الدر المرصوف في العشرة بالمعروف
الحمدُ للهِ الَّذي خلَق الزَّوجَيْن الذَّكر والأُنثى، والصلاة والسلام على رسوله إِمَام الهُدى، وعلى آله وصحْبه ومَن اقْتَفَى أثرَه، وبسُنته اهْتَدى.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾[النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70 - 71].
إنَّ أصْدق الحديث كتابُ الله، وخير الهَدْي هدي محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وشر الأمور مُحْدثاتها، وكل مُحْدَثة بِدعة، وكل بِدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد:
فإنَّ الله - عزَّ وجلَّ - أمَر الأزواج بمعاشرة زوجاتهم بالمعروف؛ فقال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [النساء: 19]، وقد غفَل كثيرٌ مِن المسلمين عن هذا الأمر العظيم، ولهذه الغفلة أسبابٌ عديدة مِن أعظمها: الجهْل بهذا الأمر الربَّاني؛ وذلك لبُعدهم عن كتاب ربهم، وقِلَّة علمهم بسُنة نبيِّهم - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأحببتُ أن أبَيِّن لإخواني هذا الأمر، وما في مخالفته مِن الخطر، فأوردتُ بعض الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والآثار السلفيَّة التي تدلُّ عليه، وتحثُّ على الامتثال به.
وذلك لمَّا طلب مني أخ عزيز، وصديق كريم أن أُسْعِفَه ببعض الأحاديث، والآثار التي تحثُّ الأزواجَ على معاشرة زوجاتهم بالمعروف؛ لينصحَ بها أحد أصدقائه ممَّن أخلَّ بهذا الأمر العظيم.
فقمتُ بتلبية طلبه، وكتبتُ هذه الرسالة الصغيرة؛ امتثالاً لقوله - تعالى -: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 2]، ورغبةً في نشْر العلم؛ امتثالاً لقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بَلِّغوا عنِّي ولو آية))[1]، وبَذْلاً للنُّصح للآخرين؛ امتثالاً لقولِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الدِّين النصيحة))، قيل: لمَن يا رسولَ الله؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمَّة المسلمين وعامتهم))[2]، وحِرْصًا على نفْع المسلمين؛ امتثالاً لقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن استطاع منكم أن ينفعَ أخاه فليفعلْ))[3]، وتذكيرًا للمؤمنين؛ امتثالاً لقوله - تعالى -: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 55].
وقدْ جعلتُ هذه الرِّسالة في ثلاثة مباحِث:
الأول: أوردتُ فيه بعض الآيات القرآنية.
الثاني: أوردتُ فيه بعض الأحاديث النبوية.
الثالث: أوردتُ فيه بعض ما أُثِر عن السَّلف - رضوان الله عليهم - مِن أقوال، وحكايات.
وأسأل اللهَ العظيم أن يكونَ هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع بهذه الوريقات كاتبَها، وقارئَها، وجميعَ المسلمين.
آمين.
المبحث الأول
الآيات القرآنية
قمتُ بذِكْر ثلاث آيات قرآنية من كِتاب الله - تعالى - تَحُثُّ وتأمُر الأزواج بالمعاشَرة بالمعروف، وإليك الآيات مع شرْحها:
1 - قال الله تعالى: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19]، في هذه الآية أَمَر الله تعالى الرِّجال عمومًا، والأزواجَ خصوصًا بِحُسْن معاشرةِ النساء، والمعاشرة: مِن العِشْرَة، وهي: المخالطة، والمعروف: هو ما عَرَّفه وحدَّده الشارع، وأمَر به من التلطُّف مع النساء، والرحمة بهنَّ، وحُسن الخُلُق معهن، وطِيب القول لهن.
ومعنى الآية: صاحبوهنَّ، وعاملوهنَّ بالمعروف مما حَضَّ عليه الشرع، وارتضاه العقلُ مِن الأفعال الحميدة، والأقوال الحسَنة، بأن تُلاطفوهنَّ في المقال، وتتَجَمَّلُوا معهنَّ في الفعال.
قال ابنُ كثير في تفسيره (2/242): "﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ أي: طَيِّبُوا أقوالكم لهنَّ، وحَسِّنُوا أفعالكم وهَيْئَاتِكُم بحسب قُدرتكم، كما تحبُّ ذلك منها، فافعل أنت مثله".
