عشر مباركة وحج آمن
أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ - فَإِنَّ التَّقوَى خَيرُ دِثَارٍ وَشِعَارٍ ﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾ [الأعراف: 26].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، حَيَاةُ الإِنسَانِ الحَقِيقِيَّةُ لَيسَت هِيَ تِلكَ اللَّيالِيَ وَالأَيَّامَ، الَّتي تَمُرُّ بِهِ وَيَطوِيهَا عَامًا بَعدَ عَامٍ، فَإِنَّ هَذِهِ عِندَ التَّأَمُّلِ مُدَّةٌ قَصِيرَةٌ سُرعَانَ مَا تَزُولُ وَتَنقَضِي، فَإِذَا الشَّابُّ قَد غَدَا كَهلاً، وَالكَهلُ قَد صَارَ شَيخًا، وَالشَّيخُ قَد هَرِمَ أَو مَاتَ وَدُفِنَ، نَعَم - أَيُّهَا الإِخوَةُ - لَيسَتِ الحَيَاةُ الحَقِيقِيَّةُ في طُولِ سَنَوَاتٍ يَقضِيهَا المَرءُ في هَذِهِ الدُّنيَا، وَلَكِنَّ الحَيَاةَ الحَقِيقِيَّةَ الَّتي يَحمَدُ فِيهَا المَرءُ حَظَّهُ وَيُنجِي بها نَفسَهُ عِندَ لِقَاءِ رَبِّهِ، هِيَ تِلكَ السَّاعَاتُ أَوِ الأَيَّامُ أَوِ المَوَاسِمُ الَّتي يُقَدِّمُ خِلالَهَا أَعمَالاً مُثمِرَةً وَيُحَقِّقُ فِيهَا إِنجَازَاتٍ عَظِيمَةً , لا في مَجَالاتِ الدُّنيَا الفَانِيَةِ وَمَكَاسِبِهَا القَلِيلَةِ الزَّائِلَةِ، وَلَكِنْ في مَيَادِينِ الآخِرَةِ البَاقِيَةِ وَأَرصِدَتِهَا المُتَضَاعِفَةِ، خَاصَّةً إِذَا كَانَت تِلكَ الأَعمَالُ وَالإِنجَازَاتُ مُنبَعِثَةً مِن إِيمَانٍ بِاللهِ وَإِخلاصٍ لَهُ - سُبحَانَهُ - دُونَ سِوَاهُ، وَغَايَتُهَا طَلَبُ مَا عِندَهُ مِنَ الأَجرِ وَابتِغَاءُ مَا وَعَدَ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ، مَعَ اتِّبَاعٍ لِلسُّنَّةِ وَحِرصٍ عَلَى تَمَامِ اقتِدَاءٍ، وَحُسنِ تَّأَسٍّ بِسَيِّدِ المُرسَلِينَ وَإِمَامِ المُتَّقِينَ، إِنَّ ذَلِكَ لَهُوَ الفَوزُ العَظِيمُ وَالفَلاحُ المُبِينَ ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110] إِنَّ العَبدَ المُؤمِنَ العَاقِلَ، حِينَ يَتَأَمَّلُ في آخِرِ كُلِّ يَومٍ يَمُرُّ عَلَيهِ، أَو نِهَايَةِ كُلِّ شَهرٍ يُمضِيهِ، أَو خِتَامِ كُلِّ عَامٍ يَطوِيهِ، وَيَسأَلُ نَفسَهُ مَاذَا عَمِلَت وَمَاذَا قَدَّمَت، وَمَا الَّذِي جَمَعَهُ لِنَفعِ نَفسِهِ وَمَا مِقدَارُ مَا ادَّخَرَهُ لِنَجَاتِهَا، إِنَّهُ لَن يَذكُرَ حِينَهَا بَيتًا بَنَاهُ وَلا مَالاً نَمَّاهُ، وَلا مَشرُوعًا وَلا مَزرَعَةً وَلا مَصنَعًا، لِعِلمِهِ التَّامِّ وِيَقِينِهِ الَّذِي لا مِريَةَ فِيهِ، بِأَنَّهُ ذَاهِبٌ يَومًا مَا بِغَيرِ اختِيَارِهِ، وَتَارِكٌ كُلَّ مَا وَرَاءَهُ مِنَ الدُّنيَا لِوَرَثَتِهِ، أَجَل - أَيُّهَا الإِخوَةُ - إِنَّ العَبدَ العَاقِلَ لا يَفرَحُ بِشَيءٍ كَفَرَحِهِ لأَدَائِهِ وَاجِبًا وَتَركِهِ مُحَرَّمًا، أَو تَزَوُّدِهِ مِن طَاعَةٍ وَنَبذِهِ لِمَعصِيَةٍ، وَلا يُحَاسِبُ نَفسَهُ عَلَى شَيءٍ كَمُحَاسَبَتِهِ إِيَّاهَا عَلَى وَاجِبٍ تَرَكَتهُ أَو مُحَرَّمٍ ارتَكَبَتهُ، أَو سُنَّةٍ فَرَّطَ فِيهَا أَو حَسَنَةٍ فَوَّتَهَا، أَو خَيرٍ تَهَيَّأَ لَهُ مَكَانًا أَو زَمَانًا فَلَم يَبذُلْهُ وَلَم يُشَارِكْ فِيهِ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، مَرَّت عَلَينَا عَشرُ ذِي