الروضة الوائلية (3)
((فوائد في علوم شتى نفيسات - خواطر عليات - حِكَم فائقات - نوادر مستحسنات - أشعار منتقاة - حكايات مصطفاة))
[هذه - أسعدك الله - روضة لديدة سَنية، ناضرة بهية، دانية قطوفها، مأمونة فصولها؛ فتأنق حيث شئت فيها جَيْئَة وذُهُوبًا، وكن للدعاء لغارسها بذَّالاً وَهُوبًا].
[مَن ضُرب به المثل من الناس]
قال أبو عمر ابن عبد ربه:
((قالت العرب: أسخى من حاتم. وأشجع من ربيعة بن مُكَدَّم. وأدهى من قيس بن زُهَير. وأعز من كُلَيْب بن وائل. وأوفى من السَّمَوْءل. وأذكى من إياس بن معاوية. وأسوَد من قيس بن عاصم. وأمنع من الحارث بن ظالم. وأبلغ من سُحبان بن وائل. وأحلم من الأحف بن قيس. وأصدق من أبي ذر الغِفاري. وأكذب من مسيلمة الحنفي. وأعيا من باقِل. وأمضى من سُلَيْك المقانب. وأنعم من خُرَيْم الناعم. وأحمق من هَبَنَّقَةَ. وأفتك من البَرَّاض)).
ومن النساء يقال:
((أشأم من البَسوس. وأحمق من دُغَة. وأمنع من أم قِرْفة. وأقود من ظُلْمة، وأبصر من زرقاء اليمامة)).
قال أبو عمر:
((البسوس: جارة جسَّاس بن مُرَّة بن ذُهل بن شيبان، ولها كانت الناقة التي قُتل من أجلها كليبُ بن وائل، وبها ثارت الحرب بين بكر بن وائل وتغلب، التي يقال لها حرب البسوس.
وأم قِرْفَة: امرأة مالك بن حذيفة بن بدر الفزاري، وكان يُعَلَّق في بيتها خمسون سيفًا، كل سيف منها لذي مَحْرَم لها.
ودُغَة: امرأة من عجل بن لُجَيم، تزوجت في بني العنبر بن عمرو بن تميم.
وزرقاء بني نُمير: امرأة كانت باليمامة تبصر الشعرة البيضاء في اللبن، وتنظر الراكب على مسيرة ثلاثة أيام، وكانت تنذر قومها الجيوش إذا غزتهم، فلا يأتيهم جيش إلا وقد استعدوا له، حتى احتال لها بعض مَن غزاهم، فأمر أصحابه فقطعوا شجرًا أمسكوه أمامهم بأيديهم، ونظرت الزرقاء فقالت: إني أرى الشجر قد أقبل إليكم. قالوا لها: قد خَرِفْتِ ورقَّ عقلُك وذهب بصرك! فكذبوها، وصَبَّحتهم الخيل وأغارت عليهم وقُتلت الزرقاء.
قال: فقوَّروا عينيها، فوجدوا عروق عينيها قد غَرِقت في الإثمد من كثرة ما كانت تكتحل به)).
وذكروا للخامسة أمرًا في البغاء.
♦♦♦
[اليماني - العاصي - الهادي - الموالي]
قال الإمام النووي - رضي الله عنه - من شرحه لحديثٍ خرجه الإمام مسلم من رواية حذيفة بن اليماني - رضي الله عنهما -، واسم اليماني حُسَيْلٌ، قال:
(( حسيل: بحاء مضمومة ثم سين مفتوحة مهملتين ثم ياء ثم لام. ويقال له أيضًا: حِسْل، بكسر الحاء وإسكان السين.
وهو والد حذيفة، واليمان لقب له.
والمشهور في استعمال المحدثين أنه اليمان، بالنون من غير ياء بعدها، وهي لغة قليلة، والصحيح اليماني بالياء. وكذا: عمرو بن العاصي، وعبد الرحمن بن أبي الموالي، وشداد بن الهادي.
والمشهور للمحدثين حذف الياء، والصحيح إثباتها)).
♦♦♦
["باسم الله"]
نقل الإمام النووي[1] عن الكُتَّاب من أهل العربية أنه إذا قيل: "باسم الله" تعين كتبه بالألف، وإنما تحذف الألف إذا كتب "بسم الله الرحمن الرحيم" بكمالها.
♦♦♦
[من روائع الكَلِم ]
1- ((مَن كثر ضحكه قَلَّت هيبته، ومَن أكثر من شيء عُرِف به، ومَن كثر مزاحه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل ورعه، ومن قل ورعه ذهب حياؤه، ومن ذهب حياؤه مات قلبه)). عمر بن الخطاب.
