الفضائيات الإسلامية (سلبيات وتوجيهات)(3)
د. محمد يسري إبراهيم
القسم الثالث
ملحوظات شرعية
هذا القسم من الملحوظات آثَرنا تَأخيرَه؛ لئلاَّ يظن أنَّ النقد إنما يَقتَصِر على جوانب الأحكام والمُخالَفات الشرعيَّة، ولئلاَّ يُعتَقد أنَّ المراد المُصادَرة على اختِيارات الإعلام الإسلامي الفَضائي، وليس المقصود أيضًا فرضَ وصايةٍ على أحدٍ؛ وإنما المراد دعْم هذه الوسيلة من وسائل التأثير العام بما يُناسِب من الأحكام؛ ممَّا يضمن تحريرَها من المخالفات، وإطلاقها من قُيُود المعوِّقات، وذلك في إطار التعبُّد لله - سبحانه وتعالى - بالمقاصد والوسائل معًا؛ إذ الوسائل لها أحكامُ المقاصد غالبًا.
وبشكلٍ عام، فإنَّ المرجعيَّة الفقهيَّة والشرعيَّة للإعلام أمرٌ لا بُدَّ منه، ولا غنى عنه، ولا تَزال هذه المرجعيَّة لم تنضَبِط بعدُ أو تكتَمِل، ولم يَتسامَع الناس بعدُ بمؤتمراتِ وأوراقِ بحثٍ وعملٍ تدورُ حول فقه الإعلام في الإسلام، أو الأحكام الشرعيَّة لوسائل الإعلام العصريَّة، ولعلَّها فرصةٌ مواتية لدعوة هذه القنوات الفضائيَّة الإسلاميَّة لتبنِّي عَقْدِ مؤتمرٍ دولي لبحْث قَضايا ومسائل في فقْه الإعلام الإسلامي المُعاصِر.
وغنيٌّ عن القول أنَّ ما سيَرِدُ في هذه الملحوظات إنما هو نوعٌ من النُّصح الواجب، والنقد البنَّاء، والذي يُراد منه تسديد التجرِبة، وتكثير خيرها، ودرْء المفاسد والشُّرور عنها ومنها، وعليه؛ فلا حاجة لتسمية قَناةٍ بعينها؛ لأنَّ المقصود هو التذكير، لا التشهير، والتنبيه اللطيف، لا الزجر والتعنيف؛ قال - تعالى -: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 55]، والله - تعالى - المستعان، وعليه التُّكلان.
1- تضارُب الفتيا وتعارُض التوجيه:
الشريعة المطهَّرة إنما شرعت لإخْراج المكلَّف من داعية هَواه، إلى طاعَةِ ربِّه ومَوْلاه، فإذا كانت هذه الوسائل الإعلاميَّة الفضائيَّة ستُعِين على هذا المقصد فالحمد لله، وإنْ كانت ستُفضِي بالمكلَّف إلى البَلبَلة والحيرة فلا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله.
وبالجملة: فإنَّه ليس لأحدٍ أنْ يُملِي اختيارَه الفقهي على قناةٍ بعينها، أو أنْ يُلزِم الجميعَ بحكمٍ اجتهادي بِخُصوصه؛ لكنَّه في الوقت ذاته لا يحقُّ لقناةٍ فضائيَّة أنْ تجعل خياراتها ثوابت مُلزِمة للجميع، وتُصادِر خِيارات غيرها، وتجعَل من برامجها مِنبرًا لإلغاء خِيارات الآخَرين، أو التهجُّم على مواقفهم الشرعيَّة، أو السُّخرية والازدِراء لهم، أو اتِّهام الأعمال أو النيَّات بغير بُرهان.
