قراءة مختصرة لكتاب طريقنا للقلوب لفيصل بن عبده الحاشدي (2)
حسن عبدالحي
ذكرنا في "المقال السابق" عشْر وسائل في طريقِنا للقلوب، ونستَكمِل حديثَنا - بعَوْنِ الله تعالى - فمن الوسائل أيضًا:
11- حُسْنُ الاستِماع:
إذا أردتَ أن تَسلُك أقصر طريقٍ إلى قلوب الناس، فأحسن الاستَماع لحديثهم إذا حدَّثوك، وذلك بالأذنين وطرف العين، وحضور القلب وإشراقة الوجه، فإنَّ إقبالَك على محدِّثِك دليلٌ على ارتِياحك لِمُجالَستِه، وتقديرك لشخصيته، وشغفك بحديثه، وعُظَماء الرجال يقضون بهذا الحقِّ.
قال ابن عباس - رضِي الله عنه -: "لِجَليسي عليَّ ثلاث: أن أرميه بطرفي إذا أقبل، وأن أُوَسِّع له في المجلس إذا جلس، وأن أُصغِي إليه إذا تحدَّث"؛ "عيون الأخبار".
وترْك الإصغاء للمُتحدِّث سُوء أدب، وقلَّة مروءة؛ لما في ذلك من استِجلاب الضغينة، واحتِقار المتحدِّث، قال معاذ بن سعد الأعور: "كنت جالسًا عند عَطاء بن أبي رباح، فحدَّث رجلٌ بحديث، فعرض رجلٌ من القوم في حديثه، قال: فغضب - أي: عطاء - وقال: ما هذه الطِّباع؟ إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به، فأُرِيه كأنِّي لا أحسن منه شيئًا!"؛ "روضة العقلاء".
12- لُزُوم السَّكِينة والوَقار:
الوَقار يُكسِب صاحبَه المَهابَةَ وحبَّ الناس، والوَقُور يُدرِك ما لا يُدرِكه غيره من معاني العزِّ والشرف والرِّئاسة.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ لأمَّته التحلِّي بخُلق السكينة والوَقار حتى وهم في طريقهم إلى الصلاة؛ فعن أبي هريرة - رضِي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سمعتم الإقامة، فامشوا إلى الصلاة، وعليكم بالسَّكِينة والوَقار))؛ رواه البخاري ومسلم.
وقال بشير بن كعب - رحمه الله تعالى -: "مكتوبٌ في الحكمة: إن من الحياء وقارًا، وإن من الحياء سكينة"؛ رواه البخاري.
13- لُزُوم المُرُوءة:
المُرُوءة تبعث على إجلال صاحبها، وامتِلاء القلب بمحبَّته، والأعينِ بمهابته، وهي جِماع الطرق الموصلة إلى القلوب؛ لاشتِمالها على مَكارِم الأخلاق، ومَحاسِن الآداب، وكمال الرُّجولة.
والمُرُوءة: "قوَّة للنفس، مبدأٌ لصدور الأفعال الجميلة عنها، المُستَتْبِعَة للمدح شرعًا وعقلاً وعرفًا"؛ "التعريفات"؛ للجرجاني.
قِيل لسفيان بن عُيَيْنَةَ: قد استنبطت من القرآن كلَّ شيء، فأين المُرُوءة؟ فقال: في قوله -تعالى-: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199].
14- المزاح المعتَدِل:
المِزاح سُنَّة مشروعة، وخلق يُحِبُّه كثيرٌ من الناس؛ بل ومن أعظم وسائِل التحبُّب إلى الناس، وهو الطريق السهل إلى قلوبهم، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُداعِب أصحابه، فيُدخِل عليهم السرورَ والبهجة؛ قال أبو هريرة: "قالوا: يا رسول الله، إنك تُداعِبنا! قال: ((إني لأداعبكم ولا أقول إلا حَقًّا))؛ (رواه أحمد والترمذي، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").
