط الكلام عليه، وكثيراً ما يعرِّج على كتب الدَّاني الأخرى يستكمل منها نقصاً أو يسدُّ خللاً أو يشرح مسألة أو يبسط مشكلة، وأمثلة ذلك كثيرة متفشِّيَة في الكتاب، وهو لا يقتصر على مؤلفات الدَّاني وإنما يستعين بغيرها من مصادر القراءات المشهورة كالإقناع والكشف والتذكرة وسواها.

4- يختم شرحه للعبارة ببيان قول الشيخ (أي: مكي بن أبي طالب)، والإمام (أي: ابن شريح) في الحكم المذكور أو المسألة المطروحة إمّا اشتملت على حكم من الأحكام، وذلك في كتابيهما التبصرة والكافي سواء وافقا الدَّاني أو خالفاه، وقد يعرض لَه أحياناً أن ينبِّه على أمر أو يثير مسألة فيفرد لذلك فقرة مستقلة تحت عنوان "تنبيه" أو "مسألة".


أبرز سمات منهجه:

أَجْمَلَ المَالَقيُّ في مقدمة كتابه الكلامَ على منهجه في الدر النثير بقوله: (فدونك زِيّاً من الدر النثير، ورَيّاً من العذب النمير، في شرح مشكلات وقيد مهملات وحل مقفلات اشتمل عليها كتاب التيسير متبعاً بالموافقة والمخالفة على الأسلوب الكافي فيما بينه وبين كتاب التبصرة والكتاب الكافي، إلى كلام من غيرهما دعت إليه ضرورة التفسير [43]).

وهو بهذا الإجمال يفصح عن غايته من الشرح أولاً؛ وهي شرح مشكلات التيسير ثم يبيِّن شيئاً من طريقته وأسلوبه في هذا الشرح؛ وهو تتبُّع ما بين التيسير والتبصرة والكافي من موافقة ومخالفة، والاستعانة بغيرهما من كتب القراءات..

هذا ما أجمله المَالَقي في مقدمته، لكن الدارس المستأني لكتابه يقف على سماتٍ مُميِّزة لمنهج الرجل فيه، نستطيع حصْرَها بما يلي: الاستقصاء والشمول، والتعليل وتوجيه الأحكام، والتعليم وحل المشكلات، وتعقّب الماتن وتحقيق المتن، والعناية بعلوم اللغة. وهذا بيان القول في كل منها:

1- الاستقصاء والشمول:
جعل المَالَقي من التيسير أساساً ومنطلقاً لخوضه في مباحث القراءات المختلفة يستوفي الكلام على أحكامها، ويستقي من مصادرها المتنوعة، ويستقصي أمثلتها كاملةً من القرآن الكريم، وهكذا تتحول إشارات الدَّاني وإلماعاتُهُ إلى كلامٍ مستفيضٍ وشرح مستطيلٍ، وتنقلب بلاغةُ الإيجاز إلى بلاغةِ الإطناب.

إن سمة الاستقصاء والشمول في الدر النثير تتجلى في مظاهر عدة يمكن أن نذكر منها:
أ- الشواهد والأمثلة:
لم يكثر المَالَقيُّ في كتابه من شيءٍ إكثارَه من الاستشهاد والتمثيل بآيات القرآن الكريم لدى ذكر أي حكم من أحكام القراءات، فقد غدا مثال الدَّاني الذي يمثل به لحكم من أحكام الأصول عنواناً يضم تحته كل ما كان على شاكلته في القرآن على سبيل الحصر والاستقصاء لا التمثيل والاستدلال، وبذا تحولت أحكام الأصول التي يطَّرد فيها القياس إلى فرش يستوعب كلَّ ما انطبق عليه هذا القياس منسوقاً على سُوَرِهِ ابتداءً بالفاتحة وانتهاءً بالناس، والمَالَقي يلتزم في هذا نهجاً لا يحيد عنه؛ فهو يذكر أولاً جملة ما في القرآن من مواضع ينطبق عليها الحكم المذكور.

ثم يبين ما جاء منها في كل سورة مراعياً عدة ما في كل سورة جامعاً النظير إلى النظير، فما كان من السور مشتملاً على موضع واحد ذكره أولاً ثم ما اشتمل على موضعين وهكذا.. إلى أن يستنفد الأمثلة، وهو في كل ذلك يتَّبع ترتيبَ السور في المصحف الشريف، ولتوضيح هذا نمثل بما ذكره المَالَقي في باب الإدغام الكبير عن إدغام الهاء في مثلها إذ قال: (قال الحافظ رحمه الله: نحو قولِه تعالى ﴿ فِيهِ هُدًى ﴾ [البقرة: 2] وشرَعَ يشرحُ أحكام إدغام الهاء في مثلها منتهياً إلى أن جملتَهُ في القرآن أربعة وتسعون حرفاً، ثم أخذ يذكر هذه الحروف مبتدئاً بما جاء منها حرف واحد في سور القرآن: (منها حرف حرف في ثلاث وعشرين سورة. [44])، ثم ثنّى بما جاء منها حرفان: (ومنها حرفان حرفان في عشر سور [45]) فثلاثة: (ومنها ثلاثة ثلاثة في سبع سور) فأربعة. فخمسة. فستة [46]. وهو في كل مرة يلتزم ترتيب السور كما تقدمت الإشارة.

إن سمةَ الاستقصاء في الأمثلة هذه- في الدر النثير- تكاد تميزه من سائر كتب القراءات الأخرى على اختلاف أنواعها وأحجامها، ذلك لأن كتاباً منها لم يستقصِ استقصاءَه، ولا أدلَّ على ذلك من موازنته بكتابَي الإقناع في القراءات السبع لابن الباذش والنشر في القراءات العشر لابن الجزري.

أما الأول فيقول مؤلفه في تمهيده لباب الإدغام: (ونشرح أصول الإدغام الكبير على حروف المعجم شرحاً شافياً يغني الواقف عليه من النظر في فرش الإدغام إن شاء الله تعالى [47]) ومع ذلك فهو يقول في إدغام اللام مثلاً: ((يدغمها في مثلها، تحرك أو سكن ما قبلها نحو ﴿ يَجْعَلْ لَكُمْ ﴾ [الأنفال: 29] ﴿ جَعَلَ لَكَ ﴾ [الفرقان: 10] و﴿ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ﴾ [إبراهيم: 25] وجملة ذلك مئتا موضعٍ وخمسةَ عشرَ موضعاً أولها في البقرة﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ﴾ [البقرة: 11] وآخرها في الشمس ﴿ فَقَالَ لَهُمُ ﴾ [البقرة: 243] [48]). فيقتصر على ذكر هذه المواضع الخمسة مغفلاً من ورائها مئتين وعشرة مواضع.