2- ((لا يكن حبُّك كَلَفًا، ولا بُغضُك تلفًا)) [2]. عمر بن الخطاب.
3- ((أَحْبِبْ حبيبك هونًا ما، عسى أن يكون بغيضك يومًا ما. وأَبْغِضْ بغيضك هونًا ما، عسى أن يكون حبيبك يومًا ما)). رُوي مرفوعًا وموقوفًا، والموقوف أشبه.
4- ((جالسوا العلماء؛ فإنكم إن أحسنتم حمدوكم، وإن أسأتم تأولوا لكم وعذروكم، وإن أخطأتم لم يعنفوكم، وإن جهلتم علموكم، وإن شهدوا لكم نفعوكم)). عامر بن شراحيل الشعبي.
5- ((أَحِبُّوا هونًا، وأبغضوا هونًا؛ فقد أفرط أقوام في حب أقوام فهلكوا، وأفرط أقوام في بغض أقوام فهلكوا، فلا تفرط في حبك، ولا تفرط في بغضك)). الحسن البصري.
6- ((جواب الأحمق السكوت. والتغافل يطفئ شرًّا كثيرًا. ورضا المتجني غاية لا تُدرَك. والاستعطاف عون للظفر. ومَن غضب على مَن لا يقدر عليه طال حزنه)). سليمان بن مهران الأعمش.
7- ((لا يضيق سَُمُّ الخياط على مُتَحَابَّينِ، ولا تَسَعُ الدنيا مُتَبَاغِضَيْنِ)). الخليل بن أحمد الفراهيدي.
8- ((مَن نصح أخاه سرًّا فقد نصحه وزانه، ومَن نصحه علانية فقد فضحه وشانه))[3]. الشافعي.
9- ((الدنيا دارُ نَفَادٍ، لا مَحَلُّ إِخْلادٍ، ومَرْكَبُ عُبُورٍ، لا مَنْزِلُ حُبُورٍ، ومَشْرَعُ انفِصَامٍ، لا مَوْطِنُ دَوَامٍ؛ فلهذا كان الأيْقَاظُ من أهلها هم العُبَّاد، وأعقلُ الناسِ فيها هم الزُّهَّاد)). النووي.
• ((كلُّ ساعةٍ قابلةٌ لأن تضع فيها حجرًا يزداد به صرح مجدك ارتفاعًا، ويقطع به قومك في السعادة باعًا أو ذراعًا. فإن كنت حريصًا على أن يكون لك مجدك الأسمى، ولقومك السعادة العظمى؛ فدع الراحة جانبًا، واجعل بينك وبين اللهو حاجبًا)). محمد الخضر حسين.
♦♦♦
[ما يلد وما يبيض]
قال ابن قتيبة:
حدثني الرياشي قال: ((ليس شيء يغيب أذناه إلا وهو يبيض، وليس شيء يظهر أذناه إلا وهو يلد)).
وروى ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
♦♦♦
[من وصايا الجاحظ لشداة الأدب]
قال عمرٌو:
وأنا أوصيك ألا تدع التماس البيان والتبيين إن ظننت أن لك فيها طبيعة، وأنهما يناسبانك بعض المناسبة، ويُشاكِلانِك في بعض المشاكلة.
ولا تهمل طبيعتك فيستوليَ الإهمال على قوة القريحة، ويستبدَّ بها سوء العادة.
وإن كنت ذا بيان وأحسست من نفسك بالنفوذ في الخطابة والبلاغة، وبقوة الْمُنَّة يوم الحفل، فلا تُقَصِّر في التماس أعلاها سُورة[4]، وأرفعها في البيان منزلة.
ولا يقطعنَّك تهييب الجهلاء، وتخويف الجبناء، ولا تصرفنك الروايات المعدولة عن وجوهها، المتأوَّلَة على أقبح مخارجها.
فإن أردت أن تَتكلف هذه الصناعة، وتُنسب إلى هذا الأدب، فقرضْتَ قصيدة، أو حَبَّرْتَ خطبة، أو ألَّفْت رسالة، فإياك أن تدعوك ثقتُك بنفسك، أو يدعوك عُجبك بثمرة عقلك إلى أن تنتحله وتَدَّعيه، ولكن اعرضه على العلماء في عُرْض رسائلَ أو أشعارٍ أو خُطبٍ، فإن رأيت الأسماع تُصغي له، والعيونَ تَحْدِج إليه، ورأيت من يطلبه ويستحسنه، فانتحله[5].