وعن أنسٍ - رضِي الله عنه -: "أنَّ رجلاً من البادية كان اسمه زاهر بن حرام، وكان يُهدِي للنبي - صلى الله عليه وسلم - الهديَّة من البادية، فيُجهِّزه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يَخرُج، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن زاهرًا باديتنا، ونحن حاضروه))؛ قال أنس: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّه، وكان - زاهر - دَمِيمًا، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا وهو يبيع متاعه، فاحتَضَنَه من خلفه وهو لا يُبصِره، فقال: أرسِلْنِي، مَن هذا؟ فالتَفَتَ، فعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل لا يألو ما ألزق ظهره بصدر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين عرَفَه، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَن يشتَرِي العبد؟))، فقال: يا رسول الله، إذًا تجدني كاسِدًا، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((لكن عند الله أنت غالٍ))؛ (رواه أحمد والترمذي، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").
ومن المزاح مزاح مَذموم، وهو الذي يُثِير العداوة، ويُذهِب البهاء، ويَقطَع الصداقة، ويُجرِّئ الدَّنِيء، ويحقد الشريف، فهذا تركه مُتَحتِّم على العاقل.
15- تجنُّب الغضب:
الذي يملك نفسه عند الغضب تجاه انفعالاته العَجُولة، تعلو مكانته في القلوب، ويَحظَى بحبِّ الناس له، ويَسعد بالقرب منهم، ومَن كان طبعه الغضب لا ينبل، ولا يَنال العلا، ولا يَحظى بحبِّ الناس له؛ بل لا يُطِيق بعض الناس النظر إليه، فضلاً عن محبَّتهم له.
وقد عدَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشديد مَن يملك نفسه عند الغضب، فقال: ((ليس الشديد بالصُّرَعة؛ وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب))؛ (رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه).
وقال رجلٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أوصِنِي، قال: ((لا تغضب))، فرَدَّد مِرارًا، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تغضب))؛ (رواه البخاري من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه).
وعلاج الغضب الاستِعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والسكوت، والجلوس أو الاضطجاع، مع استِحضار أجر الكاظِمين الغيظ والعافين عن الناس.
16- العدل:
الرجل الذي يَعدِل في حكمه بين أهله وأولاده ومَن له عليهم ولاية، تُحِبُّه قلوب الناس؛ بل ويَصدُرون عن رأيه عند النِّزاع، ويَرجِعون إليه عند الاختِلاف، فيحصل بعدله شفاء القلوب، وطمأنينة النفوس، وإن سخط عليه المُبطِل اليومَ، رضِي عنه غدًا.
وتمام العدل حين يكون مع الصديق والعدوِّ؛ كما قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8].
17- الرِّفق بالناس:
جُبِل الناس على حبِّ مَن يَرفق بهم، كما جُبِلوا على النُّفور من الفظِّ الغليظ، حتى ولو كان من خير عباد الله؛ قال الله -تعالى-: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159].
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الرفق ما كان في شيءٍ إلا زانَه، وما نُزِع من شيءٍ إلا شانَه))؛ (رواه مسلم)، ويقول كذلك - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفق في الأمر كله))؛ (رواه البخاري ومسلم).
ودعا - صلى الله عليه وسلم - لِمَن رفق بأمَّته، كما دعا على مَن شقَّ عليهم، فقال: ((اللهم مَن ولِي من أمر أمَّتِي شيئًا فشَقَّ عليهم، فاشقق عليه، ومَن ولِي من أمر أمَّتي شيئًا فرفق بهم، فارفق به))؛ (مسلم من حديث عائشة - رضِي الله عنها).
18- تجنُّب الجِدال:
الجِدال من الآفات القاتِلة التي تشحن الصدور بالحقد، والقلوب بالكراهية لبعضها، والتعسُّف في ردِّ الحقِّ، وبخس الناس حقوقهم، والسرور بالغلبة والقهر.
