Quantcast
Channel: منتدى فرسان الحق فرسان السُـنة خير الناس أنفعهم للناس
Viewing all 1343 articles
Browse latest View live

التوكل من ثمرات التعبد بالأسماء والصفات

$
0
0
التوكل من ثمرات التعبد بالأسماء والصفات
الشيخ وليد بن فهد الودعان




إنَّ من أجلِّ ما يثمره التعبُّد بالأسماء والصفات أن يعتمد القلبُ على الله ويخلص في تفويض أمره إليه؛ وذلك حقيقة التوكُّلِ على الله.







والتوكُّل من أعظم العبادات تعلُّقًا بالأسماء والصِّفات؛ ذلك أنَّ مبناه على أصلين عظيمين:



الأول: علم القلب؛ وهو يقينه بعلم الله وكفايتِه وكمالِ قيامه بشأن خلقه؛ فهو القيُّوم سبحانه الذي كفى عبادَه شؤونهم، فبه يقومون وله يصمدون.



والثاني: عمَل القلب؛ وهو سكونُه إلى العظيم الفعَّال لما يريد، وطمأنينتُه إليه، وتفويض أمره إليه، ورضاه وتسليمه بتصرُّفه وفعله؛ إذ كلُّ شيء يمضي ويكون فبحُكمه وحِكمته، وقدَرِه وعلمه، لا ينفُذُ شيء في الأرض ولا في السماء عن قدرته؛ فله الحكم كلُّه، وإليه يُرجع الأمر كلُّه[1].







ومتى ما أخلص القلبُ ذلك لله علمًا وعملًا كان من سابقي المتوكِّلين وصادقي المفوِّضين والمستسلِمين، وإنَّه والله لَغاية الأُنس والعزِّ أن يعتمد الإنسان في جميع أمره وشأنِه على الله تعالى.







ولما أن كان هذان الأمران إنَّما ينبنيان على العلم بهذا الباب العظيم بابِ الأسماء والصِّفات قال بعضُ العلماء مفسِّرًا التوكلُّ بأنه المعرفة بالله، وإنما أراد أنه بحسب معرفة العبد بالله تعالى وبأسمائه الحسنى وصِفاتِه العليا وتعبُّده بها، وعلمه بقدرة الله وكفايته، وتمام علمه وقيوميَّتِه، وصدور الأمور عن مشيئته - يصحُّ له التوكُّلُ ويتمُّ له ويتحقق، قال ابن القيم: "كلَّما كان بالله أعرف كان توكُّله عليه أقوى"، ولذا قال ابن تيمية: "لا يصحُّ التوكل ولا يُتصوَّر من فيلسوفٍ ولا من القدَرية النفاة القائلين بأنَّه يكون في ملكه ما لا يشاء، ولا يَستقيم أيضًا من الجهمية النُّفاة لصِفات الربِّ جلَّ جلاله، ولا يستقيم التوكُّل إلَّا من أهل الإثبات"[2].










[1] انظر: "طريق الهجرتين" (426).




[2] "مدارج السالكين" (2 / 123)، وانظر: "طريق الهجرتين" (423).








وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام

$
0
0
وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام
الشيخ عبدالرحمن بن حماد آل عمر



يُعلَمُ مما تقدَّم أن الرسل عليهم الصلاة والسلام عبادٌ لله، اصطفاهم لحَمْل رسالته إلى خلقه، مبشِّرين ومنذرين؛ لئلَّا يكون للناس على الله حجَّة بعد الرسل.




وليُعلَمْ أن وظيفتَهم التي كُلِّفوا بها هي: دعوة الناس إلى التوحيد، وتحذيرُهم من الشرك، وأمرُهم بإخلاص العبادة لله وحدَه لا شريكَ له، والتزامُ الطاعات، وتجنُّبُ المعاصي.




وقد دعا خاتمُ النبيِّين محمد صلى الله عليه وسلم إلى ما دعَوْا إليه، ونهى عما نهَوا عنه قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الأنبياء: 108] وقال تعالى: ﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 188]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾[الكهف: 110]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تُطْرُوني كما أطرَتِ النصارى ابنَ مريم، إنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبدُ اللهِ ورسولُه))؛ رواه البخاري ومسلم عن عمر رضي الله عنه، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنه لا يُستغاثُ بي، وإنما يُستغاثُ بالله))؛ رواه الطبراني بإسناده، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا سألت، فاسأل الله، وإذا استعنت، فاستعن بالله))؛ رواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث طويل، وصحَّحَه.




وقال صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لا تجعلْ قبري وَثَنًا يُعبَدُ، اشتدَّ غضبُ الله على قومٍ اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ))؛ رواه مالكٌ في الموطأ، وقال صلى الله عليه وسلم وهو في الاحتضار: ((لعنةُ الله على اليهود والنصارى؛ اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ))؛ رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها.





فصلَّى اللهُ وسلَّم على عبده ورسولِه محمدٍ الذي بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح للأمة.




وإذا عرف المُوحِّدُ ما تقدَّم، وعرف دينَ الرسل، وعرَف ما أصبَحَ كثيرٌ من الناس فيه من الجهل - استفادَ: الفرحَ بفضل الله ورحمته عليه؛ حيث أنجاه من أعظم معصية؛ وهي: الشرك الذي لا يغفرُه الله، واستفادَ الخوفَ العظيم منه.



هل تعرف ما معنى "ربنا ولك الحمد" ؟

فتح الإله في بيان الحكمة من مشروعية الزكاة

$
0
0
فتح الإله في بيان الحكمة من مشروعية الزكاة
السيد مراد سلامة





عناصر الخطبة:
العنصر الأول: تعريف الزكاة.
العنصر الثاني: الزكاة قاسم مشترك بين جميع الرسل.
العنصر الثالث: الزكاة والتكافل المعنوي والتكافل المادي.
العنصر الرابع: لماذا تزكي؟
العنصر الخامس: قصص عن الزكاة.
الأدلة والبيان.

أما بعد..
إخوة العقيدة: حديثنا في خير يوم طلعت فيه الشمس عن ركن من أركان الإسلام به تسمو النفس ويسمو المجتمع.
بذلك تتطهر النفوس وتزكوا الأموال
بذلكم الركن يصبح المجتمع كالجسد الواحد
بذلكم الركن تتآلف القلوب وتصفوا الأرواح
بذلكم الركن تختفي ملامح الشقاء والفقر والعناء
لعلكم قد عرفتموه
إنه ركن الزكاة التي هي من مفاخر الإسلام
فما هي الزكاة؟
وما هو دورها الاجتماعي والمادي؟
ولماذا تزكي؟
وما هي أحوال المزكين؟
هيا لنشف الآذان ونزكي الأرواح.

العنصر الأول: تعريف الزكاة:
الزكاة هي: البركة والطهارة والنماء والصلاح‏. ‏
وسميت الزكاة لأنها تزيد في المال الذي أخرجت منه‏، ‏ وتنقيه الآفات‏.

والزكاة شرعا هي‏‏: حصة مقدرة من المال فرضها الله عز وجل للمستحقين الذين سماهم في كتابه الكريم‏. ‏أو هي مقدار مخصوص في مال مخصوص لطائفة مخصوصة‏. والزكاة الشرعية قد تسمى في لغة القرآن والسنة صدقة كما قال تعالى‏: ‏ ‏﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 103].

وفي الحديث الصحيح قال صلى اللّه عليه وسلم لمعاذ حين أرسله إلى اليمن‏:‏ ‏(‏أعْلِمْهُم أن اللّه افترض عليهم في أموالهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم‏)‏ أخرجه الجماعة‏.‏ وهي الركن الثالث من أركان الإسلام الخمسة، وعمود من أعمدة الدين التي لا يقام إلا بها، يقاتل مانعها، ويكفر جاحدها، فرضت في العام الثاني من الهجرة، وردت في كتاب الله عز وجل ثلاثين مرة في مواطن مختلفة.

العنصر الثاني: الزكاة قاسم مشترك بين جميع الرسل:
الزكاة عبادة قديمة عرفت في الرسالات السابقة ذكرها الله تعالي في وصاياه إلي رسله فيقول: ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 73].

ويتحدث عن إسماعيل فيقول: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ﴾ [مريم: 54، 55]. ويتحدث عن ميثاقه لبنى إسرائيل فيقول: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [البقرة: 83].

وفي سورة أخرى: ﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [المائدة: 12]. وقال على لسان المسيح عيسى في المهد: ﴿ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴾ [مريم: 31]. وقال تعالى في أهل الكتاب عامة: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5].

العنصر الثالث: الزكاة والتكافل الاجتماعي:
اعلموا عباد الله أن العلماء ذكروا لنا أثر الزكاة على الحياة المعنوية في المجتمع نذكر إليكم منها ما يلي: -
1- أن دفع الزكاة لمستحقيها، سبب لتأليف القلوب، وتأنيس النفوس، وإشاعة جو من التعاطف والتراحم، والاحترام المتبادل بين أفراد المجتمع.

