خطبة عيد النحر
الله أكبر عدد ما أحرَمَ الحجاج من الميقات، الله أكبر عدد ما لبوا وزِيدَ في الحسنات، اللهُ أكبرُ عدد ما دخَلوا فجاجَ مكَّة آمِنين، اللهُ أكبرُ عدد ما طافوا بالبيت الحرام.
اللهُ أكبرُ عدد ما سعَوْا بين الصَّفا والمروة ذاكرين مُكبِّرين، اللهُ أكبرُ عدد ما خرَجُوا إلى منى، اللهُ أكبرُ عدد ما وقَفُوا بعرفة خاضعين مخبتين منيبين إلى ربهم ومُهلِّلين.
اللهُ أكبرُ عدد ما وقَفُوا بالمشعر الحرام طالبين راغبين.
اللهُ أكبرُ عدد ما عادوا إلى منى وعدد ما رموا الجمرات، اللهُ أكبرُ عدد ما أراقوا من الدماء، وحلقوا رؤوسهم وقصَّرُوا تعظيمًا لربِّ الأرض والسماوات.
اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ لا إله إلا الله، اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ ولله الحمد.
الحمدُ لله الذي خلق آدم بيده من صلصالٍ كالفخَّار، وأسجَدَ له ملائكته المقرَّبين الأطهار، فسجَدُوا إلا إبليس أبى فباء باللعنة والصَّغار، مسح - تبارك وتعالى - ظهرَ آدم بيده فاستَخرَج ذريَّته كالذرِّ ونفَّذ فيهم الأقدار، قبَض قبضةً إلى الجنَّة وقبَض قبضةً إلى النار، لا تنفَعُه طاعةُ المطيع، ولا تضرُّه معصيةُ العاصي بل هو النافع الضار.
أحمده - سبحانه - على نِعَمِه الغزار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله أفضل مَن صلَّى ونحر، وحج واعتمر، وجاهد المنافقين والكفار، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه البرَرَة الأخيار وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ ولله الحمد.
أمَّا بعدُ:
فيا عباد الله، اتَّقوا الله حقَّ التقوى ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون، واعلَمُوا أنَّ يومكم هذا يومٌ عظيم وعيدٌ جليل، رفع الله قدرَه وسمَّاه يوم الحج الأكبر، خطب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في هذا اليوم فقال في خطبته: ((أيها الناس اعبُدوا ربَّكم، وصلُّوا خمسَكم، وصُوموا شهرَكم، وأطيعوا إذا أمرَكم، تدخلوا جنَّة ربِّكم))[1].
وقال: ((لا تَرجِعوا بعدي كُفَّارًا يضرب بعضُكم رِقابَ بعض))[2].
وفي هذا اليوم يجتَمِع الحجاج بمنًى يستكملون مناسِكَ الحج، ويتقرَّبون إلى الله بالعجِّ والثجِّ، يحيُون سنَّة أبيهم إبراهيم بإهراق الدماء في هذا اليوم العظيم، فإنَّ الله ابتلاه بأنْ أمَرَه بذبح ولده وفلذَةِ كبده؛ ليسلم قلبه لله، ولا يكون فيه شركة لسواه، فإنَّ العباد لذلك خُلِقوا، وبه أُمِروا فامتَثَل أمر به طائعًا، وخرج بابنه مسارعًا.
وقال: يا بني، إني أرى في المنام إني أذبحك فانظر ماذا ترى؟! فقال: يا أبت، افعل ما تُؤمَر، لا متوقفًا ولا متفكرًا، فاستَسلَما جميعًا للقضاء المحتوم، وسلَّما أمرهما للحيِّ القيُّوم، فلما تَلَّهُ للجبين، وأهوى إلى حلقه بالسكين، أدركَتْه رحمةُ أرحم الراحمين، ونُودِي أنْ يا إبراهيم، قد صدَّقت الرؤيا إنَّا كذلك نجزي المحسنين، إنَّ هذا لهو البلاء المبين، وأتى بكبشٍ فذبحه فداء ولده، فأحيا نبيُّنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذه السنة وعظَّمها فأهدى في حجَّته مائة بدنة، وضحَّى - صلَّى الله عليه وسلَّم - بكبشين أملحين أقرنين؛ أحدهما عن محمد وآل محمد، والآخَر عن أمَّة محمد.
فبادِرُوا - رحمكم الله - إلى إحياء هذه السنَّة الجليلة ولا تبخَلُوا بالمال الذي أنعَمَ الله به عليكم؛ فإنَّ صرفه في هذا الطريق إحياءٌ لسنَّة مؤكَّدة، وفي ذلك ثواب عظيم، ومن العلماء مَن يقول بوجوبها مع اليسار، والبعض على أنها مستحبَّة، وأفضلها أكرمها وأسمنها وأغلاها ثمنًا، وفي ذلك تعظيمٌ لشعائر الله، وتجزئ الشاة عن الرجل وأهل بيته، والبدنة تقومُ مقام سبع شِياة، والبقرة تقومُ مقام سبع شياة.
المجزئ من الضأن ما تمَّ له ستة أشهر، ومن المعز ما تمَّ له سنة، ومن الإبل ما تمَّ له خمس سنين، ومن البقر ما تم له سنتان، ولا تجزئ العوراء البيِّن عورها، ولا العَرجاء البيِّن ضلعها، ولا المريضة البيِّن مرضها، ولا الهزيلة التي تنقي، ولا العضباء التي قُطِعَ أكثر أذنها أو قرنها، ولا الهتماء التي ذهبت ثَناياها من أصلها، ولا الجدباء التي نشف ضرعها ويبس من الكبر.
والسنَّة نحرُ الإبل قائمةً معقولة يدها اليُسرَى، وذبح البقر والغنم على جنبها الأيسر موجَّهة إلى القبلة، ويجب أنْ يقول عند الذبح: بسم الله، ويستحب أنْ يقول: اللهُ أكبرُ.
والسنَّة أنْ يأكل منها ثلثًا ويتصدَّق بثلث ويهدي ثلثًا، ولا يبيع جلدها ولا شيئًا منها، ولا يعطى الجزار أجرته منها، ووقت الذبح من انقِضاء صلاة العيد إلى آخِر اليوم الثالث من أيَّام التشريق.
اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ لا إله إلا الله، اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ ولله الحمد.
فيا عباد الله:
حافِظُوا على هذه السنَّة، ولا تحرموا أنفُسَكم فضلَ الله؛ ففي الحديث عن زيد بن أرقم - رضِي الله عنه - أنَّهم قالوا: يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال: ((سنَّة إبراهيم))، قالوا: فما لنا فيها؟ قال: ((بكلِّ شعرةٍ حسنة))[3] ، فحافِظُوا على الفضائل وأوقاتها، وحقِّقوا إيمانكم بالأعمال الصالحة الخالصة لله.