وأما الثاني وهو المعروف بتوسعه وتعدد طرقه واستقصاء مؤلفه، فإن مؤلفه يقول في الموضع نفسه أي إدغام اللام: (واللام نحو) ﴿ لَا قِبَلَ لَهُمْ ﴾ [النمل: 37] ﴿ جَعَلَ لَكَ ﴾ [الفرقان: 10] وجملته مئتان وعشرون حرفاً، واختلف منها عنه في ﴿ يَخْلُ لَكُمْ ﴾ [يوسف: 9] و﴿ آلَ لُوطٍ ﴾ [الحجر: 59] [49] دون أن ينص على المواضع تحديداً وكذلك صنيعُه في كل موضع تكثر أمثلته؛ إذ يجتزئ عنها بمثالين أو أكثر مفصّلاًَ القول في مواضع الاختلاف وتعدد الطرق.

على حين ذكر المَالَقي مواضع إدغام اللام المشار إليها موضعاً موضعاً دون أن يخلَّ بحرفٍ منها [50]، وهذا ديدنه في سائر حروف الإدغام الكبير، بل في كل أبواب الكتاب.

بقي أن أشير إلى أن هذا المنهج الذي اتبعه المالَقي في استقصاء الأمثلة مكَّن لَه في إطلاق أحكام ما كانت لتصدر إلا عن استقراء تامٍ وتتبّع دقيقٍ. من ذلك قوله في باب الهمزتين المتلاصقتين في كلمة: (وليس في القرآن همزتان ملتقيتان في كلمة إلا في لفظة واحدة وهي (أئمة) وقعت في القرآن في خمسة مواضع، الأول في براءة. [51]). ومن ذلك نفيه اجتماع بعض حروف العربية في القرآن الكريم، كقولِه: ( وليس في القرآن لام بعدها شين في كلمة واحدة [52])، وقوله: ((وأما الضاد فيدغم فيه سبعة أحرف وهي الطاء والتاء والدال والظاء والذال والثاء واللام، نحو: أمط ضيره، واحفظ ضأنك، وانبذ ضغنك، ولم يقع في القرآن منها شيء، ووجدت البواقي نحو:﴿ فَقَدْ ضَلَّ ﴾ [البقرة: 108] و﴿ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ﴾ [العاديات: 1] و﴿ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الذاريات: 24] و﴿ بَلْ ضَلُّوا ﴾ [الأحقاف: 28] [53].

ومن هذه البابة أيضاً حكمه بعدم تكرر بعض الكلمات أو التراكيب في القرآن الكريم، فمن الكلمات "مشارب" في [يس 37] ((إذ ليس في القرآن غيره [54])) ومن التراكيب: ﴿ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ﴾ [الغاشية: 5] (إذ ليس في القرآن) ﴿ عَيْنٍ آنِيَةٍ ﴾ [الغاشية: 5] غيره وكأنه يصدر عن معجم مفهرس ينتظم ألفاظ القرآن وتراكيبه [55].



يتبع

متى يحرم الداعية من التأثير في غيره

$
0
0
متى يحرم الداعية من التأثير في غيره


عبدالله السند




الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول اﻷمين، وعلى آله وصحبه أجمعين..


أما بعد..
فإن العمل على إيصال العديد من المفاهيم والقيم سنين عددًا، وصُحْبةَ المربين الصانعين ﻷنفسهم وطلابهم لا يُصَيِّرُ المرءَ مُربيًا وصانعًا بالضرورة..



بل إن إرادتَه التأثيرَ في غيره لن تُؤتي أُكلها ما لم يكن هو مُتحليًا بما يدعو إليه، ساعيًا إلى تحقيقهِ في نفسهِ؛ ففاقدُ الشيءِ لا يُعطيه..



هكذا جاء في منهاج التربية السلفية، وهذا ما صدَّقَه الحالُ، وظهر أُكله طيِّبًا بإذن ربه..



يقول - أستاذ التربية - محمد أحمد الراشد في مساره:

[فالداعية محروم من التأثير في غيره ما لم يكن هو متأثرًا منصبغًا بما يدعو إليه، كما أن تمثيله لحقائق دعوته وترجمته لمعاني إيمانه تهبانه قدرة تلقائية على شدِّ المقابل إلى مساره أو الإحسان في تربيته].


نعم هي هكذا.. فإن ارتضيت هذا المجال؛ فخذه بحقه تُفلِحُ قبل أن يُفلحَ غيرُك إن شاء الله.



كثيرًا ما يَطْرُقُ مسمعي قول أحدهم: لا أجد لنفسي وقتًا لحفظٍ أو قراءةٍ أو بناءِ ذاتٍ، بل حتى أهلي و عملي قد يعتريها التقصير لانغماسي في بحر الدعوة..!


فأقول له اقرأ يا أخي كتاب سالم مولى عمر - رضي الله عنه - إلى عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - إذ يقول: "فإن عون الله على قدر النية؛ فمن تمت نيته في الخير تم عون الله له؛ ومن قصرت نيته قصر من العون بقدر ما قصر منه "..


يا الله ما أشد علمهم بالله..



قابلت قبل مدة يسيرة إمامَ مسجدٍ فسألته عن طريقة حفظه فقال:

"كان نصف القرآن الأول في صدري، ثم جاءتني عزيمة ملحة على أن أجمع له النصف الباقي، كان هذا في شهر الله المحرم، اتصلت على صاحب لي كان إمامًا فقلت له: سأصلي إمامًا بمسجدك في رمضان القادم إن شاء الله، يقول: والحمد لله قد ختمت بمسجده عن ظهر قلب"..



لا أنسى أن أقول: بأن هذا كان مشرفًا و طالبًا في كلية الهندسة.. وفضل الله يؤتيه من يشاء.


ورحم الله ابن القيم إذ يقول:
"على قدر نية العبد وهمته ومراده ورغبته؛ يكون توفيق الله له وإعانته، فالمعونة من الله تتنزل على العباد على قدر همهم"، ولا أظنك بعد ذلك تجهل الوسيلة، ومن أراد عذرًا ليُبرر به تقصيره فسيجد ما يجعلُ الخلقَ يُطرونه بعباراتِ المدح والثناء، والمُعوَّل عليه ما عند الله عز وجل ﴿ بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾ [القيامة: 14، 15].



أساتذتنا السادة العلماء

$
0
0
أساتذتنا السادة العلماء


د. محمد دامس كيلاني







أحكام الإسلام وشريعته هي أمر الحق - سبحانه وتعالى - وهو الذي أمر وأوجب إقامة أحكامه، وإن تطوُّرَ الحياة المعاصرة التي نحيا في كل جوانبها، وتَجدُّد أشكالها، واختلاف أوضاعها وَفْقًا لاختلاف الزمن، إنما هي سُنَّةٌ من سننه سبحانه، ومن المُستَحيل إذًا أن يتصادَمَ أو يُصادم شرعُ الله سننَه.