وقال الغزالي في الإحياء (2/43): "والمعاشرة بالمعروف تكون بِحُسْن الخُلُق معها، وكف الأذى عنها، بل احتمال الأذى منها، والحِلْم عن طيشها وغضبها؛ اقتداءً برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد كانتْ أزواجه تراجعْنَه الكلام؛ بل أن يَزيد على احتمال الأذى منها بالمداعبة، والمزاح والملاعبة، فهي التي تُطَيِّب قلوبَ النساء، وقد كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يمزح معهنَّ".
ثم ختَم الله الآية الكريمة بقوله: ﴿ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19]؛ ليُبَيِّن أنَّه لا يصحُّ للرجال أن يسترسلوا في كراهية النِّساء إن عرضت لهم أسبابُ الكراهية، بل عليهم أن يُغَلِّبُوا النظرَ إلى المحاسن، ويتغاضوا عن المكارِه.
فمعنى الآية: إن وُجِد سببُ سوء المعاشَرة - وهو: الكراهية - فكرهتم صحبتهنَّ وإمساكهن، فتثبَّتوا ولا تتعجَّلوا في مفارقتهن بالطلاق، فإنَّه عسى أن تكرهوا شيئًا، ويجعل الله لكم في الصبر عليه خيرًا كثيرًا في الدنيا والآخِرة.
فجَعل الله العشرة بالمعروف فريضةً على الرجال حتى في حالةِ كراهية الزوج لزوجته، وجعَل للزوج في ذلك خيرًا كثيرًا.
2 - قال الله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21].
وفي هذه الآية يُبَيِّن الله تعالى أنَّ مِن آياته العظيمة أن جَعَل بين الزوجين المودَّةَ والرحمة، وبيَّن أن النكاح مبنيٌّ على هذه الأصول: السكن، والمودَّة، والرحمة.
فقال: ﴿ لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ﴾، والسكينة: الطمأنينة، والأُنس، والاستقرار؛ أي: لتألفوا بها، وتطمئِنُّوا إليها، فجعَل الله المرأة سكنًا للرجل يأوي إليها، ويطمئن بها، ويستقر عندَها، فبيَّن أنَّ البيوت ينبغي أن تُبْنَى على الطمأنينة والسكينة، وهو ما يؤدِّي إلى الاستِقْرار في الحياةِ الزوجية.
ثم قال سبحانه: ﴿ وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾، فبيَّن في هذه الآية أنَّ العلاقة بيْن الرجل وزوجه مبنيةٌ على المحبَّة، والمودة، والأُلْفة، فإنِ انتفى الحبُّ فلتكن العلاقة مبنيَّة على الرَّحْمة بها، والعطف عليها؛ لأنَّها الحلقة الأضعَف، وقد حرَّج النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - علينا حقَّها بقوله: ((إني أُحَرِّج عليكم حقَّ الضعيفين: اليتيم، والمرأة))[4]، وهذه الآية تؤكِّد ما أفادتْه الآية الأولى: بأنَّه إن كَرِه الرَّجلُ المرأةَ، وانتهتْ علاقة الحُبِّ والوُدِّ بينهما، فلا يُفارقها، بل يُعاملها بالرحمة، والرأفة، والشفقة، وهو المعروف الذي ذَكَرَه في الآية الأولى؛ ولِذَا قال ابن عباس في تفسير الآية: "المودَّة: حبُّ الرجل امرأته، والرحمةُ: شفقتُه عليها أن يصيبَها بسوء"[5]، وذلك إنِ انتفت المحبَّة، وحلَّت مكانها الكراهية.
3 - قال الله تعالى: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 228].
يُؤكِّد الله - سبحانه وتعالى - في هذه الآية أنَّ للمرأة على زوجها حقوقًا كما أنَّ له عليها حقوقًا، فعليه أن يُوَفِّي لها حقوقَها بالمعروف الذي ترضاه الطباعُ السليمة، ووافق ما شرَعه الله، فلا يستوفي حقوقَه منها، ويظلمها حقوقَها، فالمعنى: وللنساء على الرجال مثلُ ما للرجال على النساء، فليؤدِّ كل واحد منهما إلى الآخَر ما يجب عليه بالمعروف.
