هل قدرنا الله حق قدره؟
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد، فيا أيها الإخوة!
من تأمل النصوص الدالة على عظمة الله وكبريائه ومجده وجلاله وخضوع المخلوقات بأسرها لعزه كما أوضح ذلك القرآن وأوضحته سنة النبي عليه الصلاة والسلام فإنه لا يملك إلا أن يذل ذلّاً حقيقياً ويخضع خضوعاً نهائيًا للذي له هذه النعوت العظيمة، والأوصاف الكاملة الجليلة، وإن ذلك لمن أكبر الأدلة والبراهين على أنه المعبود بحق وحده، المحمود بحق وحده الذي يجب أن يبذل له غاية الذل والتعظيم وغاية الحب والتأله، وأنه -عز وجل- الحق وما سواه باطل، وهذه هي حقيقة التوحيد ولبه وروحه، وسر الإخلاص وفحواه [1].
ومن هذه الآيات ما قال الله تعالى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسموات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزمر: 67].
فالله -عز وجل- -أيها الإخوة- هو الذي خلق كل شيء، هو الخالق لكل ما في الكون من سمائه إلى أرضه ومن عرشه إلى فرشه وهو المالك لكل شيء لا يخرج أبداً شيء منها عن ملكه وهو المتصرف في كل شيء لا يخرج شيء أبداً عن إرادته وأمره.
وما أحسن ما قال صاحب الظلال هنا تحت هذه الآية قال: هذه الآية تعرض: «لحقيقة التوحيد من جانب وحدانية الخالق الذي خلق كل شيء، المالك المتصرف في كل شيء. فما أحسن هؤلاء -المشركون - ولا أجملوا حين دَعوا النبي رضي الله عنه للإشراك بالله، وما عبدوه حق عبادته إذ أشركوا به، والله هو خالق كل شيء، وهو المتصرف في ملكوت السموات والأرض بلا شريك، فأنى يعبد معه غيره، وله وحده مقاليد السموات والأرض؟!
نعم ما قدروا الله حق قدره، وهم يشركون به بعض خلقه. وهم لا يعبدونه حق عبادته. وهم لا يدركون وحدانيته وعظمته، وهم لا يستشعرون جلاله وقوته.
وأظهر الاسم الأعظم في أحسن مواطنه فقال: (الله) الملك الأعظم (حق قدره) أي ما عظموه كما يجب له فإنه لو استغرق الزمان في عبادته وخالص طاعته بحيث لم يخل شيء منه عنها لما كان ذلك حق قدره فكيف إذا خلا بعضه عنها فكيف إذا عُدل به غيره؟!
ثم كشف لهم عن جانب من عظمته سبحانه وقوته ﴿ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ وقدَّمها لمباشرتهم لها ومعرفتهم بحقيقتها. ولما كان ما يدركونه منها من السِّعة والكبر كافيا في العظمة وإن لم يدركوا أنها سبع، أكد بما يصلح لجميع طبقاتها تنبيها للبصراء على أنها سبع من غير تصريح فقال: ﴿ جَمِيعًا ﴾. ولما كان العالم العلوي أشرف، ولما كانوا يعلمون أن السموات سبع متطابقة بما يشاهدون من سير النجوم، جمع ليكون مع ﴿ جَمِيعًا ﴾ كالتصريح في جميع الأرض أيضا في قوله: ﴿ وَالسموات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ﴾ فالذي يجعل الأرض بكل طبقاتها وأجزائها في قبضته، والسموات يطويها بيمينه فالسموات والأرض جميعا في يده، ويقول أنا الملك أين الملوك. فصاحب هذه القدرة العظمى كيف يُعْبَد معه آلهة أخرى هي أصنام وتماثيل وأوثان؟!!
لذا نزَّه تعالى نفسه بقوله: ﴿ سُبْحَانَهُ ﴾ أي تنزَّه وتقدس عن الشريك والنظير والصاحبة والولد، ترفع عن أن يكون له شريك وهو رب كل شيء ومليكه“[2].
روى البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: «جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله رضي الله عنه فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع. فيقول: أنا الملك. فضحك النبي رضي الله عنه حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر. ثم قرأ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » [3].
وفي رواية لمسلم: «والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا المالك، أنا الله».
وفي رواية للبخاري: «يجعل السموات على إصبع والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع».
ولمسلم عن ابن عمر مرفوعاً: «يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون، أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع، ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟» [4].
فهذا الحديث- أيها الإخوة- دليل على عظمة الله وكماله وكبريائه وعظيم قدرته وعظم مخلوقاته وإذا كان سبحانه بهذه العظمة فكيف يشرك أحد معه في عبوديته غيره؟!
فهو يدل على عظمة الله تعالى حيث يضع السموات كلها على إصبع، إنه -عز وجل- يحمل هذه المخلوقات، فمع عظم هذه المخلوقات، السموات والأرض فإنه سبحانه يأخذها بيده ويهزها ويقول: «أنا الملك أنا الجبار» أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ أين ملوك الأرض؟ وتلا النبي رضي الله عنه الآية تصديقًا لقول الحبر.
قال سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله-: وفي هذا إثبات الصفات لله، وأنه سبحانه له يمين وشمال، وأن كلتا يديه يمين كما في الحديث الآخر؛ وسمَّى أحدهما يمينًا والآخر شمالا من حيث الاسم، ولكن من حيث المعنى والشرف كلتاهما يمين -سبحانه وتعالى-، وليس في شيء منهما نقص“[5].
وهنا يجدر بنا أن نستعيد ما كنا أصلناه فى الحديث عن صفات الله تعالى فى خطبة الحياة المثلى مع أسماء الله وصفاته الحسنى فنقول:
الواجب علينا - أيها الإخوة - الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وإمرارها كما جاءت واعتقاد أنها حق كما أخبر الله -عز وجل- وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم التكييف والتمثيل لأن الله -عز وجل- أخبرنا بأسمائه وصفاته وأفعاله ولم يبين كيفيتها فنصدق الخبر ونؤمن به ونكل الكيفية إلى الله -عز وجل- فصفات ذاته تعالى من الحياة والعلم والسمع والبصر والقدرة والإرادة وغيرها وكذلك صفات أفعاله من الاستواء على العرش والنزول إلى سماء الدنيا والمجيء لفصل القضاء بين عباده وغير ذلك كلها حق على حقيقتها وعلى حقيقتها علمنا اتصافه تعالى بها بما علمنا في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وغاب عن جميع المخلوقين كيفيتها ولم يحيطوا بها علما كما قالت أم سلمة رضي الله عنها وربيعة الرأي ومالك بن أنس وغيرهم رحمهم الله تعالى الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التصديق والتسليم وكذلك القول في جميع صفاته -عز وجل- وإنا والله لكالون حائرون في كيفية سراية الدم في أعضائنا وجريان الطعام والشراب فينا وكيف يدبر الله تعالى قوت كل عضو فيه بحسب حاجته وفي استقرار الروح التي هي بين جنبينا وكيف يتوفاها الله في منامها وتعرج إلى حيث شاء الله -عز وجل- ويردها إذا شاء وكيفية إقعاد الميت في القبر وعذابه ونعيمه وكيفية قيام الأموات من القبور حفاة عراة غرلا وكيفية الملائكة وعظم خلقهم فكيف العرش الذي لا يقدر قدره إلا الله -عز وجل- كل ذلك نجهل كيفيته ونحن مؤمنون به كما أخبرنا الله -عز وجل- عنه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام وإيماناً بالغيب وإن لم نعلم الكيفية فكيف بالخالق -عز وجل- وأسمائه الحسنى وصفاته العلى ولله المثل الأعلى في السموات والأرض وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون آمنا به كل من عند ربنا ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين.
اللهم إنا أسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون، أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع، ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟
هذا هو ربنا جلا جلاله الذي يعرف به فيقول: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السموات وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ * لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 255، 256].
ويقول -عز وجل- عنه: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السموات وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الحشر: 22 - 24]
ويقول -عز وجل- عنه: "بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾.
آيات تتحدث عن ربها سبحانه وتظهر عظمته وكبريائه ومن سمعها وتدبرها امتلأ قلبه يقيناً في عظمة الله تعالى اسمع ماذا يقول ربنا عن نفسه: ﴿ اللَّهُ نُورُ السموات وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ﴾ [النور: 35، 36].
وفي الحديث الذي أخرجه مسلم عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ «إِنَّ اللَّهَ -عز وجل- لاَ يَنَامُ وَلاَ يَنْبَغِى لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجَابُهُ النُّورُ - وَفِى رِوَايَةٍ - النَّارُ - لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ»[6].
سبحانك ربنا، ماقدرناك حق قدرك؟!
ولذلك كانت كلمة" الله" كفيلة أن تلقى الجلال والتعظيم لله في قلب من سمعها ولربما اكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بها وحدها دون غيرها في مقام التعريف به سبحانه طالما كان السائل فقيهاً كما في الحديث الذي أخرجه مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ شَىْءٍ فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِىءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ فَيَسْأَلَهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَتَانَا رَسُولُكَ فَزَعَمَ لَنَا أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ قَالَ «صَدَقَ». قَالَ فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ قَالَ «اللَّهُ». قَالَ فَمَنْ خَلَقَ الأَرْضَ قَالَ «اللَّهُ». قَالَ فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ. قَالَ «اللَّهُ». قَالَ فَبِالَّذِى خَلَقَ السَّمَاءَ وَخَلَقَ الأَرْضَ وَنَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ آللَّهُ أَرْسَلَكَ قَالَ «نَعَمْ». قَالَ وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا. قَالَ «صَدَقَ». قَالَ فَبِالَّذِى أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمْرَكَ بِهَذَا قَالَ «نَعَمْ». قَالَ وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا زَكَاةً فِى أَمْوَالِنَا. قَالَ «صَدَقَ». قَالَ فَبِالَّذِى أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمْرَكَ بِهَذَا قَالَ «نَعَمْ». قَالَ وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ فِى سَنَتِنَا. قَالَ «صَدَقَ». قَالَ فَبِالَّذِى أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا قَالَ «نَعَمْ». قَالَ وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً. قَالَ «صَدَقَ». قَالَ ثُمَّ وَلَّى. قَالَ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُنَّ. فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- «لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ» [7].
ولهذا يرى ابن القيم والطحاوي وغيرهما أن اسم "الله" هو الاسم الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى، ولذا تكرر ذكر هذا الاسم الجميل الجليل في القرآن الكريم ما يقرب من آلف مرة وليس هناك من الأسماء الحسنى ما تكرر هذا العدد، لهذا وإن ذكرنا الحديث ففيه من ذكر هذا الاسم ما لا يحصى من العدد.