والجدل المذموم هو الذي لا يهدف إلى الوصول للحقِّ والأخذ به؛ وإنما يصدر عن حبِّ التشفِّي والرغبة في اللَّدَد والخصومة، وهو الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: ((ما ضَلَّ قومٌ بعد هُدًى كانوا عليه إلا أُوتُوا الجدل))، ثم تلا - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: ﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ [الزخرف: 58]؛ (أخرجه الترمذي وابن ماجه، وصحَّحه الألباني في "صحيح الترمذي").
19- الألفة:
وهي الاجتِماع على الحبِّ في الله، وائتِلاف القلوب على طاعة الله، وخُلُوصها من نَوازِع الجاهليَّة، وهي من أعظم نِعَمِ الله -تعالى- على العِباد بعد نعمة الهدى والإيمان؛ قال الله - سبحانه -: ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [آل عمران: 103].
والألفة صفة من صفات أهل الإيمان؛ فعن ابن عمر - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المؤمنون هيِّنون ليِّنون، كالجَمَل الأَنِف؛ إنْ قِيدَ انقاد، وإذا أُنِيخ على صخرة استَناخ))؛ (رواه البيهقي في "الشُّعَب"، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع").
وعن جابر بن عبدالله - رضِي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المؤمن يَألَف ويُؤلَف، ولا خير فيمَن لا يَألَف ولا يُؤلَف))؛ (رواه الطبراني في "الكبير"، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").
20- المُدارَاة:
المُدارَاة من أعظَم وسائل كسْب القلوب المُتنافِرَة، وإطفاء العداوة، وقَلْبها إلى صَداقة ومحبَّة، وهي ترجع إلى القول الحسن، وحسن اللقاء، وتجنُّب ما يشعر بنُفور أو غضب في حقِّ مَن في خُلقه ودينه شيءٌ.
عن عائشة - رضِي الله عنها - أنَّ رجلاً استَأذَن على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ائذنوا له، فلبِئس ابن العشير، أو بئس رجل العشيرة))، فلمَّا دخل عليه ألان له القول، قالت عائشة - رضِي الله عنها -: فقلت: يا رسول الله، قلتَ الذي قلتَ، ثم ألنت له القول؟ قال: ((يا عائشة، إنَّ شرَّ الناس مَنزِلة عند الله يوم القيامة مَن ودعه - أي: ترَكَه - الناس اتِّقاء فحشه))؛ (البخاري ومسلم).
قال العتابي: "مُدارَاة الناس سياسة لطيفة، لا يستَغنِي عنها ملك ولا سُوقَة، يجتَلِبون بها المنافع، ويَدفَعُون بها المضارَّ، فمَن كَثُرَتْ مُدارَاته، كان في ذمَّة الحمد والسلامة"؛ "عين الأدب والسياسة".
21- السماحة:
وهي التسهيل والتيسير على الناس في المُعامَلَة، والرجل السَّمْح يَرتاح له الناس، وتُحِبُّه قلوبهم، وقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل السَّمْحِ، فقال: ((رَحِمَ الله رجلاً سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى))؛ رواه البخاري.
ومن صُوَرِ السماحة: إنظار المَدِين المُعسر أو العفو عنه، وعدم التضييق على الناس ووضعهم في حرَج، وكان الصحابي الجليل أبو اليسر "له على رجل قرض، فلمَّا ذهب لاستِيفاء حقِّه، اختَبَأ الغريم في داره؛ لئلاَّ يلقى أبا اليسر، وهو لا يملك السداد، فلمَّا عَلِمَ أبو اليسر أنَّ صاحِبَه يتخفَّى منه حَياءً لعدم تمكُّنه من أداء ما عليه، أتى بصحيفة القرض فمَحاه، وقال: إن وجدت قضاء فاقضِني، وإلا فأنت في حِلٍّ"؛ رواه مسلم.
وبالجملة: مَن أراد سلوك الطريق السهل إلى قلوب الناس، فليكن سمحًا في معاملته وفي دعوته، وفي حواره ومناظرته، سمحًا إذا ظُلِم أو جُهِل عليه، فالسَّماحة من الإيمان؛ لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((السماحة من الإيمان))؛ (رواه الطبراني في "المكارم" وأبو يعلى، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").