وقدْ قال ابن عباس: "إني لأتزيَّن لامرأتي كما أُحِبُّ أن تتزين لي؛ لأنَّ الله قال: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 228]"[6].
المبحث الثاني
الأحاديث النبوية
وهذه سِتَّة أحاديث مِن كلام النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - تُبَيِّن لك عظمَ هذا الأمر، وتُحذِّرك من خَطَر مخالفته:
1- عن أبي هُريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يفرك مؤمنٌ مؤمنة، إنْ كَرِهَ منها خُلقًا، رَضِيَ منها آخر - أو قال: غيرَه))[7]، والفرك: هو البُغض بين الزوجين، ومعنى الحديث: لا يَنبغي للزوج أن يُبْغِض زوجتَه بغضًا يحمله على فراقها؛ لأنَّه إن وجد فيها خُلُقًا يكرهه، وجد فيها خُلُقًا آخرَ يرضاه منها، فعليه أن يغفرَ سيئها لحُسْنها، ويَتَغَاضَى عمَّا يكره لِمَا يحب منها.
وفي الحديثِ إخبارٌ بأنَّ المؤمنة لا يُتَصَوَّر فيها اجتماعُ كلِّ القبائح؛ بحيث يبغضها الزوجُ بغضًا كليًّا، ولا يَحْمَد فيها شيئًا أصلاً، بل فيها مِن الخصال الحميدة ما يَرضاه زوجُها، وفيه إشارة إلى أنَّه ينبغي للزوج أن يبحَث في زوجته عمَّا يُرْضِيه عنها، وألا يُنَقِّب عن المساوئ التي تحمله على كُرهها.
وفيه إشارةٌ أيضًا إلى أن الصَّاحب لا يوجد بدون عيْب، فإنْ أراد الشخص صاحبًا بريئًا من العيب بقِي بلا صاحِب، ولله دَرُّ القائل:
2- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائِهم))[8].
في هذا الحديث يُبَيِّن النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ مَن كَمُل إيمانه هو من حَسُن خُلُقُه مع جميع الناس، ثم بيَّن أن خير الناس من كان خيرُه لزوجته خاصَّة، وذلك بأن يُعَامِلَها بالحسنى، ويصبر على أخلاقها، ويكُفَّ الأذى عنها، قال الحسنُ البصري: "حقيقة حُسن الخلق: بذْلُ المعروف، وكفُّ الأذى، وطلاقة الوجه"، وقد كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - خيرَ الناس؛ ولهذا كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحسنَ الناس معاشرةً لأزواجه، فإنه قد صحَّ عنه أنه قال: ((خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلي))[9].
وفي هذا الحديثِ يَحُثُّ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الأزواجَ على حسن معاشرةِ زوجاتهم، وحُسن صحابتهنَّ، والتَّرفُّق بهن، وأنَّ مَن فعل هذا فهو مِن خير الناس، ومَن خالفه فهو شرُّ الناس، وقد كانتِ العرَب تقول: (مَن لا خير فيه لأهله، فلا خيرَ فيه للناس).
3- عن سَمُرة بن جُندب - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ المرأة خُلِقَت مِن ضلع، فإن أَقَمْتَها كَسَرْتَها، فَدارِها تَعِشْ بها))[10]، فالمرأة خُلِقَت من ضِلع، وفي رواية: ((مِن ضِلع أعوج))[11]؛ أي: إنَّ خَلْقَها فيه اعوجاج، وكذلك خُلُقُها، فلا يتهيأ لك الانتفاعُ بها إلا بالصبر على اعوجاج خُلُقِها، كما جاء في رواية مسلم: ((لن تستقيمَ لك على طريقة، فإنِ استمتعتَ بها استمتعتَ وبها عِوج))[12]، فإن أردتَ تقويمَها وإصلاحَها، فلن تستطيعَ إلى ذلك سبيلاً، إلا بطلاقها وكسْر جناحها، كما في رواية مسلم المتقدمة: ((وإن ذهبتَ تُقِيمها كسرتَها، وكَسْرُها طلاقها))، فلا يمكن العيشُ معها إلا بمداراتها؛ لذلك قال: ((فدَارِها تَعِش معها))، والمداراة: الملاطَفة والملاينة؛ أي: لاطِفْها ولايِنْها وجامِلْها، فبذلك تبلُغ مرادك منها مِن الاستمتاع، وحسن العِشْرة.