أيها الإخوة! تعالوا نعترف فعلًا، جهرة لا سرًّا وعلانية لا خفية بأننا إلى اللحظة ما قدرنا الله تعالى حق قدره، والسؤال: أين الطريق الى ذلك؟ والجواب: من هنا الطريق إلى كتاب الله -عز وجل- فلم ولن يعرف بالله خير من كتابه الذى تكلم به وأرسله يعرفنا به وأعنى به الكتاب المسطور القرآن الكريم وكذلك بالتأمل فى خلق الله فى الكون والمخلوقات التى جاء ذكرما في القرآن والحديث وهذا هو الكتاب المنظور، فأما القرآن الكريم فإنه كله توحيد وحديث عن الله -عز وجل- بأفصح بيان وأعذب كلام.
وتأمل أخي الحبيب هل ترى في القرآن كله إلا حديثًا عن الله تعالى والإيمان به فالقرآن كله يتحدث عن توحيد الله -عز وجل- يقول ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين: "فالقرآن كله من أوله إلى آخره في تقرير أنواع التوحيد؛ لأن القرآن كله إما خبر عن الله وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأقواله، فهذا هو التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي: "توحيد الربوبية والأسماء والصفات"، وإما دعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما يُعبد من دونه، وهذا هو التوحيد الإرادي الطلبي –"توحيد الألوهية"-.
وإما أمر ونهي وإلزام بطاعة الله، وذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرام أهل التوحيد وما فعل بهم في الدنيا من النصر والتأييد، وما يكرمهم به في الآخرة، وهو جزاء توحيده سبحانه، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في الآخرة من العذاب فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد، وحقوقه، وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم[8].
ثانيًا: ومن أراد أن يلقى تعظيم الله في قلبه ونفسه ويحس فعلاً جلال الله فليتأمل خلق السموات والأرض والملائكة بل ليتأمل في الأحاديث والآيات التي تحدثت عن العرش والكرسي والملائكة وعظم السموات وعظم الأرض فإنه يكاد يطيش عقله لهذه المخلوقات.
ولنمر مروراً سريعاً نتعرف خلاله إلى بعض هذه المخلوقات عسى ذلك يجعلنا نقدر خالقها -جل وعلا- حق قدره ونجله حق إجلاله.
أولاً: عظمة خلق العرش والكرسي -أيها الإخوة- العرش مخلوق من مخلوقات الله -تبارك وتعالى- فوق سماواته عظيم في خلقه ولم لا وهو سرير ملكه -عز وجل-؟ فقد علم العالمون أن الله فوق العرش كما قال، محيط بالعرش، متخلص من خلقه بائن منهم، علمه في خلقه لا يخرجون من علمه. وقد أخبرنا الله -عز وجل- أن العرش كان قبل أن يخلق السموات والأرض على الماء، وأخبرنا أنه صار من الأرض إلى السماء ومن السماء إلى العرش فاستوى على العرش، فقال -عز وجل-: "وكان عرشه على الماء"وقال: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ ﴾ [الحديد: 4].
وقال -عز وجل-: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، فالله تعالى استوى على العرش يرى كل شيء في السموات والأرضين، ويعلم ويسمع كل ذلك بعينه، وهو فوق العرش، لا الحجب التي احتجب بها من خلقه تحجبه من أن يرى ويسمع ما في الأرض السفلى، ولكنه خلق الحجب وخلق العرش، كما خلق الخلق لما شاء وكيف شاء، وما يحمله إلا عظمته، فقال: ﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ﴾ [السجدة: 5] [9].
قال الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه الإبانة: "ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء، لأن الله -عز وجل- مستو على العرش الذي هو فوق السموات، فلولا أن الله -عز وجل- على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض. [10].
وأما عن عظم خلق العرش فقد روى ابن جرير في تفسيره عن الربيع: قال: لما نزلت: ﴿ وسع كرسيه السموات والأرض ﴾ قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هذا الكرسي وسع السموات والأرض، فكيف العرش؟ فأنزل الله تعالى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسموات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزمر: 67]. [11].
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: "اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر"[12]والحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فتأمل قوله: "ورب العرش العظيم"إن العرش عظيم على ربه كريم على خالقه.
ولذا ورد عن ابن عباس أنه قال: "وأما العرش فإنه لا يقدر قدره".
وقال الله تعالى"رفيع الدرجات ذو العرش"[غافر] فذكره على سبيل الفخر والاعتزاز.
وقال تعالى جاهه وعظم سلطانه: "وهو الغفور الرحيم الودود ذو العرش المجيد"[البروج] فعظمه ومجده.
وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العليم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم".[13].
وأما عن الكرسي فيكفي قوله تعالى: ﴿ وسع كرسيه السموات والأرض ﴾، فانظر كم عظمة الكرسى والعرش وإنما هما مخلوقان له -عز وجل- فما بالنا بعظمة الخالق سبحانه.
ثانياً: عظم خلق السموات والأرض وما بينهما:
عن ابن مسعود، قال: "بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم"[14] فانظر كم حجم السموات وماهى إلى عظمته بشيئ جل فى علاه.
عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "ما السموات والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم". [15].
وقال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس". قال: وقال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض". [16].
ثالثاً: عظم خلق الملائكة:
كيف بنا إذا انتقلنا إلى الملائكة وذواتهم وكيفيتها وأن بعضهم يمكنه أن يلتقم الدنيا في لقمة قال تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ﴾ [فاطر: 1] قال الحافظ ابن كثير: أي: منهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة ومنهم من له أربعة، ومنهم من له أكثر من ذلك، كما جاء في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل ليلة الإسراء وله ستمائة جناح، بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب[17]؛ ولهذا قال: ﴿ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾. قال السدي: يزيد في الأجنحة وخلقهم ما يشاء.[18].
وفي حديث الصور المشهور الذي ساقه غير واحد من أصحاب المسانيد وغيرهم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: "إن الناس إذا اهتموا لموقفهم في العرصات تشفعوا إلى ربهم بالأنبياء واحدًا واحدًا من آدم فمن بعده فكلهم يحيد عنهم حتى ينتهوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فإذا جاءوا إليه قال: أنا لها أنا لها، فيذهب فيسجد لله تعالى تحت العرش ويشفع عند الله في أن يأتي لفصل القضاء بين العباد فيشفعه الله ويأتي في ظلل من الغمام بعدما تنشق السماء الدنيا وينزل من فيها من الملائكة ثم الثانية ثم الثالثة إلى السابعة وينزل حملة العرش والكروبيون، قال: وينزل الجبار -عز وجل- في ظلل من الغمام ولهم زجل من تسبيحهم يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، سبوح قدوس، سبحان ربنا الأعلى، سبحان ذي السلطة والعظمة، سبحانه سبحانه أبداً أبدا. [19].
إنهم يقدرون الله حق قدره ويعرفون عظمته حق معرفتها ولذا أقبلوا على عبادته لايفترون عنها طرفة عين فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال خلق الله الملائكة لعبادته أصنافاً فإن منهم لملائكة قياماً صافين من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، وملائكة ركوعاً خشوعاً من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، وملائكة سجوداً من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة وتجلى لهم تعالى ونظروا إلى وجهه الكريم قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك. [20].
روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق أمية بن الصلت في شيء من شعره فقال:
رجل وثور تحت رجل يمينه ♦♦♦ والنسر للأخرى وليث مرصد
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق فقال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق، وهذا إسناده جيد. [21].
وتفسير هذا الحديث ذكره ابن عبد البر في التمهيد قال: وذكر أسد بن موسى بسنده عن عروة بن الزبير قال: حملة العرش أحدهم على صورة إنسان والثاني على صورة ثور والثالث على صورة نسر والرابع على صورة أسد)[22] والله أعلم.
وهؤلاء الملائكة حملة العرش -أيها الإخوة- عظام الخليقة جدًا بحيث لا يتصور تصور كم يبلغ ذلك حتى ورد عند أبى داود بسند صحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسرة سبعمائة عام [23].
ومن الأحاديث التي تبين عظمة وجلال الله تعالى فى قلوب ونفوس الملائكة: وعن النواس بن سمعان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، أخذت السموات منه رجفة - أو قال رعدة - شديدة خوفاً من الله -عز وجل-، فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا، وخروا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه السلام، فيكلمه الله تعالى من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق، وهو العلي الكبير، فيقولون كلهم مثلما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله -عز وجل-[24].
سبحانك سبحانك، ما قدرناك حق قدرك وما عظمناك حق تعظيمك، ولا يكيف العقل صفاتك، لأنه لا يعلم كيف أنت إلا انت.
وهكذا -أيها الإخوة- إذا تأملنا خلق الله في السموات والأرض لرسخت في قلوبنا عظمته وإجلاله -سبحانه وتعالى- فقدرناه حق قدره.
وصدق ربي إذ يقول: ﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمْ مَنْ خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السموات وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ﴾ [النمل: 59 - 67].
يا ربّ حمداً ليس غيرُك يُحمدُ ♦♦♦ يا منْ لهُ كُلُّ الخلائِقِ تصْمدُ
يقول القرني في رائعته التي اسمها لا تحزن، ومعناها: ابتسم واسعد: "عندنا، العامَّةُ وَقْتَ الحرْثِ يرمون الحبَّ بأيديهمْ في شقوقِ الأرضِ، ويهتفون: حبٌّ يابسٌ، في بلدٍ يابسٍ، بين يديك يا فاطر السموات والأرض ﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ﴾ ". إنَّها نزعةُ توحيدِ الباري، وتوجُّهُ إليهِ، -سبحانه وتعالى-.
قام الخطيبُ المِصْقعُ عبدُ الحميدِ كشكُ - وهو أعمى - فلمَّا علا - رحمه الله - المِنْبرَ، أخرج منْ جيبهِ سعفة نخلٍ، مكتوبٌ عليها بنفسِها: اللهُ، بالخطِّ الكوفيِّ الجميلِ، ثم هَتَفَ في الجموعِ:
فأجْهش الناسُ بالبكاءِ.
إنهُ فاطرُ السموات والأرضِ مرسومةٌ آياتُه في الكائناتِ، تنطقُ بالوحدانيَّةِ والصَّمديةِ والربوبيَّةِ والألوهيَّةِ ؟ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ؟" [25].
والسؤال الذي أطرحه بعد هذه التطوافة حول بعض مخلوقات الله -تبارك وتعالى- في الكون وأجب عنه أنت بصدق أيها المسلم:
هل وفينا ذلك الإله العظيم حقه وقدرناه حق قدره كاملاً غير منقوص؟ فليجب كل مسلم ولتجب كل مسلمة عن هذا السؤال هل وفينا الله حقه وهل قدرنا حق قدره؟ والجواب الذى توافقونى عليه جميعًا ما وفى الله حقه وما قدره حق قدره من يعصيه في الليل والنهار.
وما وفى الله حقه وما قدره حق قدره من عرف أنه يراقبه فجعله أهون الناظرين إليه وما وفى الله حقه وما قدره حق قدره من استحيا من نظر الناس ولم يستح من نظر الله.