المُستجدّات كثيرة ومُتعدِّدة، والمسار الواقعي والحقيقي بذات الوقت والعقلاني أن يكون أساتذتنا العلماء على الدوام بكامل جاهزيتهم، وعلى أهبة الاستعداد للتصدِّي لأي جديد، سواء كان هذا الجديد موقفًا أو نظامًا عصريًّا مُستَحدثًا؛ وذلك ليقومَ علماؤنا - بُورِكَت هِمَمُهم - بقياسه على مبادئ إسلامِنا الحنيف، حيث نصوصه ومقاصده العامة، فما شَهِدَ له شاهد منها (قَبِلوه) وألحَقوه به؛ لعلهم يرفعون عنا وعن جيلِنا المُعاصِرِ الحرَجَ حال القبول له، وإن منَعَه مبدأ من مبادئ إسلامنا، أو اصطدم اصطدامًا لا سبيل لرفعه بنص من النصوص، (رفضوه) بيقين منهم وسارعوا إلى إثبات ذلك للعالم أن المصلحَة هي رفضه، وأشهروا وأعلنوا ذلك للناس كافة، وإن لم يشهَد له شاهد من نصوص، ولم يَصطدم مع ذلك بشيء (تركوه على إباحته الأصلية) وَفقًا لما فَهِمَه العلماء... وعندها يكون أمام الناس كافة الخيار الكامل، فمن شاء أخذ به ومن شاء تركه، مُستدلِّين بأخذهم أو تركهم بما يرون فيه المصلحة العامة والرعاية لمصالِحِهم، وعندها لن يكون عليهم إثم ولا حرج في كلتا الحالتين.

أساتذتنا العلماء الأجلاء عندما يتصدون لهذا القياس يَجتهِدون (يبذلون جهدَهم) في بعض الأمور، يجتهدون في فَهم المبادئ وتفسير النصوص، والموقف أو الحال المُستحدَث الذي يقيسونه على تلك المبادئ والنصوص، ومِن ثمَّ يَبذُلون الجهود مع الجماعة كلها؛ سعيًا لاكتشاف وجود المصالح أو المفاسد التي تتحقق بقبول الجديد من النظم وأشكالِ الحياة والأوضاع، هل تقومون بهذا أساتذتنا العلماء الأفاضل؟.

إن تردَّدكم - معاشرَ السادة العلماء - أو رفضكم - جميعكم أو بعض منكم - للقيام بهذا الواجب، فكيف تروننا سنتمكن من إزالة الأسباب؟.

الأمثلة للمسائل التي تحتاج - بل هي بحاجة ماسة - إلى رأي قاطع، كثيرة ومُتعدِّدة، ولعل ما ألمس كثرة الشكوى منه على سبيل المثال لا الحصر: البنوك، المؤسَّسات المالية، المؤسَّسات الائتمانية، الفائدة التي يتعامل الجميع معها، هل لعلماء الإسلام من لقاء يَجمعهم وفقهاء وأساتذة علماء الشريعة واقتصاديين وسياسيين؟! ما فتئ الجميع حتى اللحظة إما أنه مُمسِك عليه ماله، وإما يَسير مع الواقع فوق استِشعاره بأن شُبهةً تُلاحقه، مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت والفضائيات، الموسيقا والمعازف بحديثها وما كانت عليه بقديمها، الزكاة - وهذه حالة تشمل نسبةً عاليةً من مجتمعنا تستحقُّ اتِّخاذ أولويات البحث - بين أدائها وبين الضرائب الحكومية التي تزيد بكثير عن نسبتها.

إذا التزمتم - علماءنا - بالصمت الذي لا تزالون عليه، فبماذا تُجيبون عن أن الإسلام برَوعتِه وتميزه وخلوده والاجتهاد فيه صالح لكل زمان ومكان؟.

لئن كان بعضُكم أو جميعكم عاجزين عن الاجتهاد - لا قدر الله - أو أنكم مُتردِّدون في ممارسته، فاسمَحوا لي تذكرتكم أن في مسألة الاجتهاد أمرًا مهمًّا جدًّا، بأن صاحب الرأي إذا وافق برأيه فريقًا، فلا بد وأنه قد خالف فريقًا آخر، وهنا لابد من أدب القول: إن أخانا اجتهد فأخطأ، فهو مأجور بإذنه تعالى أو معذور، وليس من المنطقي وما أظنه من الشرعي ما نَسمعه من إجهاز على الرأي المُعارِض، واتهام صاحبه بالإثم والخطأ والعداوة.


إنها قضايانا برمَّتها وهي ليست بالقضايا التي تخص العلماء فحسب، وليست بقضايا الجيل المُعاصِر فقط، بل هي قضايا الأمة بأكملها، وإنَّنا والله طال انتظارنا للكلمة الفصل من علمائنا الأجلاء؛ لأنها ستكون الكلمة الدالة على الهدى؛ ليقيم الجيل المعاصر ومن معه الحياة بناءً عليها دونما إحساس بأي تناقض أو حرج أو مخالفة لأمره - سبحانه وتعالى - أليست هي أمانة من ضمن العلم الذي حُمِّلتُموه؟!.

أساتذتنا العلماء الأجلاء، أستحلفكم بالله أن لا تتركونا بلا رأي منكم؛ كي لا يبقى الهوى أمامنا فتفترق به السبُل، أو نُقلِّد فيَتجمَّد فكرُنا.





لماذا يبتعد المدعو عن الداعية في الدعوة الفردية ؟

$
0
0
لماذا يبتعد المدعو عن الداعية في الدعوة الفردية ؟


حسن عبدالحي






كلُّ ممارسٍ للدعوةِ الفرديَّة يَلحَظ أحيانًا ابتِعادَ أو انقِطاعَ المدعوِّ عن الدَّاعِي وعن دعوته، ويَزدادُ هذا الابتِعادُ عن الداعية أو المربِّي في الدعوة الفرديَّة الخاصَّة، والمعنيُّ بالدعوة الفردية الخاصة الدعوةُ ذات الطابع التربوي، والتي تَعمَل على الارتِقاء بالفرد نحو شموليَّة الإسلام.

فإذا ترك المدعوُّ أو المربَّى حبلَ نجاته، وهو مُوجِّهه ومُرَبِّيه من العُلَماء والدُّعَاة وطُلاَّب العلم المؤهَّلين، كان هذا نذيرَ شرٍّ ينبئنا في النهاية بخطأٍ في العمليَّة الدعويَّة أو التربية، هذا الخطأ يتحمَّل مسؤوليتَه في المقام الأوَّل الداعيةُ والمربِّي؛ لأنَّ الداعية أو المربِّي هو المطالَب وحدَه بسلوك المسلك الصحيح مع المدعوِّ، كما هو المُطالَب كذلك بتَقوِيم أسباب بُعدِه عن الدعوة، إذا كان الخلل في المدعوِّ أو من عنده.