2- أنها سبب لتحقيق التعارف والتواصل بين المؤمنين، وتأكيد الأخوة والمحبة بينهم.
وليس شيء أجلب لمحبة الناس، وكسب مودتهم من الإحسان إليهم، ومد يد العون لهم، وإسداء المعروف إليهم، والسعي في مصالحهم، والتخفيف من آلامهم.
وفي الحكمة (جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها)

وقد صدق القائل: -
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم *** فطالما استعبد الإنسانَ إحسان

3- أنها سبب لتنمية الروح الاجتماعية بين أفراد المجتمع. حيث يشعر دافع الزكاة بعضويته الكاملة في الجماعة، وتفاعله معها، ومشاركته في تحقيق مصالحها، وحل مشاكلها، والنهوض بها. فتنمو شخصيته، وتزكو نفسه، وينشرح صدره، ويرتفع كيانه المعنوي، ويشعر بسعادة غامرة وهو يواسي إخوانه، ويقوم بواجبه تجاه مجتمعه.

كما يشعر آخذ الزكاة، بقيمته وقدره، وأنه ليس شيئاً ضائعاً، ولا كماً مهملاً، وإنما هو في مجتمع كريم يعنى به ويرعاه، ويأخذ بيده، ويعينه على نوائب الدهر.

فيحمله ذلك على محبة مجتمعه، والتفاعل معه، ويبقى قلبه سليماً، خالياً من الحقد والحسد، مقدراً لإخوانه الأغنياء، معترفاً بفضلهم وبذلهم، داعياً لهم بالبركة والتوفيق وسعة الرزق.

فالزكاة تستل سخائم الفقراء، وتزكي نفوسهم من الضغينة والبغضاء، والحسد لأهل المال والثراء، بل تجعل الفقير يدعو لهم بالبركة والزيادة والنماء. وبهذا يتحول المجتمع إلى أسرة واحدة، تجللها المحبة والوفاء، ويسودها التعاون والإخاء.

4- أنها سبب لإشاعة الأمن والطمأنينة.
فهي أمان للآخذ والمعطي، والمجتمع بعامة.

أما الآخذ فإن له في أموال الزكاة ما يغنيه، ويجعله آمناً مطمئناً، شجاعاً عزيزاً، يواجه المستقبل بنفس راضية، وعزيمة ثابتة.
وأما المعطي فإنه مطمئن إلى مستقبله، واثق من عون الله له، وحفظه لماله، ووقايته من الآفات، وأنه إن قدر الله غير ذلك، وعدت عليه عوادي الزمان، واجتاحته صروف الليالي والأيام، وأصبح فقيراً بعد الغنى، فإن له في مال إخوانه ما هو كفيل بجبر خلته، وسد حاجته، فيشعر أن قوة إخوانه قوة له إذا ضعف، وغناهم مدد له إذا أعسر.

وأما المجتمع، فإن الزكاة سبب لتماسكه وتآلفه، وتضامنه وتكافله، ووقايته من رياح التفكك والتصرم، وأعاصير الظلم والجرائم.

الزكاة وتحقيقها للتكافل المادي:
فهو أظهر من أن يذكر، وهو المقصود الأصلي من شرعيتها، فإن الله -تعالى- إنما شرع الزكاة مواساة للفقراء والمحتاجين، وقياماً بمصالح المسلمين.

والزكاة ليست مورداً قليلاً أو ضئيلاً، بل هي العشر أو نصف العشر من الثروة الزراعية من الحبوب والثمار.

وهي ربع العشر من الأثمان، والثروة التجارية، والثروة المعدنية. وهي نحو هذا المقدار من الثروة الحيوانية، حسبما سبق تفصيله.

وقد تبين حين الكلام عن مقدار ما يدفع لكل مصرف من مصارف الزكاة: أن المحتاجين من الفقراء، والمساكين، والرقاب، وأبناء السبيل يعطون ما يكفيهم، ويسد حاجتهم.

وأن العاملين لمصلحة المسلمين من العاملين على الزكاة، والمؤلفة قلوبهم، والغارمين لإصلاح ذات البين، والغزاة في سبيل الله، يأخذون قدر ما يكافئ عملهم، ويصلح لمثلهم.

وبهذا تكون الزكاة أول تشريع منظم لتحقيق التكافل المادي، أو ما يسمى بالضمان الاجتماعي، الذي لا يعتمد على التبرعات الفردية الوقتية، بل يقوم على مساعدات حكومية دورية منتظمة، غايتها تحقيق الكفاية لكل محتاج: الكفاية في المطعم والملبس والمسكن، وسائر الحاجات، بما يكفل له ولعائلته مستوى معيشياً ملائماً من غير إسراف ولا تقتير.

ولو أن أهل الأموال جميعهم أخرجوا زكاة أموالهم، وصرفوها لمستحقيها، لما بقي في المسلمين فقير. وما احتاج فقير إلا بما منع غني.

يقول محمد رشيد رضا: "ولو أقام المسلمون هذا الركن من دينهم لما وجد فيهم - بعد أن كثرهم الله، ووسع عليهم في الرزق - فقير مدقع، ولا ذو غرم مفجع. ولكن أكثرهم تركوا هذه الفريضة، فجنوا على دينهم وأمتهم، فصاروا أسوأ من جميع الأمم حالاً في مصالحهم المالية والسياسية".

شمولية الزكاة:
عباد الله: تعددت الأعمال والخدمات، وتنوعت الأسباب والحركات، لذلك فان شمولية الزكاة في الأموال والعملات والحبوب والماشية والثمر والزبيب، إلى غير ذلك من القائمة التي تشملها الزكاة. ولعل هذه الشمولية تجعل الزكاة كفيلة بمواجهة كل ما يطرح على المجتمع من إشكاليات، كما أن الجوانب الكمية للأشياء التي تخضع إلى الزكاة من شأنها أن ترفع من حجم العائدات، وتنمي المداخيل، مما يجعل التوازن شيء ممكن بين النفقات والموارد، وإذا كان هناك خلل، فأمره - ولا شك - راجع إلى سوء التدبير، أو التبذير، وبالتالي، قد يعزى الأمر أحيانا إلى عدم تأدية الزكاة على الوجه المطلوب، وعدم صرفها في مواقعه الحقيقية، وتلك حاجـة أخرى لا حاجة لنا في مناقشتها ضمن هذا الحديث المختصر.

العنصر الرابع: لماذا تزكي؟
أيها المسلم المذكي الكريم أتدرى لماذا تزكي؟ ما هي الأهداف النبيلة والغايات السامية من إخراجك للزكاة؟
الجواب بحول الملك الوهاب:
1- تزكي طاعة لله ولرسوله ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5].

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 103].

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:« أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ. فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

2- تزكي حتى تكون مسلما عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال: قالَ رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم: " بُنِيَ الإِسْلامُ على خَمْسٍ: شَهادَةِ أن لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، وَإقامِ الصَّلاةِ، وَإيتاءِ الزَّكاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ " رويناه في صحيحيهما.

وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الإسلام ثمانية أسهم الإسلام سهم والصلاة سهم والزكاة سهم والصوم سهم وحج البيت سهم والأمر بالمعروف سهم والنهي عن المنكر سهم والجهاد في سبيل الله سهم وقد خاب من لا سهم) (حسن لغيره) رواه البزار.

3- الزكاة برهان على قوة الإيمان عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "الطّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ. وَالْحَمْدُ لله تَمْلأُ الْمِيزَانَ وَسُبْحَانَ الله وَالْحَمْدُ لله تَمْلاَنِ (أَوْ تَمْلأُ) مَا بَيْنَ السّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ. وَالصّلاَةُ نُورٌ. والصّدَقَةُ بُرْهَانٌ. وَالصّبْرُ ضِيَاءٌ. وَالْقُرْآنُ حُجّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ. كُلّ النّاسِ يَغْدُو. فَبَايعٌ نَفْسَهُ. فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا". أخرجه مسلم.

فالصدقة برهان على صدق من قال: أنا مسلم؛ لأن حياة الناس مبناها المعاوضة، وأنت تدفع الثمن وتأخذ السلعة عاجلة، فإذا تصدقت بمالك ولم تأخذ عوضاً عاجلاً فأين العوض؟ المؤمن بالله واليوم الآخر يتصدق ويخفي صدقته؛ لأنه يتعامل مع من لا تخفى عليه خافية، ويدفع القليل والكثير رجاء ما سيكون له يوم يلقى ربه، فهي برهان على إيمانه بالله، وإيمانه باليوم الآخر، وبأن الله سيظله في ظل صدقته يوم القيامة.


4- حتى تنال أخوة عباد الله الموحدين: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات: 10].

﴿ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 11].

5- تزكي حتى تطهر نفسك من البخل والشح وتزكي نفسك ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 103].

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:« إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُحْشَ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلاَ التَّفَحُّشَ وَإِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخَلُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا ». فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أي الإِسْلاَمِ أَفْضَلُ؟ قَالَ شُعْبَةُ فِي حَدِيثِهِ:« مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ »وأحمد (2/ 195، رقم 6837)، وابن حبان.