وما وفى الله حقه وما قدره حق قدره من خشي الناس ولم يخش الله.
وما وفى الله حقه وما قدره حق قدره من استطاع أن يدل خلقه عليه لكنه جلس يرتب أحواله الخاصة مشغولًا بها لا يكاد يرعى حقوق الله عليه في دعوة الناس.
هؤلاء وغيرهم ممن على شاكلتهم -أيها الإخوة- ما عرفوا الله تعالى وما عرفوا حقه، وما قدروه حق قدره، سبحانه -جل وعلا- من إله قوي قادر جبار قاهر عزيز حَليم عليم خبير.
ما عرف الله حق معرفته من أعطى عهد الله وذمة الله وميثاق الله ثم نقضه وكأن لم يكن شيء، ومن ذهب يتسمى بأسماء يضاهي بها ربه وينازعه في أسمائه، ومن ذهب يأتي ما نهى عنه في حين لا يفعل ما أمر به.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله جل ذكره أذن لي أن أحدث عن ديك قد فرقت رجلاه الأرض وعنقه مثني تحت العرش وهو يقول سبحانك ما أعظمك ربنا فيرد عليه ما علم ذلك من حلف بي كاذبا[26].
لقد "تعرَّف سبحانه إلى عباده بصفاته، وعجائب مخلوقاته، وجعلها تدل على كماله، وأنه المعبود وحده، لا شريك له في ربوبيته وإلهيته، وتدل على إثبات الصفات له على ما يليق بجلاله وعظمته إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، وهذا هو ما عليه سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان. فمن عرف آثار توحيد الربوبية وتفطَّن لآثار توحيد الألوهية في القلب والنفس ذلَّ وخضع خضوعًا إختياريًّا، وتقرَّبَ إلى الله بما يُحبّ، ورسخ الإيمان في قلبه، وعظَّم الرب سبحانه لأنه حقيق بأن يُطاع، وهو حقيق بأن يُجَلَّ ويُسأل وحده، وأن يبذل العبد كل ما يملكه في سبيل مرضاته.
.
ومن تأمل آثار توحيد الربوبية أورثه رسوخًا للإيمان في قلبه، وتعظيمًا للرب عزوجل؛ وتأهلًا للتفكر في ملكوت السموات والأرض يقول الحسن: "عاملنا القلوب بالتفكُّر فأورثها التذكّر، فرجعنا بالتذكر على التفكر، وحرَّكنا القلوب بهما فإذا القلوب لها أسماع وأبصار!!“.
ومن عرف آثار توحيد الألوهية في القلب وفي النفس ذل وخضع،"وقام قلبه بين يدي الرحمن مُطْرِقًا لهَيْبتِه خاشعا لعظمته، عانٍ لعزته، فيسجد بين يدي الملك الحق المبين سجدةً لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد..“"[27].
فآه لأناس جهلوه فعصوه وآه ثم آه ثم آه لأناس عرفوه ثم عصوه، اللهم ألق في قلوبنا معرفتك، ثم ألهم قلوبنا وجوارحنا تعظيمك، وأكرمنا بطاعتك وتوحيدك ولا تذلنا بمعصيتك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
♦♦♦♦♦♦♦♦♦
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأغنى وأقنى، وجعلنا من خير أمة تأمر وتنهى، والصلاة والسلام على خير الورى، وما ضل وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى.
أما بعد، فيا أيها الإخوة!
لما سأل الصديق الأكبر أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" [28].
فهذا الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وهو هو أبو بكر فماذا كان يا ترى يختار لنا إن سألناه؟
وهذا يدلنا -أيها الإخوة- على أن الانسان لايستطيع ان يوفى الله حقه ولو عمل ما عمل فضلًا عن أن يمن على الله بعبادته ويدل بطاعته روى وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ: (خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: خَرَجَ مِنْ عِنْدِي خَلِيلِي جِبْرِيلُ آنِفًا فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ عَبَدَ اللَّهَ -عز وجل- خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ فِي الْبَحْرِ عَرْضُهُ وَطُولُهُ ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا فِي ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا وَالْبَحْرُ مُحِيطٌ بِهِ أَرْبَعَةُ آلَافِ فَرْسَخٍ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَأَخْرَجَ لَهُ عَيْنًا عَذْبَةً بِعَرْضِ الْأُصْبُعِ تَبِضُّ بِمَاءٍ عَذْبٍ فَيَسْتَنْقِعُ فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ وَشَجَرَةَ رُمَّانٍ تُخْرِجُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ رُمَّانَةً يَتَعَبَّدُ يَوْمَهُ فَإِذَا أَمْسَى نَزَلَ فَأَصَابَ الْوُضُوءَ وَأَخَذَ تِلْكَ الرُّمَّانَةَ فَأَكَلَهَا ثُمَّ قَامَ لِصَلَاتِهِ، فَسَأَلَ رَبَّهُ عَنْ وَقْتِ الْأَجْلِ أَنْ يَقْبِضَهُ سَاجِدًا وَأَنْ لَا يَجْعَلَ لِلْأَرْضِ وَلَا لِشَيْءٍ يُفْسِدُهُ عَلَيْهِ سَبِيلًا حَتَّى يَبْعَثَهُ وَهُوَ سَاجِدٌ، قَالَ: فَفَعَلَ فَنَحْنُ نَمُرُّ عَلَيْهِ إذَا هَبَطْنَا وَإِذَا عَرَجْنَا فَنَجِدُ لَهُ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ فَيَقُولُ لَهُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي فَيَقُولُ: رَبِّ بَلْ بِعَمَلِي فَيَقُولُ: أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، فَيَقُولُ: رَبِّ بَلْ بِعَمَلِي، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى قَايِسُوا عَبْدِي بِنِعْمَتِي عَلَيْهِ وَبِعَمَلِهِ فَتُوجَدُ نِعْمَةُ الْبَصَرِ قَدْ أَحَاطَتْ بِعِبَادَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ وَبَقِيَتْ نِعْمَةُ الْجَسَدِ فَضْلًا عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: أَدْخِلُوا عَبْدِي النَّارَ فَيُجَرُّ إلَى النَّارِ فَيُنَادِي: رَبِّ بِرَحْمَتِك أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: رُدُّوهُ، فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولُ: يَا عَبْدِي مَنْ خَلَقَك وَلَمْ تَكُ شَيْئًا؟ فَيَقُولُ أَنْتَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ مَنْ قَوَّاك لِعِبَادَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ؟ فَيَقُولُ أَنْتَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ مَنْ أَنْزَلَك فِي جَبَلٍ وَسَطِ اللُّجَّةِ وَأَخْرَجَ لَك الْمَاءَ الْعَذْبَ مِنْ الْمَاءِ الْمِلْحِ وَأَخْرَجَ لَك كُلَّ لَيْلَةٍ رُمَّانَةً وَإِنَّمَا تَخْرُجُ مَرَّةً فِي السَّنَةِ وَسَأَلْته أَنْ يَقْبِضَك سَاجِدًا فَفَعَلَ؟ فَيَقُولُ أَنْتَ يَا رَبِّ، قَالَ فَذَلِكَ بِرَحْمَتِي وَبِرَحْمَتِي أُدْخِلُك الْجَنَّةَ أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ، فَنِعْمَ الْعَبْدُ كُنْت يَا عَبْدِي فَأَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ، قَالَ جِبْرِيلُ إنَّمَا الْأَشْيَاءُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ يَا مُحَمَّدُ ) [29].
ومن الآثار التي تشير إلى هذا المعنى أيضًا ما روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي موسى الأشعري صاحب الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم وقد رواه عنه ابنه أبو بردة قال: لما حضر أبا موسى الوفاة قال: يا بني اذكروا صاحب الرغيف، قال: كان رجل يتعبد في صومعة أراه قال: سبعين سنة، لا ينزل إلا في يوم أحد، قال: فنزل في يوم أحد، قال: فشبه أو شب الشيطان في عينه امرأة، فكان معها سبعة أيام أو سبع ليال، قال: ثم كشف عن الرجل غطاؤه فخرج تائبا، فكان كلما خطا خطوة صلى وسجد، قال: فآواه الليل إلى مكان عليه اثنا عشر مسكينا، فأدركه الاعياء فرمى بنفسه بين رجلين منهم، وكان ثم راهب يبعث إليهم كل ليلة بأرغفة، فيعطى كل إنسان رغيفا، فجاء صاحب الرغيف فأعطى كل إنسان رغيفا، ومر على ذلك الذي خرج تائبا، فظن أنه مسكين فأعطاه رغيفا، فقال المتروك لصاحب الرغيف: مالك، لم تعطني رغيفي، ما كان لك عنه غنى، قال: تراني أمسكه عنك، سل هل اعطيت أحدا منكم رغيفين، قالوا: لا، قال: إني أمسك عنك والله لا أعطيك شيئا الليلة، قال: فعمد التائب إلى الرغيف الذي دفعه إليه، فدفعه إلى الرجل الذي ترك فأصبح التائب ميتا، قال: فوزنت السبعون سنة بالسبع الليالي فلم تزل، قال: فوزن الرغيف بالسبع الليالي، قال: فرجح الرغيف، فقال أبو موسى: يا بني اذكروا صاحب الرغيف[30].
أيها الإخوة! إنما ينجو من ينجو يوم القيامة برحمة الله، وهل خرجت الأعمال من الأركان إلا بتوفيقه؟ وهل وفق من وفق إلا برحمته؟
قال الغزالي: اجتمع ابن واسع وابن دينار فقال ابن دينار: إما طاعة الله أو النار فقال ابن واسع: إما رحمة الله أو النار فقال ابن دينار: ما أحوجني إلى معلم مثلك.
أيها الإخوة.. إنه ما من عبادة من العبادات التي شرعها الله -تبارك وتعالى- إلا وتختم بالاستغفار.. ختمت الصلاة بالاستغفار روى مسلم من حديث ثوبان قال قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاَتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلاَثًا وَقَالَ «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ». قَالَ الْوَلِيدُ فَقُلْتُ لِلأَوْزَاعِىِّ كَيْفَ الاِسْتِغْفَارُ قَالَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ [31].
وختم قيام الليل وهو أفضل الصلاة بعد الفريضة بالاستغفار قال تعالى عن عباده الصالحين: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 15 - 18].
وقال تعالى: ﴿ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران: 17].
وختم الحج الذي يرجع فيه الرجل من ذنوبه كيوم ولدته أمه بموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم يختم بالاستغفار كما قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 199] بل أمر النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يختم حياته المباركة الكريمة بالاستغفار قال تعالى:
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾.
فما السر في ذلك أيها الإخوة؟ إن الاستغفار طلب المغفرة وهو يرتبط غالباً بمن عصى الله فيثوب إليه ويتوب إليه -عز وجل- يستغفر الله من ذنبه وقد حافظ النبي صلى الله عليه وسلم على الاستغفار طيلة حياته المباركة كان صلى الله عليه وسلم في اليوم الواحد يستغفر الله أكثر من سبعين أو مائة مرة ثم يأمره الله أن يختم هذه الحياة النقية بالاستغفار، ما هو السر في ذلك والسر والله أعلم أن استغفار المصطفى صلى الله عليه وسلم كان لأنه رأى عمله بالنسبة لقدر الله ومقامه أقل مما ينبغي وإن كان هو اجتهد في تحسينه وتجويده قدر ما وسعه وأمكنه.
قال العلامة الألوسي في تفسير سورة النصر: "واستغفاره صلى الله عليه وسلم لأنه كان دائماً في الترقي فإذا ترقى إلى مرتبة استغفر لما قبلها وقيل مما هو في نظره الشريف خلاف الأولى بمنصبه المنيف وأنت تعلم أن كل أحد مقصر عن القيام بحقوق الله تعالى كما ينبغى وادائها على الوجه اللائق بجلاله جل جلاله وعظمته سبحانه وإنما يؤديها على قدر ما يعرف والعارف يعرف أن قدر الله -عز وجل- أعلى وأجل من ذلك فهو يستحى من عمله ويرى أنه مقصر وكلما كان الشخص بالله تعالى أعرف كان له سبحانه أخوف وبرؤية تقصيره أبصر، وقد كان كهمس يصلي كل يوم ألف ركعة فإذا صلى أخذ بلحيته ثم يقول لنفسه: قومي يا مأوى كل سوء فوالله ما رضيتك لله -عز وجل- طرفة عين، وعن مالك بن دينار: لقد هممت أن أوصي إذا مت أن ينطلق بي كما ينطلق بالعبد الآبق إلى سيده، فإذا سألني قلت: يا رب إني لم أرض لك نفسي طرفة عين، فيمكن أن يكون استغفاره عليه الصلاة والسلام لما يعرف من عظيم جلال الله تعالى وعظمته سبحانه فيرى أن عبادته وإن كانت أجل من عبادة جميع العابدين هى دون ما يليق بذلك الجلال وتلك العظمة التي هي وراء ما يخطر بالبال فيستحي ويهرع إلى الاستغفار، وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام كان يستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة، وللإشارة إلى قصور العابد عن الإتيان بما يليق بجلال المعبود وإن بذل المجهود شرع الاستغفار بعد كثير من الطاعات فذكروا إنه يشرع لمصلي المكتوبة أن يستغفر عقبها ثلاثاً وللمتهجد في الأسحار أن يستغفر ما شاء الله تعالى، وللحاج أن يستغفر بعد الحج فقد قال تعالى ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 199] وروي أنه يشرع لختم الوضوء، وقالوا يشرع لختم كل مجلس وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: إذا قام من المجلس"سبحانك اللهم وبحمدك استغفرك وأتوب إليك"[32] ففي الأمر بالاستغفار رمز من هذا الوجه على ما قيل إلى ما فهم من النعي"[33].
أيها الإخوة! إن من قدر الله حق قدره عبده وبذل مجهوده في عبادته ثم رأى أنه ما صنع شيئاً، ومن قدر الله حق قدره جعل ظنه في الله أحسن الظنون فعرف أن الله ناصر دينه وسنة رسوله وسنة الداعين إلى شرعه والقائمين بأمره، ومن قدر الله حق قدره عرف أن تقديره له أحسن التقدير وأوفقه وأتمه ولم يسخط على ما قدر له بل يصبر ويرضى ويسم ويعلم أنه لو وكل إلى نفسه لكان اختياره ما ظنه الحسن بالنسبة إلى ما اختار له ربه أسوء اختيار.
ومن قدر الله حق قدره وعرف أسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده عرف أنه بكل جميل كفيل ومن أساء بربه الظنون بعد هذا الذى قدمنا كان فيه من الجاهلية وصفاتها ومشابهة أهلها على قدره ظنونه تلك، كما قال تعالى عنهم وعمن شابههم: ﴿ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [آل عمران:154].
قال ابن القيم -رحمه الله-: فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله وأن يظهره الله على الدين كله. وهذا هو ظن السوء الذي ظن المنافقون والمشركون في سورة الفتح. وإنما كان هذا ظن السوء لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق.
فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة، فذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار. وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته، وموجب حكمته وحمده، فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا وليتب إلى الله وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء. ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتاً على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا. فمستقل ومستكثر وفتش نفسك، هل أنت سالم؟
"فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجياً"[34]
فالموحد الذي امتلأ قلبه بحقائق أسماء الله وصفاته يشرق في سويداء قلبه حسن ظن خاص بالله وتزهر عبوديته لربه بما يناسب كل اسم وصفة عبودية خاصة [35].
والمؤمنون أولى الناس بحسن الظن بالله فإنه لا يتم توحيدهم وإيمانهم إلا بهذا الاطمئنان به فالدين دين الله صالح لكل زمان ومكان لا كما يظن العلمانيون أن الدين لا يصلح لهذا العصر والإسلام وأهله إلى العلا بمشيئة الله تعالى، وسيظهره الله على كل دين ودولة، لا كما يظن الانهزاميون المتخلفون أنها إلى الاندثار، والله تعالى يبتلي عباده ليختبرهم ويعدهم لما يحب ويرضى ويقدر ولا يسلم أولياءه لأعدائه ويجعل كلمته هي العليا لا كما يظن أصحاب الظن السيء في ربهم أنه تخلى عنهم وتركهم.
فعلى كل مسلم -أيها الإخوة- أن يخلص قلبه من كل ظن سوء بالله فيحسد فلانًا أو فلانًا فكل ذلك سوء ظن بالله تعالى. ولهذا قال العلماء في سبب ذم الحسد قالوا وسبب ذلك: أن الحاسد ظن أن هذا الذي أعطاه الله ما أعطاه لا يستحق هذه النعمة فحسده وتمنى زوالها، لذا أكل سوء ظنه هذه الحسنات كما يأكل النار الحطب.
نسأل الله أن يعافينا من كل ظن فيه بغير الحق، ونسأله أن يجعلنا معظمين له، ولحكمته ومن المجلين لأمره ونهيه"[36].
اللهم إنا نسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.... الدعاء.
[1] القول السديد (ص 152)، بتصرف.
[2] في ظلال القرآن (5/ 3060)، أيسر التفاسر للجزائري ص 1164.
[3] أخرجه البخاري 7451، ومسلم 7223.
[4] أخرجه مسلم (2788).
[5] شرح كتاب التوحيد: ص 289 – 290.
[6] أخرجه مسلم (179).
[7] أخرجه مسلم 111.
[8] انظر: مدارج السالكين (3/ 450).
[9] مقدمة كتاب العرش وما روى فيه، لابن أبي شيبة.
[10] الإبانة عن أصول الديانة (108).
[11] تفسير الطبري - (5 / 399).
[12] أخرجه مسلم (2713).
[13] أخرجه البخاري 7426.
[14] أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله. وأخرجه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله. قال الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى- قال: وله طرق.
[15] تفسير الطبري - (21 / 324).
[16] قال العلامة أحمد شاكر في تخريج الطبري: خرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 328، ونسبه لأبي الشيخ في العظمة، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، انظر: تفسير الطبري - (5 / 399)، وأخرجه ابن أبي شيبة في صفة العرش (58) انظر: تفسير ابن كثير - (1 / 680).
[17] أخرجه أحمد (3862)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.
[18] تفسير ابن كثير - (6 / 532).
[19] معارج القبول - (1 / 303).
[20] معارج القبول - (1 / 332).
[21] أخرجه أحمد (2314) وقال الهيثمي في المجمع (8/ 127): "رجاله ثقات إلا أن ابن إسحاق مدلس".
[22] التمهيد - (4 / 9).
[23] أخرجه أبو داود (4727)، والطبراني في"الأوسط" كما في "المنتقى منه"، للذهبي (6 / 2)، وهو في "السلسلة الصحيحة" (1 / 232).
[24] أخرجه ابن خزيمة في "التوحيد"(206)، والآجري في "الشريعة"(ص 294) وابن أبي عاصم في (السنة) (515)، والبيهقي في الأسماء والصفات ص264، وغيرهم، ويشهد لمعناه أحاديث، قال العلامة المعلمي في: "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل"- (2 / 231): المتن غير منكر، وله شواهد- وساق بعضها ثم قال:- فالنكارة في السند فقط، والله أعلم.
[25] لا تحزن.
[26]رواه الطبراني 915 بإسناد صحيح والحاكم 7922، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب - (2 / 175).
[27] مفتاح دار السعاد: (1/ 199) وانظر عون الغلى الحميد (2/ 475).
[28] أخرجه البخاري (7378)، ومسلم (2705).
[29] أخرجه الخرائطي في" فضيلة الشكر" (133 - 134) والعقيلي في" الضعفاء" (165)، وتمام في "الفوائد" (265/ 2 - 266/ 1) وابن قدامة في "الفوائد" (2/ 6/ 1 - 2) والحاكم 7745 ، قال ابن القيم شفاء العليل - (1 / 114): والإسناد صحيح ومعناه صحيح لا ريب فيه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، فإن سليمان بن هرم العابد من زهاد أهل الشام، والليث بن سعد لا يروي عن المجهولين» وتعقبه الذهبي فقال: "لم يصح هذا، والله تعالى يقول: (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون)، ولكن لا ينجي أحدا عمله من عذاب الله كما صح، بل أعمالنا الصالحة هي من فضل الله علينا ومن نعمه لا بحول منا ولا بقوة، فله الحمد على الحمد له "، وضعفه الألباني في الضعيفة 1183.
[30] مصنف ابن أبي شيبة - (8 / 107).
[31] أخرجه مسلم 1362.
[32] أخرجه أحمد 19825، والنسائي في عمل اليوم والليلة ص 173 وانظر صحيح الترغيب والترهيب 1519.
[33] تفسير الألوسي - (23 / 167).
[34] زاد المعاد - (3 / 196).
[35] عون العلي الحميد - (2 / 389).
[36] التمهيد (2 / 273) بتصرف شديد، للشيخ صالح آل الشيخ.
أحمد الجوهري عبد الجواد |
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
يا أنتَ يا أحسنَ الأسماءِ في خَلَدي ![]() ماذا أُعرِّفُ من مَتْنٍ ومن سَندِ ![]() تَقَاصرْت كلُّها الأوصافُ عندكمُ ![]() لمَّا سَمِعْنا ثناءَ الواحدِ الأحدِ ![]() واللهِ لو أنَّ أقلامَ الورى بُريت ![]() مِن العروقِ لمدحِ السيدِ الصّمدِ ![]() لم نبلغِ العُشرَ مما يستحقُّ ولا ![]() عُشرَ العشيرِ وهذا غايةُ الأمدِ ![]() |
أما بعد، فيا أيها الإخوة!