ومن هنا يتَّضِح جليًّا أثرُ الداعية أو المربِّي في أزمة تفلُّت المدعوِّ والمربَّى عن الدعوة وصاحبها، وهذا بطبيعة الأمر يَقودُنا للوقوف على أسباب هذه الآفة؛ آفة انقِطاع المدعوِّ عن الداعية أو عن الدعوة ككلٍّ.

والدعوة الفرديَّة قائمة على ركنَيْن أساسَيْن: الداعية، والمدعو، والخطأ المُتسبِّب في بُعدِ أو نُفُور المدعوِّ من الداعية عائدٌ لخلل في طرف من الاثنين، وسأتناوَل الأسباب المتعلِّقة بالداعية، ثم الأسباب المتعلِّقة بالمدعوِّ.

السبب الأول: سوء أو عدم فَهْمِ الداعية لشخص المدعوِّ ونفسيَّته:
بحيث لا يلحظ الداعية أو المربِّي الوسائل المناسِبة في التعامُل مع المدعوِّ أو المربَّى، أو في نصيحته وإرشاده؛ ممَّا يترتَّب عليه نفور المدعوِّ وانقِطاعه عن الداعية أو الدعوة القائم عليها.

ونفوس المدعوِّين تختَلِف؛ فتختَلِف وسائل نصحهم وتقويمهم، وما ينفع زيدًا لا ينفع عمرًا، والناظر في سنَّة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يجد اختِلافًا بيِّنًا في شكل ووسائل تربية أصحابه ونصحهم؛ وذلك لاختِلاف مراتبهم في القرب والبعد منه - صلَّى الله عليه وسلَّم - واختِلاف أحوالهم الإيمانيَّة، واختِلاف مَدارِكهم وشخصيَّاتهم.

وعادة المدعوّ إذا ابتَعَد عن الداعية بسبب سوء احتِواء وتوجيه الداعية له، أنَّه يترك الدعوة جملةً، أو يبتَعِد عن الداعية لشعوره بخطأ مُوَجِّهه ومُرَبِّيه، وقد ينقَلِب عليه ويُشَنِّع على دعوته!

السبب الثاني: ظهور فساد بعض أحوال الداعية للمدعوِّ:
وهذا من أعظم أسباب هجر المدعوِّ للداعية، وإن كان يُفِيده علمًا وتَوجِيهًا، إلاَّ أنَّه في الحقيقة يَصعُب على المدعوِّ - في بدايةِ الْتزامه بالأخصِّ - الجمعُ بين قول شخصٍ يُخالِفه فعله، وتوجيه مُرَبٍّ يَنقُضه بمخالفته في نفسه.

وعين المدعوِّ عادَةً تَرقُب تصرُّفات الشيخ والمربِّي أكثرَ ممَّا تَعِي أذنه من توجيهاته وأقواله؛ ولهذا كان للاقتِداء في العمليَّة التربويَّة مفعولٌ سحريٌّ، سواء بالإيجاب أو السلب.

وما زلتُ أذكر أخًا كان يُوَجِّهني في بداية التِزامي، ومع مرور الوقت علمتُ منه عن طريق الخطأ أنَّه يدخِّن السجائر! فلم يمكنني بعدَها الثقة فيه أو تلقِّي النصح منه، وهذا بغضِّ النظر عن صحَّة الموقف من عدمه، فالشاهد أن المدعوَّ لا يرى في هذا إلا تناقضًا مرفوضًا.

السبب الثالث: القرب الشديد للمدعوِّ من الداعية والإكثار عليه في النصح:
فهذا يخلق عند المدعوِّ نوعًا من الزهد، ونوعًا من الملل، ويتحوَّل هذا الزهد فيما بعدُ لتركٍ وابتِعاد كامل، وكان عبدالله بن مسعود يُذَكِّر الناس في كلِّ خميس، فقال له رجل: يا أبا عبدالرحمن، لوددت أنَّك ذكَّرتنا كلَّ يوم، قال: أمَا إنَّه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملَّكم، وإني أتخوَّلكم بالموعظة كما كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتخوَّلنا بها؛ مخافَة السآمَة علينا؛ أخرجه البخاري ومسلم.

والقُرْبُ الشديد للمدعوِّ من الداعية والموجِّه، فيه إهدارٌ لهيبة الداعية الواجبَة، وفيه أيضًا تعلِيق المدعوِّ بشخص الداعية نفسه لا بما يحمِله من منهج، وكذلك القُرْبُ الشديد من الداعية يُتِيح للمدعوِّ الاطِّلاع الزائد على حياة الداعيَة، وما يتخلَّلها من هفوات تُحسَب على الدعوة ذاتها.

السبب الرابع: حظوظ نفس الداعية في تربية أو توجيه المدعوِّ:
عندما يكون للداعية أو المربِّي حظوظ نفس في العمليَّة الدعويَّة والتربويَّة، فإنَّه عادةً يفسد ما بينه وبين المدعوِّ والمربَّى مع الوقت؛ وذلك أنَّ مسألة الانقِياد لبشرٍ - مهما كانت منزلته ومكانته - صعبةٌ على النفس البشرية جدًّا، وإنما تتحمَّلها نفس المدعو لما يرى في حقيقتها من انقِياد للشرع، فإذا اختَلطَتْ بحظوظ نفس بشرية ربَّما ترك المدعوُّ عمليَّة التربية والدعوة كلَّها، بما فيها مصلحته الشرعيَّة من ملازمة الداعية والمربِّي؛ تجنُّبًا لهذه الحظوظ الثقيلة عليه.

وحظوظ نفس الداعية أو المربِّي كثيرة ومُتفاوِتة؛ فقد تكون في حبِّ التعظيم الزائد، وقد تكون في حبِّ الخدمة، وقد تكون في شدّته بغير مُسَوِّغ، وقد تكون فيما هو أغلظ من ذلك؛ كحبِّ تملُّكه للمدعوِّ والمربَّى بحيث لا يصدر إلا عن رأيِه فحسب في أمور حياته.

على أنَّ الفارِق بين حظوظ نفس الداعية وبين كثيرٍ من وسائل التوجيه الصحيحة، فارِقٌ دقيقٌ جِدًّا، ولكنَّه يَظهَر في المحكَّات، وعند الاختِلافات، ومُحاسَبة النفس، وبصيرة الداعية أو المدعوِّ.

السبب الخامس: تفلُّت المدعو والمربَّى من التقيُّد بالالتزام والمسؤولية:
كثيرًا ما يُصادِف الدُّعاة مدعوِّين يَثقُل عليهم التقيُّد بالأوامر والنواهي، والنصائح الشرعية، والبرامج الدعوية والتربوية، فإذا لم يَتدارَك الداعية أو المربِّي حال هذا المدعوِّ وسعَى لتقويم هذه الآفَة، تفلَّت المدعوُّ مع الوقت عن المتابَعة الدعويَّة والتربويَّة للداعي والمربِّي له.