حافِظُوا على الصلوات في أوقاتها مع الجماعة؛ فإنها عمود الإسلام، والركن الثاني من أركانه، مَن حَفِظَها وحافَظ عليها حَفِظ دِينَه، ومَن ضيَّعها فهو لما سِواها أضيع، فاحذَرُوا عُقوبات التساهُل بها، وأدُّوا زكاةَ أموالكم طيِّبة بها نفوسُكم إلى مُستحقِّيها ممَّن نوَّه الله عنهم في كتابه، فإنها الركن الثالث من أركان الإسلام، فمَن منَع زكاة ماله فقد هدَم ركنًا من أركان الإسلام، وصُوموا شهر رمضان واحفَظوا له حُرمته، وحجُّوا البيت الحرام من المال الحلال السالم من الشوائب؛ فإنَّ ذلك من أسباب قبول الدعاء والأعمال.
وعليكم ببرِّ الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الفقراء والأيتام، واحذَرُوا من العُقوق وقطيعة الأرحام والإساءة إلى المسلمين وأذيَّتهم؛ فإنَّ في ذلك خَراب الدِّيار وقطع الأعمار وخسارة الدنيا والآخرة، وأوفوا المكاييل والموازين؛ فقد توعَّد الله المطفِّفين بويلٍ؛ وهو وادٍ في جهنم، واجتنبوا الكذب والغيبة والنميمة، وقولَ الزور وشهادة الزور، واجتنبوا شرب المسكرات وتعاطي المخدِّرات التي فشَتْ لدى كثيرٍ من الناس ورضي لنفسه بمشاركة المجانين، وجنى على عقله وماله وجسمه وأطاع شيطانه وهواه، حتى امتلأت السجون من أولئك، خُصوصًا مَن يتَعاطى الحبوب التي غزا بها أعداء الإسلام أبناء المسلمين للقضاء عليهم بعد أنْ عجزوا عنهم بالنار والحديد.
واجتنبوا الرِّبا في المعاملات فإنَّه من السبع الموبقات، واحذَرُوا من التحايُل على أكله وأكل المال الباطل؛ فإنَّ الله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وقد ورد أنَّ أكَلَة الربا يجرون في صور الكلاب والخنازير من أجل حيلهم على أكل الربا.
وأمروا بالمعروف وانهَوْا عن المنكر؛ فإنَّهما من واجبات الإسلام، وما قام دينٌ إلا بذلك ولا استقام.
ويا مَن جنى على لحيته وأطالَ شاربه، احذَرْ عُقوبة مخالفة هدْي رسول الله؛ فقد نهى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن حلق اللِّحَى وإطالة الشوارب، واحذَرُوا يا عباد الله من الاستماع إلى الأصوات المحرَّمة، والنظر إلى ما لا يحلُّ النظر إليه من النساء الأجنبيَّات والمردان، سواء مباشرةً أو في تلفاز أو صُوَر؛ فإنَّ في ذلك الدمار، وفَساد الأخلاق وانتشار الرذائل، وضَياع الأموال والأوقات؛ قال - تعالى -: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [لقمان: 6].
واحذَرُوا تبرُّج النساء واختلاطهنَّ بالرجال الأجانب وخلوتهنَّ مع غير محارم؛ فإنَّ في ذلك أخطارًا عظيمة، ومن البليَّات ما أُصِيب به الكثيرُ من شُرب المسكرات وتَعاطي المخدِّرات التي أذهبَت العقول وقضَتْ على الشِّيَم والغيرة، والتي غَزا بها الأعداء أبناء المسلمين، فقد تنوَّعت أساليب غَزْوِ الأعداء؛ فتارةً بفساد الأخلاق وتحسين الباطل، وتارةً بالقضاء على العُقول والأجسام.
فيا أمَّة الإسلام:
ويا شباب المسلمين، انتَبِهُوا لأنفُسكم، واحذَروا أعداءَكم، فقد آنَ لكم أنْ تفيقوا، كفى هذا النوم والسُّبات، والغفلة والانغماس في الملذَّات، والانخِداع بما يمليه الأعداء؛ فقد ظهرت الحقائق، وعرَف المخدوع كيف خُدِعَ، ولم يبقَ له إلا أنْ يَعُود إلى رشده ويأخُذ الحيطة لأعدائه، فإنَّ أعداء المسلمين أعداء عقيدة، وإنَّ الكفر ملة واحدة.
ومَن خالَف عقيدةَ الإسلام فهو عدوٌّ للمسلمين، يجبُ عليهم أنْ يحذَرُوه، كما أنَّ على المسلمين شُعوبًا وولاةً أنْ يجتَمِعوا ويتَّحِدوا ويكونوا صفًّا واحدًا، ويلتَزِموا عقيدتَه الصافية التي لا يَشُوبها كدَر ولا زيف، وأنْ يُحكِّمُوا كتابَ الله في القليل والكثير والنقير والقطمير؛ فإنَّ الإسلام كُلٌّ لا يتجزَّأ، ولن يُنصَر المسلمون حتى يلتزموا الإسلامَ حقيقةً، ويتركوا المذاهب الهدَّامة والآراء المتشعِّبة، فطريق الحق واحدٌ، وما بعدَ الحق إلا الضلال!
يقول - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153].
لقد زهد الكثيرُ من المسلمين في تعاليم الإسلام، وحكَّموه في بعضٍ وحكَّموا الأهواء والآراء في بعضٍ، والله يقول: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ [البقرة: 85].
ويقول: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ [آل عمران: 85].
فأين الإسلام؟ وأين حقيقة الادِّعاء؟ وكيف يُرجَى النصرُ ممَّن لا يلتزم الإسلام أو يلتزم ببعضه دون البعض؟ إنَّ البشرية اليوم في حاجةٍ إلى مُنقذٍ لها ممَّا تعيشُ فيه من خوفٍ ورعب وتهديد من الأسلحة الفتَّاكة والمواد المحرقة، والبحار المنتنة والأجواء المتعكِّرة، ولا منقذ لها إلا الإسلام وتعاليمه السمحة السامية، فأين رجاله المخلصون الذين حملوا الأمانة في أعناقهم؟ أين الذين أنقَذُوا الأمم الكافرة بالإسلام؛ حتى أصبح الأعداء أنصارًا وعاش الجميع في ظله الوافر وتحت رايته الخفَّاقة؛ راية لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له؟!
رفَع الجميع رؤوسهم، ولم يخضَعوا إلا لله الواحد القهَّار، غزوا أكبر الأمم في وقتِهم؛ فارس والروم، وأخضَعُوهم وسلَبوا أموالهم مع قلَّة عددهم وضعف عُدَّتهم، وكثرة أعدائهم وقوَّة عُدَّتهم.
لقد غزا المسلمون الأعداءَ بالإيمان الصادق، بالعقيدة الصافية، بلا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، فلا قوميَّة ولا اشتراكيَّة ولا حزبيَّة يُملِيها الأعداء، وإنما عقيدة الإسلام ولا شيء غير الإسلام.