الحِجَّةِ، ثم تَلَتهَا أَيَّامُ التَّشرِيقُ، فَهَنِيئًا لِمَنِ استَثمَرَ ذَلِكَ المَوسِمَ العَظِيمَ، فَحَافَظَ عَلَى الفَرَائِضِ المَكتُوبَةِ، وَصَامَ مُتَنَفِّلاً، وَقَامَ للهِ قَانِتًا، وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا، وَصَلَّى العِيدَ مَعَ المُسلِمِينَ وَضَحَّى، وَوَصَلَ رَحِمَهُ وَأَرضَى قَرَابَتَهُ، وَوَاخَيبَةَ مَن مَرَّت عَلَيهِ الأَيَّامُ المَعلُومَاتُ وَالأَيَّامُ المَعدُودَاتُ وَهُوَ في سَهوٍ وَغَفلَةٍ، مُقَصِّرًا في صَلاتِهِ، لم يَصُمْ مِنهَا وَلَو يَومًا، هَاجِرًا لِعِيدِ المُسلِمِينَ، قَاطِعًا لِرَحِمِهِ مُصَارِمًا أَقَارِبَهُ، غَيرَ أَنَّ وُجُودَ هَذِهِ المَوَاسِمِ العَظِيمَةِ الَّتي اختَارَهَا اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَفَضَّلَهَا، وَضَاعَفَ الأَجرَ فِيهَا بما لَيسَ في غَيرِهَا، لا يَعني أَن يَقصُرَ المَرءُ اجتِهَادَهُ في العِبَادَةِ عَلَيهَا، ثم يَنطَلِقَ بَعدَهَا في دُنيَاهُ مُغتَرًّا بها، نَاسِيًا لأُخرَاهُ غَافِلاً عَنهَا، مُتَجَاهِلاً أَنَّ رَأسَ مَالِهِ الحَقِيقِيَّ هُوَ عُمُرُهُ وَوَقتُهُ، وَأَنَّ كُلَّ يَومٍ تَطلُعُ فِيهِ الشَّمسُ عَلَيهِ وَهُوَ مَا زَالَ حَيًّا، فَإِنَّهُ سَيَمُرُّ فِيهِ بِمَحَطَّاتٍ إِيمَانِيَّةٍ أُخرَوِيَّةٍ، لِلتَّزَوُّدِ لِحَيَاتِهِ الحَقِيقِيَّةِ، فَمَاذَا عَمِلَ وَمَاذَا قَدَّمَ ؟! قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَومٍ تَطلُعُ فِيهِ الشَّمسُ، تَعدِلُ بَينَ الاثنِينِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ في دَابَّتِهِ فَتَحمِلُهُ عَلَيهَا أَو تَرفَعُ لَهُ عَلَيهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خَطوَةٍ يَمشِيهَا إِلى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ.
أَجَلْ - أَيُّهَا الإِخوَةُ - إِنَّهُ وَإِن كَانَت مَوَاسِمُ الخَيرِ كَرَمَضَانَ وَعَشرِ ذِي الحِجَّةِ وَأَيَّامِ التَّشرِيقِ وَالحَجِّ تَحوِي أَعمَالاً عَظِيمَةً يَخرُجُ مِنهَا الحَرِيصُ عَلَى الخَيرِ بِأُجُورٍ مُضَاعَفَةٍ، إِلاَّ أَنَّ سَائِرَ الأَيَّامِ لا تَخلُو مِنَ الخَيرِ لِمَن كَانَ لَهُ قَلبٌ، وَوُجُوهُ الإِحسَانِ إِلى النَّفسِ وَإِلى النَّاسِ مُتَعَدِّدَةٌ، وَمَا عَلَى المَرءِ إِلاَّ أَن يَغتَنِمَ عُمُرَهُ وَيَستَثمِرَ وَقتَهُ، فَيَحرِصَ عَلَى تَقدِيمِ الخَيرِ مَا استَطَاعَ إِلى ذَلِكَ سَبِيلاً، فَذَاكَ وَاللهِ هُوَ عُمُرُهُ الحَقِيقِيُّ، سَاعَةٌ يَقضِيهَا في طَلَبِ عِلمٍ أَو تَعلِيمِهِ، وَأُخرَى في قِرَاءَةِ قُرآنٍ وَذِكرٍ وَدُعَاءٍ، وَخَطوَةٌ يَخطُوهَا لِصَلاةِ في جَمَاعَةٍ، وَأُخرَى لِزِيَارَةِ مَرِيضٍ أَوِ اتِّبَاعِ جَنَازَةٍ، وَثَالِثَةٌ لإِصلاحٍ بَينَ النَّاسِ أَو صِلَةِ رَحِمٍ، وَمَالٌ يُخرِجُهُ طَيِّبَةً بِهِ نَفسُهُ في غَيرِ رِيَاءٍ وَلا طَلَبِ سُمعَةٍ، وَلَكِنْ في تَفرِيجِ كُربَةِ مُسلِمٍ أَو قَضَاءِ دَينِهِ، أَو كَفَالَةِ يَتِيمٍ أَو سَدِّ حَاجَةِ أَرمَلَةٍ، وَحِينًا يَدعُو إِلى سَبِيلِ رَبِّهِ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ، وَحِينًا يَأمُرُ بِمَعرُوفٍ أَو يَنهَى عَن مُنكَرٍ، وَإِلاَّ كَفَّ أَذَاهُ عَنِ النَّاسِ وَغَفَلَ عَن أَعرَاضِهِم وَزَهِدَ في أَموَالِهِم، عَن أَبي مُوسَى - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - أَنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ صَدَقَةٌ " قِيلَ: أَرَأَيتَ إِن لم يَجِدْ ؟! قَالَ: " يَعتَمِلُ بِيَدَيهِ فَيَنفَعُ نَفسَهُ وَيَتَصَدَّقُ " قَالَ: أَرَأَيتَ إِن لم يَستَطِعْ ؟! قَالَ: " يُعِينُ ذَا الحَاجَةِ المَلهُوفَ " قَالَ: قِيلَ لَهُ: أَرَأَيتَ إِن لم يَستَطِعْ ؟! قَالَ: " يَأمُرُ بِالمَعرُوفِ أَوِ الخَيرِ " قَالَ: أَرَأَيتَ إِن لم يَفعَلْ ؟! قَالَ: " يُمسِكُ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ. إِنَّ مَا مَضَى مِنَ العُمُرِ لا يَعُودُ، وَمَا فَاتَ مِنَ الوَقتِ لا يُستَرجَعُ، وَالجَنَّةَ تَحتَاجُ إِلى تَسدِيدٍ وَمُقَارَبَةٍ وَاجتِهَادٍ وَمُجَاهَدَةٍ، لا إِلى مُرَاوَغَةٍ وَتَبَاعُدٍ وَكَسَلٍ وَتَسوِيفٍ، غَيرَ أَنَّ الرَّغبَةَ في الآخِرَةِ لا تَتِمُّ إِلاَّ بِالزُّهدِ في الدُّنيَا، وَمَن نَظَرَ في سُرعَةِ زَوَالِ الدُّنيَا وَفَنَائِهَا، وَإِقبَالِ الآخِرَةِ وَمَجِيئِهَا وَلا بُدَّ، مَعَ دَوَامِهَا وَبَقَائِهَا وَشَرَفِ مَا فِيهَا، آثَرَ البَاقِيَ الكَامِلَ عَلَى الفَاني النَّاقِصِ، وَإِلاَّ كَانَ ضَعِيفَ الإِيمَانِ أَو مُختَلَّ العَقَلِ، أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - وَلْنَحرِصْ عَلَى الاستِقَامَةِ عَلَى أَمرِهِ في جَمِيعِ أَوقَاتِنَا، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ طَرِيقُ الفَوزِ بِمَا عِندَهُ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [فصلت: 30 - 36].
أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ - تَعَالى - وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ، وَاذكُرُوهُ وَلا تَنسَوهُ، وَاعلَمُوا أَنَّنَا في نِعَمٍ عَظِيمَةٍ تَحتَاجُ إِلى تَقيِيدٍ لَهَا بِشُكرِ المُنعِمِ المُتَفَضِّلِ بِطَاعَتِهِ وَالوُقُوفِ عِندَ حُدُودِهِ، وَالائتِمَارِ بِأَمرِهِ وَالانتِهَاءِ عَمَّا نَهَى عَنهُ، وَإِصلاحِ النُّفُوسِ وَأَطرِهَا عَلَى الحَقِّ وَنَهيِهَا عَنِ الهَوَى، وَالحَذَرِ مِنَ الانقِيَادِ وَرَاءَ طُغيَانِهَا وَتَكَبُّرِهَا عَلَى الحَقِّ ﴿ فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 37 - 41] وَإِنَّ مِمَّا يَحسُنُ بِنَا أَن نَذكُرَهُ لِنَزدَادَ بِهِ للهِ شُكرًا وَذِكرًا، مَا مَنَّ بِهِ عَلَى حُجَّاجِ بَيتِهِ الحَرَامِ في هَذَا العَامِ، مِن مُرُورِ الحَجِّ في أَمنٍ وَطُمَأنِينَةٍ وَسَلامٍ، مَعَ مَا تُوَاجِهُهُ بِلادُنَا مِن حَربٍ عَسكَرِيَّةٍ وَفِكرِيَّةٍ وَاقتِصَادِيَّةٍ وَإِعلامِيَّةٍ، وَتَكَالُبٍ لأَعدَاءِ المِلَّةِ مِنَ الرَّافِضَةِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالمُشرِكِينَ عَلَيهَا، وَقَصدِهِم لِزَعزَعَةِ الأَمنِ وَإِيذَاءِ ضُيُوفِ الرَّحمَنِ، وَخَاصَّةً الرَّافِضَةَ الفُرسَ الأَنجَاسَ، الَّذِينَ لا يَخفَى مَا وَاجَهَهُ المُسلِمُونَ مِنهُم مِن أَذًى في المَوَاسِمِ المَاضِيَةِ وَعَلَى مَدَى عَشَرَاتِ السِّنِينَ، فَالحَمدُ للهِ الَّذِي حَالَ بَينَهُم