فنحن إذًا أمامَ مُشكِلة ذات جذور نفسيَّة أو تربويَّة، ينتج عنها التفلُّت وكراهية التقيُّد بالمنهج وبالبرنامج الدعوي والتربوي، وواجِب الداعية والمربِّي بجانِب تقويم هذه الآفَة مُراعاةُ هذه النفسيَّات، من حيث ترك الإثقال عليها في التوجيه والنُّصح.

السبب السادس: ربط المدعوِّ بين سوء بعض حاله الديني وبين ترك ملازمة الداعية:
يظنُّ كثيرٌ من المدعوِّين أنَّ العلاقة بينهم وبين مَن يُتابِعهم أو يُوَجِّههم مُعَلَّقة على حالهم، فإن كان حال المدعوِّ جيدًا من حيث التِزام المنهج المُحدَّد له، تابَعَ مع مُربِّيه ومُوَجِّهه، وإن كان غير ذلك ترك المتابعة معه؛ لأنَّه يرى في نفسه التقصير والتفريط!

وأصل هذا الخطأ الكبير مُتَولَّد من أزمة الاستِقلاليَّة في التفكير واتِّخاذ القرار دُون الرُّجوع إلى أهله من أصحاب المعرفة والذكر، وأزمةُ الاستِقلاليَّة هذه يَنبَعِث منها أخطاء كثيرة في جانِب التصوُّرات وجانِب السلوك عند المدعوِّ والمربَّى، ما لم تعالج.

وعلى الداعية أو المربِّي ترسيخ واجِب الرُّجوع والمُشاوَرة لأهل الخبرة والدِّراية، كما عليه توضيح ما عليه عمله مع المدعوِّ، وعليه تقويمه ونصحه، وخطُّ مَعالِم الطريق له، سواء وُفِّق للهداية أو تعثَّر في بعض الطريق، ثم غايته ليست هداية المدعوِّ بقدر القِيام بواجب التبليغ والنصح، ومعرفة المدعوِّ كل هذا تُغَيِّر عنده هذا التصوُّر السطحي.

السبب السابع: اتِّسام شخصيَّة المدعوِّ أو المربَّى بالهوائيَّة:
وأعني بالهوائيَّة كثرة التنقُّل وعدم الاستِقرار في شيءٍ من الدين أو الدنيا، وإذا اتَّسمت شخصيَّة المدعوِّ بالهوائيَّة لم يكد يصبر مع الداعية والمربِّي في رحلة المُتابَعة والنصح وبِناء الشخصية؛ بل ترى هذه الشخصيَّة مُتَنقِّلة يمينًا ويسارًا، بلا هدف تسعى إليه، أو غاية ترجوها.


والداعية البصير، أو المربِّي الحاذق لا يردُّ أحدًا طرَق بابه، فهو لم يأتِه إلا لخيرٍ فيه، ولكنَّه كذلك لا يُنزِل الناس غيرَ مَنازِلهم، ولا يُعطِيهم ما لا يَستَحِقُّون؛ بل يستعمل كلاًّ منهم على قدر إمكاناته وقدراته، نعم يُقوّم الخطأ والخلل في الشخصيَّة، لكن ليس كلُّ مراد يُنال، والنُّفوس جُبِلتْ على طِباع ليس من الهيِّن أبدًا تغييرها.

والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.





الإمام أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي

$
0
0
الإمام أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي


شريف عبدالعزيز الزهيري







تاريخ الأمة المحمدية زاخر بالمواقف والمشاهد التي تكررت عبر عصور هذه الأمة، والتي تحكي وتكشف لنا عن حقيقة العلماء الربانيين، والأئمة الكبار، الذين يعلمون يقينًا الدور المنوط بهم، وتبعات هذا الدور الشريف؛ لذلك فإننا نعجب كثيرًا إذا ما رأينا أن رد فعل العلماء والأئمة الكبار واحد أمام المحن والفتن والابتلاءات، فردهم وجوابهم واحد، وشعارهم واحد، فديدن حياتهم الثبات حتى الممات، والأخذ بالعزمات، والإعراض عن الرخص، لا لشيء إلا لأنهم قدوات متبوعون، وبترخصهم يترخص الكثيرون، وبسقوطهم يسقطون، وهذه محنة واحد من هؤلاء الأئمة الأعلام.

التعريف به:
هو الإمام العلامة، سيد الفقهاء، وكبير الشافعية، جبل العلم، أبو يعقوب يوسف بن يحيى القرشي البويطي، أخص تلاميذ الإمام الشافعي، وأنجبهم، وأقربهم لقلبه، وأعلمهم، وخليفته في حلقته بعد وفاته.

لا يُعلم على وجه التحديد متى ولد، ولكنه يرجع لأرومة قرشية أصيلة، أما نسبه البويطي فيرجع إلى قرية بويط بصعيد مصر؛ حيث استقرت أسرته منذ أيام الفتح الإسلامي للبلاد.

تلقى العلم في بداية حياته في قريته بويط، ثم انتقل إلى الفسطاط مع أبيه، وجلس لعبد الله ابن وهب شيخ المالكية في مصر، وحمل عنه علمًا كثيرًا؛ فلما دخل الشافعي رحمه لله إلى مصر سنة 198هـ لنشر علمه جلس إليه البويطي، فانبهر بعلمه؛ فلازم مجلسه ولم يفارقه، وتخرج به، وكان ذا حظ وافر من الفهم والذكاء؛ فصار أكبر أصحاب الإمام الشافعي، وأكثرهم فهمًا لدقائق مذهبه ومسائله، حتى إنه لما مات الإمام الشافعي سنة 204هـ جلس البويطي مكانه في الحلقة، وتصدر وأفتى، وناظر وألف؛ وذلك كله وهو في شرخ الشباب.

ثناء الناس عليه:
لقد كان الإمام البويطي من الأئمة الأعلام، المقتدى بهم في العلم والعمل؛ فلقد كان إمامًا في العلم، قدوة في العمل، زاهدًا ربانيًا، متهجدًا، دائم الذكر والعمل، ولنسمع ثناء أستاذه وإمامه الشافعي، وكلامه فيه لنعلم مدى مكانة هذا الإمام؛ فقد قال عنه الإمام الشافعي: ليس في أصحابي أحد أعلم من البويطي، وكانت المسائل تأتي الشافعي فيحيلها على البويطي ليجيب عليها، وقال مرة للمعترض على ذلك: البويطي لساني الذي أتكلم به، حتى إنه كان يرسله مع رجال الوالي من الحرس والشرط لردع العصاة، والاحتساب على الماجنين والفاسقين، ولما أوشك الإمام الشافعي على الموت سألوه عمن يرث مجلسه، فقال: ليس أحدًا أحق بمجلسي من يوسف، يقصد: البويطي.