وإنَّ الإسلام في ذاك الوقت هو الإسلام في هذا الوقت، فإنَّه الدين الخالد الصالح لكلِّ زمان ومكان؛ فقد أكمَلَ لله الدِّين وأتمَّ النعمة؛ بقول - سبحانه وتعالى -: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].
فلا مجال لعقول الرجال، ولا حاجة لزبالة الأفكار، وإنما الحاجة إلى رجال الإسلام الذين يُطبِّقون تعاليمَه ويُحكِّمون شريعتَه كما كان سلفهم الصالح فأين أولئك؟ لقد حانَ وقتُهم، فلا بُدَّ من اليقظة والرُّجوع إلى الله؛ فقد تطاول أعداءُ الإسلام على المسلمين، وأخذوا يتوسَّعون في بلادهم ويُدنسون مُقدَّساتهم ويفتكون بأطفالهم ونسائهم وشيوخهم بعد أنْ سمَّموا أفكارهم وشعَّبوا مذاهبهم وأمنوا سطوتهم وانتقامهم، ولم يُفد المسلمين احتجاجاتُهم، وعرض قَضاياهم في المحافل الدولية التي سَيْطَرَ عليها أعداء الإسلام والمسلمين، بل وأعداء البشرية رؤوس الكفر والإلحاد.
إنَّ ما أُصِيبَ به المسلمون من تفكُّك وتخاذُل وابتعاد الكثير عن منهج الله وصراطه المستقيم قد آلَ بهم إلى أنْ وصَلُوا ما وصَلُوا إليه من ذلَّة ومَهانة وسَيْطرة الشرذمة القليلة؛ اليهود الذين ضُرِبت عليهم الذلة، وأنَّ أعداد المسلمين الهائلة مَن يَتسمونَ بالإسلام لم تفدهم شيئًا أمامَ شرذمة اليهود، أولئك العدد القليل المحصور في مكان، فإذًا لا بُدَّ من الرُّجوع إلى الله بصدقٍ وإخلاص ومحاسبة النُّفوس وإصلاح البواطن والظواهر، والاجتماع على العقيدة الصافية، والالتفاف تحت راية الإسلام والاجتماع صفًّا واحدًا، إنَّ الله يحبُّ الذين يقاتلون في سبيله صفًّا كأنهم بُنيانٌ مرصوص.
لا بُدَّ من هذا أولًا حتى لا نخاف الأعداء مهما كثٌر عددهم واستٍعدادهم، وحتى يحصل لنا النَّصر من الله كما حصل لأسلافنا الصالحين ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ﴾ [الحج: 40].
ولا بُدَّ من الإقلاع عن الذنوب والمعاصي ومعالجة الأمراض الفتَّاكة التي حَلَّتْ بمجتمعنا، ومن أعظمها خطرًا وأشدها ضررًا الانغماسُ في الملذَّات الضارَّة، والعُكوف على آلات اللهو والمجون وشُرب المسكرات وتعاطي المخدرات، وتبرُّج النساء وسفورهن واختلاطهن بالرجال الأجانب، ونظر الرجال إليهن ونظرهنَّ إلى الرجال.
وقد قال نبيُّنا - صلوات الله وسلامه عليه -: ((ما تركتُ بعدي فتنةً هي أضرُّ على الرجال من النساء))[4] ، فلا يحلُّ للرجل أنْ ينظُر إلى المرأة الأجنبيَّة، ولا يحلُّ لها أنْ تنظُر إليه.
ففي الحديث عن أم سلمة - رضِي الله عنها - قالت: كنتُ عند رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعنده ميمونة، فأقبل ابن أمِّ مكتوم وذلك بعد أنْ أُمِرنا بالحجاب، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((احتجبا منه))، فقلنا: يا رسول الله، أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أفعمياوان أنتما؟ ألستُما تنظرانه؟))[5].
وعن جرير بن عبدالله - رضِي الله عنه - قال: ((سألتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن نظر الفجاءة فأمرني أنْ أصرِفَ بصري))[6].
وعن بريدة مرفوعًا قال: ((يا علي، لا تتبع النَّظرة النَّظرة؛ فإنَّ لك الأولى وليست لك الآخِرة))[7].
فأمَر بصرف النظر عند وُقوعه على المرأة فجأةً، ومن المأسوف له أنَّ بعض المغرورين بدُعاة الشرِّ والرَّذيلة يُطالِبون بسُفور المرأة واختلاطها بالرجال، ويَزعُمون أنهم بذلك ينصرونها ويُطالبون بحقٍّ لها كانت قد هُضمَتْه ولا شكَّ أنَّ هذا مغالطة إنْ كانوا عارفين، أو سذاجةً إنْ كانوا جاهلين.
فلو رجعوا إلى ما قبلَ الإسلام لعرفوا أنَّ المرأة مهضومةٌ ومُهانة، فلمَّا جاء الإسلام أعزَّها ورفع قدرَها، وجعل لها التصرُّف في مالها وحَفِظَها في نفسها، وجعَلَها راعية ومدبِّرة في بيت زوجها؛ كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المرأة راعيةٌ في بيت زواجها ومسؤولةٌ عن رعيَّتها)).
فكما أنَّ الرجل راعٍ ومسؤولٌ فهي كذلك راعية ومسؤولة، ولا شك أنَّ لهذه الرعاية شأنًا ومنزلة في المجتمع.
فمتى قام كلٌّ من الرجل والمرأة بواجبه على ما فطَرَه الله عليه فإنَّ الأمور تستَقِيم بذلك، ومتى ضعُف الرجل عن واجبه وطلَب من المرأة أن تُشاركه وتُعِينَه على عمله، فإنَّ ميزان الحياة سيختلُّ، فإنَّ للمرأة أعمالًا لا تتَّفق وطبيعتها لا يمكن أن يُشاركها الرجل فيها، وبذلك تكون المرأة قد هُضِمت وحملت ما لا تتحمَّله؛ حيث شاركت الرجل في عِلمه ولم يُشارِكها في عملها، ولكنَّ دعاة السوء لم يريدوا نفْع المرأة ولا نصرَها، وإنما أرادوا إشباعَ رغباتهم الحيوانية بالتلذُّذ برؤيتها ومحادثتها والاحتكاك بها؛ محاكاةً للغرب وتقليدًا لبلاد أوربا، تلك البلاد التي عانَتِ الويلات من الاختلاط وفَساد الأخلاق وتمزُّق الأُسَر، وشَتات البيوت، وأصبحوا يُحارِبون الاختلاطَ ويُكافِحون شُربَ الخمور وتناول المسكِرات وتَعاطِي المخدِّرات، والعارف المنصِف الذي يَقرَأ عنهم أو ذهَب إلى بلادهم يَعرِف ذلك.