من تأمل النصوص الدالة على عظمة الله وكبريائه ومجده وجلاله وخضوع المخلوقات بأسرها لعزه كما أوضح ذلك القرآن وأوضحته سنة النبي عليه الصلاة والسلام فإنه لا يملك إلا أن يذل ذلّاً حقيقياً ويخضع خضوعاً نهائيًا للذي له هذه النعوت العظيمة، والأوصاف الكاملة الجليلة، وإن ذلك لمن أكبر الأدلة والبراهين على أنه المعبود بحق وحده، المحمود بحق وحده الذي يجب أن يبذل له غاية الذل والتعظيم وغاية الحب والتأله، وأنه -عز وجل- الحق وما سواه باطل، وهذه هي حقيقة التوحيد ولبه وروحه، وسر الإخلاص وفحواه [1].
ومن هذه الآيات ما قال الله تعالى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسموات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزمر: 67].
فالله -عز وجل- -أيها الإخوة- هو الذي خلق كل شيء، هو الخالق لكل ما في الكون من سمائه إلى أرضه ومن عرشه إلى فرشه وهو المالك لكل شيء لا يخرج أبداً شيء منها عن ملكه وهو المتصرف في كل شيء لا يخرج شيء أبداً عن إرادته وأمره.
وما أحسن ما قال صاحب الظلال هنا تحت هذه الآية قال: هذه الآية تعرض: «لحقيقة التوحيد من جانب وحدانية الخالق الذي خلق كل شيء، المالك المتصرف في كل شيء. فما أحسن هؤلاء -المشركون - ولا أجملوا حين دَعوا النبي رضي الله عنه للإشراك بالله، وما عبدوه حق عبادته إذ أشركوا به، والله هو خالق كل شيء، وهو المتصرف في ملكوت السموات والأرض بلا شريك، فأنى يعبد معه غيره، وله وحده مقاليد السموات والأرض؟!
نعم ما قدروا الله حق قدره، وهم يشركون به بعض خلقه. وهم لا يعبدونه حق عبادته. وهم لا يدركون وحدانيته وعظمته، وهم لا يستشعرون جلاله وقوته.
وأظهر الاسم الأعظم في أحسن مواطنه فقال: (الله) الملك الأعظم (حق قدره) أي ما عظموه كما يجب له فإنه لو استغرق الزمان في عبادته وخالص طاعته بحيث لم يخل شيء منه عنها لما كان ذلك حق قدره فكيف إذا خلا بعضه عنها فكيف إذا عُدل به غيره؟!
ثم كشف لهم عن جانب من عظمته سبحانه وقوته ﴿ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ وقدَّمها لمباشرتهم لها ومعرفتهم بحقيقتها. ولما كان ما يدركونه منها من السِّعة والكبر كافيا في العظمة وإن لم يدركوا أنها سبع، أكد بما يصلح لجميع طبقاتها تنبيها للبصراء على أنها سبع من غير تصريح فقال: ﴿ جَمِيعًا ﴾. ولما كان العالم العلوي أشرف، ولما كانوا يعلمون أن السموات سبع متطابقة بما يشاهدون من سير النجوم، جمع ليكون مع ﴿ جَمِيعًا ﴾ كالتصريح في جميع الأرض أيضا في قوله: ﴿ وَالسموات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ﴾ فالذي يجعل الأرض بكل طبقاتها وأجزائها في قبضته، والسموات يطويها بيمينه فالسموات والأرض جميعا في يده، ويقول أنا الملك أين الملوك. فصاحب هذه القدرة العظمى كيف يُعْبَد معه آلهة أخرى هي أصنام وتماثيل وأوثان؟!!
لذا نزَّه تعالى نفسه بقوله: ﴿ سُبْحَانَهُ ﴾ أي تنزَّه وتقدس عن الشريك والنظير والصاحبة والولد، ترفع عن أن يكون له شريك وهو رب كل شيء ومليكه“[2].
روى البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: «جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله رضي الله عنه فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع. فيقول: أنا الملك. فضحك النبي رضي الله عنه حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر. ثم قرأ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » [3].
وفي رواية لمسلم: «والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا المالك، أنا الله».
وفي رواية للبخاري: «يجعل السموات على إصبع والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع».
ولمسلم عن ابن عمر مرفوعاً: «يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون، أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع، ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟» [4].
فهذا الحديث- أيها الإخوة- دليل على عظمة الله وكماله وكبريائه وعظيم قدرته وعظم مخلوقاته وإذا كان سبحانه بهذه العظمة فكيف يشرك أحد معه في عبوديته غيره؟!
فهو يدل على عظمة الله تعالى حيث يضع السموات كلها على إصبع، إنه -عز وجل- يحمل هذه المخلوقات، فمع عظم هذه المخلوقات، السموات والأرض فإنه سبحانه يأخذها بيده ويهزها ويقول: «أنا الملك أنا الجبار» أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ أين ملوك الأرض؟ وتلا النبي رضي الله عنه الآية تصديقًا لقول الحبر.
قال سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله-: وفي هذا إثبات الصفات لله، وأنه سبحانه له يمين وشمال، وأن كلتا يديه يمين كما في الحديث الآخر؛ وسمَّى أحدهما يمينًا والآخر شمالا من حيث الاسم، ولكن من حيث المعنى والشرف كلتاهما يمين -سبحانه وتعالى-، وليس في شيء منهما نقص“[5].
وهنا يجدر بنا أن نستعيد ما كنا أصلناه فى الحديث عن صفات الله تعالى فى خطبة الحياة المثلى مع أسماء الله وصفاته الحسنى فنقول:
الواجب علينا - أيها الإخوة - الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وإمرارها كما جاءت واعتقاد أنها حق كما أخبر الله -عز وجل- وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم التكييف والتمثيل لأن الله -عز وجل- أخبرنا بأسمائه وصفاته وأفعاله ولم يبين كيفيتها فنصدق الخبر ونؤمن به ونكل الكيفية إلى الله -عز وجل- فصفات ذاته تعالى من الحياة والعلم والسمع والبصر والقدرة والإرادة وغيرها وكذلك صفات أفعاله من الاستواء على العرش والنزول إلى سماء الدنيا والمجيء لفصل القضاء بين عباده وغير ذلك كلها حق على حقيقتها وعلى حقيقتها علمنا اتصافه تعالى بها بما علمنا في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وغاب عن جميع المخلوقين كيفيتها ولم يحيطوا بها علما كما قالت أم سلمة رضي الله عنها وربيعة الرأي ومالك بن أنس وغيرهم رحمهم الله تعالى الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التصديق والتسليم وكذلك القول في جميع صفاته -عز وجل- وإنا والله لكالون حائرون في كيفية سراية الدم في أعضائنا وجريان الطعام والشراب فينا وكيف يدبر الله تعالى قوت كل عضو فيه بحسب حاجته وفي استقرار الروح التي هي بين جنبينا وكيف يتوفاها الله في منامها وتعرج إلى حيث شاء الله -عز وجل- ويردها إذا شاء وكيفية إقعاد الميت في القبر وعذابه ونعيمه وكيفية قيام الأموات من القبور حفاة عراة غرلا وكيفية الملائكة وعظم خلقهم فكيف العرش الذي لا يقدر قدره إلا الله -عز وجل- كل ذلك نجهل كيفيته ونحن مؤمنون به كما أخبرنا الله -عز وجل- عنه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام وإيماناً بالغيب وإن لم نعلم الكيفية فكيف بالخالق -عز وجل- وأسمائه الحسنى وصفاته العلى ولله المثل الأعلى في السموات والأرض وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون آمنا به كل من عند ربنا ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين.
اللهم إنا أسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون، أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع، ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟
هذا هو ربنا جلا جلاله الذي يعرف به فيقول: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السموات وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ * لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 255، 256].
ويقول -عز وجل- عنه: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السموات وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الحشر: 22 - 24]
ويقول -عز وجل- عنه: "بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾.
آيات تتحدث عن ربها سبحانه وتظهر عظمته وكبريائه ومن سمعها وتدبرها امتلأ قلبه يقيناً في عظمة الله تعالى اسمع ماذا يقول ربنا عن نفسه: ﴿ اللَّهُ نُورُ السموات وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ﴾ [النور: 35، 36].
وفي الحديث الذي أخرجه مسلم عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ «إِنَّ اللَّهَ -عز وجل- لاَ يَنَامُ وَلاَ يَنْبَغِى لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجَابُهُ النُّورُ - وَفِى رِوَايَةٍ - النَّارُ - لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ»[6].
سبحانك ربنا، ماقدرناك حق قدرك؟!
ولذلك كانت كلمة" الله" كفيلة أن تلقى الجلال والتعظيم لله في قلب من سمعها ولربما اكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بها وحدها دون غيرها في مقام التعريف به سبحانه طالما كان السائل فقيهاً كما في الحديث الذي أخرجه مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ شَىْءٍ فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِىءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ فَيَسْأَلَهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَتَانَا رَسُولُكَ فَزَعَمَ لَنَا أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ قَالَ «صَدَقَ». قَالَ فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ قَالَ «اللَّهُ». قَالَ فَمَنْ خَلَقَ الأَرْضَ قَالَ «اللَّهُ». قَالَ فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ. قَالَ «اللَّهُ». قَالَ فَبِالَّذِى خَلَقَ السَّمَاءَ وَخَلَقَ الأَرْضَ وَنَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ آللَّهُ أَرْسَلَكَ قَالَ «نَعَمْ». قَالَ وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا. قَالَ «صَدَقَ». قَالَ فَبِالَّذِى أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمْرَكَ بِهَذَا قَالَ «نَعَمْ». قَالَ وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا زَكَاةً فِى أَمْوَالِنَا. قَالَ «صَدَقَ». قَالَ فَبِالَّذِى أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمْرَكَ بِهَذَا قَالَ «نَعَمْ». قَالَ وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ فِى سَنَتِنَا. قَالَ «صَدَقَ». قَالَ فَبِالَّذِى أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا قَالَ «نَعَمْ». قَالَ وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً. قَالَ «صَدَقَ». قَالَ ثُمَّ وَلَّى. قَالَ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُنَّ. فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- «لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ» [7].
ولهذا يرى ابن القيم والطحاوي وغيرهما أن اسم "الله" هو الاسم الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى، ولذا تكرر ذكر هذا الاسم الجميل الجليل في القرآن الكريم ما يقرب من آلف مرة وليس هناك من الأسماء الحسنى ما تكرر هذا العدد، لهذا وإن ذكرنا الحديث ففيه من ذكر هذا الاسم ما لا يحصى من العدد.