فهذا الحديثُ الشريف يحُثُّنا على مُجامَلَة النساء ومُلايَنَتِهِنَّ، والصبر على أذاهن وتَضَجُّرِهِنَّ، والصحبة معهنَّ بالمداراة، وحُسْن الخلق، وسَعة النفْس، وتمام الشفقة.
4- عنِ الحسن البصريِّ - رحمه الله تعالى -: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ الله سائلٌ كلَّ راع عما استرعاه؛ حَفِظ أم ضَيَّع، حتى يسأل الرجلَ عن أهل بيته))[13]، الراعي هو: الحافظ، المُؤْتَمَن، المُلْتَزِم صلاح ما قام عليه، وفي هذا الحديثِ يُوَضِّح النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - سيُحَاسِب كلَّ شخص تولَّى أمر بعضِ المسلمين، وأكَّد بأنه سيُسأل عنهم، وعن حِفْظه لهم، وخصَّ بذلك الرَّجُل مع أهل بيتِه مِن زوجه وولده، وأنَّه سيُسأل عنهم؛ هل حفِظ حقوقَهم، أم ظلمهم، وفرَّط فيهم، وقدْ أمرَنا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بإعدادِ الجواب للسؤال، فقال: ((فأعدُّوا للمسألة جوابًا))، قالوا: وما جوابها؟ قال: ((أعمالُ البِر))[14]، وبيَّن لنا أنَّ الجواب يكون بالعمل بقوله: ((أعمال البر))، وهي: أعمال الخير مِن: حسن الخُلُق، وحِفظ الحقوق، والمعاشَرة بالمعروف.
5- عن معاويةَ بن حَيْدَة - رضي الله عنه - قال: "قلت: يا رسولَ الله، ما حقُّ زوجة أحدنا عليه؟ قال: ((أن تُطعِمها إذا طَعِمتَ، وتكسوَها إذا اكتسيتَ، ولا تضرِب الوجهَ، ولا تُقَبِّح، ولا تهْجُر إلا في البيت))[15].
في هذا الحديث يُبَيِّن النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حقوقَ المرأة على زوجها، وذكَر منها: وجوب النفقة عليها، وكسوتها، وهذا واجبٌ بإجماع علماء المسلمين، وفيه مِن اللطائف ندب واستحباب أكْل الرجل الطعامَ مع زوْجته، وألاَّ يترفَّع عليها بأكْله وحده وهي تنظر إليه، وذكَر منها: عدم الضَّرْب، وعدم الهجر إلا في البيت فقط، وعدم التقبيح؛ أي: لا يقول لها قولاً قبيحًا، ولا يَشْتمها؛ لأنَّه من سوءِ العِشرة، وقلة الأدب، وقد عبَّر بالوجه عن الذات، فالنهيُ عن الأقوال والأفعال القبيحة في الوجه، وغيره مِن ذاتها، وصفاتها، فشمِل اللعن، والشَّتْم، والهجْر، وسوء العِشرة، وغير ذلك.
6- عنِ العِرباضِ بن سارية - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إنَّ الرجلَ إذا سقَى امرأته مِن الماء أُجِر))، قال: فأتيتُ امرأتي فسقيتُها، وحدثتُها بما سمعتُ مِن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم[16].
وهذا الحديثُ مِن أروع ما قرأتُ في معاملة الزوج لزوجته، فانظرْ إلى هذا الصحابي الجليل الّذي تربَّى على يدي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عندما سَمِع الحديث من النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قام بتطبيقه على الفور؛ حرصًا على الأجر؛ واتباعًا لهدي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي هو خيرُ هَدْي، فجاء إلى امرأتِه فسقاها أولاً، ثم أخْبَرها بما أخْبَر به النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فعَمِل بما عَلِم، ثم عَلَّم أهله.
يتبع
علي محمد عمر السهولي |
الحمدُ للهِ الَّذي خلَق الزَّوجَيْن الذَّكر والأُنثى، والصلاة والسلام على رسوله إِمَام الهُدى، وعلى آله وصحْبه ومَن اقْتَفَى أثرَه، وبسُنته اهْتَدى.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾[النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70 - 71].
إنَّ أصْدق الحديث كتابُ الله، وخير الهَدْي هدي محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وشر الأمور مُحْدثاتها، وكل مُحْدَثة بِدعة، وكل بِدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد:
فإنَّ الله - عزَّ وجلَّ - أمَر الأزواج بمعاشرة زوجاتهم بالمعروف؛ فقال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [النساء: 19]، وقد غفَل كثيرٌ مِن المسلمين عن هذا الأمر العظيم، ولهذه الغفلة أسبابٌ عديدة مِن أعظمها: الجهْل بهذا الأمر الربَّاني؛ وذلك لبُعدهم عن كتاب ربهم، وقِلَّة علمهم بسُنة نبيِّهم - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأحببتُ أن أبَيِّن لإخواني هذا الأمر، وما في مخالفته مِن الخطر، فأوردتُ بعض الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والآثار السلفيَّة التي تدلُّ عليه، وتحثُّ على الامتثال به.
وذلك لمَّا طلب مني أخ عزيز، وصديق كريم أن أُسْعِفَه ببعض الأحاديث، والآثار التي تحثُّ الأزواجَ على معاشرة زوجاتهم بالمعروف؛ لينصحَ بها أحد أصدقائه ممَّن أخلَّ بهذا الأمر العظيم.
سَأَلَنِي إِيَّاهُ مَنْ لاَ بُدَّ لِي ![]() مِنَ امْتِثَالِ سُؤْلِه المُمْتَثَلِ ![]() |
فقمتُ بتلبية طلبه، وكتبتُ هذه الرسالة الصغيرة؛ امتثالاً لقوله - تعالى -: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 2]، ورغبةً في نشْر العلم؛ امتثالاً لقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بَلِّغوا عنِّي ولو آية))[1]، وبَذْلاً للنُّصح للآخرين؛ امتثالاً لقولِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الدِّين النصيحة))، قيل: لمَن يا رسولَ الله؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمَّة المسلمين وعامتهم))[2]، وحِرْصًا على نفْع المسلمين؛ امتثالاً لقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن استطاع منكم أن ينفعَ أخاه فليفعلْ))[3]، وتذكيرًا للمؤمنين؛ امتثالاً لقوله - تعالى -: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 55].
وقدْ جعلتُ هذه الرِّسالة في ثلاثة مباحِث:
الأول: أوردتُ فيه بعض الآيات القرآنية.
الثاني: أوردتُ فيه بعض الأحاديث النبوية.
الثالث: أوردتُ فيه بعض ما أُثِر عن السَّلف - رضوان الله عليهم - مِن أقوال، وحكايات.
وأسأل اللهَ العظيم أن يكونَ هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع بهذه الوريقات كاتبَها، وقارئَها، وجميعَ المسلمين.
آمين.
فَقُلْتُ مَعْ عَجْزِي وَمَعْ إِشْفَاقِي ![]() مُعْتَمِدًا عَلَى القَدِيرِ البَاقِي ![]() |
المبحث الأول
الآيات القرآنية
قمتُ بذِكْر ثلاث آيات قرآنية من كِتاب الله - تعالى - تَحُثُّ وتأمُر الأزواج بالمعاشَرة بالمعروف، وإليك الآيات مع شرْحها:
1 - قال الله تعالى: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19]، في هذه الآية أَمَر الله تعالى الرِّجال عمومًا، والأزواجَ خصوصًا بِحُسْن معاشرةِ النساء، والمعاشرة: مِن العِشْرَة، وهي: المخالطة، والمعروف: هو ما عَرَّفه وحدَّده الشارع، وأمَر به من التلطُّف مع النساء، والرحمة بهنَّ، وحُسن الخُلُق معهن، وطِيب القول لهن.
ومعنى الآية: صاحبوهنَّ، وعاملوهنَّ بالمعروف مما حَضَّ عليه الشرع، وارتضاه العقلُ مِن الأفعال الحميدة، والأقوال الحسَنة، بأن تُلاطفوهنَّ في المقال، وتتَجَمَّلُوا معهنَّ في الفعال.
قال ابنُ كثير في تفسيره (2/242): "﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ أي: طَيِّبُوا أقوالكم لهنَّ، وحَسِّنُوا أفعالكم وهَيْئَاتِكُم بحسب قُدرتكم، كما تحبُّ ذلك منها، فافعل أنت مثله".