فيا عباد الله:
إنَّنا في نعمةٍ ونحن محسودون عليها، نعمة الإسلام وتقاليده السامية الذي من ثمرات التمسُّك به الأمنُ والاستقرارُ، ورغد العيش وصحَّة الأبدان، إنها نعمةٌ عظيمة حسَدَنا عليها الأعداء فغزَوْنا باسم الحرية والمدنية الزائفة التي كسوها لباسًا برَّاقًا انخَدَع به الكثير من أبناء المسلمين وحسَّنَه مَن في قلبه مرض.
ولكن سرعان ما ظهَر الزيف وتطايَرت القشور البرَّاقة وظهرت النار المحرقة، وتطاير شررها وارتفع لهبها واستعرَتْ فيما حولها، ولعلَّه يكفي واعظًا ما حصل للبنان وما كان عليه وما حصل به، فقد كان مضربَ المثل في الاستِقرار ورغَد العيش ومصيف القاصدين إليه من مسلمين وغير مسلمين، وقد وصَل إلى الحضيض في المجون وفساد الأخلاق، فلمَّا تَمادَى أكثر أهله في غيِّهم وضَلالهم وابتعَدُوا عن تعاليم ربهم، عاقَبهم الله بأنْ سلَّط بعضهم على بعض وقيَّض لهم عدوًّا دخَل بينهم، فقتل بعضهم بعضًا وخربوا ديارهم، وأهلكوا حروثهم وأشجارهم، فساعةً بأيديهم وفيما بينهم، وساعةً بيد عدوِّهم، وبقوا على هذه الحال منذُ ما يزيدُ على عشر سنين، وما زالوا - والله أعلم - متى تنتهي حربهم ويقف دمارهم؟
إنها مواعظ لو صادفت قلوبًا واعية وآذانًا مصغية، فيا مَن وقَع فيما وقَع فيه من عواقب وعمَّ عقابه، اتَّقِ الله في نفسك وفي أمَّتك قبل أنْ يعمَّ عقابك الصالح والطالح.
فيا أمَّة الإسلام عامَّة، ويا شعب هذه البلاد خاصَّة، اتَّقوا الله في أنفُسكم وفي أمَّتكم وفي بلادكم، عالجوا الأمراض المنتشرة بها، وأقلعوا عمَّا وقعتم فيه من ذُنوبٍ ومعاصٍ، حصِّنوا بلادكم بالإيمان الصادق والأعمال الصالحة، وتعاوَنُوا مع ولاة أمركم بإصلاح ما فسَد وعلاج من مرض وقمع مَن تُسوِّل له نفسه العبث بأمنها واستِقرارها، حصِّنوا بلادكم بالسياج الحصين بتعاليم دِينكم، كونوا يدًا واحة مع ولاة الأمر على أعداء دِينكم وبلادكم ومَن غاظهم ما تعيشونه من أمن ورخاء، فإنَّكم محسودون ومُستَهدَفون ولن تنجوا إلا بحصن الإسلام المنيع وقوَّته الرادعة.
فاتَّقوا الله في أنفُسكم، وهبُّوا من رقدتكم، واتَّعظوا بغيركم، واحذَروا التفريط والإهمال ما دُمتُم في زمن الإمهال، أعادَ الله علينا هذا العيد بعزِّ الإسلام ونصر المسلمين، وجنَّبَنا تقليد أعداء الدِّين، ووفَّقنا لاتِّباع هدي سيِّد المرسلين نبينا محمد، عليه أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الحج: 34 - 37].
اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ لا إله إلا الله، اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ ولله الحمد.
الخطبة الأخيرة للعيد
الحمدُ لله مُعِيد الجُمَع والأعياد، رافع السماوات بغير عمَدٍ ترونها، وباسط الأرض ومُرسِيها بالأطوار، أحمَدُه - سبحانه - على نِعَمِه التي لا يُحصَى لها تعداد، وأشكُره وبالشكر تحلو النِّعَم وتزداد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، شهادةً أعدُّها ليوم التناد، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله الهادي إلى سبيل الرشاد، الداعي إلى الله على بصيرةٍ حتى دانَتْ لدعوته العِباد، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه البرَرَة الأمجاد، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعدُ:
فيا عباد الله، اتَّقوا الله - تعالى - واعلَمُوا أنَّه ليس السعيد مَن أدرك العيد، ولبس الجديد، وركب المراكب الفاخرة وأشادَ المباني بالحجر والأسمنت والحديد، ولكنَّ السعيد مَن أطاع مولاه فيما يحبُّه ويرضاه، وانتهى عمَّا عنه نهى، ففار بجنَّة عرضها السماوات والأرض، فهذا هو السعيد.
ثم اعلَمُوا أنَّ الله - سبحانه وتعالى - أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه فقال - جلَّ من قائل -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمَّد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهمَّ عن الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمَّة المهديين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يَعدِلون؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقيَّة أصحاب نبيِّك أجمعين، وعن التابعين وتابعي التابعين، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين، اللهمَّ أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذَّل الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدِّين، وانصُر عبادَك المؤمنين.
اللهم آمنَّا في دُورنا وأصلحْ ولاة أمورنا، وارزُقهم البطانة الصالحة الناصحة، اللهمَّ اسلُك بهم صراطك المستقيم، اللهمَّ اجعلهم هُداةً مُهتدين موفَّقين للخير أينما كانوا.
اللهم انصُرهم على عدوِّك وعدوِّهم، اللهمَّ ارفَع بهم راية الإسلام، اللهمَّ مَن أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فاشغله بنفسه، اللهمَّ مَن كاد الإسلام كيدًا فاجعَلْ كيده في نحره، اللهمَّ شتِّت أمره، وانقُضْ ما أبرمه، اللهمَّ ادفَع عنَّا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمِحَن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصَّة وعن سائر بلاد المسلمين عامَّة يا رب العالمين.
﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201].
﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23].
عباد الله:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].
فاذكُروا الله العظيم الجليل يذكُركم، واشكُروه على نِعَمِه يزدكم، ولذكرُ الله أكبرُ، والله يعلم ما تصنعون.
[1] أخرجه أحمد في المسند: 5/251.
[2] أخرجه البخاري رقم (7077) ـ الفتح: 13/29.
[3] سنن ابن ماجه (3127)، المسند (4/368)، والسنن الكبرى؛ للبيهقي (9/261)، المستدرك؛ للحاكم (2/389).
[4] أخرجه البخاري رقم (5096) ـ الفتح: 9/41، ومسلم (2740).
[5] أخرجه أبو داود (4112)، والترمذي (2778)، قال الحافظ في الفتح (9/294): إسناده قوي.
[6] أخرجه مسلم (2159).
[7] أخرجه الترمذي (2777). أبو داود (2149)، وقال الأرناؤوط: الحديث حسن بطرقه.