أيها الإخوة! تعالوا نعترف فعلًا، جهرة لا سرًّا وعلانية لا خفية بأننا إلى اللحظة ما قدرنا الله تعالى حق قدره، والسؤال: أين الطريق الى ذلك؟ والجواب: من هنا الطريق إلى كتاب الله -عز وجل- فلم ولن يعرف بالله خير من كتابه الذى تكلم به وأرسله يعرفنا به وأعنى به الكتاب المسطور القرآن الكريم وكذلك بالتأمل فى خلق الله فى الكون والمخلوقات التى جاء ذكرما في القرآن والحديث وهذا هو الكتاب المنظور، فأما القرآن الكريم فإنه كله توحيد وحديث عن الله -عز وجل- بأفصح بيان وأعذب كلام.
وتأمل أخي الحبيب هل ترى في القرآن كله إلا حديثًا عن الله تعالى والإيمان به فالقرآن كله يتحدث عن توحيد الله -عز وجل- يقول ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين: "فالقرآن كله من أوله إلى آخره في تقرير أنواع التوحيد؛ لأن القرآن كله إما خبر عن الله وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأقواله، فهذا هو التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي: "توحيد الربوبية والأسماء والصفات"، وإما دعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما يُعبد من دونه، وهذا هو التوحيد الإرادي الطلبي –"توحيد الألوهية"-.
وإما أمر ونهي وإلزام بطاعة الله، وذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرام أهل التوحيد وما فعل بهم في الدنيا من النصر والتأييد، وما يكرمهم به في الآخرة، وهو جزاء توحيده سبحانه، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في الآخرة من العذاب فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد، وحقوقه، وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم[8].
ثانيًا: ومن أراد أن يلقى تعظيم الله في قلبه ونفسه ويحس فعلاً جلال الله فليتأمل خلق السموات والأرض والملائكة بل ليتأمل في الأحاديث والآيات التي تحدثت عن العرش والكرسي والملائكة وعظم السموات وعظم الأرض فإنه يكاد يطيش عقله لهذه المخلوقات.
ولنمر مروراً سريعاً نتعرف خلاله إلى بعض هذه المخلوقات عسى ذلك يجعلنا نقدر خالقها -جل وعلا- حق قدره ونجله حق إجلاله.
أولاً: عظمة خلق العرش والكرسي -أيها الإخوة- العرش مخلوق من مخلوقات الله -تبارك وتعالى- فوق سماواته عظيم في خلقه ولم لا وهو سرير ملكه -عز وجل-؟ فقد علم العالمون أن الله فوق العرش كما قال، محيط بالعرش، متخلص من خلقه بائن منهم، علمه في خلقه لا يخرجون من علمه. وقد أخبرنا الله -عز وجل- أن العرش كان قبل أن يخلق السموات والأرض على الماء، وأخبرنا أنه صار من الأرض إلى السماء ومن السماء إلى العرش فاستوى على العرش، فقال -عز وجل-: "وكان عرشه على الماء"وقال: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ ﴾ [الحديد: 4].
وقال -عز وجل-: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، فالله تعالى استوى على العرش يرى كل شيء في السموات والأرضين، ويعلم ويسمع كل ذلك بعينه، وهو فوق العرش، لا الحجب التي احتجب بها من خلقه تحجبه من أن يرى ويسمع ما في الأرض السفلى، ولكنه خلق الحجب وخلق العرش، كما خلق الخلق لما شاء وكيف شاء، وما يحمله إلا عظمته، فقال: ﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ﴾ [السجدة: 5] [9].
قال الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه الإبانة: "ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء، لأن الله -عز وجل- مستو على العرش الذي هو فوق السموات، فلولا أن الله -عز وجل- على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض. [10].
وأما عن عظم خلق العرش فقد روى ابن جرير في تفسيره عن الربيع: قال: لما نزلت: ﴿ وسع كرسيه السموات والأرض ﴾ قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هذا الكرسي وسع السموات والأرض، فكيف العرش؟ فأنزل الله تعالى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسموات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزمر: 67]. [11].
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: "اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر"[12]والحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فتأمل قوله: "ورب العرش العظيم"إن العرش عظيم على ربه كريم على خالقه.
ولذا ورد عن ابن عباس أنه قال: "وأما العرش فإنه لا يقدر قدره".
وقال الله تعالى"رفيع الدرجات ذو العرش"[غافر] فذكره على سبيل الفخر والاعتزاز.
وقال تعالى جاهه وعظم سلطانه: "وهو الغفور الرحيم الودود ذو العرش المجيد"[البروج] فعظمه ومجده.
وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العليم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم".[13].
وأما عن الكرسي فيكفي قوله تعالى: ﴿ وسع كرسيه السموات والأرض ﴾، فانظر كم عظمة الكرسى والعرش وإنما هما مخلوقان له -عز وجل- فما بالنا بعظمة الخالق سبحانه.
ثانياً: عظم خلق السموات والأرض وما بينهما:
عن ابن مسعود، قال: "بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم"[14] فانظر كم حجم السموات وماهى إلى عظمته بشيئ جل فى علاه.
عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "ما السموات والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم". [15].
وقال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس". قال: وقال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض". [16].
ثالثاً: عظم خلق الملائكة:
كيف بنا إذا انتقلنا إلى الملائكة وذواتهم وكيفيتها وأن بعضهم يمكنه أن يلتقم الدنيا في لقمة قال تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ﴾ [فاطر: 1] قال الحافظ ابن كثير: أي: منهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة ومنهم من له أربعة، ومنهم من له أكثر من ذلك، كما جاء في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل ليلة الإسراء وله ستمائة جناح، بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب[17]؛ ولهذا قال: ﴿ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾. قال السدي: يزيد في الأجنحة وخلقهم ما يشاء.[18].
وفي حديث الصور المشهور الذي ساقه غير واحد من أصحاب المسانيد وغيرهم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: "إن الناس إذا اهتموا لموقفهم في العرصات تشفعوا إلى ربهم بالأنبياء واحدًا واحدًا من آدم فمن بعده فكلهم يحيد عنهم حتى ينتهوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فإذا جاءوا إليه قال: أنا لها أنا لها، فيذهب فيسجد لله تعالى تحت العرش ويشفع عند الله في أن يأتي لفصل القضاء بين العباد فيشفعه الله ويأتي في ظلل من الغمام بعدما تنشق السماء الدنيا وينزل من فيها من الملائكة ثم الثانية ثم الثالثة إلى السابعة وينزل حملة العرش والكروبيون، قال: وينزل الجبار -عز وجل- في ظلل من الغمام ولهم زجل من تسبيحهم يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، سبوح قدوس، سبحان ربنا الأعلى، سبحان ذي السلطة والعظمة، سبحانه سبحانه أبداً أبدا. [19].
إنهم يقدرون الله حق قدره ويعرفون عظمته حق معرفتها ولذا أقبلوا على عبادته لايفترون عنها طرفة عين فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال خلق الله الملائكة لعبادته أصنافاً فإن منهم لملائكة قياماً صافين من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، وملائكة ركوعاً خشوعاً من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، وملائكة سجوداً من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة وتجلى لهم تعالى ونظروا إلى وجهه الكريم قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك. [20].
روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق أمية بن الصلت في شيء من شعره فقال:
رجل وثور تحت رجل يمينه ♦♦♦ والنسر للأخرى وليث مرصد
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق فقال:
والشمس تطلع كل آخر ليلة ![]() حمراء يصبح لونها يتورد ![]() تأبى فما تطلع لنا في رسلها ![]() إلا معذبة وإلا تجلد ![]() |
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق، وهذا إسناده جيد. [21].
وتفسير هذا الحديث ذكره ابن عبد البر في التمهيد قال: وذكر أسد بن موسى بسنده عن عروة بن الزبير قال: حملة العرش أحدهم على صورة إنسان والثاني على صورة ثور والثالث على صورة نسر والرابع على صورة أسد)[22] والله أعلم.
وهؤلاء الملائكة حملة العرش -أيها الإخوة- عظام الخليقة جدًا بحيث لا يتصور تصور كم يبلغ ذلك حتى ورد عند أبى داود بسند صحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسرة سبعمائة عام [23].
ومن الأحاديث التي تبين عظمة وجلال الله تعالى فى قلوب ونفوس الملائكة: وعن النواس بن سمعان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، أخذت السموات منه رجفة - أو قال رعدة - شديدة خوفاً من الله -عز وجل-، فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا، وخروا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه السلام، فيكلمه الله تعالى من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق، وهو العلي الكبير، فيقولون كلهم مثلما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله -عز وجل-[24].
سبحانك سبحانك، ما قدرناك حق قدرك وما عظمناك حق تعظيمك، ولا يكيف العقل صفاتك، لأنه لا يعلم كيف أنت إلا انت.
وهكذا -أيها الإخوة- إذا تأملنا خلق الله في السموات والأرض لرسخت في قلوبنا عظمته وإجلاله -سبحانه وتعالى- فقدرناه حق قدره.
وصدق ربي إذ يقول: ﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمْ مَنْ خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السموات وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ﴾ [النمل: 59 - 67].
يا ربّ حمداً ليس غيرُك يُحمدُ ♦♦♦ يا منْ لهُ كُلُّ الخلائِقِ تصْمدُ
يقول القرني في رائعته التي اسمها لا تحزن، ومعناها: ابتسم واسعد: "عندنا، العامَّةُ وَقْتَ الحرْثِ يرمون الحبَّ بأيديهمْ في شقوقِ الأرضِ، ويهتفون: حبٌّ يابسٌ، في بلدٍ يابسٍ، بين يديك يا فاطر السموات والأرض ﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ﴾ ". إنَّها نزعةُ توحيدِ الباري، وتوجُّهُ إليهِ، -سبحانه وتعالى-.
قام الخطيبُ المِصْقعُ عبدُ الحميدِ كشكُ - وهو أعمى - فلمَّا علا - رحمه الله - المِنْبرَ، أخرج منْ جيبهِ سعفة نخلٍ، مكتوبٌ عليها بنفسِها: اللهُ، بالخطِّ الكوفيِّ الجميلِ، ثم هَتَفَ في الجموعِ:
انظُرْ لتلك الشَّجرهْ ![]() ذاتِ الغُصُونِ النَّضِرهْ ![]() منِ الذي أنبتها ![]() وزانها بالخضِرهْ ![]() ذاك هو اللهُ الذي ![]() قُدرتُه مُقْتدِرهْ ![]() |
إنهُ فاطرُ السموات والأرضِ مرسومةٌ آياتُه في الكائناتِ، تنطقُ بالوحدانيَّةِ والصَّمديةِ والربوبيَّةِ والألوهيَّةِ ؟ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ؟" [25].
والسؤال الذي أطرحه بعد هذه التطوافة حول بعض مخلوقات الله -تبارك وتعالى- في الكون وأجب عنه أنت بصدق أيها المسلم:
هل وفينا ذلك الإله العظيم حقه وقدرناه حق قدره كاملاً غير منقوص؟ فليجب كل مسلم ولتجب كل مسلمة عن هذا السؤال هل وفينا الله حقه وهل قدرنا حق قدره؟ والجواب الذى توافقونى عليه جميعًا ما وفى الله حقه وما قدره حق قدره من يعصيه في الليل والنهار.
وما وفى الله حقه وما قدره حق قدره من عرف أنه يراقبه فجعله أهون الناظرين إليه وما وفى الله حقه وما قدره حق قدره من استحيا من نظر الناس ولم يستح من نظر الله.
وما وفى الله حقه وما قدره حق قدره من خشي الناس ولم يخش الله.
وما وفى الله حقه وما قدره حق قدره من استطاع أن يدل خلقه عليه لكنه جلس يرتب أحواله الخاصة مشغولًا بها لا يكاد يرعى حقوق الله عليه في دعوة الناس.
هؤلاء وغيرهم ممن على شاكلتهم -أيها الإخوة- ما عرفوا الله تعالى وما عرفوا حقه، وما قدروه حق قدره، سبحانه -جل وعلا- من إله قوي قادر جبار قاهر عزيز حَليم عليم خبير.
ما عرف الله حق معرفته من أعطى عهد الله وذمة الله وميثاق الله ثم نقضه وكأن لم يكن شيء، ومن ذهب يتسمى بأسماء يضاهي بها ربه وينازعه في أسمائه، ومن ذهب يأتي ما نهى عنه في حين لا يفعل ما أمر به.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله جل ذكره أذن لي أن أحدث عن ديك قد فرقت رجلاه الأرض وعنقه مثني تحت العرش وهو يقول سبحانك ما أعظمك ربنا فيرد عليه ما علم ذلك من حلف بي كاذبا[26].
لقد "تعرَّف سبحانه إلى عباده بصفاته، وعجائب مخلوقاته، وجعلها تدل على كماله، وأنه المعبود وحده، لا شريك له في ربوبيته وإلهيته، وتدل على إثبات الصفات له على ما يليق بجلاله وعظمته إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، وهذا هو ما عليه سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان. فمن عرف آثار توحيد الربوبية وتفطَّن لآثار توحيد الألوهية في القلب والنفس ذلَّ وخضع خضوعًا إختياريًّا، وتقرَّبَ إلى الله بما يُحبّ، ورسخ الإيمان في قلبه، وعظَّم الرب سبحانه لأنه حقيق بأن يُطاع، وهو حقيق بأن يُجَلَّ ويُسأل وحده، وأن يبذل العبد كل ما يملكه في سبيل مرضاته.
.
ومن تأمل آثار توحيد الربوبية أورثه رسوخًا للإيمان في قلبه، وتعظيمًا للرب عزوجل؛ وتأهلًا للتفكر في ملكوت السموات والأرض يقول الحسن: "عاملنا القلوب بالتفكُّر فأورثها التذكّر، فرجعنا بالتذكر على التفكر، وحرَّكنا القلوب بهما فإذا القلوب لها أسماع وأبصار!!“.
ومن عرف آثار توحيد الألوهية في القلب وفي النفس ذل وخضع،"وقام قلبه بين يدي الرحمن مُطْرِقًا لهَيْبتِه خاشعا لعظمته، عانٍ لعزته، فيسجد بين يدي الملك الحق المبين سجدةً لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد..“"[27].
فآه لأناس جهلوه فعصوه وآه ثم آه ثم آه لأناس عرفوه ثم عصوه، اللهم ألق في قلوبنا معرفتك، ثم ألهم قلوبنا وجوارحنا تعظيمك، وأكرمنا بطاعتك وتوحيدك ولا تذلنا بمعصيتك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
♦♦♦♦♦♦♦♦♦
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأغنى وأقنى، وجعلنا من خير أمة تأمر وتنهى، والصلاة والسلام على خير الورى، وما ضل وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى.
أما بعد، فيا أيها الإخوة!
لما سأل الصديق الأكبر أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" [28].
فهذا الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وهو هو أبو بكر فماذا كان يا ترى يختار لنا إن سألناه؟
وهذا يدلنا -أيها الإخوة- على أن الانسان لايستطيع ان يوفى الله حقه ولو عمل ما عمل فضلًا عن أن يمن على الله بعبادته ويدل بطاعته روى وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ: (خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: خَرَجَ مِنْ عِنْدِي خَلِيلِي جِبْرِيلُ آنِفًا فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ عَبَدَ اللَّهَ -عز وجل- خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ فِي الْبَحْرِ عَرْضُهُ وَطُولُهُ ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا فِي ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا وَالْبَحْرُ مُحِيطٌ بِهِ أَرْبَعَةُ آلَافِ فَرْسَخٍ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَأَخْرَجَ لَهُ عَيْنًا عَذْبَةً بِعَرْضِ الْأُصْبُعِ تَبِضُّ بِمَاءٍ عَذْبٍ فَيَسْتَنْقِعُ فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ وَشَجَرَةَ رُمَّانٍ تُخْرِجُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ رُمَّانَةً يَتَعَبَّدُ يَوْمَهُ فَإِذَا أَمْسَى نَزَلَ فَأَصَابَ الْوُضُوءَ وَأَخَذَ تِلْكَ الرُّمَّانَةَ فَأَكَلَهَا ثُمَّ قَامَ لِصَلَاتِهِ، فَسَأَلَ رَبَّهُ عَنْ وَقْتِ الْأَجْلِ أَنْ يَقْبِضَهُ سَاجِدًا وَأَنْ لَا يَجْعَلَ لِلْأَرْضِ وَلَا لِشَيْءٍ يُفْسِدُهُ عَلَيْهِ سَبِيلًا حَتَّى يَبْعَثَهُ وَهُوَ سَاجِدٌ، قَالَ: فَفَعَلَ فَنَحْنُ نَمُرُّ عَلَيْهِ إذَا هَبَطْنَا وَإِذَا عَرَجْنَا فَنَجِدُ لَهُ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ فَيَقُولُ لَهُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي فَيَقُولُ: رَبِّ بَلْ بِعَمَلِي فَيَقُولُ: أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، فَيَقُولُ: رَبِّ بَلْ بِعَمَلِي، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى قَايِسُوا عَبْدِي بِنِعْمَتِي عَلَيْهِ وَبِعَمَلِهِ فَتُوجَدُ نِعْمَةُ الْبَصَرِ قَدْ أَحَاطَتْ بِعِبَادَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ وَبَقِيَتْ نِعْمَةُ الْجَسَدِ فَضْلًا عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: أَدْخِلُوا عَبْدِي النَّارَ فَيُجَرُّ إلَى النَّارِ فَيُنَادِي: رَبِّ بِرَحْمَتِك أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: رُدُّوهُ، فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولُ: يَا عَبْدِي مَنْ خَلَقَك وَلَمْ تَكُ شَيْئًا؟ فَيَقُولُ أَنْتَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ مَنْ قَوَّاك لِعِبَادَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ؟ فَيَقُولُ أَنْتَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ مَنْ أَنْزَلَك فِي جَبَلٍ وَسَطِ اللُّجَّةِ وَأَخْرَجَ لَك الْمَاءَ الْعَذْبَ مِنْ الْمَاءِ الْمِلْحِ وَأَخْرَجَ لَك كُلَّ لَيْلَةٍ رُمَّانَةً وَإِنَّمَا تَخْرُجُ مَرَّةً فِي السَّنَةِ وَسَأَلْته أَنْ يَقْبِضَك سَاجِدًا فَفَعَلَ؟ فَيَقُولُ أَنْتَ يَا رَبِّ، قَالَ فَذَلِكَ بِرَحْمَتِي وَبِرَحْمَتِي أُدْخِلُك الْجَنَّةَ أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ، فَنِعْمَ الْعَبْدُ كُنْت يَا عَبْدِي فَأَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ، قَالَ جِبْرِيلُ إنَّمَا الْأَشْيَاءُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ يَا مُحَمَّدُ ) [29].
ومن الآثار التي تشير إلى هذا المعنى أيضًا ما روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي موسى الأشعري صاحب الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم وقد رواه عنه ابنه أبو بردة قال: لما حضر أبا موسى الوفاة قال: يا بني اذكروا صاحب الرغيف، قال: كان رجل يتعبد في صومعة أراه قال: سبعين سنة، لا ينزل إلا في يوم أحد، قال: فنزل في يوم أحد، قال: فشبه أو شب الشيطان في عينه امرأة، فكان معها سبعة أيام أو سبع ليال، قال: ثم كشف عن الرجل غطاؤه فخرج تائبا، فكان كلما خطا خطوة صلى وسجد، قال: فآواه الليل إلى مكان عليه اثنا عشر مسكينا، فأدركه الاعياء فرمى بنفسه بين رجلين منهم، وكان ثم راهب يبعث إليهم كل ليلة بأرغفة، فيعطى كل إنسان رغيفا، فجاء صاحب الرغيف فأعطى كل إنسان رغيفا، ومر على ذلك الذي خرج تائبا، فظن أنه مسكين فأعطاه رغيفا، فقال المتروك لصاحب الرغيف: مالك، لم تعطني رغيفي، ما كان لك عنه غنى، قال: تراني أمسكه عنك، سل هل اعطيت أحدا منكم رغيفين، قالوا: لا، قال: إني أمسك عنك والله لا أعطيك شيئا الليلة، قال: فعمد التائب إلى الرغيف الذي دفعه إليه، فدفعه إلى الرجل الذي ترك فأصبح التائب ميتا، قال: فوزنت السبعون سنة بالسبع الليالي فلم تزل، قال: فوزن الرغيف بالسبع الليالي، قال: فرجح الرغيف، فقال أبو موسى: يا بني اذكروا صاحب الرغيف[30].
أيها الإخوة! إنما ينجو من ينجو يوم القيامة برحمة الله، وهل خرجت الأعمال من الأركان إلا بتوفيقه؟ وهل وفق من وفق إلا برحمته؟
قال الغزالي: اجتمع ابن واسع وابن دينار فقال ابن دينار: إما طاعة الله أو النار فقال ابن واسع: إما رحمة الله أو النار فقال ابن دينار: ما أحوجني إلى معلم مثلك.
أيها الإخوة.. إنه ما من عبادة من العبادات التي شرعها الله -تبارك وتعالى- إلا وتختم بالاستغفار.. ختمت الصلاة بالاستغفار روى مسلم من حديث ثوبان قال قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاَتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلاَثًا وَقَالَ «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ». قَالَ الْوَلِيدُ فَقُلْتُ لِلأَوْزَاعِىِّ كَيْفَ الاِسْتِغْفَارُ قَالَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ [31].