وقال الغزالي في الإحياء (2/43): "والمعاشرة بالمعروف تكون بِحُسْن الخُلُق معها، وكف الأذى عنها، بل احتمال الأذى منها، والحِلْم عن طيشها وغضبها؛ اقتداءً برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد كانتْ أزواجه تراجعْنَه الكلام؛ بل أن يَزيد على احتمال الأذى منها بالمداعبة، والمزاح والملاعبة، فهي التي تُطَيِّب قلوبَ النساء، وقد كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يمزح معهنَّ".
ثم ختَم الله الآية الكريمة بقوله: ﴿ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19]؛ ليُبَيِّن أنَّه لا يصحُّ للرجال أن يسترسلوا في كراهية النِّساء إن عرضت لهم أسبابُ الكراهية، بل عليهم أن يُغَلِّبُوا النظرَ إلى المحاسن، ويتغاضوا عن المكارِه.
فمعنى الآية: إن وُجِد سببُ سوء المعاشَرة - وهو: الكراهية - فكرهتم صحبتهنَّ وإمساكهن، فتثبَّتوا ولا تتعجَّلوا في مفارقتهن بالطلاق، فإنَّه عسى أن تكرهوا شيئًا، ويجعل الله لكم في الصبر عليه خيرًا كثيرًا في الدنيا والآخِرة.
فجَعل الله العشرة بالمعروف فريضةً على الرجال حتى في حالةِ كراهية الزوج لزوجته، وجعَل للزوج في ذلك خيرًا كثيرًا.
2 - قال الله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21].
وفي هذه الآية يُبَيِّن الله تعالى أنَّ مِن آياته العظيمة أن جَعَل بين الزوجين المودَّةَ والرحمة، وبيَّن أن النكاح مبنيٌّ على هذه الأصول: السكن، والمودَّة، والرحمة.
فقال: ﴿ لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ﴾، والسكينة: الطمأنينة، والأُنس، والاستقرار؛ أي: لتألفوا بها، وتطمئِنُّوا إليها، فجعَل الله المرأة سكنًا للرجل يأوي إليها، ويطمئن بها، ويستقر عندَها، فبيَّن أنَّ البيوت ينبغي أن تُبْنَى على الطمأنينة والسكينة، وهو ما يؤدِّي إلى الاستِقْرار في الحياةِ الزوجية.
ثم قال سبحانه: ﴿ وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾، فبيَّن في هذه الآية أنَّ العلاقة بيْن الرجل وزوجه مبنيةٌ على المحبَّة، والمودة، والأُلْفة، فإنِ انتفى الحبُّ فلتكن العلاقة مبنيَّة على الرَّحْمة بها، والعطف عليها؛ لأنَّها الحلقة الأضعَف، وقد حرَّج النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - علينا حقَّها بقوله: ((إني أُحَرِّج عليكم حقَّ الضعيفين: اليتيم، والمرأة))[4]، وهذه الآية تؤكِّد ما أفادتْه الآية الأولى: بأنَّه إن كَرِه الرَّجلُ المرأةَ، وانتهتْ علاقة الحُبِّ والوُدِّ بينهما، فلا يُفارقها، بل يُعاملها بالرحمة، والرأفة، والشفقة، وهو المعروف الذي ذَكَرَه في الآية الأولى؛ ولِذَا قال ابن عباس في تفسير الآية: "المودَّة: حبُّ الرجل امرأته، والرحمةُ: شفقتُه عليها أن يصيبَها بسوء"[5]، وذلك إنِ انتفت المحبَّة، وحلَّت مكانها الكراهية.
3 - قال الله تعالى: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 228].
يُؤكِّد الله - سبحانه وتعالى - في هذه الآية أنَّ للمرأة على زوجها حقوقًا كما أنَّ له عليها حقوقًا، فعليه أن يُوَفِّي لها حقوقَها بالمعروف الذي ترضاه الطباعُ السليمة، ووافق ما شرَعه الله، فلا يستوفي حقوقَه منها، ويظلمها حقوقَها، فالمعنى: وللنساء على الرجال مثلُ ما للرجال على النساء، فليؤدِّ كل واحد منهما إلى الآخَر ما يجب عليه بالمعروف.