الشيخ عبدالعزيز بن محمد العقيل |
الله أكبر عدد ما أحرَمَ الحجاج من الميقات، الله أكبر عدد ما لبوا وزِيدَ في الحسنات، اللهُ أكبرُ عدد ما دخَلوا فجاجَ مكَّة آمِنين، اللهُ أكبرُ عدد ما طافوا بالبيت الحرام.
اللهُ أكبرُ عدد ما سعَوْا بين الصَّفا والمروة ذاكرين مُكبِّرين، اللهُ أكبرُ عدد ما خرَجُوا إلى منى، اللهُ أكبرُ عدد ما وقَفُوا بعرفة خاضعين مخبتين منيبين إلى ربهم ومُهلِّلين.
اللهُ أكبرُ عدد ما وقَفُوا بالمشعر الحرام طالبين راغبين.
اللهُ أكبرُ عدد ما عادوا إلى منى وعدد ما رموا الجمرات، اللهُ أكبرُ عدد ما أراقوا من الدماء، وحلقوا رؤوسهم وقصَّرُوا تعظيمًا لربِّ الأرض والسماوات.
اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ لا إله إلا الله، اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ ولله الحمد.
الحمدُ لله الذي خلق آدم بيده من صلصالٍ كالفخَّار، وأسجَدَ له ملائكته المقرَّبين الأطهار، فسجَدُوا إلا إبليس أبى فباء باللعنة والصَّغار، مسح - تبارك وتعالى - ظهرَ آدم بيده فاستَخرَج ذريَّته كالذرِّ ونفَّذ فيهم الأقدار، قبَض قبضةً إلى الجنَّة وقبَض قبضةً إلى النار، لا تنفَعُه طاعةُ المطيع، ولا تضرُّه معصيةُ العاصي بل هو النافع الضار.
أحمده - سبحانه - على نِعَمِه الغزار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله أفضل مَن صلَّى ونحر، وحج واعتمر، وجاهد المنافقين والكفار، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه البرَرَة الأخيار وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ ولله الحمد.
أمَّا بعدُ:
فيا عباد الله، اتَّقوا الله حقَّ التقوى ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون، واعلَمُوا أنَّ يومكم هذا يومٌ عظيم وعيدٌ جليل، رفع الله قدرَه وسمَّاه يوم الحج الأكبر، خطب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في هذا اليوم فقال في خطبته: ((أيها الناس اعبُدوا ربَّكم، وصلُّوا خمسَكم، وصُوموا شهرَكم، وأطيعوا إذا أمرَكم، تدخلوا جنَّة ربِّكم))[1].
وقال: ((لا تَرجِعوا بعدي كُفَّارًا يضرب بعضُكم رِقابَ بعض))[2].
وفي هذا اليوم يجتَمِع الحجاج بمنًى يستكملون مناسِكَ الحج، ويتقرَّبون إلى الله بالعجِّ والثجِّ، يحيُون سنَّة أبيهم إبراهيم بإهراق الدماء في هذا اليوم العظيم، فإنَّ الله ابتلاه بأنْ أمَرَه بذبح ولده وفلذَةِ كبده؛ ليسلم قلبه لله، ولا يكون فيه شركة لسواه، فإنَّ العباد لذلك خُلِقوا، وبه أُمِروا فامتَثَل أمر به طائعًا، وخرج بابنه مسارعًا.
وقال: يا بني، إني أرى في المنام إني أذبحك فانظر ماذا ترى؟! فقال: يا أبت، افعل ما تُؤمَر، لا متوقفًا ولا متفكرًا، فاستَسلَما جميعًا للقضاء المحتوم، وسلَّما أمرهما للحيِّ القيُّوم، فلما تَلَّهُ للجبين، وأهوى إلى حلقه بالسكين، أدركَتْه رحمةُ أرحم الراحمين، ونُودِي أنْ يا إبراهيم، قد صدَّقت الرؤيا إنَّا كذلك نجزي المحسنين، إنَّ هذا لهو البلاء المبين، وأتى بكبشٍ فذبحه فداء ولده، فأحيا نبيُّنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذه السنة وعظَّمها فأهدى في حجَّته مائة بدنة، وضحَّى - صلَّى الله عليه وسلَّم - بكبشين أملحين أقرنين؛ أحدهما عن محمد وآل محمد، والآخَر عن أمَّة محمد.
فبادِرُوا - رحمكم الله - إلى إحياء هذه السنَّة الجليلة ولا تبخَلُوا بالمال الذي أنعَمَ الله به عليكم؛ فإنَّ صرفه في هذا الطريق إحياءٌ لسنَّة مؤكَّدة، وفي ذلك ثواب عظيم، ومن العلماء مَن يقول بوجوبها مع اليسار، والبعض على أنها مستحبَّة، وأفضلها أكرمها وأسمنها وأغلاها ثمنًا، وفي ذلك تعظيمٌ لشعائر الله، وتجزئ الشاة عن الرجل وأهل بيته، والبدنة تقومُ مقام سبع شِياة، والبقرة تقومُ مقام سبع شياة.
المجزئ من الضأن ما تمَّ له ستة أشهر، ومن المعز ما تمَّ له سنة، ومن الإبل ما تمَّ له خمس سنين، ومن البقر ما تم له سنتان، ولا تجزئ العوراء البيِّن عورها، ولا العَرجاء البيِّن ضلعها، ولا المريضة البيِّن مرضها، ولا الهزيلة التي تنقي، ولا العضباء التي قُطِعَ أكثر أذنها أو قرنها، ولا الهتماء التي ذهبت ثَناياها من أصلها، ولا الجدباء التي نشف ضرعها ويبس من الكبر.
والسنَّة نحرُ الإبل قائمةً معقولة يدها اليُسرَى، وذبح البقر والغنم على جنبها الأيسر موجَّهة إلى القبلة، ويجب أنْ يقول عند الذبح: بسم الله، ويستحب أنْ يقول: اللهُ أكبرُ.
والسنَّة أنْ يأكل منها ثلثًا ويتصدَّق بثلث ويهدي ثلثًا، ولا يبيع جلدها ولا شيئًا منها، ولا يعطى الجزار أجرته منها، ووقت الذبح من انقِضاء صلاة العيد إلى آخِر اليوم الثالث من أيَّام التشريق.
اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ لا إله إلا الله، اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ ولله الحمد.
فيا عباد الله:
حافِظُوا على هذه السنَّة، ولا تحرموا أنفُسَكم فضلَ الله؛ ففي الحديث عن زيد بن أرقم - رضِي الله عنه - أنَّهم قالوا: يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال: ((سنَّة إبراهيم))، قالوا: فما لنا فيها؟ قال: ((بكلِّ شعرةٍ حسنة))[3] ، فحافِظُوا على الفضائل وأوقاتها، وحقِّقوا إيمانكم بالأعمال الصالحة الخالصة لله.