وقال عنه قرينه ونظيره في حلقة الشافعي، الإمام الربيع بن سليمان: كان البويطي أبدًا يحرك شفتيه بذكر الله، وما أبصرت أحدًا أنزع بحجة من كتاب الله من البويطي، وكان يسرد الصوم، ويختم في الأسبوع الواحد عدة مرات، وكان من رجال العامة: يقوم مع الناس في حاجاتهم، وله صنائع المعروف مع الناس أجمعين.

قال عنه الإمام الذهبي: كان إمامًا في العلم، وقدوة في العمل، زاهدًا، ربانيًا، متهجدًا دائم الذكر والعكوف على الفقه.
قال عنه جاره ابن أبي الجارود: كان البويطي جاري، فما كنت أنتبه ساعة من الليل إلا سمعته يقرأ ويصلي.
قال ابن خلكان: البويطي صاحب الشافعي رضي الله عنه كان واسطة عقد جماعته، وأظهرهم نجابة، وكان صالحًا متنسكًا، عابدًا زاهدًا.


محنته:
يعتبر الحسد هو المحرك الرئيسي للمحنة التي وقعت للإمام البويطي، والتي أدت في النهاية إلى مصرعه رحمه الله بطريقة مأساوية، وإن كان هو نفسه رحمه الله قد جعل من محنته تلك مثلا من أروع أمثلة الثبات على الحق، والصبر واليقين.

فلقد مر بنا أن البويطي كان من أكبر وأعلم تلاميذ الإمام الشافعي رحمه الله، وقد فاق أقرانه في حلقة الشافعي؛ لدرجة أن المسائل كانت ترد إلى الشافعي فيطلب من البويطي الإجابة عليها، وأقرانه شاهدون لذلك، وكان يقول لمن يلومه في تقديم البويطي: إنه أعلم أصحابي، ولساني الذي أتكلم به، وكلها أمور كانت تحرك مكنونات الصدور، والحسد بين الأقران أمر مشهور، معروف عبر الدهور.

فلما اشتد المرض على الإمام الشافعي ولم يقدر على الجلوس للعلم تنازع تلاميذ الإمام في من حلقته بالمسجد، وكانت أكبر وأعظم حلقة وقتها، وكان تنازع فيها ثلاثة: البويطي، ومحمد بن عبد الحكم، والمزني، والثلاثة هم أكبر تلاميذ الإمام، وكان البويطي أحقهم: لعلمه وفقهه، ووصلت أخبار هذه المنازعة للإمام وهو على فراش المرض، فقال لأحد تلاميذه - واسمه الحميدي، وكان من أئمة الحديث والأثر، وأصله من الحجاز - قال له الشافعي: ليس أحد أحق بمجلسي من يوسف، ليس أحد في أصحابي أعلم منه؛ فانطلق الحميدي إلى الثلاثة، وأخبرهم بقول الإمام، فانظر كيف كان رد فعل ابن عبد الحكم، وكان من أشد الثلاثة حرصًا على المنصب!!

عندما سمع ابن عبد الحكم ذلك الكلام انكسر له بشدة وغضب، وقال للحميدي: كذبت، فرد عليه الحميدي، وكان أكبر منه سنًا وقدرًا: بل كذبت أنت، وتنازعا الكلام حتى انتهى لأن جلس البويطي مكان شيخه وإمامه الشافعي، وأكلت الغيرة والحسد قلب محمد بن عبد الحكم حتى فارق مجلسهم، بل فارق مذهب الشافعي بالكلية، وعاد إلى مذهبه القديم - المالكي - ونال فيه مراده، وصار شيخ المالكية في زمانه، وصار شديدًا على الإمام الشافعي، حتى صنف كتابًا في الرد على الشافعي، على الرغم من أن الإمام الشافعي كان يحبه كثيرًا، حتى إنه قد كان يتمنى أن يولد له ولد مثل ابن عبد الحكم هذا، ولكنها الغيرة، ومنافسة الأقران، التي أدت لذلك كله.

توفي الشافعي رحمه الله سنة 204هـ، وجلس البويطي وتصدر وقد حان أوانه؛ فصار كبير الشافعية، وإليه المنتهى في فقه الإمام، وأقبل هو على العلم والعبادة، وإرشاد الناس ونصحهم، والناس تبع له، يحبونه ويجلونه، حتى قدر أتباع الشافعية في أيامه بعشرات الآلاف من أهل مصر.

في تلك الفترة أخذت بدعة القول بخلق القرآن في الظهور شيئًا فشيئًا على يد دعاة الاعتزال، حتى استطاعوا العبث بعقل الخليفة العباسي المأمون، وأقنعوه بتلك البدعة الشنيعة، وحملوه على امتحان الناس، وإجبار العلماء على ذلك، وذلك كما مر بنا الحديث أثناء محنة الإمام أحمد بن حنبل، فلما تولى الخلافة الواثق بن المعتصم العباسي سنه 227هـ كان من أشد الناس قولا بتلك البدعة، وقد استحوذ قاضي المحن كلها أحمد ابن أبي دؤاد على عقله وقلبه، فلم يقطع الواثق قولا، ولا يصدر رأيًا إلا بمشورة هذا الضال الهالك أحمد بن أبي دؤاد.

استغل أحمد بن أبي دؤاد طاعة الواثق العمياء له؛ فوضع خطة واسعة لنشر تلك البدعة الخبيثة في كل البلاد الإسلامية، وبالفعل شرع في تنفيذها، وأقنع الواثق بعزل كل القضاة والأئمة والولاة الذين لا يقولون بتلك البدعة، وجعل مكانهم قضاة وولاة وأئمة من المعتزلين، القائلين بخلق القرآن، وأصدر أوامره لمعلمي الصبيان في الكتاتيب والمدارس لأن يلقنوا الصبيان الصغار عقيدة الاعتزال، ووصل الأمر ذروته حتى امتحنوا أسرى المسلمين عند الروم: فمن قال بخلق القرآن افتدوه، ومن لم يقل تركوه في الأسر عند الكفار، وبالجملة غلت البلاد بتلك البدعة الخبيثة، وفارت بها أقاليم الخلافة كلها.

في ذلك الجو الخانق والمشحون بالبدع والضلالات ينشط الوشاة، وأصحاب النفوس المريضة من الحاسدين والحاقدين، وانتهز البعض الفرصة لتصفية الحسابات، والقضاء على الكفاءات، وكان قاضي المحنة أحمد بن أبي دؤاد يتتبع الأئمة والعلماء وكبار المشايخ، ويعمل جاهدًا على إسكاتهم بأية صورة كانت، وبالترغيب أو بالترهيب، كلٌ حسب صموده وصبره، فانتهز ذلك الأمر بعض الحاسدين للإمام البويطي: وهم أبو بكر الأصم قاضي مصر، وكان معتزليًا، ورجل آخر، وهو بكل أسف وحزن عبد الله بن الإمام الشافعي نفسه، وكان مخالفًا لسيرة أبيه تمامًا، وقام الرجلان بالكتابة إلى قاضي المحنة أحمد بن أبي دؤاد في شأن البويطي وعقيدته السلفية، ومعارضته للقول بالبدعة الشنيعة، وعظَّما جدًا من خطورة البويطي على البدعة وأهلها.