وبرامج الفُتيا المباشِرة والتَّوجِيه التفاعُلي الحي من أخطَرِ البرامج التي تُقدِّمها تلك الفضائيَّات الدينيَّة، وهي برامج تتميَّز بسُرعة إيصال السؤال والجواب، وتُوافِق طبيعة العجَلَة في الإنسان، وتستَجِيب لها ﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً ﴾ [الإسراء: 11]، ومكَّنت من اختيار المفتي، وسُهولة التواصل معه، وبالمجَّان.
وهي مع هذه الإيجابيَّات الكثيرة، تجمَعُ سلبيَّات عديدة أيضًا؛ منها: كثرة الخطأ وتَعاظُمه، وصُعوبة تَدارُكه إن وقع، وقد طارَت الفتيا كلَّ مطير، وزلَّةُ العالِم يضلُّ بها العالَم، وأسباب الخطأ لا تنحَصِر في قلَّة علْم المفتي أو عدم إحاطته بواقع المستفتي، أو سُوء فهْم السؤال، أو تعدُّد المحاذير الأمنيَّة أو الاجتماعيَّة، أو السياسيَّة، أو ربما كانت العجلة والرَّغبة في إجابة أكبر عددٍ سببًا في الخطأ.
ومن سلبيَّاتها كذلك تعميمُ الفُتيا، فإنَّ الفُتيا قبل الفعل تختلف عنها بعد الفعل، وما عمَّت به البَلوَى في بلدٍ لم تعمَّ به في غيره، والذرائع كما يجبُ سدُّها، فقد يجبُ فتحُها، والأحكام المَنُوطة بالأعراف والعادات تتغيَّر بتغيُّرها، واختلاف المقاصد يُورِث اختلاف الأحكام، واختلاف الدِّيار له مدخلٌ في تغيُّر الفتيا.
وعن هذا كلِّه يَنشَأ تَضارُب في الفُتيا بين مُفتٍ وآخَر؛ ممَّا يُشتِّت المستفتِين ويحيرهم، ويُضعِف ثقتهم بأهل العلم، ويُوغِر الصدور، ويفتح باب التشهِّي واتِّباع الهوى عند ضِعاف الإيمان، ويحيل خِلاف التضاد إلى تنوُّع، ويروِّج معه أنَّ الخِلاف كله سائغٌ مقبول.
فإذا أُضِيفَ لما سبَق استِضافة مَن يُعرَف بتَساهُله ليُجِيب، أو اشتهر بمنحنى غير مرضيٍّ ليُفتِي، أو قدم على غير أساسٍ من الكفاية أو الدِّراية، فقد كمُلت البليَّة وعظُمت الرزيَّة، وتحقَّق ما حذَّر منه خيرُ البريَّة - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: ((... اتَّخَذَ الناسُ رؤوسًا جُهَّالاً، فسُئِلوا فأفتَوْا بغير علمٍ، فضلُّوا وأضلُّوا))[1].
ولا شكَّ أنَّ تصدُّر غير المتأهِّلين للكَلام في أمر العامَّة اليومَ، هو باب شرٍّ مستطير، ليس من سبيلٍ إلى غَلقه إلا بتصدِّي المتأهِّلين، والأخْذ على أيدي المتجرِّئين، والحجر على المُفتِين المُتَماجنين.
فعلى أرباب الفضائيَّات أنْ يتصدوا لهذه المُعضِلة؛ بتحديد نِطاق الفُتيا المباشرة، ونِطاق المفتي القاصر على بابٍ من أبواب الفُتيا، ولو كان لكلِّ قناة مجلسٌ أو لجنة شرعيَّة للإفتاء من شأنها أنْ ترشح المفتين، وتحدِّد التخصُّصات، وتراقب الأداء - لكان خيرًا.