حافِظُوا على الصلوات في أوقاتها مع الجماعة؛ فإنها عمود الإسلام، والركن الثاني من أركانه، مَن حَفِظَها وحافَظ عليها حَفِظ دِينَه، ومَن ضيَّعها فهو لما سِواها أضيع، فاحذَرُوا عُقوبات التساهُل بها، وأدُّوا زكاةَ أموالكم طيِّبة بها نفوسُكم إلى مُستحقِّيها ممَّن نوَّه الله عنهم في كتابه، فإنها الركن الثالث من أركان الإسلام، فمَن منَع زكاة ماله فقد هدَم ركنًا من أركان الإسلام، وصُوموا شهر رمضان واحفَظوا له حُرمته، وحجُّوا البيت الحرام من المال الحلال السالم من الشوائب؛ فإنَّ ذلك من أسباب قبول الدعاء والأعمال.
وعليكم ببرِّ الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الفقراء والأيتام، واحذَرُوا من العُقوق وقطيعة الأرحام والإساءة إلى المسلمين وأذيَّتهم؛ فإنَّ في ذلك خَراب الدِّيار وقطع الأعمار وخسارة الدنيا والآخرة، وأوفوا المكاييل والموازين؛ فقد توعَّد الله المطفِّفين بويلٍ؛ وهو وادٍ في جهنم، واجتنبوا الكذب والغيبة والنميمة، وقولَ الزور وشهادة الزور، واجتنبوا شرب المسكرات وتعاطي المخدِّرات التي فشَتْ لدى كثيرٍ من الناس ورضي لنفسه بمشاركة المجانين، وجنى على عقله وماله وجسمه وأطاع شيطانه وهواه، حتى امتلأت السجون من أولئك، خُصوصًا مَن يتَعاطى الحبوب التي غزا بها أعداء الإسلام أبناء المسلمين للقضاء عليهم بعد أنْ عجزوا عنهم بالنار والحديد.
واجتنبوا الرِّبا في المعاملات فإنَّه من السبع الموبقات، واحذَرُوا من التحايُل على أكله وأكل المال الباطل؛ فإنَّ الله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وقد ورد أنَّ أكَلَة الربا يجرون في صور الكلاب والخنازير من أجل حيلهم على أكل الربا.
وأمروا بالمعروف وانهَوْا عن المنكر؛ فإنَّهما من واجبات الإسلام، وما قام دينٌ إلا بذلك ولا استقام.
ويا مَن جنى على لحيته وأطالَ شاربه، احذَرْ عُقوبة مخالفة هدْي رسول الله؛ فقد نهى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن حلق اللِّحَى وإطالة الشوارب، واحذَرُوا يا عباد الله من الاستماع إلى الأصوات المحرَّمة، والنظر إلى ما لا يحلُّ النظر إليه من النساء الأجنبيَّات والمردان، سواء مباشرةً أو في تلفاز أو صُوَر؛ فإنَّ في ذلك الدمار، وفَساد الأخلاق وانتشار الرذائل، وضَياع الأموال والأوقات؛ قال - تعالى -: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [لقمان: 6].
واحذَرُوا تبرُّج النساء واختلاطهنَّ بالرجال الأجانب وخلوتهنَّ مع غير محارم؛ فإنَّ في ذلك أخطارًا عظيمة، ومن البليَّات ما أُصِيب به الكثيرُ من شُرب المسكرات وتَعاطي المخدِّرات التي أذهبَت العقول وقضَتْ على الشِّيَم والغيرة، والتي غَزا بها الأعداء أبناء المسلمين، فقد تنوَّعت أساليب غَزْوِ الأعداء؛ فتارةً بفساد الأخلاق وتحسين الباطل، وتارةً بالقضاء على العُقول والأجسام.
فيا أمَّة الإسلام:
ويا شباب المسلمين، انتَبِهُوا لأنفُسكم، واحذَروا أعداءَكم، فقد آنَ لكم أنْ تفيقوا، كفى هذا النوم والسُّبات، والغفلة والانغماس في الملذَّات، والانخِداع بما يمليه الأعداء؛ فقد ظهرت الحقائق، وعرَف المخدوع كيف خُدِعَ، ولم يبقَ له إلا أنْ يَعُود إلى رشده ويأخُذ الحيطة لأعدائه، فإنَّ أعداء المسلمين أعداء عقيدة، وإنَّ الكفر ملة واحدة.
ومَن خالَف عقيدةَ الإسلام فهو عدوٌّ للمسلمين، يجبُ عليهم أنْ يحذَرُوه، كما أنَّ على المسلمين شُعوبًا وولاةً أنْ يجتَمِعوا ويتَّحِدوا ويكونوا صفًّا واحدًا، ويلتَزِموا عقيدتَه الصافية التي لا يَشُوبها كدَر ولا زيف، وأنْ يُحكِّمُوا كتابَ الله في القليل والكثير والنقير والقطمير؛ فإنَّ الإسلام كُلٌّ لا يتجزَّأ، ولن يُنصَر المسلمون حتى يلتزموا الإسلامَ حقيقةً، ويتركوا المذاهب الهدَّامة والآراء المتشعِّبة، فطريق الحق واحدٌ، وما بعدَ الحق إلا الضلال!
يقول - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153].
لقد زهد الكثيرُ من المسلمين في تعاليم الإسلام، وحكَّموه في بعضٍ وحكَّموا الأهواء والآراء في بعضٍ، والله يقول: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ [البقرة: 85].
ويقول: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ [آل عمران: 85].
فأين الإسلام؟ وأين حقيقة الادِّعاء؟ وكيف يُرجَى النصرُ ممَّن لا يلتزم الإسلام أو يلتزم ببعضه دون البعض؟ إنَّ البشرية اليوم في حاجةٍ إلى مُنقذٍ لها ممَّا تعيشُ فيه من خوفٍ ورعب وتهديد من الأسلحة الفتَّاكة والمواد المحرقة، والبحار المنتنة والأجواء المتعكِّرة، ولا منقذ لها إلا الإسلام وتعاليمه السمحة السامية، فأين رجاله المخلصون الذين حملوا الأمانة في أعناقهم؟ أين الذين أنقَذُوا الأمم الكافرة بالإسلام؛ حتى أصبح الأعداء أنصارًا وعاش الجميع في ظله الوافر وتحت رايته الخفَّاقة؛ راية لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له؟!
رفَع الجميع رؤوسهم، ولم يخضَعوا إلا لله الواحد القهَّار، غزوا أكبر الأمم في وقتِهم؛ فارس والروم، وأخضَعُوهم وسلَبوا أموالهم مع قلَّة عددهم وضعف عُدَّتهم، وكثرة أعدائهم وقوَّة عُدَّتهم.