6- حتى تنجو من عذاب القبر وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أنه قال: إذا وضع الميت في قبره قال: إنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه، فإذا كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه، والصيام عن يمينه، والزكاة عن يساره، وفعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتى من قبل رأسه فتقول الصلاة ما قبلي مدخل، ويؤتى عن يمينه فيقول الصيام ما قبلي مدخل، ويؤتى عن يساره فتقول الزكاة ما قبلي مدخل، ويؤتى من قبل رجليه فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلاة والمعروف والإحسان إلى الناس ما قبلي مدخل: فيقال: اجلس، فيجلس قد مثلت له الشمس قد دنت من الغروب، فيقال له: أخبرنا عن هذا الرجل الذي كان فيكم؟ ماذا تقول فيه؟ وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: دعوني أصلي، فيقال: أخبرنا عما نسألك عنه، أخبرنا عن هذا الرجل الذي كان فيكم ماذا تشهد به عليه؟ فيقول: محمد، أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه جاءنا بالحق من عند الله، فيقال له: على ذلك حييت، وعلى ذلك مت، وعلى ذلك تبعث إن شاء الله ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له: ذاك مقعدك فيها وما أعد الله لك فيها فيزداد غبطة وسرورا ثم يفتح له باب إلى النار فيقال: ذاك مقعدك فيها وما أعد الله لك فيها لو عصيته، فيزداد غبطة وسرورا، ثم يفسح له سبعون ذراعا في قبره وينور له فيه فذلك قوله تعالى: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ﴾ [إبراهيم: 27] الآية ثم يعاد الجسد لما بدأ منه إلى التراب) تهذيب الآثار للطبري (2/ 219).

7- حتى تكون من أهل الفلاح في الدنيا والآخرة ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ﴾ [الأعلى: 14].

8- حتى تدعى من أبواب الجنة الثمانية عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ:« مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي شيء مِنَ الأَشْيَاءِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دعي مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ وَلِلْجَنَّةِ أَبْوَابٌ فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ دعي مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دعي مِنْ بَابِ الْجِهَادِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دعي مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دعي مِنْ بَابِ الصِّيَامِ بَابِ الرَّيَّانِ ». قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا عَلَى مَنْ يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ يُدْعَى مِنْهَا كُلِّهَا أَحَدٌ؟ فَقَالَ:« نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ يَا أَبَا بَكْرٍ ». رَوَاهُ البخاري.

عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَا: خَطَبنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمًا فَقَالَ: " وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ" ثَلَاث مَرَّات ثمَّ أكب فأكب كل رجل منا يبكي، لَا نَدْرِي على مَاذَا حلف، ثمَّ رفع رَأسه وَفِي وَجهه الْبُشْرَى، وَكَانَت أحب إِلَيْنَا من حمر النعم، ثمَّ قَالَ: "مَا من عبد يُصَلِّي الصَّلَوَات الْخمس، ويصوم رَمَضَان، وَيخرج الزَّكَاة، ويجتنب الْكَبَائِر السَّبع إِلَّا فتحت لَهُ أَبْوَاب الْجنَّة، وَقيل لَهُ ادخل الْجنَّة بِسَلام" رواه النسائي واللفظ له وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم وقال صحيح الإسناد.

9- حتى تنجو من عذاب يوم القيامة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ:« مَا مِنْ رَجُلٍ لاَ يُؤَدِّى زَكَاةَ مَالِهِ إِلاَّ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَفِرُّ مِنْهُ وَهُوَ يَتْبَعُهُ حَتَّى يُطَوَّقَهُ فِى عُنُقِهِ ». ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

عن أبي هريرة: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاة كنزه إلا جيء به يوم القيامة وبكنزه فيحمى عليه صفائح من نار جهنم فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار ».

10- حتى تحصنوا أموالكم: أخرج الطبراني وأبو نعيم في الحلية والخطيب عن ابن مسعود: أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: (حصنوا أموالكم بالزكاة، وداوود مرضاكم بالصدقة، وأعدوا للبلاء الدعاء) ورواه أبو داود في مراسيله لكنه قال (واستعينوا على حمل البلاء بالدعاء والتضرع).

11- الاتصاف بالرجولة الحقيقة:
قال تعالى: ﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ﴾ [النور:37]، رأى بعضُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سلفَنا الصالح والمنادي يقول: حي على الصلاة! حي على الفلاح! وكان الباعة في الأسواق قد رفع أحدهم الميزان بيده يزن البضاعة، فلما سمع: الله أكبر، رمى بالميزان على الأرض، وأغلق دكانه وهرع إلى المسجد، فقال: (في هؤلاء نزل قوله تعالى: ﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور:37]، هؤلاء هم الرجال الذين يستحقون كلمة رجال، فلهم تجارة، ولهم بيع وشراء، ولهم متاجر، ولهم معارض، وعندهم أموال، ويستطيعون أن يشغلوها أربعاً وعشرين ساعة، لكن وقت العبادة لا يمكن أن يستعمل للبحث عن المال في الحياة الدنيا، وهكذا يكون الرجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع.

12- حتى تكون من الصديقين والشهداء له وعن عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه قال جاء رجل من قضاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس وصمت رمضان وقمته وآتيت الزكاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مات على هذا كان من الصديقين والشهداء رواه البزار بإسناد حسن وابن خزيمة في صحيحه وابن حبان.


العنصر الخامس قصص عن الزكاة:
أمة الإسلام هيا عباد الله لنعيش مع المزكين ولنر عقوبة المانعين من خلال القصص التي هي رسائل للأغنياء.


القصة الأولى: اسق حديقة فلان:
عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتاً في سَحَابَةٍ، اسقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأفْرَغَ مَاءهُ في حَرَّةٍ، فإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَت ذَلِكَ الماءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ المَاءَ، فإذَا رَجُلٌ قَائمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بِمسحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ، ما اسمُكَ؟ قال: فُلانٌ للاسم الذي سَمِعَ في السَّحابةِ، فقال له: يا عبدَ الله، لِمَ تَسْألُنِي عَنِ اسْمِي؟ فَقَالَ: إنِّي سَمِعْتُ صَوتْاً في السَّحابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ، يقولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ لاسمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا، فَقَالَ: أمَا إذ قلتَ هَذَا، فَإنِّي أنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أنَا وَعِيَالِي ثُلُثاً، وَأردُّ فِيهَا ثُلُثَهُ ». رواه مسلم.


قصة الثانية: ألا من سقى هذه المرأة شلت يمينه:
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في شرح حديث "يتبع الميت ثلاث":
دخلت امرأة على عائشة قد شلت يدها فقالت: يا أم المؤمنين، بت البارحة صحيحة اليد فأصبحت شلاء.
قالت عائشة: وما ذاك؟!
قالت: كان لي أبوان موسران، كان أبي يعطي الزكاة ويقري الضيف ويعطي السائل ولا
يحقر من الخير شيئا إلا فعله،
وكانت أمي امرأة بخيلة ممسكة، لا تصنع في مالها خيرا،
فمات أبي ثم ماتت أمي بعده بشهرين، فرأيت البارحة في منامي أبي وعليه ثوبان
أصفران، بين يديه نهر جار،
قلت: يا أبه ما هذا؟
قال: يا بنية، من يعمل في هذه الدنيا خيرا يره، هذا أعطانيه الله تعالى.
قلت: فما فعلت أمي؟
قال: وقد ماتت أمك؟
قلت: نعم،
قا ل: هيهات! عدلت عنا، فاذهبي فالتمسيها ذات الشمال
فملت عن شمالي، فإذا أنا بأمي قائمة عريانة متزرة بخرقة، بيدها شحيمة تنادي:
والهفا، واحسرتاه، واعطشاه. فإذا بلغها الجهد دلكت تلك الشحيمة براحتها ثم لحستها،
وإذا بين يديها نهر جار،
قلت: يا أماه ما لك تنادين العطش، وبين يديك نهر جار؟
قالت: لا أترك أن أشرب منه.
قلت: أفلا أسقيك؟
قالت: وددت أنك فعلت، فغرفت لها غرفة فسقيتها، فلما شربت
نادى مناد من ذات اليمين:
ألا من سقى هذه المرأة شلت يمينه -مرتين – فأصبحت شلاء اليمين، لا أستطيع أن
أعمل بيميني.
قالت لها عائشة: وعرفت الخرقة؟
قالت: نعم يا أم المؤمنين، وهي التي رأيتها عليها، ما رأيت أمي تصدقت بشيء قط، إلا أن
أبي نحر ذات يوم ثورا، فجاء سائل فعمدت أمي إلى عظم عليه شحيمة فناولته إياه، وما
رأيتها تصدقت بشيء إلا أن سائلا جاء يسأل، فعمدت أمي إلى خرقة فناولتها إياه.

فكبرت عائشة -رضى الله عنها- وقالت:
صدق الله وبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8].
أخرجه الحافظ أبو موسى المديني في كتاب "الترغيب والترهيب" من طريق أبي الشيخ الأصبهاني الحافظ بإسناد حسن.
الدعاء..