22- سلامة الصدر:
من نِعَمِ الله على العبد المسلم أن يجعل صدره سليمًا من الشحناء والبغضاء، نقيًّا من الغلِّ والحسد، صافيًا من الغدر والخيانة، مُعافًى من الضغينة والحقد، ولا يطوي في قلبه إلا المحبَّة والإشفاق على إخوانه المسلمين، فبذلك يعلو قدره، وتشرف منزلته في القلوب، وهذه مَنْقَبَةٌ وخلَّة كريمة، لا يَقْوَى عليها إلا ذوو الصدق والإخلاص، ولا يَصِلُ إلى أعتابها إلا مَن جاهَد نفسَه حقَّ الجهاد، ومتى كان المرء سليم الصدر، عذر الناس من أنفسهم، والتَمَس الأعذار لأغلاطهم، وأحسن إليهم ما أساؤوا إليه، فهو يهتَدِي بقول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 34، 35].
وسلامة الصدر هي الصفة البارزة في حياة الصحابة، والخلَّة العظيمة التي رفعَتْ من أقدارهم؛ فقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أحد الصحابة ثلاثًا إلى أنه من أهل الجنة، فذهب إليه عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - وبات عنده ثلاثَ ليالٍ؛ كي ينظر إلى العمل الذي بلَغ به هذه المنزلة، فلم يره يفعل كبير عمل، فعجب عبدالله من حاله، وسأله: "ما الذي بلغ بك ما قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيتَ، غير أنِّي لا أجد في نفسي لأحدٍ من المسلمين غشًّا، ولا أحسد أحدًا على خيرٍ أعطاه الله إيَّاه، فقال عبدالله: هذا الذي بلغ بك، وهي التي لا أطيق"؛ رواه أحمد بسند صحيح.
وللحديث بقيَّة - إن شاء الله تعالى.
حسن عبدالحي
ذكرنا في "المقال السابق" عشْر وسائل في طريقِنا للقلوب، ونستَكمِل حديثَنا - بعَوْنِ الله تعالى - فمن الوسائل أيضًا:
11- حُسْنُ الاستِماع:
إذا أردتَ أن تَسلُك أقصر طريقٍ إلى قلوب الناس، فأحسن الاستَماع لحديثهم إذا حدَّثوك، وذلك بالأذنين وطرف العين، وحضور القلب وإشراقة الوجه، فإنَّ إقبالَك على محدِّثِك دليلٌ على ارتِياحك لِمُجالَستِه، وتقديرك لشخصيته، وشغفك بحديثه، وعُظَماء الرجال يقضون بهذا الحقِّ.
قال ابن عباس - رضِي الله عنه -: "لِجَليسي عليَّ ثلاث: أن أرميه بطرفي إذا أقبل، وأن أُوَسِّع له في المجلس إذا جلس، وأن أُصغِي إليه إذا تحدَّث"؛ "عيون الأخبار".
وترْك الإصغاء للمُتحدِّث سُوء أدب، وقلَّة مروءة؛ لما في ذلك من استِجلاب الضغينة، واحتِقار المتحدِّث، قال معاذ بن سعد الأعور: "كنت جالسًا عند عَطاء بن أبي رباح، فحدَّث رجلٌ بحديث، فعرض رجلٌ من القوم في حديثه، قال: فغضب - أي: عطاء - وقال: ما هذه الطِّباع؟ إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به، فأُرِيه كأنِّي لا أحسن منه شيئًا!"؛ "روضة العقلاء".
12- لُزُوم السَّكِينة والوَقار:
الوَقار يُكسِب صاحبَه المَهابَةَ وحبَّ الناس، والوَقُور يُدرِك ما لا يُدرِكه غيره من معاني العزِّ والشرف والرِّئاسة.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ لأمَّته التحلِّي بخُلق السكينة والوَقار حتى وهم في طريقهم إلى الصلاة؛ فعن أبي هريرة - رضِي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سمعتم الإقامة، فامشوا إلى الصلاة، وعليكم بالسَّكِينة والوَقار))؛ رواه البخاري ومسلم.