لقد غزا المسلمون الأعداءَ بالإيمان الصادق، بالعقيدة الصافية، بلا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، فلا قوميَّة ولا اشتراكيَّة ولا حزبيَّة يُملِيها الأعداء، وإنما عقيدة الإسلام ولا شيء غير الإسلام.
وإنَّ الإسلام في ذاك الوقت هو الإسلام في هذا الوقت، فإنَّه الدين الخالد الصالح لكلِّ زمان ومكان؛ فقد أكمَلَ لله الدِّين وأتمَّ النعمة؛ بقول - سبحانه وتعالى -: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].
فلا مجال لعقول الرجال، ولا حاجة لزبالة الأفكار، وإنما الحاجة إلى رجال الإسلام الذين يُطبِّقون تعاليمَه ويُحكِّمون شريعتَه كما كان سلفهم الصالح فأين أولئك؟ لقد حانَ وقتُهم، فلا بُدَّ من اليقظة والرُّجوع إلى الله؛ فقد تطاول أعداءُ الإسلام على المسلمين، وأخذوا يتوسَّعون في بلادهم ويُدنسون مُقدَّساتهم ويفتكون بأطفالهم ونسائهم وشيوخهم بعد أنْ سمَّموا أفكارهم وشعَّبوا مذاهبهم وأمنوا سطوتهم وانتقامهم، ولم يُفد المسلمين احتجاجاتُهم، وعرض قَضاياهم في المحافل الدولية التي سَيْطَرَ عليها أعداء الإسلام والمسلمين، بل وأعداء البشرية رؤوس الكفر والإلحاد.
إنَّ ما أُصِيبَ به المسلمون من تفكُّك وتخاذُل وابتعاد الكثير عن منهج الله وصراطه المستقيم قد آلَ بهم إلى أنْ وصَلُوا ما وصَلُوا إليه من ذلَّة ومَهانة وسَيْطرة الشرذمة القليلة؛ اليهود الذين ضُرِبت عليهم الذلة، وأنَّ أعداد المسلمين الهائلة مَن يَتسمونَ بالإسلام لم تفدهم شيئًا أمامَ شرذمة اليهود، أولئك العدد القليل المحصور في مكان، فإذًا لا بُدَّ من الرُّجوع إلى الله بصدقٍ وإخلاص ومحاسبة النُّفوس وإصلاح البواطن والظواهر، والاجتماع على العقيدة الصافية، والالتفاف تحت راية الإسلام والاجتماع صفًّا واحدًا، إنَّ الله يحبُّ الذين يقاتلون في سبيله صفًّا كأنهم بُنيانٌ مرصوص.
لا بُدَّ من هذا أولًا حتى لا نخاف الأعداء مهما كثٌر عددهم واستٍعدادهم، وحتى يحصل لنا النَّصر من الله كما حصل لأسلافنا الصالحين ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ﴾ [الحج: 40].
ولا بُدَّ من الإقلاع عن الذنوب والمعاصي ومعالجة الأمراض الفتَّاكة التي حَلَّتْ بمجتمعنا، ومن أعظمها خطرًا وأشدها ضررًا الانغماسُ في الملذَّات الضارَّة، والعُكوف على آلات اللهو والمجون وشُرب المسكرات وتعاطي المخدرات، وتبرُّج النساء وسفورهن واختلاطهن بالرجال الأجانب، ونظر الرجال إليهن ونظرهنَّ إلى الرجال.
وقد قال نبيُّنا - صلوات الله وسلامه عليه -: ((ما تركتُ بعدي فتنةً هي أضرُّ على الرجال من النساء))[4] ، فلا يحلُّ للرجل أنْ ينظُر إلى المرأة الأجنبيَّة، ولا يحلُّ لها أنْ تنظُر إليه.
ففي الحديث عن أم سلمة - رضِي الله عنها - قالت: كنتُ عند رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعنده ميمونة، فأقبل ابن أمِّ مكتوم وذلك بعد أنْ أُمِرنا بالحجاب، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((احتجبا منه))، فقلنا: يا رسول الله، أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أفعمياوان أنتما؟ ألستُما تنظرانه؟))[5].
وعن جرير بن عبدالله - رضِي الله عنه - قال: ((سألتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن نظر الفجاءة فأمرني أنْ أصرِفَ بصري))[6].
وعن بريدة مرفوعًا قال: ((يا علي، لا تتبع النَّظرة النَّظرة؛ فإنَّ لك الأولى وليست لك الآخِرة))[7].
فأمَر بصرف النظر عند وُقوعه على المرأة فجأةً، ومن المأسوف له أنَّ بعض المغرورين بدُعاة الشرِّ والرَّذيلة يُطالِبون بسُفور المرأة واختلاطها بالرجال، ويَزعُمون أنهم بذلك ينصرونها ويُطالبون بحقٍّ لها كانت قد هُضمَتْه ولا شكَّ أنَّ هذا مغالطة إنْ كانوا عارفين، أو سذاجةً إنْ كانوا جاهلين.
فلو رجعوا إلى ما قبلَ الإسلام لعرفوا أنَّ المرأة مهضومةٌ ومُهانة، فلمَّا جاء الإسلام أعزَّها ورفع قدرَها، وجعل لها التصرُّف في مالها وحَفِظَها في نفسها، وجعَلَها راعية ومدبِّرة في بيت زوجها؛ كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المرأة راعيةٌ في بيت زواجها ومسؤولةٌ عن رعيَّتها)).
فكما أنَّ الرجل راعٍ ومسؤولٌ فهي كذلك راعية ومسؤولة، ولا شك أنَّ لهذه الرعاية شأنًا ومنزلة في المجتمع.
فمتى قام كلٌّ من الرجل والمرأة بواجبه على ما فطَرَه الله عليه فإنَّ الأمور تستَقِيم بذلك، ومتى ضعُف الرجل عن واجبه وطلَب من المرأة أن تُشاركه وتُعِينَه على عمله، فإنَّ ميزان الحياة سيختلُّ، فإنَّ للمرأة أعمالًا لا تتَّفق وطبيعتها لا يمكن أن يُشاركها الرجل فيها، وبذلك تكون المرأة قد هُضِمت وحملت ما لا تتحمَّله؛ حيث شاركت الرجل في عِلمه ولم يُشارِكها في عملها، ولكنَّ دعاة السوء لم يريدوا نفْع المرأة ولا نصرَها، وإنما أرادوا إشباعَ رغباتهم الحيوانية بالتلذُّذ برؤيتها ومحادثتها والاحتكاك بها؛ محاكاةً للغرب وتقليدًا لبلاد أوربا، تلك البلاد التي عانَتِ الويلات من الاختلاط وفَساد الأخلاق وتمزُّق الأُسَر، وشَتات البيوت، وأصبحوا يُحارِبون الاختلاطَ ويُكافِحون شُربَ الخمور وتناول المسكِرات وتَعاطِي المخدِّرات، والعارف المنصِف الذي يَقرَأ عنهم أو ذهَب إلى بلادهم يَعرِف ذلك.