الاحتكار والاستغلال والغش أدواء قاتلة حرمها الإسلام

$
0
0
الاحتكار والاستغلال والغش أدواء قاتلة حرمها الإسلام
الشيخ سعد الشهاوي








الحمدُ لله القويِّ المتين، القاهرِ الظاهرِ الملكِ الحقِّ المبين، لا يخفى على سمعِه خفيُّ الأنينِ، ولا يعزُب عن بصرِه حركاتُ الجنِين، ذلَّ لكبريائِه جبابرةُ السلاطين، وَقدر وقضى بحكمتِه وهو أحْكَمُ الحاكمين، أحمده حمْدَ الشاكِرين، وأسْألُه مَعُونَةَ الصابِرين، وأشهد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريكَ له إِلهُ الأوَّلين والآخرين، وأشَهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه المصطَفَى على جميع المرسلين، المؤيد بالروح الأمين وبالملائِكةِ المنزَلين، صلَّى الله عليه وعلى آلِهِ وأصحابه والتابِعين لهم بإحْسانٍ إلى يومِ الدين، وسلم تسليماً كثيراً.







أمَّا بَعْد:



العناصر:



أولا: الحث على الكسب الحلال.



ثانيا: خطورة الاحتكار وغلاء الأسعار والاستغلال والغش على الفرد والمجتمع.



ثالثا: حرمة الاحتكار والاستغلال والغش والتلاعب بأقوات الناس.



رابعا: أسباب كثرة انتشار الاحتكار والاستغلال والغش والتلاعب بأقوات الناس.



خامسا: حلول مشكلة الاحتكار والاستغلال والغش والتلاعب بأقوات الناس في شريعة الله عز وجل كثيرة.



سادسا: دور الدولة والمجتمع في التعامل مع المحتكرين.



سابعا وأخيرا: رسالة إلى تجار المسلمين وما ينبغي أن يكونوا عليه في مثل هذه الأحوال.







أولا: الحث على الكسب الحلال أيها المسلمون إنَّ طلب الحلال وتحريه أمر واجب وحتم لازم ومن آداب العمل والكسب في الإسلام أن يكون من حلال فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51] وَقَالَ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ" مسلم (1015 ))







أيها المسلمون: أرأيتم ذلك الرجل ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وقال عنه يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّمَاءِ ويقول يا رَبِّ يا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ) لقد استجمع هذا الرجل من صفات الذلة والمسكنة والحاجة والفاقة ما يدعوا إلى رثاء حاله ويؤكد شدة افتقاره ويؤهله لاستجابة دعوته فقد تقطعت به السبل وطال عليه السفر وتغربت به الديار وتربت يداه وأشعثَّ رأسه واغبرَّت قدماه ولكنَّه قطع صلته بالله وحرم نفسه من مدد خالقه ومولاه فحيل بين دعائه وبين القبول لأنَّه أكل الحرام وشرب الحرام واكتسى من الحرام ونبت لحمه من الحرام فردت يداه خائبتين وأيُّ لحم نبت من سحت أي حرام فالنار أولى به.







أيها المسلمون: قولوا لي بربكم ماذا يبقى للعبد إذا انقطعت صلته بربه وحجب دعائه وحيل بينه وبين القبول والرحمة؟ لمثل هذا قال وهيب بن الورد: " لو قمت في العبادة قيام هذه السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك حلال أم حرام" حلية الأولياء ج 8 ص154







إنَّ العجب كلَّ العجب ممن يحتمي من الحلال مخافة المرض لنصح طبيب فيترك بعض ما يشتهى من ألذ المأكولات والمشروبات الحلال خوفا على صحته ولا يحتمي من الحرام مخافة النار وقد نصحه أرحم الراحمين ونصحه بعده أصدق الخلق أجمعين صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.







إن تحري الحلال له تأثير على نفسك وجميع جوارحك، قال سهل رضي الله عنه: من أكل الحرام عصت جوارحه شاء أم أبى، علم أو لم يعلم؛ ومن كانت طعمته حلالاً أطاعته جوارحه ووفقت للخيرات. وقال بعض السلف: إن أول لقمة يأكلها العبد من حلال يغفر له ما سلف من ذنوبه، ومن أقام نفسه مقام ذل في طلب الحلال تساقطت عنه ذنوبه كتساقط ورق الشجر.







عباد الله: حق عليكم تحري الحلال واتقوا الله جميعاً في أنفسكم وفي أولادكم لا تطعموهم الحرام فإنهم يصبرون على الجوع ولا يصبرون على حر النار وكانت بعض الصالحات توصي زوجها فتقول: " يا هذا اتقي الله في رزقنا فإنَّنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار ".







ولا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ بل ستسأل حتى عن شربة الماء قال تعالى: ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾(8) سورة التكاثر.




عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَرْزَمٍ الأشعري قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِى الْعَبْدَ مِنَ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ وَنُرْوِيكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ. أخرجه الترمذي (3358) الصحيحة (539)، المشكاة (5196 ).








وقال لقمان الحكيم لابنه يوما: يا بني، استعن بالكسب الحلال؛ فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب مروءته؛ وأعظم من هذه الخصال: استخفاف الناس به إنَّ حقاً على كل مسلم ومسلمة أن يتحرى الطيب من الكسب والنزيه من العمل ليأكل حلالاً وينفق في حلال، وتأملوا رحمكم الله في حال الصديق رضي الله عنه فعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت كان لِأَبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يُخْرِجُ له الْخَرَاجَ وكان أبو بَكْرٍ يَأْكُلُ من خَرَاجِهِ فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ منه أبو بَكْرٍ فقال له الْغُلَامُ تدري ما هذا فقال أبو بَكْرٍ وما هو قال كنت تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ في الْجَاهِلِيَّةِ وما أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ إلا أَنِّي خَدَعْتُهُ فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ فَهَذَا الذي أَكَلْتَ منه فَأَدْخَلَ أبو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ في بَطْنِهِ " البخاري (3629) وفي رواية قال" إن كدت أن تهلكني فأدخل يده في حلقه فجعل يتقيأ وجعلت لا تخرج فقيل له إن هذه لا تخرج إلا بالماء فدعا بطست من ماء فجعل يشرب ويتقيأ حتى رمى بها فقيل له يرحمك الله أكلَّ هذا من أجل هذه اللقمة؟ قال لو لم تخرج إلَّا مع نفسي لأخرجتها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به " فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة. حلية الأولياء (ج1 ص31.







وقيل أدخل أصابعه في فيه وجعل يقيء حتى ظنَّ أن نفسه ستخرج، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء.







ومن ذلك -أيضاً- ما رواه عبد الرحمن بن نجيح قال: نزلت على عمر، فكانت له ناقة يحلبها، فانطلق غلامه ذات يوم فسقاه لبناً أنكره، فقال: ويحك من أين هذا اللبن لك؟ قال: يا أمير المؤمنين إن الناقة انفلت عليها ولدها فشربها، فخليت لك ناقة من مال الله، فقال: ويحك تسقيني نارًا فهذا مثل من ورع أمير المؤمنين عمر، حيث خشي من عذاب الله جل وعلا لما شرب ذلك اللبن مع أنه لم يتعمد ذلك، ولم تطمئن نفسه إلا بعد أن استحل ذلك من بعض كبار الصحابة الذين يمثلون المسلمين في ذلك الأمر، بل انظر كيف فرَّق- بحلاوة إيمانه ومذاقه- بين طعم الحلال وبين ما فيه شبهة. أولئك هم الصالحون يخرجون الحرام والمشتبه من أجوافهم وقد دخل عليهم من غير علمهم، ثمَّ خلف من بعدهم خلوف يعمدون إلى الحرام ليملئوا به بطونهم وبطون أهليهم وأولادهم لا يبالون بما اخذوا من الحرام فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ، أَمِنَ الْحَلَالِ أَمْ مِنْ الْحَرَامِ" البخاري (1954).







ثانيا: خطورة الاحتكار وغلاء الأسعار والاستغلال والغش على الفرد والمجتمع:



ومع الدعوة الى تحرى الحلال في العمل والكسب فإننا نرى أسعار السلع والخدمات لا تزال تزداد يومًا بعد يومًا بصورة هستيرية، ففي خلال أيام معدودات يمكننا أن نرصد تضاعف أسعار بعض السلع أضعافًَا مضاعفة، دون حاجة ضرورية لهذه الزيادة وفى ذلك خطورة شديدة على المجتمع عامة وعلى التجار خاصة.