وَبَينَ المَشَاعِرِ المُقَدَّسَةِ في هَذَا العَامِ، وَكَفَى المُؤمِنِينَ أَذَاهُم وَوَقَى ضُيُوفَ بَيتِهِ شَرَّهُم، وَوَفَّقَ وُلاةَ أَمرِنَا وَأَعَانَ رِجَالَ أَمنِنَا، فَوَقَفُوا بِالمِرصَادِ لِكُلِّ مُفسِدٍ وَمُخَرِّبٍ أَو مُرِيدٍ في الحَرَمِ إِلحَادًا أَو ظُلمًا، وَبَذَلُوا جُهُودًا في التَّنظِيمِ وَالمُتَابَعَةِ وَتَسهِيلِ الخِدمَاتِ وَتَذلِيلِ العَقَبَاتِ، فَلَهُم مِن كُلِّ مُسلِمٍ وَافِرُ الشُّكرِ وَخَالِصُ الدُّعَاءِ. وَالحَقُّ - يَا عِبَادَ اللهِ وَللهِ الفَضلُ وَالمِنَّةُ - أَنَّ مَا حَصَلَ مِن أَمنٍ لِلحُجَّاجِ وَرَاحَةٍ وَطُمَأنِينَةٍ، مَرَدُّهُ أَوَّلاً وَقَبلَ كُلِّ شَيءٍ لِغِيَابِ أُولَئِكَ المُشرِكِينَ الأَنجَاسِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشِّركَ وَالكُفرَ وَالخُرَافَةَ وَمَا دُونَهَا مِن مَعَاصٍ وَمُخَالَفَاتٍ، هِيَ رَأسُ كُلِّ شَرٍّ وَمَصدَرُ كُلِّ خَوفٍ وَفَزَعٍ، وَأَنَّ المَسجِدَ الحَرَامَ وَإِن كَانَ آمِنًا كَمَا أَرَادَهُ لَهُ رَبُّهُ، إِلاَّ أَنَّ الأَمنَ فِيهِ لا يَتِمُّ حَقِيقَةً إِلاَّ بِتَحقِيقِ التَّوحِيدِ وَإِظهَارِهِ، وَنَبذِ الشِّركِ وَالتَّبَرُّؤِ مِن أَهلِهِ وَإِنكَارِهِ، قَالَ - سُبحَانَهُ - عَلَى لِسَانِ إِمَامِ الحُنَفَاءِ إِبرَاهِيمَ - عَلَيهِ السَّلامُ -: ﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام:81، 82] وَلِذَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالى - بِتَطهِيرِ أَشرَفِ البُيُوتِ مِنَ المُشرِكِينَ فَقَالَ - سُبحَانَهُ -: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [الحج: 26] وَقَالَ - جَلَّ وَعَلا -: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 28] وَقَدِ امتَثَلَ رَسُولُ اللهِ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - أَمرَ رَبِّهِ، فَبَعَثَ في السَّنَةِ الَّتي سَبَقَت حَجَّةَ الوَدَاعِ عَلِيًّا - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - لِيُعلِنَ البَرَاءَةَ مِنَ المُشرِكِينَ، فَعَن أَبي هُرَيرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - قَالَ: جِئتُ مَعَ عَلِيِّ بنِ أَبي طَالِبٍ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إِلى أَهلِ مَكَّةَ بِبَرَاءَةَ، قَالَ: مَا كُنتُم تُنَادُونَ ؟! قَالَ: كُنَّا نُنَادِي إِنَّهُ لا يَدخُلُ الجَنَّةَ إِلاَّ نَفسٌ مُؤمِنَةٌ، وَلا يَطُوفُ بِالبَيتِ عُريَانُ، وَمَن كَانَ بَينَهُ وَبَينَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عَهدٌ فَأَجَلُهُ أَو أَمَدُهُ إِلى أَربَعَةِ أَشهُرٍ، فَإِذَا مَضَتِ الأَربَعَةُ أَشهُرٍ فَإِنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشرِكِينَ وَرَسُولُهُ، وَلا يَحُجَّ بَعدَ العَامِ مُشرِكٌ... الحَدِيثَ رَوَاهُ النَّسَائيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ. نَسأَلُ اللهَ أَن يُوَفِّقَ وُلاةَ أَمرِنَا لِتَطهِيرِ بَيتِهِ الحَرَامِ مِن كُلِّ مُشرِكٍ نَجِسٍ، وَأَن يُعِينَهُم عَلَى حِفظِ أَمنِ البَيتِ وَخِدمَةِ ضُيُوفِ الرَّحمَنِ، وَأَن يَنصُرَ جُنُودَنَا وَيُسَدِّدَ رِجَالَ أَمنِنَا...