2- التسبُّب في هبوط سقف التديُّن لدى البعض:
إنَّ هبوط مستوى التديُّن في نُفوس البعض إنما هو نتيجةٌ مباشرةٌ لما سبق بيانُه، مع أنَّه لا امتِراء في أنَّ الفضائيَّات الإسلاميَّة على تنوُّع ما تُقدِّمه، وتفاوُت ما تطرَحُه - قد أثَّرت في عامَّة المسلمين تأثيرًا إيجابيًّا؛ حيث نقَلتْ طائفةً من المعصية إلى الطاعة، وأخرى من البِدعة إلى السنَّة، وثالثة من السلبيَّة إلى الإيجابيَّة، وإنَّ شرائح نوعيَّة قد وصَلتْ إليهم الفضائيَّات الدينيَّة، ما كان يتصوَّر يومًا أنْ تسمع الخطاب الإسلامي، أو أنْ يَصِلَ إليها صوتُ الدُّعاة إلى الله - تعالى.
فكانت النتيجة الطبيعيَّة المبارَكة ارتفاع سَقْف التديُّن لدى العامَّة، ومستوى الوعي العام لدى الأمَّة، إلا أنَّ أمرًا عجيبًا غريبًا قد وقع، وهذا الأمر لا يذهَلُ عنه اللبيب الأريب الذي يُتابِع بعينٍ فاحصة، ويسبر الأمور برؤيةٍ ناقدة، فلقد تعرَّضت فئةٌ من المتدينين والمحافظين وأسرهم وبُيوتاتهم لهزَّة عنيفة بسبب دُخول هذه الفضائيَّات إليها؛ ففي مجتمعاتٍ استقرَّت الأحكام فيها، وانتهت الاختيارات الفقهيَّة لدى عُلَمائها المعتَبَرين لاجتهادات معتمدة، جاءت فضائيَّاتٌ من بلادٍ وثقافات عربيَّة وإسلاميَّة أخرى لتُعِيد فتح ملفَّات كثيرة، تُؤثِّر أحيانًا في استِقرار أوضاعٍ كثيرة.
فهذه امرأةٌ بِحُكم ما تعلَّمت من عُلَماء بلدها، وتعوَّدت في بيئة مجتمعها - تُغطِّي وجهها تدينًا، وتترك الاختلاط بالرجال في الأعمال، وتَتحاشَى كثيرًا من الصلات والعلاقات والنشاطات التي قد لا تُناسِب طبيعتها ظروف مجتمعها، وهذا قبل ذلك من تمام عفَّتها وحِشمتها وحَيائها، مثل هذه حين انفتحت على فضائيَّات دينيَّة يدعو بعض الأساتذة فيها المرأة إلى ممارسة الفن! وينادون صراحةً بعودة الفنَّانات المعتزلات لِمُمارَسة التمثيل من جديدٍ، وأنَّ في ذلك خدمةً جليلةً للمجتمع! كيف يكون وقْع هذا عليها وعلى مَثِيلاتها؟! إنَّ هذه الدعوة بذاتها دعوةٌ لكشف وجهها، والعمل المختلط مع الرجال، وامتهان التمثيل، مع ما يستَتْبعه هذا من لَوازِم أخرى، من أهوَنِها قيادةُ المرأة للسيارة!
وفي مجتمعات حرصتْ على السنَّة وحماية جَناب التوحيد، وحذَّرت من أصناف البِدَع المختلفة، غدت أطباقها الفضائية تتلقَّى رسائل تدخُل إلى البيوت تدعو إلى خُرافات صوفيَّة، وبدع رافضيَّة، وشعوذات وأعمال سحريَّة، وأنكى من هذا دَعوات إلى دِين القاديانيَّة والأحمديَّة.
وفي مجتمعاتٍ استقرَّت الفُتيا فيها وانضبطَتْ، تأتي فتاوى تائهةٌ من هنا أو من هنالك، لا تُراعِي خُصوصيَّات الزمان أو المكان أو الإنسان، فتُبِيح ربا المصارف تارةً، وأنواعًا من البيوع الفاسدة تارةً، وتُزَعزِع كثيرًا من ثَوابِت الإيمان والأحكام تارةً أخرى.