وقال بشير بن كعب - رحمه الله تعالى -: "مكتوبٌ في الحكمة: إن من الحياء وقارًا، وإن من الحياء سكينة"؛ رواه البخاري.
13- لُزُوم المُرُوءة:
المُرُوءة تبعث على إجلال صاحبها، وامتِلاء القلب بمحبَّته، والأعينِ بمهابته، وهي جِماع الطرق الموصلة إلى القلوب؛ لاشتِمالها على مَكارِم الأخلاق، ومَحاسِن الآداب، وكمال الرُّجولة.
والمُرُوءة: "قوَّة للنفس، مبدأٌ لصدور الأفعال الجميلة عنها، المُستَتْبِعَة للمدح شرعًا وعقلاً وعرفًا"؛ "التعريفات"؛ للجرجاني.
قِيل لسفيان بن عُيَيْنَةَ: قد استنبطت من القرآن كلَّ شيء، فأين المُرُوءة؟ فقال: في قوله -تعالى-: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199].
إِنِّي لَتُطْرِبُنِي الْخِلاَلُ كَرِيمَةً ![]() طَرَبَ الْغَرِيبِ بِأَوْبَةٍ وَتَلاَقِي ![]() وَتَهُزُّنِي ذِكْرَى الْمُرُوءَةِ وَالنَّدَى ![]() بَيْنَ الشَّمَائِلِ هِزَّةَ الْمُشْتَاقِ ![]() |
14- المزاح المعتَدِل:
المِزاح سُنَّة مشروعة، وخلق يُحِبُّه كثيرٌ من الناس؛ بل ومن أعظم وسائِل التحبُّب إلى الناس، وهو الطريق السهل إلى قلوبهم، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُداعِب أصحابه، فيُدخِل عليهم السرورَ والبهجة؛ قال أبو هريرة: "قالوا: يا رسول الله، إنك تُداعِبنا! قال: ((إني لأداعبكم ولا أقول إلا حَقًّا))؛ (رواه أحمد والترمذي، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").
وعن أنسٍ - رضِي الله عنه -: "أنَّ رجلاً من البادية كان اسمه زاهر بن حرام، وكان يُهدِي للنبي - صلى الله عليه وسلم - الهديَّة من البادية، فيُجهِّزه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يَخرُج، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن زاهرًا باديتنا، ونحن حاضروه))؛ قال أنس: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّه، وكان - زاهر - دَمِيمًا، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا وهو يبيع متاعه، فاحتَضَنَه من خلفه وهو لا يُبصِره، فقال: أرسِلْنِي، مَن هذا؟ فالتَفَتَ، فعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل لا يألو ما ألزق ظهره بصدر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين عرَفَه، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَن يشتَرِي العبد؟))، فقال: يا رسول الله، إذًا تجدني كاسِدًا، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((لكن عند الله أنت غالٍ))؛ (رواه أحمد والترمذي، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").
ومن المزاح مزاح مَذموم، وهو الذي يُثِير العداوة، ويُذهِب البهاء، ويَقطَع الصداقة، ويُجرِّئ الدَّنِيء، ويحقد الشريف، فهذا تركه مُتَحتِّم على العاقل.
15- تجنُّب الغضب:
الذي يملك نفسه عند الغضب تجاه انفعالاته العَجُولة، تعلو مكانته في القلوب، ويَحظَى بحبِّ الناس له، ويَسعد بالقرب منهم، ومَن كان طبعه الغضب لا ينبل، ولا يَنال العلا، ولا يَحظى بحبِّ الناس له؛ بل لا يُطِيق بعض الناس النظر إليه، فضلاً عن محبَّتهم له.
وقد عدَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشديد مَن يملك نفسه عند الغضب، فقال: ((ليس الشديد بالصُّرَعة؛ وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب))؛ (رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه).
وقال رجلٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أوصِنِي، قال: ((لا تغضب))، فرَدَّد مِرارًا، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تغضب))؛ (رواه البخاري من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه).