أولا: خطورة ذلك على الناس عامة فبعض التجار -إلا من رحم الله- غرضهم الأساسي الربح، وتراهم يسلكون من أجل ذلك كل مسلك، سواء أكان بطريق الحلال أم الحرام، وسواء أكان في ذلك استغلال للمواطنين أم لا، وما قضايا الاحتكار والغش التجاري عنا ببعيد، فهي كثيرة ومنتشرة بين التجار الذين لا يراعون فقر المستهلكين ولا حاجتهم، بل يزيدون أموالهم يومًا بعد يوم بمص دماء الفقراء والمحتاجين واستغلال حاجتهم للسلع الأساسية، وهذا يدفع بالفقراء في دوامة من العمل لا تنتهي، فبدلاً من أن يعمل عملاً صباحيًا يكفيه وأسرته؛ ثم يتفرغ بعدها لتربية أبنائه التربية الصحيحة، فإنه لا يكتفي بعمل واحد، بل يسعى للبحث عن عمل ثانٍ وثالث ليسد نفقة الأبناء وتعليمهم وإطعامهم وكسوتهم وعلاجهم، وهذا بالتأكيد يؤثر تأثيرًا سلبيًا على الأبناء وعلى تربيتهم التربية السليمة، وبالتالي يتأثر المجتمع بذلك تأثرًا بالغًا فيصبح مجتمعًا ماديًا بحتًا يلهث وراء المادة ولا يعرف للروحانيات سبيلاً.







وبالتالي يزداد الهم والحزن الذي ينتاب المواطنين البسطاء -وما أكثرهم- حول إطعام أبنائهم وأهليهم أو كسوتهم، وليت الغلاء الفاحش الذى نعيشه متعلق بالكماليات فيستغنوا عنها، ولكنها احتياجاتهم الضرورية التي لا يستطيعون منها فكاكًا، فالطعام والشراب والكسوة والدواء من الأمور التي لا يستغني عنها بشر، وإذا حورب الإنسان في رزقه وزاد التجار في أسعار السلع رغمًا عنه ودون مراعاة لقدراته المادية فإنهم بذلك يصنعون من هذا الإنسان قنبلة موقوتة دون علم أو دراية قد تنفجر في أي وقت وفى أي مكان.







ثانيا: خطورة ذلك على التجار خاصة نقول لهؤلاء التجار إنَّ أكل الحرام يعمي البصيرة ويضعف الدين ويقسي القلب ويظلم الفكر ويقعد الجوارح عن الطاعات ويوقع في حبائل الدنيا وغوائلها ويحجب الدعاء ولا يتقبل الله إلَّا من المتقين، وإنَّ للمكاسب المحرمة آثار سيئة حيث تنزع البركات وتفشوا العاهات وتحل الكوارث فترى أزمات مالية مستحكمة وبطالة متفشية وتظالم وشحناء إذا كان الكسب من حرام فويل ثمَّ ويل للذين يأكلون الحرام ويتغذَّون بالحرام ويربُّون أولادهم وأهليهم على الحرام إنَّهم كالشارب من ما البحر كلما ازدادوا شرباً ازدادوا عطشا، شاربون شرب الهيم لا يقنعون بقليل ولا يغنيهم كثير يستمرؤن الحرام ويسلكون المسالك المعوجة من ربا وقمار وغصب وسرقة وغش واحتيال، تطفيفٌ في الكيل والوزن وكتمُ للعيوب، وأكلٌ لأموال اليتامى وانتهابٌ لأموال العمال بغير حق، أيمانٌ فاجرة ومكرٌ وخديعة، زورٌ وخيانة ورشوةٌ وتزوير وطرقٌ مظلمة كثيرة فالاحتكار والغش دليل على دناءة نفس المحتكر، ومؤشر على سوء خلقه، وعلامة على قلة إيمانه لأنه يعرض نفسه للوعيد وليعلموا أنه لن تنفعهم أموالهم ولا أملاكهم فتمنع عنهم عقاب الله، وليعلموا أنهم موقوفون بين يدي خالقهم فيسألهم عن كل ما جمعوه، أهو مِن حلال أم مِن حرام؟.







ثالثا: حرمة الاحتكار والإستغلال والغش والتلاعب بأقوات الناس:



ولذلك نهى الإسلام عن الاحتكار وغلاء الأسعار والاستغلال والغش وكل هذه السلوكيات الاقتصادية السيئة، فأمر بإيفاء الكيل والميزان قال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ﴾ [الأنعام: 152]. وقال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ﴾ [الإسراء: 35]. ويمكن القول: إنَّ الأمانة في الكيل والميزان من جملة الأمانات التي أمَر الله تعالى بأدائها ومُراعاتها. ("التفسير الكبير")؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58]، وهي من الأخلاق العظيمة التي تبعَثُ على حِفظ حُقوق الآخَرين، وتُؤكِّد ما بينهم من مُودَّةٍ ومحبَّةٍ، وتُزيل طمَع النُّفوس إلى ما في أيدي الناس دُون جهدٍ، وحبَّذا للمرء أنْ يُرجِّح إذا أعطى، ويُنقص إذا أخَذ؛ قال صلى الله عليه وسلم: "إذا وزنتُم فأَرْجِحوا" (ابن ماجه، "صحيح الجامع": 825







وكمَا يعتَنِي الإسلام بتوفية الكَيْلِ والميزان يُحذِّر من التَّطفِيف؛ لأنَّ التَّطفِيف فيه دلالةٌ على أنَّ فاعلَه قد تأصَّلت فيه مَساوئ الأخلاق من غِشٍّ وخداع وخِيانة.







والتَّطفيف في الكيل والميزان أمرٌ محرَّم وكبيرةٌ من الكبائر؛ قال تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴾ [المطففين: 1 - 3]، وهو مُنذِرٌ بعقوبة الجبَّار في الدُّنيا التي تحصل في جلْب الشِّدَّة وغَلاء الأسعار والضِّيق في المعيشة. ("الأمانة في الإسلام" ص190)







وجاء عن ابن عباسٍ - رضِي الله عنهما - قوله: "لَمَّا قَدِمَ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا مِنْ أخْبثِ الناس كيلاً، فأنزَل الله سبحانه: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ﴾[المطففين: 1]، فأحسَنُوا الكيل بعد ذلك" (ابن ماجه، وحسَّنه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه")







والتَّطفيف في الكيل والميزان سبب من أسباك هلاك البلاد والعباد أخرج البيهقيُّ والحاكم عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خصالٌ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ ويتحرَّوا فيما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ " " رواه البيهقي، والحاكم، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، رقم (7978)، ؛ ("الصحيحة": 106، "صحيح الجامع": 7855)فهل يعي المسلمون معنى هذا الحديث العظيم في أحوالهم التي يعيشونها الآن؟.







وعند الطبراني في "الكبير" عن ابن عبَّاس - رضِي الله عنهما - أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمسٌ بخمْسٍ، ما نقضَ قومٌ العهدَ إلاَّ سُلِّط عليهم عدوُّهم، وما حكَموا بغير ما أنزَل الله إلاَّ فَشَا فيهمُ الفقرُ، ولا ظهَرت فيهم الفاحشةُ إلاَّ فشا فيهمُ الموتُ، ولا طفَّفوا المكيالَ إلاَّ مُنِعوا النَّبات وأُخذوا بالسنين، ولا منَعوا الزكاة إلاَّ حُبِسَ عنهُم القَطْرُ" ("صحيح الجامع": 3240)







وذكَر الله تعالى في كتابه الكريم عن أهل مَدْيَنَ أنهم كانوا ينقصون المكيال والميزان، ويبخَسون الناس أشياءهم؛ أي: يُنقِصُونهم قيمة أشيائهم في المعاملات؛ لذا كانت دعوةُ نبيِّه شعيب - عليه الصلاة والسلام - قومَه إلى توحيد الله سبحانه وتعالى ورعاية أمانة المكيال والميزان في المعاملات - ظاهرةً؛ قال تعالى: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ [هود: 84، 85].







قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: "بخس المكيال والميزان من الأعمال التي أهلَكَ الله بها قومَ شُعيب - عليه الصلاة والسلام - وقصَّ علينا قصَّتهم في غير موضعٍ من القُرآن؛ لنعتبر بذلك، والإصرارُ على ذلك من أعظم الكبائر، وصاحِبُه مُستوجِبٌ تغليظَ العُقوبةِ، وينبغي أنْ يُؤخَذ منه ما بخسَه من أموال المسلمين على طُول الزَّمان، ويُصرَف في مَصالح المسلمين، إذا لم يمكن إعادته إلى أصحابه" ("مجموع الفتاوى" (29/474)







وكذلك حرَّم الرسول صلى الله عليه وسلم الاحتكار وهذا يتناول كل بضاعة أو سلعة يحتاج إليها المسلمون، من قوت أو غير قوت، فعن معمر بن عبد اللّه- رضي اللّه عنه- عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «لا يحتكر إلّا خاطئ» « مسلم (1605) وابن ماجه (2154)







والخاطئ هو الآثم، المذنب، أي: لا يفعل هذا الفعل الشنيع إلا مَنْ اعتادت نفسه فعل الخطيئة والمعصية. وقال أيضاً: "من احتكر حَكْرة يريد أن يغلي بها على المسلمين، فهو خاطئ" أحمد، وصححه الألباني في "الصحيحة".