وهذا كله يُؤثِّر سلبًا على بُيوتاتٍ كريمةٍ، وأُسَر مستقيمة، عاشت بُرهَةً من زَمانها تتلقَّى بصورةٍ منهجيَّة نقيَّة، وتترقَّى بطريقةٍ تربويَّة زكيَّة.
ولا شكَّ أنَّ اعتمادًا غير مُرشَّد، وانفتاحًا غير منضبطٍ على هذه الفضائيَّات الدينيَّة متعدِّدة المشارب - يمكن أنْ يُحدِث هذه الشُّروخات في جِدار الأسرة الواحدة، فَضْلاً عن المجتمَعات المتعدِّدة، وهذا يحمل على الانتقائيَّة في الاستِفادة من تلك الفضائيَّات، والحذَر من المشوب منها بشوائب المُخالَفات.
كما يُؤكِّد على أربابها أنْ يَحرِصوا على جمْع الكلمة، ووحْدة الصفِّ، ونُصرة الحقِّ، بدلاً من تضييعه في حوارات قد يستَعلِي فيها بالباطل بعضُ المبطلين، أو فتاوى شاذَّة يقول بها بعض المتصدِّرين غير المتأهِّلين.
3- تفاقُم فتنة النساء:
((النِّساءُ شَقائقُ الرِّجالِ))[2]، وهنَّ نصف المجتمع، ويَلِدن النصفَ الآخَر، ومع هذا فقد قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما تركتُ بعدي فتنةً أضرَّ على الرجال من النِّساءِ))[3]، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - أيضًا: ((إنَّ الدُّنيا حلوةٌ خَضِرَةٌ، وإنَّ الله مُستَخلِفُكم فيها فيَنظُر كيف تعمَلُون، فاتَّقوا الدُّنيا واتَّقوا فتنةَ النساء، فإنَّ أوَّل فتنةِ بني إسرائيل كانت في النِّساء))[4].
وإذا كان الواقع يقتَضِي أنْ يكون للمَرأة دورٌ ما في الرسالة الإعلاميَّة، فإنَّ ممَّا يجبُ أن يُقرَّر عند الحديث عن دور المرأة في الإعلام الإسلامي أنَّ القناة لا تستحقُّ وصف "إسلامية" حتى تخلو من تبرُّج النساء.
ثم إنَّ الباب مفتوحٌ لدِراسةٍ شرعيَّة جادَّة عن الحدود الإعلاميَّة لِمُشارَكة المرأة المُسلِمة، ومبدئيًّا فإنَّ فتح الباب لِمُشارَكة غير المحجَّبة والمتبرِّجة التي تُثِير الفتنة، يَجعَلُ من العمل الإعلامي مصيدةً لذباب المُشاهِدين، لا طريقًا لخِدمة الدِّين، وليس من مَعايير نَجاح القناة الإسلاميَّة مجرَّد جذْب متابعين أو مشاهدين.
ويستَوِي في الحُرمة والمنع كونهنَّ مُذِيعات، أو ضَيفات في حَلقات حواريَّة، أو في لِقاءات ميدانيَّة أو جماهيريَّة.
ولا يُستَثنى من المنْع خُروجهنَّ مُغطِّيات للشعر - مجازًا - متجمِّلات بعدَ ذلك بأكمل الزينة في الوجه، مُرتَدِيات لما يُظهِر مفاتن الأجساد من الملابس الضيِّقة حِينًا، والشفَّافة حينًا آخَر.
وأنكَى ممَّا سبَق ما تُنظِّمه بعضُ القنوات من بَرامِج لعرض أزياء المحجبات المتبرِّجات، تُعرَض فيها المفاتن بصورةٍ تُحاكِي عُروضَ الأزياء الغربيَّة.
وهنا يُورِد بعضُهم شبهةً خُلاصَتُها: لا حرَج في رؤية المرأة في التلفاز؛ قِياسًا على ما أجازَه بعضُ الفُقَهاء من رؤية المرأة في المرآة من غير إثم؛ بجامع أنَّه لم يَنظُر حقيقةً إلى المرأة، وإنما إلى المرآة!