فإن كان ذلك في ابتداء أمرك، وفي أول تكلُّفِك، فلم ترَ له طالبًا ولا مستحسنًا، فلعله أن يكون ما دام رَيِّضًا قَضِيبًا، أن يحل عندهم محل المتروك.
فإذا عاودت أمثال ذلك مرارًا، فوجدت الأسماع عنه منصرفة، والقلوبَ لاهيةً، فخُذْ في غير هذه الصناعة، واجعل رائدَك الذي لا يَكْذِبُك حِرْصَهم عليه، أو زُهْدَهم فيه.
ولا تثق في كلامك برأي نفسك؛ فإني ربما رأيت الرجل متماسكًا وفوق المتماسك، حتى إذا صار إلى رأيه في شعره، وفي كلامه، وفي ابنه، رأيته متهافتًا وفوق المتهافت.
وكان زُهَير بن أبي سُلْمى، وهو أحد الثلاثة المتقدمين، يسمِّي كبار قصائده "الْحَوْلِيَّات".
وقال نوح بن جرير: قال الحُطَيْئة: ((خير الشعر الْحَوْلِيُّ الْمُنَقَّح)).
[1] "المنهاج" (13/110).
[2]رواه البخاري في آخر كتابه "الأدب المفرد"، وفيه أن زبد بن أسلم قال له: كيف ذاك؟ قال: ((إذا أحببتَ كَلِفْتَ كَلَف الصبي، وإذا أبغضت أحببت لصاحبك التلف)).
[3]أنشد الشافعي:
[4] أي: منزلة.
[5] لو كان الجاحظ لعهدنا لقال ما محصله: ثم إن أنت أردت نشره، وابتغيت سُموقه وبره، فالتمس ناشرًا أمينًا فهمًا، واحذرن من التجار ذوي الرزايا والأرزاء، فإنك إن تدفع إليهم كتابك يكن خيره أقل من الهباء. إن تعط أحدهم الكتاب مخطوطًا باعًا؛ يعطكه مطبوعًا ذراعًا!! ولسوف ترى في ذا الذراع كلامًا لم تحر له يراعًا !! ولئن راجعته ليُدَالِسَن وليُوَالِسن والشهود يأتون سراعًا!! وحسبك بالمجرِّب من عليم.
وائل حافظ خلف |
((فوائد في علوم شتى نفيسات - خواطر عليات - حِكَم فائقات - نوادر مستحسنات - أشعار منتقاة - حكايات مصطفاة))
[هذه - أسعدك الله - روضة لديدة سَنية، ناضرة بهية، دانية قطوفها، مأمونة فصولها؛ فتأنق حيث شئت فيها جَيْئَة وذُهُوبًا، وكن للدعاء لغارسها بذَّالاً وَهُوبًا].
[مَن ضُرب به المثل من الناس]
قال أبو عمر ابن عبد ربه:
((قالت العرب: أسخى من حاتم. وأشجع من ربيعة بن مُكَدَّم. وأدهى من قيس بن زُهَير. وأعز من كُلَيْب بن وائل. وأوفى من السَّمَوْءل. وأذكى من إياس بن معاوية. وأسوَد من قيس بن عاصم. وأمنع من الحارث بن ظالم. وأبلغ من سُحبان بن وائل. وأحلم من الأحف بن قيس. وأصدق من أبي ذر الغِفاري. وأكذب من مسيلمة الحنفي. وأعيا من باقِل. وأمضى من سُلَيْك المقانب. وأنعم من خُرَيْم الناعم. وأحمق من هَبَنَّقَةَ. وأفتك من البَرَّاض)).
ومن النساء يقال:
((أشأم من البَسوس. وأحمق من دُغَة. وأمنع من أم قِرْفة. وأقود من ظُلْمة، وأبصر من زرقاء اليمامة)).
قال أبو عمر:
((البسوس: جارة جسَّاس بن مُرَّة بن ذُهل بن شيبان، ولها كانت الناقة التي قُتل من أجلها كليبُ بن وائل، وبها ثارت الحرب بين بكر بن وائل وتغلب، التي يقال لها حرب البسوس.
وأم قِرْفَة: امرأة مالك بن حذيفة بن بدر الفزاري، وكان يُعَلَّق في بيتها خمسون سيفًا، كل سيف منها لذي مَحْرَم لها.
ودُغَة: امرأة من عجل بن لُجَيم، تزوجت في بني العنبر بن عمرو بن تميم.