فيا عباد الله:
إنَّنا في نعمةٍ ونحن محسودون عليها، نعمة الإسلام وتقاليده السامية الذي من ثمرات التمسُّك به الأمنُ والاستقرارُ، ورغد العيش وصحَّة الأبدان، إنها نعمةٌ عظيمة حسَدَنا عليها الأعداء فغزَوْنا باسم الحرية والمدنية الزائفة التي كسوها لباسًا برَّاقًا انخَدَع به الكثير من أبناء المسلمين وحسَّنَه مَن في قلبه مرض.
ولكن سرعان ما ظهَر الزيف وتطايَرت القشور البرَّاقة وظهرت النار المحرقة، وتطاير شررها وارتفع لهبها واستعرَتْ فيما حولها، ولعلَّه يكفي واعظًا ما حصل للبنان وما كان عليه وما حصل به، فقد كان مضربَ المثل في الاستِقرار ورغَد العيش ومصيف القاصدين إليه من مسلمين وغير مسلمين، وقد وصَل إلى الحضيض في المجون وفساد الأخلاق، فلمَّا تَمادَى أكثر أهله في غيِّهم وضَلالهم وابتعَدُوا عن تعاليم ربهم، عاقَبهم الله بأنْ سلَّط بعضهم على بعض وقيَّض لهم عدوًّا دخَل بينهم، فقتل بعضهم بعضًا وخربوا ديارهم، وأهلكوا حروثهم وأشجارهم، فساعةً بأيديهم وفيما بينهم، وساعةً بيد عدوِّهم، وبقوا على هذه الحال منذُ ما يزيدُ على عشر سنين، وما زالوا - والله أعلم - متى تنتهي حربهم ويقف دمارهم؟
إنها مواعظ لو صادفت قلوبًا واعية وآذانًا مصغية، فيا مَن وقَع فيما وقَع فيه من عواقب وعمَّ عقابه، اتَّقِ الله في نفسك وفي أمَّتك قبل أنْ يعمَّ عقابك الصالح والطالح.
فيا أمَّة الإسلام عامَّة، ويا شعب هذه البلاد خاصَّة، اتَّقوا الله في أنفُسكم وفي أمَّتكم وفي بلادكم، عالجوا الأمراض المنتشرة بها، وأقلعوا عمَّا وقعتم فيه من ذُنوبٍ ومعاصٍ، حصِّنوا بلادكم بالإيمان الصادق والأعمال الصالحة، وتعاوَنُوا مع ولاة أمركم بإصلاح ما فسَد وعلاج من مرض وقمع مَن تُسوِّل له نفسه العبث بأمنها واستِقرارها، حصِّنوا بلادكم بالسياج الحصين بتعاليم دِينكم، كونوا يدًا واحة مع ولاة الأمر على أعداء دِينكم وبلادكم ومَن غاظهم ما تعيشونه من أمن ورخاء، فإنَّكم محسودون ومُستَهدَفون ولن تنجوا إلا بحصن الإسلام المنيع وقوَّته الرادعة.
فاتَّقوا الله في أنفُسكم، وهبُّوا من رقدتكم، واتَّعظوا بغيركم، واحذَروا التفريط والإهمال ما دُمتُم في زمن الإمهال، أعادَ الله علينا هذا العيد بعزِّ الإسلام ونصر المسلمين، وجنَّبَنا تقليد أعداء الدِّين، ووفَّقنا لاتِّباع هدي سيِّد المرسلين نبينا محمد، عليه أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الحج: 34 - 37].
اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ لا إله إلا الله، اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ ولله الحمد.
الخطبة الأخيرة للعيد
الحمدُ لله مُعِيد الجُمَع والأعياد، رافع السماوات بغير عمَدٍ ترونها، وباسط الأرض ومُرسِيها بالأطوار، أحمَدُه - سبحانه - على نِعَمِه التي لا يُحصَى لها تعداد، وأشكُره وبالشكر تحلو النِّعَم وتزداد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، شهادةً أعدُّها ليوم التناد، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله الهادي إلى سبيل الرشاد، الداعي إلى الله على بصيرةٍ حتى دانَتْ لدعوته العِباد، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه البرَرَة الأمجاد، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعدُ:
فيا عباد الله، اتَّقوا الله - تعالى - واعلَمُوا أنَّه ليس السعيد مَن أدرك العيد، ولبس الجديد، وركب المراكب الفاخرة وأشادَ المباني بالحجر والأسمنت والحديد، ولكنَّ السعيد مَن أطاع مولاه فيما يحبُّه ويرضاه، وانتهى عمَّا عنه نهى، ففار بجنَّة عرضها السماوات والأرض، فهذا هو السعيد.
ثم اعلَمُوا أنَّ الله - سبحانه وتعالى - أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه فقال - جلَّ من قائل -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمَّد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهمَّ عن الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمَّة المهديين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يَعدِلون؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقيَّة أصحاب نبيِّك أجمعين، وعن التابعين وتابعي التابعين، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين، اللهمَّ أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذَّل الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدِّين، وانصُر عبادَك المؤمنين.
اللهم آمنَّا في دُورنا وأصلحْ ولاة أمورنا، وارزُقهم البطانة الصالحة الناصحة، اللهمَّ اسلُك بهم صراطك المستقيم، اللهمَّ اجعلهم هُداةً مُهتدين موفَّقين للخير أينما كانوا.
اللهم انصُرهم على عدوِّك وعدوِّهم، اللهمَّ ارفَع بهم راية الإسلام، اللهمَّ مَن أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فاشغله بنفسه، اللهمَّ مَن كاد الإسلام كيدًا فاجعَلْ كيده في نحره، اللهمَّ شتِّت أمره، وانقُضْ ما أبرمه، اللهمَّ ادفَع عنَّا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمِحَن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصَّة وعن سائر بلاد المسلمين عامَّة يا رب العالمين.
﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201].
﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23].
عباد الله:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].
فاذكُروا الله العظيم الجليل يذكُركم، واشكُروه على نِعَمِه يزدكم، ولذكرُ الله أكبرُ، والله يعلم ما تصنعون.
[1] أخرجه أحمد في المسند: 5/251.
[2] أخرجه البخاري رقم (7077) ـ الفتح: 13/29.
[3] سنن ابن ماجه (3127)، المسند (4/368)، والسنن الكبرى؛ للبيهقي (9/261)، المستدرك؛ للحاكم (2/389).
[4] أخرجه البخاري رقم (5096) ـ الفتح: 9/41، ومسلم (2740).
[5] أخرجه أبو داود (4112)، والترمذي (2778)، قال الحافظ في الفتح (9/294): إسناده قوي.
[6] أخرجه مسلم (2159).
[7] أخرجه الترمذي (2777). أبو داود (2149)، وقال الأرناؤوط: الحديث حسن بطرقه.