وعلاج الغضب الاستِعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والسكوت، والجلوس أو الاضطجاع، مع استِحضار أجر الكاظِمين الغيظ والعافين عن الناس.
16- العدل:
الرجل الذي يَعدِل في حكمه بين أهله وأولاده ومَن له عليهم ولاية، تُحِبُّه قلوب الناس؛ بل ويَصدُرون عن رأيه عند النِّزاع، ويَرجِعون إليه عند الاختِلاف، فيحصل بعدله شفاء القلوب، وطمأنينة النفوس، وإن سخط عليه المُبطِل اليومَ، رضِي عنه غدًا.
وتمام العدل حين يكون مع الصديق والعدوِّ؛ كما قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8].
17- الرِّفق بالناس:
جُبِل الناس على حبِّ مَن يَرفق بهم، كما جُبِلوا على النُّفور من الفظِّ الغليظ، حتى ولو كان من خير عباد الله؛ قال الله -تعالى-: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159].
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الرفق ما كان في شيءٍ إلا زانَه، وما نُزِع من شيءٍ إلا شانَه))؛ (رواه مسلم)، ويقول كذلك - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفق في الأمر كله))؛ (رواه البخاري ومسلم).
ودعا - صلى الله عليه وسلم - لِمَن رفق بأمَّته، كما دعا على مَن شقَّ عليهم، فقال: ((اللهم مَن ولِي من أمر أمَّتِي شيئًا فشَقَّ عليهم، فاشقق عليه، ومَن ولِي من أمر أمَّتي شيئًا فرفق بهم، فارفق به))؛ (مسلم من حديث عائشة - رضِي الله عنها).
18- تجنُّب الجِدال:
الجِدال من الآفات القاتِلة التي تشحن الصدور بالحقد، والقلوب بالكراهية لبعضها، والتعسُّف في ردِّ الحقِّ، وبخس الناس حقوقهم، والسرور بالغلبة والقهر.
والجدل المذموم هو الذي لا يهدف إلى الوصول للحقِّ والأخذ به؛ وإنما يصدر عن حبِّ التشفِّي والرغبة في اللَّدَد والخصومة، وهو الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: ((ما ضَلَّ قومٌ بعد هُدًى كانوا عليه إلا أُوتُوا الجدل))، ثم تلا - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: ﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ [الزخرف: 58]؛ (أخرجه الترمذي وابن ماجه، وصحَّحه الألباني في "صحيح الترمذي").
19- الألفة:
وهي الاجتِماع على الحبِّ في الله، وائتِلاف القلوب على طاعة الله، وخُلُوصها من نَوازِع الجاهليَّة، وهي من أعظم نِعَمِ الله -تعالى- على العِباد بعد نعمة الهدى والإيمان؛ قال الله - سبحانه -: ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [آل عمران: 103].
والألفة صفة من صفات أهل الإيمان؛ فعن ابن عمر - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المؤمنون هيِّنون ليِّنون، كالجَمَل الأَنِف؛ إنْ قِيدَ انقاد، وإذا أُنِيخ على صخرة استَناخ))؛ (رواه البيهقي في "الشُّعَب"، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع").
وعن جابر بن عبدالله - رضِي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المؤمن يَألَف ويُؤلَف، ولا خير فيمَن لا يَألَف ولا يُؤلَف))؛ (رواه الطبراني في "الكبير"، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").
20- المُدارَاة:
المُدارَاة من أعظَم وسائل كسْب القلوب المُتنافِرَة، وإطفاء العداوة، وقَلْبها إلى صَداقة ومحبَّة، وهي ترجع إلى القول الحسن، وحسن اللقاء، وتجنُّب ما يشعر بنُفور أو غضب في حقِّ مَن في خُلقه ودينه شيءٌ.