الشيخ عبدالله بن محمد البصري |
أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ - فَإِنَّ التَّقوَى خَيرُ دِثَارٍ وَشِعَارٍ ﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾ [الأعراف: 26].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، حَيَاةُ الإِنسَانِ الحَقِيقِيَّةُ لَيسَت هِيَ تِلكَ اللَّيالِيَ وَالأَيَّامَ، الَّتي تَمُرُّ بِهِ وَيَطوِيهَا عَامًا بَعدَ عَامٍ، فَإِنَّ هَذِهِ عِندَ التَّأَمُّلِ مُدَّةٌ قَصِيرَةٌ سُرعَانَ مَا تَزُولُ وَتَنقَضِي، فَإِذَا الشَّابُّ قَد غَدَا كَهلاً، وَالكَهلُ قَد صَارَ شَيخًا، وَالشَّيخُ قَد هَرِمَ أَو مَاتَ وَدُفِنَ، نَعَم - أَيُّهَا الإِخوَةُ - لَيسَتِ الحَيَاةُ الحَقِيقِيَّةُ في طُولِ سَنَوَاتٍ يَقضِيهَا المَرءُ في هَذِهِ الدُّنيَا، وَلَكِنَّ الحَيَاةَ الحَقِيقِيَّةَ الَّتي يَحمَدُ فِيهَا المَرءُ حَظَّهُ وَيُنجِي بها نَفسَهُ عِندَ لِقَاءِ رَبِّهِ، هِيَ تِلكَ السَّاعَاتُ أَوِ الأَيَّامُ أَوِ المَوَاسِمُ الَّتي يُقَدِّمُ خِلالَهَا أَعمَالاً مُثمِرَةً وَيُحَقِّقُ فِيهَا إِنجَازَاتٍ عَظِيمَةً , لا في مَجَالاتِ الدُّنيَا الفَانِيَةِ وَمَكَاسِبِهَا القَلِيلَةِ الزَّائِلَةِ، وَلَكِنْ في مَيَادِينِ الآخِرَةِ البَاقِيَةِ وَأَرصِدَتِهَا المُتَضَاعِفَةِ، خَاصَّةً إِذَا كَانَت تِلكَ الأَعمَالُ وَالإِنجَازَاتُ مُنبَعِثَةً مِن إِيمَانٍ بِاللهِ وَإِخلاصٍ لَهُ - سُبحَانَهُ - دُونَ سِوَاهُ، وَغَايَتُهَا طَلَبُ مَا عِندَهُ مِنَ الأَجرِ وَابتِغَاءُ مَا وَعَدَ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ، مَعَ اتِّبَاعٍ لِلسُّنَّةِ وَحِرصٍ عَلَى تَمَامِ اقتِدَاءٍ، وَحُسنِ تَّأَسٍّ بِسَيِّدِ المُرسَلِينَ وَإِمَامِ المُتَّقِينَ، إِنَّ ذَلِكَ لَهُوَ الفَوزُ العَظِيمُ وَالفَلاحُ المُبِينَ ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110] إِنَّ العَبدَ المُؤمِنَ العَاقِلَ، حِينَ يَتَأَمَّلُ في آخِرِ كُلِّ يَومٍ يَمُرُّ عَلَيهِ، أَو نِهَايَةِ كُلِّ شَهرٍ يُمضِيهِ، أَو خِتَامِ كُلِّ عَامٍ يَطوِيهِ، وَيَسأَلُ نَفسَهُ مَاذَا عَمِلَت وَمَاذَا قَدَّمَت، وَمَا الَّذِي جَمَعَهُ لِنَفعِ نَفسِهِ وَمَا مِقدَارُ مَا ادَّخَرَهُ لِنَجَاتِهَا، إِنَّهُ لَن يَذكُرَ حِينَهَا بَيتًا بَنَاهُ وَلا مَالاً نَمَّاهُ، وَلا مَشرُوعًا وَلا مَزرَعَةً وَلا مَصنَعًا، لِعِلمِهِ التَّامِّ وِيَقِينِهِ الَّذِي لا مِريَةَ فِيهِ، بِأَنَّهُ ذَاهِبٌ يَومًا مَا بِغَيرِ اختِيَارِهِ، وَتَارِكٌ كُلَّ مَا وَرَاءَهُ مِنَ الدُّنيَا لِوَرَثَتِهِ، أَجَل - أَيُّهَا الإِخوَةُ - إِنَّ العَبدَ العَاقِلَ لا يَفرَحُ بِشَيءٍ كَفَرَحِهِ لأَدَائِهِ وَاجِبًا وَتَركِهِ مُحَرَّمًا، أَو تَزَوُّدِهِ مِن طَاعَةٍ وَنَبذِهِ لِمَعصِيَةٍ، وَلا يُحَاسِبُ نَفسَهُ عَلَى شَيءٍ كَمُحَاسَبَتِهِ إِيَّاهَا عَلَى وَاجِبٍ تَرَكَتهُ أَو مُحَرَّمٍ ارتَكَبَتهُ، أَو سُنَّةٍ فَرَّطَ فِيهَا أَو حَسَنَةٍ فَوَّتَهَا، أَو خَيرٍ تَهَيَّأَ لَهُ مَكَانًا أَو زَمَانًا فَلَم يَبذُلْهُ وَلَم يُشَارِكْ فِيهِ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، مَرَّت عَلَينَا عَشرُ ذِي الحِجَّةِ، ثم تَلَتهَا أَيَّامُ التَّشرِيقُ، فَهَنِيئًا لِمَنِ استَثمَرَ ذَلِكَ المَوسِمَ العَظِيمَ، فَحَافَظَ عَلَى الفَرَائِضِ المَكتُوبَةِ، وَصَامَ مُتَنَفِّلاً، وَقَامَ للهِ قَانِتًا، وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا، وَصَلَّى العِيدَ مَعَ المُسلِمِينَ وَضَحَّى، وَوَصَلَ رَحِمَهُ وَأَرضَى قَرَابَتَهُ، وَوَاخَيبَةَ مَن مَرَّت عَلَيهِ الأَيَّامُ المَعلُومَاتُ وَالأَيَّامُ المَعدُودَاتُ وَهُوَ في سَهوٍ وَغَفلَةٍ، مُقَصِّرًا في صَلاتِهِ، لم يَصُمْ مِنهَا وَلَو يَومًا، هَاجِرًا لِعِيدِ المُسلِمِينَ، قَاطِعًا لِرَحِمِهِ مُصَارِمًا أَقَارِبَهُ، غَيرَ أَنَّ وُجُودَ هَذِهِ المَوَاسِمِ العَظِيمَةِ الَّتي اختَارَهَا اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَفَضَّلَهَا، وَضَاعَفَ الأَجرَ فِيهَا بما لَيسَ في غَيرِهَا، لا يَعني أَن يَقصُرَ المَرءُ اجتِهَادَهُ في العِبَادَةِ عَلَيهَا، ثم يَنطَلِقَ بَعدَهَا في دُنيَاهُ مُغتَرًّا بها، نَاسِيًا لأُخرَاهُ غَافِلاً عَنهَا، مُتَجَاهِلاً أَنَّ رَأسَ مَالِهِ الحَقِيقِيَّ هُوَ عُمُرُهُ وَوَقتُهُ، وَأَنَّ كُلَّ يَومٍ تَطلُعُ فِيهِ الشَّمسُ عَلَيهِ وَهُوَ مَا زَالَ حَيًّا، فَإِنَّهُ سَيَمُرُّ فِيهِ بِمَحَطَّاتٍ إِيمَانِيَّةٍ أُخرَوِيَّةٍ، لِلتَّزَوُّدِ لِحَيَاتِهِ الحَقِيقِيَّةِ، فَمَاذَا عَمِلَ وَمَاذَا قَدَّمَ ؟! قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَومٍ تَطلُعُ فِيهِ الشَّمسُ، تَعدِلُ بَينَ الاثنِينِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ في دَابَّتِهِ فَتَحمِلُهُ عَلَيهَا أَو تَرفَعُ لَهُ عَلَيهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خَطوَةٍ يَمشِيهَا إِلى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ.
أَجَلْ - أَيُّهَا الإِخوَةُ - إِنَّهُ وَإِن كَانَت مَوَاسِمُ الخَيرِ كَرَمَضَانَ وَعَشرِ ذِي الحِجَّةِ وَأَيَّامِ التَّشرِيقِ وَالحَجِّ تَحوِي أَعمَالاً عَظِيمَةً يَخرُجُ مِنهَا الحَرِيصُ عَلَى الخَيرِ بِأُجُورٍ مُضَاعَفَةٍ، إِلاَّ أَنَّ سَائِرَ الأَيَّامِ لا تَخلُو مِنَ الخَيرِ لِمَن كَانَ لَهُ قَلبٌ، وَوُجُوهُ الإِحسَانِ إِلى النَّفسِ وَإِلى النَّاسِ مُتَعَدِّدَةٌ، وَمَا عَلَى المَرءِ إِلاَّ أَن يَغتَنِمَ عُمُرَهُ وَيَستَثمِرَ وَقتَهُ، فَيَحرِصَ عَلَى تَقدِيمِ الخَيرِ مَا استَطَاعَ إِلى ذَلِكَ سَبِيلاً، فَذَاكَ وَاللهِ هُوَ عُمُرُهُ الحَقِيقِيُّ، سَاعَةٌ يَقضِيهَا في طَلَبِ عِلمٍ أَو تَعلِيمِهِ، وَأُخرَى في قِرَاءَةِ قُرآنٍ وَذِكرٍ وَدُعَاءٍ، وَخَطوَةٌ يَخطُوهَا لِصَلاةِ في جَمَاعَةٍ، وَأُخرَى لِزِيَارَةِ مَرِيضٍ أَوِ اتِّبَاعِ جَنَازَةٍ، وَثَالِثَةٌ لإِصلاحٍ بَينَ النَّاسِ أَو صِلَةِ رَحِمٍ، وَمَالٌ يُخرِجُهُ طَيِّبَةً بِهِ نَفسُهُ في غَيرِ رِيَاءٍ وَلا طَلَبِ سُمعَةٍ، وَلَكِنْ في تَفرِيجِ كُربَةِ مُسلِمٍ أَو قَضَاءِ دَينِهِ، أَو كَفَالَةِ يَتِيمٍ أَو سَدِّ حَاجَةِ أَرمَلَةٍ، وَحِينًا يَدعُو إِلى سَبِيلِ رَبِّهِ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ، وَحِينًا يَأمُرُ بِمَعرُوفٍ أَو يَنهَى عَن مُنكَرٍ، وَإِلاَّ كَفَّ أَذَاهُ عَنِ النَّاسِ وَغَفَلَ عَن أَعرَاضِهِم وَزَهِدَ في أَموَالِهِم، عَن أَبي مُوسَى - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - أَنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ صَدَقَةٌ " قِيلَ: أَرَأَيتَ إِن لم يَجِدْ ؟! قَالَ: " يَعتَمِلُ بِيَدَيهِ فَيَنفَعُ نَفسَهُ وَيَتَصَدَّقُ " قَالَ: أَرَأَيتَ إِن لم يَستَطِعْ ؟! قَالَ: " يُعِينُ ذَا الحَاجَةِ المَلهُوفَ " قَالَ: قِيلَ لَهُ: أَرَأَيتَ إِن لم يَستَطِعْ ؟! قَالَ: " يَأمُرُ بِالمَعرُوفِ أَوِ الخَيرِ " قَالَ: أَرَأَيتَ إِن لم يَفعَلْ ؟! قَالَ: " يُمسِكُ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ. إِنَّ مَا مَضَى مِنَ العُمُرِ لا يَعُودُ، وَمَا فَاتَ مِنَ الوَقتِ لا يُستَرجَعُ، وَالجَنَّةَ تَحتَاجُ إِلى تَسدِيدٍ وَمُقَارَبَةٍ وَاجتِهَادٍ وَمُجَاهَدَةٍ، لا إِلى مُرَاوَغَةٍ وَتَبَاعُدٍ وَكَسَلٍ وَتَسوِيفٍ، غَيرَ أَنَّ الرَّغبَةَ في الآخِرَةِ لا تَتِمُّ إِلاَّ بِالزُّهدِ في الدُّنيَا، وَمَن نَظَرَ في سُرعَةِ زَوَالِ الدُّنيَا وَفَنَائِهَا، وَإِقبَالِ الآخِرَةِ وَمَجِيئِهَا وَلا بُدَّ، مَعَ دَوَامِهَا وَبَقَائِهَا وَشَرَفِ مَا فِيهَا، آثَرَ البَاقِيَ الكَامِلَ عَلَى الفَاني النَّاقِصِ، وَإِلاَّ كَانَ ضَعِيفَ الإِيمَانِ أَو مُختَلَّ العَقَلِ، أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - وَلْنَحرِصْ عَلَى الاستِقَامَةِ عَلَى أَمرِهِ في جَمِيعِ أَوقَاتِنَا، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ طَرِيقُ الفَوزِ بِمَا عِندَهُ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [فصلت: 30 - 36].
أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ - تَعَالى - وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ، وَاذكُرُوهُ وَلا تَنسَوهُ، وَاعلَمُوا أَنَّنَا في نِعَمٍ عَظِيمَةٍ تَحتَاجُ إِلى تَقيِيدٍ لَهَا بِشُكرِ المُنعِمِ المُتَفَضِّلِ بِطَاعَتِهِ وَالوُقُوفِ عِندَ حُدُودِهِ، وَالائتِمَارِ بِأَمرِهِ وَالانتِهَاءِ عَمَّا نَهَى عَنهُ، وَإِصلاحِ النُّفُوسِ وَأَطرِهَا عَلَى الحَقِّ وَنَهيِهَا عَنِ الهَوَى، وَالحَذَرِ مِنَ الانقِيَادِ وَرَاءَ طُغيَانِهَا وَتَكَبُّرِهَا عَلَى الحَقِّ ﴿ فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 37 - 41] وَإِنَّ مِمَّا يَحسُنُ بِنَا أَن نَذكُرَهُ لِنَزدَادَ بِهِ للهِ شُكرًا وَذِكرًا، مَا مَنَّ بِهِ عَلَى حُجَّاجِ بَيتِهِ الحَرَامِ في هَذَا العَامِ، مِن مُرُورِ الحَجِّ في أَمنٍ وَطُمَأنِينَةٍ وَسَلامٍ، مَعَ مَا تُوَاجِهُهُ بِلادُنَا مِن حَربٍ عَسكَرِيَّةٍ وَفِكرِيَّةٍ وَاقتِصَادِيَّةٍ وَإِعلامِيَّةٍ، وَتَكَالُبٍ لأَعدَاءِ المِلَّةِ مِنَ الرَّافِضَةِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالمُشرِكِينَ عَلَيهَا، وَقَصدِهِم لِزَعزَعَةِ الأَمنِ وَإِيذَاءِ ضُيُوفِ الرَّحمَنِ، وَخَاصَّةً الرَّافِضَةَ الفُرسَ الأَنجَاسَ، الَّذِينَ لا يَخفَى مَا وَاجَهَهُ المُسلِمُونَ مِنهُم مِن أَذًى في المَوَاسِمِ المَاضِيَةِ وَعَلَى مَدَى عَشَرَاتِ السِّنِينَ، فَالحَمدُ للهِ الَّذِي حَالَ بَينَهُم وَبَينَ المَشَاعِرِ المُقَدَّسَةِ في هَذَا العَامِ، وَكَفَى المُؤمِنِينَ أَذَاهُم وَوَقَى ضُيُوفَ بَيتِهِ شَرَّهُم، وَوَفَّقَ وُلاةَ أَمرِنَا وَأَعَانَ رِجَالَ أَمنِنَا، فَوَقَفُوا بِالمِرصَادِ لِكُلِّ مُفسِدٍ وَمُخَرِّبٍ أَو مُرِيدٍ في الحَرَمِ إِلحَادًا أَو ظُلمًا، وَبَذَلُوا جُهُودًا في التَّنظِيمِ وَالمُتَابَعَةِ وَتَسهِيلِ الخِدمَاتِ وَتَذلِيلِ العَقَبَاتِ، فَلَهُم مِن كُلِّ مُسلِمٍ وَافِرُ الشُّكرِ وَخَالِصُ الدُّعَاءِ. وَالحَقُّ - يَا عِبَادَ اللهِ وَللهِ الفَضلُ وَالمِنَّةُ - أَنَّ مَا حَصَلَ مِن أَمنٍ لِلحُجَّاجِ وَرَاحَةٍ وَطُمَأنِينَةٍ، مَرَدُّهُ أَوَّلاً وَقَبلَ كُلِّ شَيءٍ لِغِيَابِ أُولَئِكَ المُشرِكِينَ الأَنجَاسِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشِّركَ وَالكُفرَ وَالخُرَافَةَ وَمَا دُونَهَا مِن مَعَاصٍ وَمُخَالَفَاتٍ، هِيَ رَأسُ كُلِّ شَرٍّ وَمَصدَرُ كُلِّ خَوفٍ وَفَزَعٍ، وَأَنَّ المَسجِدَ الحَرَامَ وَإِن كَانَ آمِنًا كَمَا أَرَادَهُ لَهُ رَبُّهُ، إِلاَّ أَنَّ الأَمنَ فِيهِ لا يَتِمُّ حَقِيقَةً إِلاَّ بِتَحقِيقِ التَّوحِيدِ وَإِظهَارِهِ، وَنَبذِ الشِّركِ وَالتَّبَرُّؤِ مِن أَهلِهِ وَإِنكَارِهِ، قَالَ - سُبحَانَهُ - عَلَى لِسَانِ إِمَامِ الحُنَفَاءِ إِبرَاهِيمَ - عَلَيهِ السَّلامُ -: ﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام:81، 82] وَلِذَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالى - بِتَطهِيرِ أَشرَفِ البُيُوتِ مِنَ المُشرِكِينَ فَقَالَ - سُبحَانَهُ -: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [الحج: 26] وَقَالَ - جَلَّ وَعَلا -: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 28] وَقَدِ امتَثَلَ رَسُولُ اللهِ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - أَمرَ رَبِّهِ، فَبَعَثَ في السَّنَةِ الَّتي سَبَقَت حَجَّةَ الوَدَاعِ عَلِيًّا - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - لِيُعلِنَ البَرَاءَةَ مِنَ المُشرِكِينَ، فَعَن أَبي هُرَيرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - قَالَ: جِئتُ مَعَ عَلِيِّ بنِ أَبي طَالِبٍ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إِلى أَهلِ مَكَّةَ بِبَرَاءَةَ، قَالَ: مَا كُنتُم تُنَادُونَ ؟! قَالَ: كُنَّا نُنَادِي إِنَّهُ لا يَدخُلُ الجَنَّةَ إِلاَّ نَفسٌ مُؤمِنَةٌ، وَلا يَطُوفُ بِالبَيتِ عُريَانُ، وَمَن كَانَ بَينَهُ وَبَينَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عَهدٌ فَأَجَلُهُ أَو أَمَدُهُ إِلى أَربَعَةِ أَشهُرٍ، فَإِذَا مَضَتِ الأَربَعَةُ أَشهُرٍ فَإِنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشرِكِينَ وَرَسُولُهُ، وَلا يَحُجَّ بَعدَ العَامِ مُشرِكٌ... الحَدِيثَ رَوَاهُ النَّسَائيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ. نَسأَلُ اللهَ أَن يُوَفِّقَ وُلاةَ أَمرِنَا لِتَطهِيرِ بَيتِهِ الحَرَامِ مِن كُلِّ مُشرِكٍ نَجِسٍ، وَأَن يُعِينَهُم عَلَى حِفظِ أَمنِ البَيتِ وَخِدمَةِ ضُيُوفِ الرَّحمَنِ، وَأَن يَنصُرَ جُنُودَنَا وَيُسَدِّدَ رِجَالَ أَمنِنَا...