كتب ابن أبي دؤاد إلى والي مصر يأمره بامتحان الإمام البويطي، وكان الوالي حسن الرأي فيه، ويحبه لعلمه وورعه؛ فقال له: قل فيما ببني وبينك، أي طلب منه التظاهر بالموافقة فقط ليأمن غائلة الطاغية ابن أبي داود، فإذا بالإمام البويطي يضرب أروع الأمثلة في فهم مكانة الإمام، وطبيعة الدور الذي يؤديه في قيادة الأمة وقت النوازل، وأبى أن يترخص في الأمر، وعمل بالعزيمة كما فعل أخوه الإمام أحمد بن حنبل، وقال للوالي المشفق عليه: إنه يقتدي بن مائة ألف، لا يدرون أني أتظاهر فقط بالموافقة، وإن أجبت أجابوا هم أيضًا؛ فلما علما الطاغية ابن أبي دؤاد أمر بالقبض عليه، وحمله مقيدًا في الحديد الثقيل من الفسطاط إلى بغداد، وذلك سنة 230هـ.

ولنا أن نتخيل حجم المعاناة الشديدة، والمحنة الكبيرة التي كان فيها البويطي طوال الرحلة من الفسطاط إلى بغداد، وهو مقيد بسلسلة حديدية وزنها أربعون رطلا كما حكى لنا زميله وقرينه الربيع بن سليمان، في مشهد هو الأروع في تاريخ المحن، وصبر العلماء عليها.

قال الربيع: لقد رأيت الإمام البويطي على بغل في عنقه غل، وفي رجله قيد، وبينه وبين الغل سلسلة فيها لبنة وزنها أربعون رطلا، وهو يقول - أي البويطي -: إنما خلق الله الخلق بـ (كن)؛ فإذا كانت مخلوقة، فكأن مخلوقًا خلق بمخلوق، ولئن أدخلت عليه - يعني الخليفة الواثق - لأَصْدُقَنَّهُ: أي أقول الصدق، ولا أخاف منه، ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم.

ما أروع تلك الكلمات، والله إنها لتستحق أن تكتب بماء من ذهب، وحروف من نور في تاريخ علماء الأمة، ليتعلم منه العلماء والدعاة في كل زمان ومكان والصبر والثبات واليقين، والفداء والتضحية من اجل هذا الدين؛ فالبويطي رغم الإهانة العظيمة، والمحنة الشديدة أرسى العديد من المعالم الهامة، والعظات البالغة لعلماء الأمة أثناء المحن والنوازل منها:
1- جهره بالحق، وصدعه به رغم الآلام النفسية والبدنية الشديدة.
2- تعليمه للناس العقيدة الصحيحة، ودحض الباطل، حتى وهو في قمة المحنة في القيود والأغلال.
3- شجاعته وجرأته في الشدائد، وتمسكه بالصدع من القول حتى ولو كان أمام الخليفة الحاكم نفسه.
4- بذل نفسه وروحه لله عز وجل، والاستقبال لله عز وجل، وإصراره على الحق والثبات على الدين حتى الموت، ولو في السجون والأغلال.
5- حرصه على تعليم أجيال العلماء الآتية الفداء والتضحية من أجل الدين، حتى يعلموا كيف يواجهوا الشدائد والمحن.
فيالها من دروس وعظات كثيرة ضربها لنا ذلك الإمام الفذ.

وفاته:
حمل البويطي في القيود والأغلال من الفسطاط إلى بغداد، وكان طوال الرحلة الطويلة الشاقة يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر ويدحض البدع؛ مما جعل غيظ الطاغية ابن أبي داود يشتد عليه؛ فما كاد الإمام أن يصل إلى بغداد حتى أمر ابن أبي داود بإلقائه في غياهب السجون، والتشديد عليه، ولم يمتحنه كما فعل مع غيره من العلماء، ولم يدخله على الخليفة كما هي العادة مع كبار العلماء خوفًا من أن يقنع الواثق بالحق، ويرده عن البدعة.

ظل البويطي في ظلمات السجون عدة شهور كان فيها مثالا للعالم الرباني، سائرًا على درب يوسف عليه السلام، يعلّم المساجين أمور دينهم، ويناظر المبتدعة، وكان في كل يوم جمعة يتطهر ويأتي باب زنزانته ويطلب الخروج لأداء الجمعة، والسجان يردده فيقول: والله إنك تعلم أن المنع ليس مني، وظل دأبه هكذا فترة.

حاول ابن أبي دؤاد الضغط على الإمام البويطي حتى يكسر جموده وصبره، وحاول إرسال بعض المعتزلة لإقناعه فلم ينجح، وظل البويطي جبلا شامخًا، وطورًا عظيمًا أمام المحنة، عندها أمر الطاغية بتشديد الأغلال والقيود عليه حتى أنهم قد لفوه بالحديد من أعلاه إلى أدناه، واشتد الأمر على البويطي فلم يعد قادرا على الحركة إلا ببطء شديد، ومعاناة كبيرة، وأثر ذلك على نفسية الإمام، ذلك أنه لم يعد قادرًا على التطهر والوضوء والصلاة إلا بشق الأنفس، وعرف أعداؤه كيف ينالون منه، في أعز ما يملك: طاعته وعبادته لله عز وجل، وها هو الإمام البويطي يصف لنا حاله برسالة بعث بها للإمام الذهلي، وهو من كبار علماء الحديث في خراسان قال فيها: يا أبا يحيى قل لإخواني أصحاب الحديث، وطلبة العلم أن يدعو الله عز وجل أن يفك كربتي، فلقد كبلوني بالحديد حتى إني لم أعد أتطهر وأصلي كما ينبغي، عسى الله أن يفرج عني ما أنا فيه بدعائهم.

فلما قرأ الإمام الذهلي الرسالة على طلبة الحديث في حلقته بكى وبكوا جميعًا، وضجوا في الدعاء له.