عن عائشة - رضِي الله عنها - أنَّ رجلاً استَأذَن على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ائذنوا له، فلبِئس ابن العشير، أو بئس رجل العشيرة))، فلمَّا دخل عليه ألان له القول، قالت عائشة - رضِي الله عنها -: فقلت: يا رسول الله، قلتَ الذي قلتَ، ثم ألنت له القول؟ قال: ((يا عائشة، إنَّ شرَّ الناس مَنزِلة عند الله يوم القيامة مَن ودعه - أي: ترَكَه - الناس اتِّقاء فحشه))؛ (البخاري ومسلم).
قال العتابي: "مُدارَاة الناس سياسة لطيفة، لا يستَغنِي عنها ملك ولا سُوقَة، يجتَلِبون بها المنافع، ويَدفَعُون بها المضارَّ، فمَن كَثُرَتْ مُدارَاته، كان في ذمَّة الحمد والسلامة"؛ "عين الأدب والسياسة".
21- السماحة:
وهي التسهيل والتيسير على الناس في المُعامَلَة، والرجل السَّمْح يَرتاح له الناس، وتُحِبُّه قلوبهم، وقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل السَّمْحِ، فقال: ((رَحِمَ الله رجلاً سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى))؛ رواه البخاري.
ومن صُوَرِ السماحة: إنظار المَدِين المُعسر أو العفو عنه، وعدم التضييق على الناس ووضعهم في حرَج، وكان الصحابي الجليل أبو اليسر "له على رجل قرض، فلمَّا ذهب لاستِيفاء حقِّه، اختَبَأ الغريم في داره؛ لئلاَّ يلقى أبا اليسر، وهو لا يملك السداد، فلمَّا عَلِمَ أبو اليسر أنَّ صاحِبَه يتخفَّى منه حَياءً لعدم تمكُّنه من أداء ما عليه، أتى بصحيفة القرض فمَحاه، وقال: إن وجدت قضاء فاقضِني، وإلا فأنت في حِلٍّ"؛ رواه مسلم.
وبالجملة: مَن أراد سلوك الطريق السهل إلى قلوب الناس، فليكن سمحًا في معاملته وفي دعوته، وفي حواره ومناظرته، سمحًا إذا ظُلِم أو جُهِل عليه، فالسَّماحة من الإيمان؛ لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((السماحة من الإيمان))؛ (رواه الطبراني في "المكارم" وأبو يعلى، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").
22- سلامة الصدر:
من نِعَمِ الله على العبد المسلم أن يجعل صدره سليمًا من الشحناء والبغضاء، نقيًّا من الغلِّ والحسد، صافيًا من الغدر والخيانة، مُعافًى من الضغينة والحقد، ولا يطوي في قلبه إلا المحبَّة والإشفاق على إخوانه المسلمين، فبذلك يعلو قدره، وتشرف منزلته في القلوب، وهذه مَنْقَبَةٌ وخلَّة كريمة، لا يَقْوَى عليها إلا ذوو الصدق والإخلاص، ولا يَصِلُ إلى أعتابها إلا مَن جاهَد نفسَه حقَّ الجهاد، ومتى كان المرء سليم الصدر، عذر الناس من أنفسهم، والتَمَس الأعذار لأغلاطهم، وأحسن إليهم ما أساؤوا إليه، فهو يهتَدِي بقول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 34، 35].
وسلامة الصدر هي الصفة البارزة في حياة الصحابة، والخلَّة العظيمة التي رفعَتْ من أقدارهم؛ فقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أحد الصحابة ثلاثًا إلى أنه من أهل الجنة، فذهب إليه عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - وبات عنده ثلاثَ ليالٍ؛ كي ينظر إلى العمل الذي بلَغ به هذه المنزلة، فلم يره يفعل كبير عمل، فعجب عبدالله من حاله، وسأله: "ما الذي بلغ بك ما قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيتَ، غير أنِّي لا أجد في نفسي لأحدٍ من المسلمين غشًّا، ولا أحسد أحدًا على خيرٍ أعطاه الله إيَّاه، فقال عبدالله: هذا الذي بلغ بك، وهي التي لا أطيق"؛ رواه أحمد بسند صحيح.
وللحديث بقيَّة - إن شاء الله تعالى.