ووصف المحتكر بأنه خاطئ ليس أمرًا هينًا، فالله سبحانه وصف فرعون وهامان وجنودهما بأنهم كانوا خاطئين ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾ (القصص: 8)







ودعا النبي صلى الله عليه وسلم على كل محتكر بأن يبتليه الله بالمرض والإفلاس من جميع الأموال المحرمة التي جمعها من وراء هذه السلوكيات الخاطئة ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم مستجابة عن عمر بن الخطّاب- رضي اللّه عنه- قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «من احتكر على المسلمين طعاما ضربه اللّه بالجذام والإفلاس» « ابن ماجة (2155)، وفي الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله موثقون، وأحمد (1 لا 21) وصححه الشيخ أحمد شاكر رقم (135) وله شاهد عن ابن عمر (أحمد 2/ 33) وصححه الشيخ أحمد شاكر (488) وكذا عن أبي هريرة (2/ 351) ح (8602) وينظر مجمع الزوائد (4/ 100) ».







انظروا يا عباد الله إلى كلمة: "ضربه الله بالجذام والإفلاس"، فهذه معاملة له بنقيض قصده، فإنه لما سعى إلى أن يقلل السلع في الأسواق وأن يزداد المال عنده لكي يغتني ولكي يربح، أصابه الله بالإفلاس، وهو الفقر الشديد، وأيضا وعده بوعيد وهو أن يصيبه الجذام، والجذام مرض تتساقط منه الأعضاء ويتساقط منه اللحم، لأنه لما سعى إلى احتكار هذه السلع مع حاجة الناس إليها فإن الناس سيمرضون وسيصيبهم العناء، فعاقبه الله بأشد الأمراض وهو الجذام.







وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المحتكر ملعون والملعون هو المطرود من رحمة الله تعالى قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (الجالب مرزوق والمحتكر ملعون ) [رواه مسلم].







وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله برئ من هؤلاء المحتكرين والغشاشين جاء في مسند الإمام أحمد، وصححه العلامة أحمد شاكر، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي اللّه عنهما- أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَرِئَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ(عرصة -أي: مكان- ) أَصْبَحَ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى). أَخْرَجَهُ أحمد 2/33 (4880). وقال الشيخ أحمد شاكر (7/ 49) برقم (4880): إسناده صحيح. ».







وقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن يبيع طعاما مغشوشا للمسلمين وذلك حينما مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برجل يبيع طعاما "حبوبا"، فأدخل يده فيه فرأى بللا، فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟"، قال: أصابته السماء، أي: المطر، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "فهلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟ من غشنا ليس منا" رواه مسلم. وفى رواية أخرى يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من غش فليس مني" رواه مسلم وأبو داود والترمذي.







وجاء الوعيد الشديد لمن أدخَل في أسعار المسلمين شيئا ظُلمًا وعدوانًا ليغلِيَه عليهم، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثَقُلَ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ يَعُودُهُ، فَقَالَ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيُغْلِيَهُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يُقْعِدَهُ بِعُظْمٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "، الطيالسي في مسنده ج 1/ ص 125 حديث رقم: 928.







وفى رواية، (قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لَيُغْلِيَ عَلَيْهِمْ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَقْذِفَهُ فِي مُعْظَمِ جَهَنَّمَ رَأْسُهُ أَسْفَلُهُ " الحاكم في مستدركه ج 2/ ص 15 حديث رقم: 2168) نقلا من موسوعة التخريج المكتبة الشاملة).







رابعا: أسباب كثرة انتشار الاحتكار والإستغلال والغش والتلاعب بأقوات الناس



أولا: كثرة الذنوب والمعاصي، وبُعد الناس عن ربهم ودينهم فبعض المسلمين أصبحوا مفرطين في كثير من الأحكام الشرعية، ليس ذلك فقط؛ بل أصبحوا يقعون في بعض الكبائر غير مبالين بغضب الله -تعالى- وسخطه، فعاقبهم الله تعالى بغلاء الأسعار وما يقع ذلك في الناس إلابسبب ذنوبهم، وما أصابك من سيئة فمن نفسك والله سبحانه وتعالى قد أخبرنا أنه لا تصيبنا مصيبة إلا بما كسبت أيدينا قال -تعالى-: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30).







وقال -تعالى-: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41]، وهذا الارتفاع في الأسعار عقوبة من الله تعالى، قال بعض المفسرين عن قوله تعالى: ((﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ﴾ [هود: 84] عن ابن عباس: (إني أراكم بخير)، قال: رُخْص السعر (وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط)، قال: غلاء سعر. (الأثر: 18467- " الذيال بن عمرو "، هكذا جاء هنا بالذال معجمة، وقد سلف في رقم: 14445، وتعليقي عليه، وتعليق أخي السيد أحمد رحمه الله، في ج 12: 589، رقم: 7، " الزباء بن عمرو "، وفي ابن كثير: " الديال " بدال مهملة، ولم نستطع أن نعرف من يكون. والإسناد هنا، هو الإسناد هناك نفسه).







وقال تعالى: ﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [السجدة: 21] قال القرطبي /: ولا خلاف أن العذاب الأكبر عذاب جهنم، والأدنى غلاء السعر. (14/107) فغلاء الأسعار من العذاب والعياذ بالله.







ثانيا: - حب المال، والإكثار منه، فحب المال والحرص على كسبه بأي طريق حتى ولو كان عن طريق الحرام أمر مشاهد للجميع، وخاصة مع انتشار المعاملات الربوية، واختلاط الحلال بالحرام، قال -تعالى-: ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً ﴾ [الفجر: 20]، وعندما يطغى ذلك على الناس يصبح الأمر خطيراً جدا، ويتسبب في مخالفات شرعية كثيرة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "فوالله لا الفقر أخشى عليكم! ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم" متفق عليه.







ثالثا: تلاعب التجار والمحتكرين بالسلع التي يحتاج إليها الناس؛ فبعضهم يقوم بتخزينها وإخفائها من أجل رفع ثمنها لتحصيل أكبر كسب ممكن، ويتضح ذلك خلال بعض المواسم، كدخول شهر رمضان وغيره، وهذا فيه إضرار بالناس، وخاصة الفقراء وأصحاب الحاجات، وهو -أيضاً- منهي عنه شرعاً قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا ضرر ولا ضرار" رواه أحمد ومالك في الموطأ وصححه الألباني في "الإرواء"، ج (8)، رقم (2653)، ولأنه من الظلم الواضح البيّن الذي أمر الله باجتنابه، قال الله -تعالى- في الحديث القدسي: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا" رواه مسلم.







خامسا: حلول مشكلة الاحتكار والاستغلال والغش والتلاعب بأقوات الناس في شريعة الله عز وجل كثيرة، منها:



1- تربية الضمير على التقوى ومراقبة الله تعالى قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ [ الأعراف 96 ]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة 65، 66 ]، فالتقوى هي سبب لسعة الأرزاق والبركة فيها، قال تعالى: ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]







2- كثرة الاستغفار والدعاء والتضرع الى الله تعالى والتوبة الصادقة والعمل الصالح، فما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة، والاستغفار من أسباب الازدهار فمن سنن الله أن الاستغفار المقرون بالتوبة والإنابة سبب من أسباب الرزق، قال الله تعالى: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً ﴾ [نوح: 12]. قال ابن صبيح: شكا رجل إلى الحسن البصري الجدوبة فقال له: استغفر الله. وشكا آخر إليه الفقر، فقال له: استغفر الله. وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولداً، فقال له: استغفر الله. وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله. فقلنا له في ذلك؟ فقال: ما قلت من عندي شيئاً، إن الله تعالى يقول في سورة نوح: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10-12] تفسير القرطبي 18/302.







وقال سبحانه ﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ﴾ [هود: 3].







و قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام 42، 43]، قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء ﴾ يعني الفقر والضيق في العيش، ﴿ وَالضَّرَّاء ﴾ وهي الأمراض والأسقام والآلام، ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴾ أي: يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون، ﴿ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ﴾ أي: فهلا إذ ابتليناهم بذلك تضرعوا إلينا وتمسكنوا لدينا ﴿ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ أي: ما رقت ولا خشعت، ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أي: من الشرك والمعاصي " (تفسير ابن كثير ج3 /186 سورة الأنعام )







3- التكافل الاجتماعي وأداء الزكاة والصدقات. فالزكاة عون للفقراء والمحتاجين، تأخذ بأيديهم لاستئناف العمل والنشاط إن كانوا قادرين، وتساعدهم على ظروف المعيشة إن كانوا عاجزين، فتحمي المجتمع من الفقر والدولة من الإرهاق والضعف، وعدم إخراج الزكاة سبب من أسباب البلاء والغلاء، ومن أسباب العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع لغياب التكافل فيما بينهم، أما إخراج الزكاة فهو سبب البركة وسبب المحبة والمودة بين أفراد المجتمع ولقد كَفَل الإسلام للإنسان الحاجات الأصلية التى تحقق له الحياة الكريمة وتُعينَه على عبادة الله سبحانه وتعالى، لتتفاعل الماديات والروحانيات في إطار متوازن لبناء الجسد وغذاء الروح، حتى أن الفقير الذى لا يملك الحد الأدنى للحاجات الأصلية كفل الله سبحانه وتعالى له حقاً معلوماً في مال الغنى، ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾ [المعارج: 2425]، وأن تقوم الجمعيات والمؤسسات الخيرية والأفراد بإيجاد الحلول على جميع المستويات لهؤلاء المساكين. ﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ﴾ (البقرة: من الآية272) [يا ابن آدم أَنفق أُنفق عليك].