وقدْ قال ابن عباس: "إني لأتزيَّن لامرأتي كما أُحِبُّ أن تتزين لي؛ لأنَّ الله قال: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 228]"[6].
المبحث الثاني
الأحاديث النبوية
وهذه سِتَّة أحاديث مِن كلام النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - تُبَيِّن لك عظمَ هذا الأمر، وتُحذِّرك من خَطَر مخالفته:
1- عن أبي هُريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يفرك مؤمنٌ مؤمنة، إنْ كَرِهَ منها خُلقًا، رَضِيَ منها آخر - أو قال: غيرَه))[7]، والفرك: هو البُغض بين الزوجين، ومعنى الحديث: لا يَنبغي للزوج أن يُبْغِض زوجتَه بغضًا يحمله على فراقها؛ لأنَّه إن وجد فيها خُلُقًا يكرهه، وجد فيها خُلُقًا آخرَ يرضاه منها، فعليه أن يغفرَ سيئها لحُسْنها، ويَتَغَاضَى عمَّا يكره لِمَا يحب منها.
وفي الحديثِ إخبارٌ بأنَّ المؤمنة لا يُتَصَوَّر فيها اجتماعُ كلِّ القبائح؛ بحيث يبغضها الزوجُ بغضًا كليًّا، ولا يَحْمَد فيها شيئًا أصلاً، بل فيها مِن الخصال الحميدة ما يَرضاه زوجُها، وفيه إشارة إلى أنَّه ينبغي للزوج أن يبحَث في زوجته عمَّا يُرْضِيه عنها، وألا يُنَقِّب عن المساوئ التي تحمله على كُرهها.
وفيه إشارةٌ أيضًا إلى أن الصَّاحب لا يوجد بدون عيْب، فإنْ أراد الشخص صاحبًا بريئًا من العيب بقِي بلا صاحِب، ولله دَرُّ القائل:
أُعَاتِبُ كُلَّ ذِي حَسَبٍ وَدِينٍ ![]() وَلاَ أَرْضَى مُعَاتَبَةَ الرَّفِيقِ ![]() وَأُغْمِضُ لِلصَّدِيقِ عَنِ المَسَاوِي ![]() مَخَافَةَ أَنْ أَعِيشَ بِلاَ صَدِيقِ ![]() |
2- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائِهم))[8].
في هذا الحديث يُبَيِّن النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ مَن كَمُل إيمانه هو من حَسُن خُلُقُه مع جميع الناس، ثم بيَّن أن خير الناس من كان خيرُه لزوجته خاصَّة، وذلك بأن يُعَامِلَها بالحسنى، ويصبر على أخلاقها، ويكُفَّ الأذى عنها، قال الحسنُ البصري: "حقيقة حُسن الخلق: بذْلُ المعروف، وكفُّ الأذى، وطلاقة الوجه"، وقد كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - خيرَ الناس؛ ولهذا كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحسنَ الناس معاشرةً لأزواجه، فإنه قد صحَّ عنه أنه قال: ((خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلي))[9].
وفي هذا الحديثِ يَحُثُّ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الأزواجَ على حسن معاشرةِ زوجاتهم، وحُسن صحابتهنَّ، والتَّرفُّق بهن، وأنَّ مَن فعل هذا فهو مِن خير الناس، ومَن خالفه فهو شرُّ الناس، وقد كانتِ العرَب تقول: (مَن لا خير فيه لأهله، فلا خيرَ فيه للناس).
3- عن سَمُرة بن جُندب - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ المرأة خُلِقَت مِن ضلع، فإن أَقَمْتَها كَسَرْتَها، فَدارِها تَعِشْ بها))[10]، فالمرأة خُلِقَت من ضِلع، وفي رواية: ((مِن ضِلع أعوج))[11]؛ أي: إنَّ خَلْقَها فيه اعوجاج، وكذلك خُلُقُها، فلا يتهيأ لك الانتفاعُ بها إلا بالصبر على اعوجاج خُلُقِها، كما جاء في رواية مسلم: ((لن تستقيمَ لك على طريقة، فإنِ استمتعتَ بها استمتعتَ وبها عِوج))[12]، فإن أردتَ تقويمَها وإصلاحَها، فلن تستطيعَ إلى ذلك سبيلاً، إلا بطلاقها وكسْر جناحها، كما في رواية مسلم المتقدمة: ((وإن ذهبتَ تُقِيمها كسرتَها، وكَسْرُها طلاقها))، فلا يمكن العيشُ معها إلا بمداراتها؛ لذلك قال: ((فدَارِها تَعِش معها))، والمداراة: الملاطَفة والملاينة؛ أي: لاطِفْها ولايِنْها وجامِلْها، فبذلك تبلُغ مرادك منها مِن الاستمتاع، وحسن العِشْرة.