والجواب عن هذا الذي ينقله بعض مَن يدَّعي عِنايةً بمقاصد الشريعة يبدَأُ من ذِكر المقاصد؛ ذلك أنَّ الشارع حين منَع الرجل من النَّظَر إلى مَفاتِن المرأة، كان ذلك لِمَقصِد حفْظ الدِّين والعِرض والنَّسل، وما يترتَّب على هذا النَّظَر من اتِّباع خُطوات الشيطان لا يُمارِي فيه إنسان، ثم ما يَتضمَّنه حضورُ تلك المرأة إلى الأستوديو، ومخالطتها للرجال فيه ونحوه، هل ممَّا يُبِيحه أحد؟! وما الفرق عندئذٍ بين هذا النَّظَر إليها وهي مُتبرِّجة أو عارية ما دامَ ذلك في التلفاز؟! أوَليس خُروجُها في التمثيل أو عملٍ فني زائدًا على مجرَّد رؤية صورتها؛ ممَّا يجعل القياس مع الفارق؟ وهو قياسٌ فاسدٌ كاسدٌ؛ قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النور: 19].
4- تلميع بعض مَن لا خَلاقَ له:
وربما وقَع هذا خِلال برنامجٍ حواري يُبَجَّل فيه الرجلُ التافِه، ويُقدَّم على أنَّه شخصٌ محترَم في رأيه وفِكره، وربما يُستَدعى ليُناظِر مَن يُخالِفه، ولكن مع كامل التوقير والتبجيل، وهذا قد يكونُ ممَّا تنبَّأ به نبيُّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - في قوله: ((سيَأتِي على الناس سَنوات خَدَّاعات، يُصدَّق فيها الكاذبُ، ويُكذَّب فيها الصادقُ، ويُؤتَمن فيها الخائنُ، ويُخَوَّن فيها الأمينُ، وينطق فيها الرُّوَيْبِضةُ))، قيل: وما الرُّوَيْبِضةُ؟ قال: ((الرَّجل التافِه يتكلَّم في أمر العامَّة))[5].
والأصل في أهْل البِدَع، ورؤوس أهل الأهواء، ومُحتَرِفي الفِسق من مُروِّجي الشُّبهات والشَّهوات: ألاَّ يُعظَّموا أو يُقدَّموا، وقد جاء في الحديث النهيُ عن قول: "سيدي" للمنافق[6].
قال الشاطبي: "إنَّ توقير صاحب البدعة مَظِنَّةٌ لِمَفسدتَيْن تَعُودان على الإسلام بالهدم:
إحداهما: التِفاتُ الجُهَّال والعامَّة إلى ذلك التوقير، فيعتَقِدون في المبتدع أنَّه أفضَلُ الناس، وأنَّ ما هو عليه خيرٌ ممَّا عليه غيرُه، فيُؤدِّي ذلك إلى اتِّباعه على بِدعته، دون اتِّباع أهل السُّنَّة على سنَّتهم.
والثانية: أنَّه إذا وُقِّرَ من أجل بِدعةٍ، صار ذلك كالحادي والمُحرِّض له على إنشاء الابتِداع في كلِّ شيء... فتَحيَا البدع، وتموت السُّنَن، وهو هدْم الإسلام بعينه"[7].
فلا يصحُّ تلميعُ أمثال هؤلاء، وإنما إذا جِيءَ بهم لمناظرة تظهر عوارهم، وتكشف باطلهم، فلا بأس، مع الضوابط المقرَّرة لمناظرة أهل الأهواء والبدع[8].