كما أشارت السنة النبوية إلى ذلك قال صلى الله عليه وسلم: " من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له " (صحيح: صحيح الجامع‏ 6497 ).







وعندما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا معاذ بن جبل إلى اليمن فقال له: (أعلمهم بأن الله افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنياهم فتُرد على فقرائهم [ رواه مسلم]، ويعنى هذا أن للفقير حقوقاً عند الغنى وعند الدولة حتى يعيش حياة كريمة،ومن مسئولية ولى الأمر في الإسلام أن يكفل للإنسان بصفة عامة وللفقير بصفة خاصة هذه الحقوق ولا سيما عند غلاء الأسعار ويعتبر مسئولاً أمام الله عز وجل عن شقاء رعيته، فهو راع ومسئول عن رعيته.







قال الشاعر:





الله أعطاك فابذل من عطيته

فالمال عاريّة والعمْر رحالُ


المال كالماء إِنْ تحبس سواقِيَه يأسن

وإن يجرِ يعذب منه سلسالُ









وقال أبو العلاء:





ياقوتُ ما أنتَ يا قوتٌ ولا ذهبُ

فكيف تُعجِزُ أقواماً مساكينا


واحسبُ الناس لو اعطوا زكاتهُمُ

لما رأيت بني الإعدام شاكِينا


فإن تعِشْ تبصر الباكين قد ضحكوا

والضاحكينَ لِفُرطِ الجهل باكينا


لا يتركن قليلَ الخير يفعلُه من

نالَ في الأرض تأييداً وتمكينا









4- التحلي بخلق القناعة،فالغنى في الحقيقة غنى النفس، وقال صلى الله عليه وسلم: "... وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس ... " (حسن: صحيح سنن الترمذي 1876) والنبي صلى الله عليه وسلم أوصانا في أمور الدنيا إلى أن ننظر إلى من هو دوننا وليس إلى من هو فوقنا، فقال" انظروا إلى مَن أسفلَ منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله" [رواه مسلم] وقد قال صلى الله عليه وسلم " قد أفلح من أسلم ورُزق كفافا وقنعه الله بما آتاه " [رواه مسلم].





هي القناعة فالزمها تعش ملكاً

لو لم يكن منك إلا راحةُ البدن


وانظر إلى مالك الدنيا بأجمعها

هل راح منها بغير القطن والكفن









قال الخليفة هشام بن عبد الملك لسالم بن عبد الله بن عمر عند الكعبة: سلني حاجتك، فقال: والله إني لأستحي أن أسأل في بيته غيره. فلما خرج من المسجد قال هشام الآن خرجت من بيت الله فاسألني، فقال: من حوائج الدنيا أم الآخرة؟ قال: من حوائج الدنيا، فقال سالم: ما سألتها ممن يملكها، فكيف أسالها ممن لا يملكها. ( الصفدي: الوافي بالوفيات 15 / قال أبو العتاهية:





لا تخضعن لمخلوق على طمع

فإن ذلك نقص منك في الدين


لا يستطيع العبد أن يعطيك خردلة

إلا الذي سواك من طين


فلا تصاحب غنيا تستعز به

وكن عفيفا وعظم حرمة الدين


واسترزق الله مما في خزائنه

فإن رزقك بين الكاف والنون


واستغن بالله عن دنيا الملوك كما

استغن الملوك بدنياهم عن الدين










كان مالك بن دينار يمشي في سوق البصرة فرأى التين فاشتهاه ولم يكن معه نقود فخلع نعله وأعطاه لبائع التين فقال: لا يساوي شيئا فأخذ مالك نعله وانصرف فقيل للرجل إنه مالك بن دينار فملأ الرجل طبقا من التين وأعطاه لغلامه ثم قال له: ألحق بمالك بن دينار فإن قبله منك فأنت حر... فعدا الغلام وراءه فلما أدركه قال له اقبل مني فإن فيه تحريري. فقال مالك: إن كان فيه تحريرك فإن فيه تعذيبي. فألح الغلام عليه فقال: أنا لا أبيع الدين بالتين ولا آكل التين إلى يوم الدين.





جاء في بعض الآثار أن الله أوحى إلى موسى - عليه السلام -: يا موسى لا تخافنَّ غيري ما دام ليَ السُّلطان، وسلطاني دائمٌ لا ينقطعُ، يا موسى، لا تهتمَّنَّ برزقي أبداً ما دامت خزائني مملوءةً، وخزائني مملوءةٌ لا تفنَى أبداً، يا موسى لا تأنس بغيري ما وجدتَني أنيساً لك، ومتى طلبتني وجدتني، يا موسى، لا تأمن مكري ما لم تَجُزِ الصِّراطَ إلى الجنة. ( ابن رجب: شرح جامع العلوم والحكم 28).








يقول الشاعر:





دع المقادير تجري في أعنتها

ولا تبيتن إلا خالي البال


ما بين طرفة عين وإنتباهتها

يغير الله من حال إلى حال


فكن بين الناس كالميزان معتدلا

ولا تقولن ذا عمي وذا خالي


لا يقطع الراس إلا من يركّبها

ولا يرد المنايا كثرة المال









وقال آخر:





دعِ الحرصَ على الدنيا

وفي العيش فلا تطمَع


فلا تجمع من المال

فما تدري لمَن تجمع


فإن الرزق مقسوم

وسوءَ الظنِّ لا ينفع









5- ترشيد الاستهلاك الاقتصاد في المعيشة والتوسط في النفقة وعدم شراء الا ماتحتاجة: وليس المسلم الحكيم بالذي يرهق نفسه بكثرة الشراء، ويهدر الأوقات والأموال والأعمار. وفي كثير من الأحيان يكون مصير شراء ما لا حاجة له من الأطعمة براميل القمامة. وقد قال تعالى: ويقول سبحانه وتعالي: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ قال شيخ الإسلام رحمه الله: فالذين يقتصدون في المآكل نعميهم بها أكثر من المسرفين فيها. فإن أولئك إذا أدمنوها وألفوها لا يبقى لها عندهم كبير لذة، مع أنهم قد لا يصبرون عنها وتكثر أمراضهم بسببها.، يقول الله عز وجل: ﴿ وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾.







علينا أن نعمل على تطبيق المنهج الشرعي في الاقتصاد وعدم الإسراف والتبذير في حياتنا اليومية، فالتبذير نوع من أنواع كفر النعمة، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾ [الإسراء: 27].







ولا يوجد أدل على ذلك أفضل من بيت النبوة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعروة بن الزبير: " ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار يعني لا يطبخون شيئاً قال عروة: فقلت: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء " (رواه البخاري 6459، ومسلم 2973 ).




دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ابنته حفصة رضي الله عنها فقدمت إليه مرقا باردا وصبت عليه زيتا فقال: إدمان في إناء واحد؟ لا آكله حتى ألقى الله عز وجل.








رَوَى جَابِرٌ قَالَ رَأَى عُمَرُ لَحْمًا مُعَلَّقًا فِي يَدِي فَقَالَ: مَا هَذَا يَا جَابِرُ؟ فَقُلْتُ: اشْتَهَيْتُ لَحْمًا فَاشْتَرَيْتُهُ، فَقَالَ أَوَ كُلَّمَا اشْتَهَيْتَ اشْتَرَيْتَ يَا جَابِرُ؟ أَمَا تَخَافُ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا ﴾. ابن مفلح: الآداب الشرعية 3/341.







سادسا: دور الدولة والمجتمع في التعامل مع المحتكرين على الدولة مسؤولية عظيمة تجاه هذه الأزمة الطاحنة، تتمثل في كبح جماح التجار وضبط تغولهم وافتراسهم للمواطنين بزيادة الأسعار دون رقيب أو حسيب، والنهى عن الاحتكار في نشرات الأخبار والجرائد الرسمية.







كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكذلك عثمان في خلافتيهما -رضي الله عنهما- "كانا ينهيان في الأسواق عن احتكار الطعام".



ويحب على المسؤولين إجبار المحتكر على بيع ما يحتكِره، والفقهاء يقولون: إن من احتكر سلعة على الوجه الممنوع يجب عليه أن يتوب إلى الله تعالى، ويخرج السلعة إلى السوق ويبيعها لأهل الحاجة إليها بالسعر الذي اشتراها به ولا يزيد عليه شيئا، لأنه منع الناس منها بشرائها من غير وجه حق، فيجب أن يمكنهم منها بالسعر الذي كانوا يشترونها به لو لم يتعدَّ عليها، ويذهب جمهور الفقهاء إلى أن لولي الأمر إذا رفض المحتكِر تنفيذ ذلك مصادرة السلع المخزونة وبيعها في السوق بثمن المثل، ويجوز تعويض المحتكر بعد ذلك أو عدم تعويضه، كذلك يجوز لولي الأمر تعزير المحتكِر بأحد أمور يراها الحاكم، فقد يكون التعزير بأخذ ما يترتب على الاحتكار من ربح ويوزعه على المحتاجين، وقد يكون التعزير بحبْس المحتكِر، وقد يكون التعزير عن طريق إتلاف أمواله المحتكَرة تأديباً له، كما فعل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مع بعض المحتكِرين أو يكون بالحجر عليه وغيره مما هو داخل في قاعدة: "تحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام".