وختم قيام الليل وهو أفضل الصلاة بعد الفريضة بالاستغفار قال تعالى عن عباده الصالحين: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 15 - 18].
وقال تعالى: ﴿ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران: 17].
وختم الحج الذي يرجع فيه الرجل من ذنوبه كيوم ولدته أمه بموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم يختم بالاستغفار كما قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 199] بل أمر النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يختم حياته المباركة الكريمة بالاستغفار قال تعالى:
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾.
فما السر في ذلك أيها الإخوة؟ إن الاستغفار طلب المغفرة وهو يرتبط غالباً بمن عصى الله فيثوب إليه ويتوب إليه -عز وجل- يستغفر الله من ذنبه وقد حافظ النبي صلى الله عليه وسلم على الاستغفار طيلة حياته المباركة كان صلى الله عليه وسلم في اليوم الواحد يستغفر الله أكثر من سبعين أو مائة مرة ثم يأمره الله أن يختم هذه الحياة النقية بالاستغفار، ما هو السر في ذلك والسر والله أعلم أن استغفار المصطفى صلى الله عليه وسلم كان لأنه رأى عمله بالنسبة لقدر الله ومقامه أقل مما ينبغي وإن كان هو اجتهد في تحسينه وتجويده قدر ما وسعه وأمكنه.
قال العلامة الألوسي في تفسير سورة النصر: "واستغفاره صلى الله عليه وسلم لأنه كان دائماً في الترقي فإذا ترقى إلى مرتبة استغفر لما قبلها وقيل مما هو في نظره الشريف خلاف الأولى بمنصبه المنيف وأنت تعلم أن كل أحد مقصر عن القيام بحقوق الله تعالى كما ينبغى وادائها على الوجه اللائق بجلاله جل جلاله وعظمته سبحانه وإنما يؤديها على قدر ما يعرف والعارف يعرف أن قدر الله -عز وجل- أعلى وأجل من ذلك فهو يستحى من عمله ويرى أنه مقصر وكلما كان الشخص بالله تعالى أعرف كان له سبحانه أخوف وبرؤية تقصيره أبصر، وقد كان كهمس يصلي كل يوم ألف ركعة فإذا صلى أخذ بلحيته ثم يقول لنفسه: قومي يا مأوى كل سوء فوالله ما رضيتك لله -عز وجل- طرفة عين، وعن مالك بن دينار: لقد هممت أن أوصي إذا مت أن ينطلق بي كما ينطلق بالعبد الآبق إلى سيده، فإذا سألني قلت: يا رب إني لم أرض لك نفسي طرفة عين، فيمكن أن يكون استغفاره عليه الصلاة والسلام لما يعرف من عظيم جلال الله تعالى وعظمته سبحانه فيرى أن عبادته وإن كانت أجل من عبادة جميع العابدين هى دون ما يليق بذلك الجلال وتلك العظمة التي هي وراء ما يخطر بالبال فيستحي ويهرع إلى الاستغفار، وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام كان يستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة، وللإشارة إلى قصور العابد عن الإتيان بما يليق بجلال المعبود وإن بذل المجهود شرع الاستغفار بعد كثير من الطاعات فذكروا إنه يشرع لمصلي المكتوبة أن يستغفر عقبها ثلاثاً وللمتهجد في الأسحار أن يستغفر ما شاء الله تعالى، وللحاج أن يستغفر بعد الحج فقد قال تعالى ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 199] وروي أنه يشرع لختم الوضوء، وقالوا يشرع لختم كل مجلس وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: إذا قام من المجلس"سبحانك اللهم وبحمدك استغفرك وأتوب إليك"[32] ففي الأمر بالاستغفار رمز من هذا الوجه على ما قيل إلى ما فهم من النعي"[33].
أيها الإخوة! إن من قدر الله حق قدره عبده وبذل مجهوده في عبادته ثم رأى أنه ما صنع شيئاً، ومن قدر الله حق قدره جعل ظنه في الله أحسن الظنون فعرف أن الله ناصر دينه وسنة رسوله وسنة الداعين إلى شرعه والقائمين بأمره، ومن قدر الله حق قدره عرف أن تقديره له أحسن التقدير وأوفقه وأتمه ولم يسخط على ما قدر له بل يصبر ويرضى ويسم ويعلم أنه لو وكل إلى نفسه لكان اختياره ما ظنه الحسن بالنسبة إلى ما اختار له ربه أسوء اختيار.
ومن قدر الله حق قدره وعرف أسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده عرف أنه بكل جميل كفيل ومن أساء بربه الظنون بعد هذا الذى قدمنا كان فيه من الجاهلية وصفاتها ومشابهة أهلها على قدره ظنونه تلك، كما قال تعالى عنهم وعمن شابههم: ﴿ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [آل عمران:154].
قال ابن القيم -رحمه الله-: فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله وأن يظهره الله على الدين كله. وهذا هو ظن السوء الذي ظن المنافقون والمشركون في سورة الفتح. وإنما كان هذا ظن السوء لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق.
فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة، فذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار. وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته، وموجب حكمته وحمده، فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا وليتب إلى الله وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء. ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتاً على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا. فمستقل ومستكثر وفتش نفسك، هل أنت سالم؟
"فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجياً"[34]
فالموحد الذي امتلأ قلبه بحقائق أسماء الله وصفاته يشرق في سويداء قلبه حسن ظن خاص بالله وتزهر عبوديته لربه بما يناسب كل اسم وصفة عبودية خاصة [35].
والمؤمنون أولى الناس بحسن الظن بالله فإنه لا يتم توحيدهم وإيمانهم إلا بهذا الاطمئنان به فالدين دين الله صالح لكل زمان ومكان لا كما يظن العلمانيون أن الدين لا يصلح لهذا العصر والإسلام وأهله إلى العلا بمشيئة الله تعالى، وسيظهره الله على كل دين ودولة، لا كما يظن الانهزاميون المتخلفون أنها إلى الاندثار، والله تعالى يبتلي عباده ليختبرهم ويعدهم لما يحب ويرضى ويقدر ولا يسلم أولياءه لأعدائه ويجعل كلمته هي العليا لا كما يظن أصحاب الظن السيء في ربهم أنه تخلى عنهم وتركهم.
فعلى كل مسلم -أيها الإخوة- أن يخلص قلبه من كل ظن سوء بالله فيحسد فلانًا أو فلانًا فكل ذلك سوء ظن بالله تعالى. ولهذا قال العلماء في سبب ذم الحسد قالوا وسبب ذلك: أن الحاسد ظن أن هذا الذي أعطاه الله ما أعطاه لا يستحق هذه النعمة فحسده وتمنى زوالها، لذا أكل سوء ظنه هذه الحسنات كما يأكل النار الحطب.
نسأل الله أن يعافينا من كل ظن فيه بغير الحق، ونسأله أن يجعلنا معظمين له، ولحكمته ومن المجلين لأمره ونهيه"[36].
اللهم إنا نسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.... الدعاء.
[1] القول السديد (ص 152)، بتصرف.
[2] في ظلال القرآن (5/ 3060)، أيسر التفاسر للجزائري ص 1164.
[3] أخرجه البخاري 7451، ومسلم 7223.
[4] أخرجه مسلم (2788).
[5] شرح كتاب التوحيد: ص 289 – 290.
[6] أخرجه مسلم (179).
[7] أخرجه مسلم 111.
[8] انظر: مدارج السالكين (3/ 450).
[9] مقدمة كتاب العرش وما روى فيه، لابن أبي شيبة.
[10] الإبانة عن أصول الديانة (108).
[11] تفسير الطبري - (5 / 399).
[12] أخرجه مسلم (2713).
[13] أخرجه البخاري 7426.
[14] أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله. وأخرجه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله. قال الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى- قال: وله طرق.
[15] تفسير الطبري - (21 / 324).
[16] قال العلامة أحمد شاكر في تخريج الطبري: خرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 328، ونسبه لأبي الشيخ في العظمة، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، انظر: تفسير الطبري - (5 / 399)، وأخرجه ابن أبي شيبة في صفة العرش (58) انظر: تفسير ابن كثير - (1 / 680).
[17] أخرجه أحمد (3862)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.
[18] تفسير ابن كثير - (6 / 532).
[19] معارج القبول - (1 / 303).
[20] معارج القبول - (1 / 332).
[21] أخرجه أحمد (2314) وقال الهيثمي في المجمع (8/ 127): "رجاله ثقات إلا أن ابن إسحاق مدلس".
[22] التمهيد - (4 / 9).
[23] أخرجه أبو داود (4727)، والطبراني في"الأوسط" كما في "المنتقى منه"، للذهبي (6 / 2)، وهو في "السلسلة الصحيحة" (1 / 232).
[24] أخرجه ابن خزيمة في "التوحيد"(206)، والآجري في "الشريعة"(ص 294) وابن أبي عاصم في (السنة) (515)، والبيهقي في الأسماء والصفات ص264، وغيرهم، ويشهد لمعناه أحاديث، قال العلامة المعلمي في: "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل"- (2 / 231): المتن غير منكر، وله شواهد- وساق بعضها ثم قال:- فالنكارة في السند فقط، والله أعلم.
[25] لا تحزن.
[26]رواه الطبراني 915 بإسناد صحيح والحاكم 7922، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب - (2 / 175).
[27] مفتاح دار السعاد: (1/ 199) وانظر عون الغلى الحميد (2/ 475).
[28] أخرجه البخاري (7378)، ومسلم (2705).
[29] أخرجه الخرائطي في" فضيلة الشكر" (133 - 134) والعقيلي في" الضعفاء" (165)، وتمام في "الفوائد" (265/ 2 - 266/ 1) وابن قدامة في "الفوائد" (2/ 6/ 1 - 2) والحاكم 7745 ، قال ابن القيم شفاء العليل - (1 / 114): والإسناد صحيح ومعناه صحيح لا ريب فيه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، فإن سليمان بن هرم العابد من زهاد أهل الشام، والليث بن سعد لا يروي عن المجهولين» وتعقبه الذهبي فقال: "لم يصح هذا، والله تعالى يقول: (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون)، ولكن لا ينجي أحدا عمله من عذاب الله كما صح، بل أعمالنا الصالحة هي من فضل الله علينا ومن نعمه لا بحول منا ولا بقوة، فله الحمد على الحمد له "، وضعفه الألباني في الضعيفة 1183.
[30] مصنف ابن أبي شيبة - (8 / 107).
[31] أخرجه مسلم 1362.
[32] أخرجه أحمد 19825، والنسائي في عمل اليوم والليلة ص 173 وانظر صحيح الترغيب والترهيب 1519.
[33] تفسير الألوسي - (23 / 167).
[34] زاد المعاد - (3 / 196).
[35] عون العلي الحميد - (2 / 389).
[36] التمهيد (2 / 273) بتصرف شديد، للشيخ صالح آل الشيخ.