5- مخالفات الأناشيد والمعازف:
لا حرج في إنشاد الشعر والانتِفاع به في الدعوة إلى الخير، ولا مانع من تنوُّع أغراضه وألوانه الجائزة؛ فقد سمعه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - واستَنطَق به بعض شُعَرائه، لكن ما يصحب هذا الإنشاد في بعض القنوات من الآلات الموسيقيَّة أمرٌ فيه من الحرج الشرعي ما فيه، فإذا انضافَ إلى ذلك أنَّه بصوت فتياتٍ يرتَدِين أحسن الثياب، وقد راهَقن البلوغ، ومن غير حِجابٍ شرعي، فقد عظُمت الفتنة.
وبعض هذه الفضائيَّات تعرض لقطات تجمَعُ بين رجال ونساء في أثناء عرض تلك الأناشيد، وفي محاولة لخلط الأوراق والألوان صار يخرج بعض مَن يُغنِّي الغِناءَ المُحرَّم لينشد، ثم تنقل لقطات من أغانيهم الهابطة لتُطعَّم بها تلك الأناشيد التي قِيل عنها: إسلاميَّة.
وبعض كلمات تلك الأناشيد قد يحتَوِي على شيءٍ من الإرث الصوفي؛ كغلوٍّ في النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - واستغاثةٍ ببعض المخلوقين، ووقوعٍ في شيءٍ من الكلام الذي لا يجوز[9].
ويتعلَّل بعض الإعلاميين لاعتمادهم على الموسيقا بأنها من ضَرُورات العمل الإعلامي المعاصر، والواقع يشهَدُ بنجاح قنوات إسلاميَّة لا تعتمد الموسيقا، ومن هؤلاء مَن يعتمد على فتاوى بالكراهة دون التحريم، وهي تصطَدِم بالنصوص الشرعيَّة الصحيحة الصريحة، فلا تحتَمِل تأويلاً، ولا تقبل تحريفًا.
ولا شكَّ أنَّ اقتِحام القنوات الإسلاميَّة لذلك المحذور من شأنه أنْ يُجرِّئ الناسَ على التهاوُن بأمر الموسيقا والغِناء، وأنْ يَفتَح بابًا إلى الذي لا اختلافَ على حُرمته من ذلك.
علاوةً على انصِراف عددٍ كبيرٍ من الإسلاميين عن الاستفادة من تلك القنوات التي تَبُثُّ تلك المقاطع الموسيقيَّة في المقدِّمات والخواتيم، ورفْع اسم "إسلامي" عن تلك القنوات[10].
وتبقى البدائل الإعلاميَّة للموسيقا من مزج الأصوات بالحاسب الآلي محلَّ بحثٍ ودراسة؛ حيث تعتَمِدها بعض القنَوات، وهي تقتَرِب في بعض أصواتها ممَّا يصدر عن الآلات، وعلى كلِّ حال، فإنَّ بعض الشرِّ أهوَنُ من بعضه.
[1] أخرجه البخاري (100)، ومسلم (2673).
[2] أخرجه أبو داود (236)، والترمذي (113)، وأحمد (6/256)، وحسَّنة الألباني في "الصحيحة" (2863).
[3] أخرجه البخاري (5096) ومسلم (2741).
[4] أخرجه مسلم (2742).
[5] أخرجه ابن ماجه (4036)، وأحمد (2/291، 338)، وحسَّنه الألباني في "الصحيحة" (2887).
[6] أخرجه أبو داود (4977) وأحمد في "المسند" ( 6/346).
[7] "الاعتصام"؛ للشاطبي (1/80).
[8] راجع: "المبتدعة وموقف أهل السنة والجماعة منهم"؛ د. محمد يسري (ص 175- 190).
[9] "لكي لا يتكرَّر الخطأ، رسالة إلى الفضائيات الإسلامية"؛ فهد بن عبدالله الحزمي، (ص19-20).
[10] "الفضائيات الإسلامية: صعوبات وتحديات"؛ د. وائل الحساوي، بحث في مؤتمر كلية الشريعة بالكويت 1428هـ (ص8-9).