فهذا الحديثُ الشريف يحُثُّنا على مُجامَلَة النساء ومُلايَنَتِهِنَّ، والصبر على أذاهن وتَضَجُّرِهِنَّ، والصحبة معهنَّ بالمداراة، وحُسْن الخلق، وسَعة النفْس، وتمام الشفقة.
4- عنِ الحسن البصريِّ - رحمه الله تعالى -: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ الله سائلٌ كلَّ راع عما استرعاه؛ حَفِظ أم ضَيَّع، حتى يسأل الرجلَ عن أهل بيته))[13]، الراعي هو: الحافظ، المُؤْتَمَن، المُلْتَزِم صلاح ما قام عليه، وفي هذا الحديثِ يُوَضِّح النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - سيُحَاسِب كلَّ شخص تولَّى أمر بعضِ المسلمين، وأكَّد بأنه سيُسأل عنهم، وعن حِفْظه لهم، وخصَّ بذلك الرَّجُل مع أهل بيتِه مِن زوجه وولده، وأنَّه سيُسأل عنهم؛ هل حفِظ حقوقَهم، أم ظلمهم، وفرَّط فيهم، وقدْ أمرَنا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بإعدادِ الجواب للسؤال، فقال: ((فأعدُّوا للمسألة جوابًا))، قالوا: وما جوابها؟ قال: ((أعمالُ البِر))[14]، وبيَّن لنا أنَّ الجواب يكون بالعمل بقوله: ((أعمال البر))، وهي: أعمال الخير مِن: حسن الخُلُق، وحِفظ الحقوق، والمعاشَرة بالمعروف.
5- عن معاويةَ بن حَيْدَة - رضي الله عنه - قال: "قلت: يا رسولَ الله، ما حقُّ زوجة أحدنا عليه؟ قال: ((أن تُطعِمها إذا طَعِمتَ، وتكسوَها إذا اكتسيتَ، ولا تضرِب الوجهَ، ولا تُقَبِّح، ولا تهْجُر إلا في البيت))[15].
في هذا الحديث يُبَيِّن النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حقوقَ المرأة على زوجها، وذكَر منها: وجوب النفقة عليها، وكسوتها، وهذا واجبٌ بإجماع علماء المسلمين، وفيه مِن اللطائف ندب واستحباب أكْل الرجل الطعامَ مع زوْجته، وألاَّ يترفَّع عليها بأكْله وحده وهي تنظر إليه، وذكَر منها: عدم الضَّرْب، وعدم الهجر إلا في البيت فقط، وعدم التقبيح؛ أي: لا يقول لها قولاً قبيحًا، ولا يَشْتمها؛ لأنَّه من سوءِ العِشرة، وقلة الأدب، وقد عبَّر بالوجه عن الذات، فالنهيُ عن الأقوال والأفعال القبيحة في الوجه، وغيره مِن ذاتها، وصفاتها، فشمِل اللعن، والشَّتْم، والهجْر، وسوء العِشرة، وغير ذلك.
6- عنِ العِرباضِ بن سارية - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إنَّ الرجلَ إذا سقَى امرأته مِن الماء أُجِر))، قال: فأتيتُ امرأتي فسقيتُها، وحدثتُها بما سمعتُ مِن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم[16].
وهذا الحديثُ مِن أروع ما قرأتُ في معاملة الزوج لزوجته، فانظرْ إلى هذا الصحابي الجليل الّذي تربَّى على يدي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عندما سَمِع الحديث من النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قام بتطبيقه على الفور؛ حرصًا على الأجر؛ واتباعًا لهدي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي هو خيرُ هَدْي، فجاء إلى امرأتِه فسقاها أولاً، ثم أخْبَرها بما أخْبَر به النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فعَمِل بما عَلِم، ثم عَلَّم أهله.
يتبع