وزرقاء بني نُمير: امرأة كانت باليمامة تبصر الشعرة البيضاء في اللبن، وتنظر الراكب على مسيرة ثلاثة أيام، وكانت تنذر قومها الجيوش إذا غزتهم، فلا يأتيهم جيش إلا وقد استعدوا له، حتى احتال لها بعض مَن غزاهم، فأمر أصحابه فقطعوا شجرًا أمسكوه أمامهم بأيديهم، ونظرت الزرقاء فقالت: إني أرى الشجر قد أقبل إليكم. قالوا لها: قد خَرِفْتِ ورقَّ عقلُك وذهب بصرك! فكذبوها، وصَبَّحتهم الخيل وأغارت عليهم وقُتلت الزرقاء.
قال: فقوَّروا عينيها، فوجدوا عروق عينيها قد غَرِقت في الإثمد من كثرة ما كانت تكتحل به)).
وذكروا للخامسة أمرًا في البغاء.
♦♦♦
[اليماني - العاصي - الهادي - الموالي]
قال الإمام النووي - رضي الله عنه - من شرحه لحديثٍ خرجه الإمام مسلم من رواية حذيفة بن اليماني - رضي الله عنهما -، واسم اليماني حُسَيْلٌ، قال:
(( حسيل: بحاء مضمومة ثم سين مفتوحة مهملتين ثم ياء ثم لام. ويقال له أيضًا: حِسْل، بكسر الحاء وإسكان السين.
وهو والد حذيفة، واليمان لقب له.
والمشهور في استعمال المحدثين أنه اليمان، بالنون من غير ياء بعدها، وهي لغة قليلة، والصحيح اليماني بالياء. وكذا: عمرو بن العاصي، وعبد الرحمن بن أبي الموالي، وشداد بن الهادي.
والمشهور للمحدثين حذف الياء، والصحيح إثباتها)).
♦♦♦
["باسم الله"]
نقل الإمام النووي[1] عن الكُتَّاب من أهل العربية أنه إذا قيل: "باسم الله" تعين كتبه بالألف، وإنما تحذف الألف إذا كتب "بسم الله الرحمن الرحيم" بكمالها.
♦♦♦
[من روائع الكَلِم ]
1- ((مَن كثر ضحكه قَلَّت هيبته، ومَن أكثر من شيء عُرِف به، ومَن كثر مزاحه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل ورعه، ومن قل ورعه ذهب حياؤه، ومن ذهب حياؤه مات قلبه)). عمر بن الخطاب.
2- ((لا يكن حبُّك كَلَفًا، ولا بُغضُك تلفًا)) [2]. عمر بن الخطاب.
3- ((أَحْبِبْ حبيبك هونًا ما، عسى أن يكون بغيضك يومًا ما. وأَبْغِضْ بغيضك هونًا ما، عسى أن يكون حبيبك يومًا ما)). رُوي مرفوعًا وموقوفًا، والموقوف أشبه.
4- ((جالسوا العلماء؛ فإنكم إن أحسنتم حمدوكم، وإن أسأتم تأولوا لكم وعذروكم، وإن أخطأتم لم يعنفوكم، وإن جهلتم علموكم، وإن شهدوا لكم نفعوكم)). عامر بن شراحيل الشعبي.
5- ((أَحِبُّوا هونًا، وأبغضوا هونًا؛ فقد أفرط أقوام في حب أقوام فهلكوا، وأفرط أقوام في بغض أقوام فهلكوا، فلا تفرط في حبك، ولا تفرط في بغضك)). الحسن البصري.
6- ((جواب الأحمق السكوت. والتغافل يطفئ شرًّا كثيرًا. ورضا المتجني غاية لا تُدرَك. والاستعطاف عون للظفر. ومَن غضب على مَن لا يقدر عليه طال حزنه)). سليمان بن مهران الأعمش.
7- ((لا يضيق سَُمُّ الخياط على مُتَحَابَّينِ، ولا تَسَعُ الدنيا مُتَبَاغِضَيْنِ)). الخليل بن أحمد الفراهيدي.
8- ((مَن نصح أخاه سرًّا فقد نصحه وزانه، ومَن نصحه علانية فقد فضحه وشانه))[3]. الشافعي.
9- ((الدنيا دارُ نَفَادٍ، لا مَحَلُّ إِخْلادٍ، ومَرْكَبُ عُبُورٍ، لا مَنْزِلُ حُبُورٍ، ومَشْرَعُ انفِصَامٍ، لا مَوْطِنُ دَوَامٍ؛ فلهذا كان الأيْقَاظُ من أهلها هم العُبَّاد، وأعقلُ الناسِ فيها هم الزُّهَّاد)). النووي.
• ((كلُّ ساعةٍ قابلةٌ لأن تضع فيها حجرًا يزداد به صرح مجدك ارتفاعًا، ويقطع به قومك في السعادة باعًا أو ذراعًا. فإن كنت حريصًا على أن يكون لك مجدك الأسمى، ولقومك السعادة العظمى؛ فدع الراحة جانبًا، واجعل بينك وبين اللهو حاجبًا)). محمد الخضر حسين.
♦♦♦
[ما يلد وما يبيض]
قال ابن قتيبة:
حدثني الرياشي قال: ((ليس شيء يغيب أذناه إلا وهو يبيض، وليس شيء يظهر أذناه إلا وهو يلد)).
وروى ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
♦♦♦
[من وصايا الجاحظ لشداة الأدب]
قال عمرٌو:
وأنا أوصيك ألا تدع التماس البيان والتبيين إن ظننت أن لك فيها طبيعة، وأنهما يناسبانك بعض المناسبة، ويُشاكِلانِك في بعض المشاكلة.
ولا تهمل طبيعتك فيستوليَ الإهمال على قوة القريحة، ويستبدَّ بها سوء العادة.
وإن كنت ذا بيان وأحسست من نفسك بالنفوذ في الخطابة والبلاغة، وبقوة الْمُنَّة يوم الحفل، فلا تُقَصِّر في التماس أعلاها سُورة[4]، وأرفعها في البيان منزلة.
ولا يقطعنَّك تهييب الجهلاء، وتخويف الجبناء، ولا تصرفنك الروايات المعدولة عن وجوهها، المتأوَّلَة على أقبح مخارجها.
فإن أردت أن تَتكلف هذه الصناعة، وتُنسب إلى هذا الأدب، فقرضْتَ قصيدة، أو حَبَّرْتَ خطبة، أو ألَّفْت رسالة، فإياك أن تدعوك ثقتُك بنفسك، أو يدعوك عُجبك بثمرة عقلك إلى أن تنتحله وتَدَّعيه، ولكن اعرضه على العلماء في عُرْض رسائلَ أو أشعارٍ أو خُطبٍ، فإن رأيت الأسماع تُصغي له، والعيونَ تَحْدِج إليه، ورأيت من يطلبه ويستحسنه، فانتحله[5].
فإن كان ذلك في ابتداء أمرك، وفي أول تكلُّفِك، فلم ترَ له طالبًا ولا مستحسنًا، فلعله أن يكون ما دام رَيِّضًا قَضِيبًا، أن يحل عندهم محل المتروك.
فإذا عاودت أمثال ذلك مرارًا، فوجدت الأسماع عنه منصرفة، والقلوبَ لاهيةً، فخُذْ في غير هذه الصناعة، واجعل رائدَك الذي لا يَكْذِبُك حِرْصَهم عليه، أو زُهْدَهم فيه.
ولا تثق في كلامك برأي نفسك؛ فإني ربما رأيت الرجل متماسكًا وفوق المتماسك، حتى إذا صار إلى رأيه في شعره، وفي كلامه، وفي ابنه، رأيته متهافتًا وفوق المتهافت.
وكان زُهَير بن أبي سُلْمى، وهو أحد الثلاثة المتقدمين، يسمِّي كبار قصائده "الْحَوْلِيَّات".
وقال نوح بن جرير: قال الحُطَيْئة: ((خير الشعر الْحَوْلِيُّ الْمُنَقَّح)).
[1] "المنهاج" (13/110).
[2]رواه البخاري في آخر كتابه "الأدب المفرد"، وفيه أن زبد بن أسلم قال له: كيف ذاك؟ قال: ((إذا أحببتَ كَلِفْتَ كَلَف الصبي، وإذا أبغضت أحببت لصاحبك التلف)).
[3]أنشد الشافعي:
تعمدني بنصحك في انفرادي ![]() وجنبني النصيحة في الجماعه ![]() فإن النصح بين الناس نوع ![]() من التوبيخ لا أرضى استماعه ![]() فإن خالفتني وعصيت قولي ![]() فلا تجزع إذا لم تُعطَ طاعه ![]() |
[4] أي: منزلة.
[5] لو كان الجاحظ لعهدنا لقال ما محصله: ثم إن أنت أردت نشره، وابتغيت سُموقه وبره، فالتمس ناشرًا أمينًا فهمًا، واحذرن من التجار ذوي الرزايا والأرزاء، فإنك إن تدفع إليهم كتابك يكن خيره أقل من الهباء. إن تعط أحدهم الكتاب مخطوطًا باعًا؛ يعطكه مطبوعًا ذراعًا!! ولسوف ترى في ذا الذراع كلامًا لم تحر له يراعًا !! ولئن راجعته ليُدَالِسَن وليُوَالِسن والشهود يأتون سراعًا!! وحسبك بالمجرِّب من عليم.