سرعان ما استجاب الله عز وجل لهم، كأنا بأسباب السماء كانت مفتوحة وقتها، وخرجت دعوة المظلوم المكلوم لربها الذي سبق منه القول واليقين بإجابتها ولو بعد حين، نعم جاء الفرج للإمام البويطي من رب السماء، وأخرجه ربه عز وجل من السجن الكبير، أخرجه من سجن الدنيا التي لاقى من أهلها العنت والحسد والوشاية، أخرجه إلى الأفق الرحب، والسعادة السرمدية والراحة الأبدية، أخرجه إلى جنات تجري من تحتها الأنهار، فيما نحتسبه عند الله عز وجل، مات الإمام البويطي في سجنه وقيوده وحديده، وخرجت روحه الطاهرة إلى ربها تشتكي ظلم الطغاة والوشاة؛ وذلك سنة 231هـ، وقد انتصر على خصومه فما نالوا إلا من دنياه، أما من آخرته فما نالوا إلا ما سيلاقونه غدًا من حسرة وندامة بين يدي الله عز وجل عندما يسألهم بأي ذنب سجنتموه وقتلتموه، والله عز وجل أعلم بالعواقب والخواتيم.

المصادر والمراجع:
1- سير أعلام النبلاء: (12/ 58).
2- تاريخ بغداد: (14/ 299).
3- وفيات الأعيان: (7/ 61).
4- البداية والنهاية: (10/ 333).
5- الكامل في التاريخ: (6/ 89).
6- العبر: (1/ 411).
7- طبقات الشافعية: (2/ 162).

8- النجوم الزاهرة: (2/ 260).
9- شذرات الذهب: (2/ 71).
10- المنتظم: (11/ 174).


ترويض المحن: دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430هـ، 2009م






تصنيف المباني الطبية بحسب الملكية

$
0
0
تصنيف المباني الطبية بحسب الملكية


عبدالوهاب مصطفى ضاهر




أولاً: البيمارستانات ذات الملكية العامة:
وتعود ملكيتها إلى الدولة، ومثالها لمَّا عمل المستنصر بالله أبو جعفر منصور بن الظاهر بأمر الله بيمارستاناً في مكة بالجانب الشمالي من المسجد الحرام في عام 627ھ/1229م وبنى دوراً للضيافة وأماكن عامة لعلاج المرضى، وهي بمثابة بيمارستانات عامة. وعرف من أهم أعماله بناء بيمارستان خاص بالمدرسة المستنصرية، وزوده بما يلزم من شيوخ أطباء وعلاج، ويعرف بالبيمارستان المستنصري نسبة له، وأوقف عليه الوقوف وتاريخ وقفه 638هـ/1240م.

ثانياً: البيمارستانات الخاصة:
فقد كان بعض كبار الأطباء يجعل له مجلسًا عامًا في منزله أو في المدارس الخاصة لتدريس الأطباء الجدد، أصول مهنة الطب بالطريقة السليمة، ليتمكنوا من القيام بعملهم[1]. وعُرف عن دينار المعزي البدري أن جعل مسكنه لعلاج المرضى مجاناً وإعداد الأطعمة والأغذية والدواء لهم[2]

المطلب الرابع: تصنيف المباني الطبية (البيمارستانات) بحسب الإقامة والسفر:

ومن هذه البيمارستانات:
أولاً: بيمارستاناتالسجون:
اهتم الخلفاء والمسئولون المسلمون بالرعاية الطبية للمساجين، خصوصاً في أيام الخليفة العباسي المقتدر بالله، الذي تولى الحكم 296-320هـ/908-932م حيث كتب الخليفة إلى وزيره سنان بن ثابت رئيس الأطباء ومدير المعاهد الطبية والمؤسسات الصحية بضرورة الاهتمام بالمساجين وتخصيص بيمارستانات خاصة بهم فيقول: "ينبغي أن تفرد لمن في السجون أطباء يدخلون إليهم في كل يوم وتحمل إليهم الأدوية والأشربة، ويطوفون في سائر السجون يعالجون فيها المرضى[3]، ويزيحون عللهم بما يحتاجون إليه من أدوية وأشربة"[4]، وتحدث ابن أبي أصيبعة بأن الدولة العباسية أفردت بيمارستانات خاصة سميت بيمارستانات المساجين، ومهمة ثابت بن سنان زيارة بيمارستانات السجون ومتابعة نزلائها[5]، يقول ابن أبي أصيبعة: "وقال ثابت بن سنان: أذكر قد وقعَّ الوزير على بن عيسى من الجراح إلى والدي سنان بن ثابت في أيام تقلده الدواوين من قبل الخليفة المقتدر في حقبة كثرت فيها الأمراض جداً، وكان والدي آنذاك يتقلد بيمارستانات بغداد وغيرها توقيعاً يقول فيه: فكرت مد الله في عمرك في أمر من في الحبوس[6]، وأنه لا يخلو مع كثرة عددهم، وجفاء أماكنهم أن تنالهم الأمراض وهم معوقون عن التصرف في منافعهم أو لقاء من يشاورهم من الأطباء فيما يعرض لهم[7]، ففعل والدي ذلك طول أيامه[8]، هكذا كانت بيمارستانات المساجين عند المسلمين توضح مدى اهتمام الخلفاء والوزراء بهم، بعكس ما كان في أوروبا، حيث لم يظهر أي إصلاح في الغرب للمساجين إلا في نهاية القرن الثاني عشر الهجري الثامن عشر الميلادي".

ثانياً: بيمارستاناتالغرباء:
ظهرت مثل هذه البيمارستانات في بلاد الشام، وكانت تبنى فقط للمرضى الغرباء عن البلاد، ويوقف عليها الأوقاف الكبيرة، والأطباء والأدوية، وكان سبب بناء مثل هذه البيمارستانات عندما جاء رجل من الضعفاء إلى أبي يعقوب أحد أمراء دمشق، وعرض عليه النزول عنده ففعل ذلك، مما حذا أبا يعقوب بالطلب من نور الدين محمود بناء بيمارستان خاص للغرباء المرضى، ففعل ذلك نور الدين محمود أمير دمشق، وأمر ببناء بيمارستان خاص بهم، وأوقف عليه الأوقاف وبنى الزوايا والطرق، ويقول ابن بطوطة أنه زار دمشق وشاهد البيمارستان المعروف باسمه، فوصفه بأنه ليس في المعمورة مثله، كذلك اهتم العباسيون بإنشاء البيمارستانات التي يقيم بها المطروحون والمغتربون من الناس والمعترضون.



[1] د.عبد الناصر كعدان ود. محمد يحيى صباغ، البيمارستانات في الإسلام (النوري والأرغوني)، 84.


[2] السخاوي، التحفة اللطيفة، 1/334.

[3] القفطي، تاريخ الحكماء، 132.

[4] ابن أبي أصيبعة، عيون، 301.

[5] القفطي، تاريخ الحكماء، 133، ابن أبي أصيبعة، عيون، 301.

[6] الحبوس: تعني السجون. ابن أبي أصيبعة عيون، 301.

[7] ابن أبي أصيبعة عيون، 321.

[8] ابن أبي أصيبعة، عيون، 301.







Viewing all 1343 articles
Browse latest View live