وعلى الناس الاتحاد والوقوف بجانب الدولة في مواجهة المحتكرين والمتسببين في غلاء الأسعار جاء في الأثر أن الناس في زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاؤوا إليه وقالوا: نشتكي إليك غلاء اللحم فسعِّرْه لنا، فقال: أرْخِصُوهُ أنتم؟ فقالوا: نحن نشتكي غلاء السعر، واللحم عند الجزارين، ونحن أصحاب الحاجة، فتقول: أرخصوه أنتم! وهل نملكه حتى نرخصه؟ وكيف نرخصه وهو ليس في أيدينا؟ فقال قولته الرائعة: اتركوه لهم. فدلهم رضي الله عنه إلى طريقة سديدة لمعالجة سعر هذه السلعة وذلك بتركها، فهل يعي المسلمون ذلك ويتركوا ما غلا سعره إلى ما هو دونه كي يعلم هؤلاء المحتكرون أن الناس يمكنهم ترك سلعتهم فيرخصونها؟.







بل إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يطرح بين أيدينا طريقة أخرى في مكافحة الغلاء وهي إرخاص السلعة عبر إبدالها بسلعة أخرى؛ فعن رزين بن الأعرج مولى لآل العباس قال: غلا علينا الزبيب بمكة فكتبنا إلى على بن أبى طالب بالكوفة أن الزبيب قد غلا علينا، فكتب أن أرخصوه بالتمر. أي: استبدلوه بشراء التمر الذي كان متوفرا في الحجاز وأسعاره رخيصة فيقل الطلب على الزبيب فيرخص، وإن لم يرخص فالتمر خير بديل فانتبهوا -عباد الله- لتلك التوجيهات، فأنتم بيدكم بعض علاج مشكلة الغلاء واحتكار السلع، فإذا وجد التجار أن الناس زهدوا فيما عندهم من السلع الغالية أرخصوها وحرصوا على بيعها.







قال محمود الوراق:





إني رأيت الصبر خير معول

في النائبات لمن أراد معولا


ورأيت أسباب القناعة أكدت

بعرى الغنى فجعلتها لي معقلا


فإذا نبا بي منزل جاوزته

وجعلت منه غيره لي منزلا


وإذا غلا شيء علي تركته

فيكون أرخص ما يكون إذا غلا









ولما قامت الأزمة في عهد عمر رضي الله عنه في عام الرمادة، وحصل قحطٌ شديد وقل الطعام، ودام تسعة أشهر. وسمي عام الرمادة لأن الريح كانت تسفي تراباً كالرماد. وقيل: لأن الأرض كانت سوداء مثل الرماد. فما هي التدابير التي اتخذها عمر رضي الله عنه في هذه الأزمة؟



أولاً: حث الناس على كثرة الصلاة والدعاء واللجوء إلى الله. وكان يصلي بالناس العشاء ثم يخرج حتى يدخل بيته فلا يزال يصلي حتى يكون آخر الليل، ثم يخرج فيأتي الأنقاب –أطراف المدينة – فيطوف عليها ويقول في السحر: اللهم لا تجعل هلاك أمة محمد على يدي. ويقول: اللهم لا تهلكنا بالسنين –يعني القحط- وارفع عنا البلاء يردد هذه الكلمة.







ثانياً: كتب إلى عماله على الأمصار طالباً الإغاثة، وفي رسالته إلى عمرو بن العاص والي مصر، بعث إليه: يا غوثاه! يا غوثاه! أنت ومن معك ومن قبلك فيما أنت فيه، ونحن فيما نحن فيه. فأرسل إليه عمرو بألف بعير تحمل الدقيق. وبعث في البحر بعشرين سفينة تحمل الدقيق والدهن. وبعث إليه بخمسة آلاف كساء. وهكذا أرسل إلى سعد بن أبي وقاص فأرسل له بثلاثة آلاف بعير تحمل الدقيق، وبعث إليه بثلاثة آلاف عباءة، وإلى والي الشام فأرسل إليه بألفي بعير تحمل الدقيق، ونحو ذلك مما حصل من مواساة المسلمين لبعضهم. لأن هذه الأمة واحدة. فإذا مسّ بعضها شدّة، تداعى الباقي لها. جسدٌ واحد.







ثالثاً: أحس عمر بمعاناة الناس. قال أنس رضي الله عنه: كان بطن عمر يقرقر عام الرمادة وكان يأكل الزيت، ولا يأكل السمن. فقرقر بطنه فنقرها بأصبعيه، وقال: تقرقر، إنه ليس لك عندنا غيره حتى يُحيا الناس. أي: يأتي الله بالحيا والمطر الذي يغيث به الأرض. وقال أسلم: كنا نقول لو لم يرفع الله المحن عام الرمادة لظننّا أن عمر يموت هماً بأمر المسلمين. ثم يقوم رضي الله عنه بوعظ الناس وينادي: أيها الناس استغفروا ربكم ثم توبوا إليه وسلوه من فضله واستسقوا سقيا رحمة. وطلب الناس من العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام الرجل الصالح، وأقرب الحاضرين إلى النبي عليه الصلاة والسلام أن يخرج ليستسقي لهم استشفاعاً بدعاء الرجل الصالح من آل البيت. وكان العباس حياً فلم يطلبوا من ميت ولم يطلبوا شيئاً لا يقدر عليه الحي. وخرج العباس يدعو الله، فدعا ودعا، وبكى، فاستجاب الله ونزل الغيث.







سابعا وأخيرا: رسالة إلى تجار المسلمين وما ينبغي أن يكونوا عليه في مثل هذه الأحوال



أيها التجار: لقد جاءت شريعتنا العظيمة برحمة العباد، والراحمون يرحمهم الرحمن، والمحسنون جزاؤهم الإحسان. والتاجر المسلم يجب أن يكون ذو شفَقَة وعَطف بإخوانه المسلمين، يتحلّى بحسن النية، والرفق بالمسلمين، وتوفير الجيد لهم بالثمن المناسب لهم لا يغالي في الرِّبح، ولا يبالغ في التكسُّب، ولا يرهق كواهل إخوانه، فعَن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "رحِم الله رجلاً سمحًا إذا باع وإذا اشتَرى وإذا اقتَضَى" أخرجه البخاريّ.







وهؤلاء التجار أصحاب القلوبِ الرحيمة، هم المحظوظون بالرحمة، الموعودون بالبركةِ في أرزاقهم، والسعةِ في أموالهم، والصِّحةِ في أبدانهِم، والسعادة في نفوسهم. والتاجر الأمين في جنَّة ربِّ العالمين مع النبيِّين والصِّدِّيقين: أخرج الترمذي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "التاجر الصَّدوق الأمين مع النبيِّين والصِّديقين والشُّهَداء" (إسناده جيد، وأشار الألباني إلى ضعفه في "جامع الترمذي"، ولكن له شواهد كثيرة يتقوَّى بها، قال الذهبي: هو حديثٌ جيِّد الإسناد صَحيح المعنى)




والتاجر المسلم يجب لا يكذب ولا يحتال وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون فقال: يا معشر التجار. فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفعوا أعناقهم، وأبصارهم إليه. فقال: إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً، إلا من اتقى الله وبر وصدق. رواه الترمذي وهو حديث صحيح.








والتاجر المسلم يجب أن يكون أمينا وبأمانة التُّجَّار المسلمين وصِدقهم دخَل الناس في دِين الله أفواجًا: إنَّ أثَر التُّجَّار الأمناء الصادقين في انتشار الإسلام لا يقلُّ عن أثَر الجيوش في الفتوحات الإسلاميَّة، بل إنَّه فاقَ أثَر هذه الجيوش، ووصَل إلى مناطق لم تدخُلها جيوش المسلمين، وإنما دخَلها التُّجَّار المسلمون بأمانتهم؛ كمناطق جنوب شرق آسيا، وغرب إفريقيا ووسطها.







ولِمَكارم الأخلاق وعلى رأسها الأمانةُ أسرَعَ كرامُ الناس إلى اعتناق الإسلام لدَعوته إليها.







وما أسلم صفوةُ الصحابة على يد أبي بكرٍ الصِّدِّيق إلاَّ لِمَا عَهِدوه فيه من خُلُقٍ وأمانة؛ فأسلَمَ على يديه عثمان بن عفَّان، والزبير بن العوَّام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقَّاص، وطلحة بن عبيدالله رضِي الله عنهم وذلك لِمُخالطتهم الصِّدِّيقَ التاجرَ الأمين، وما لمسوه من أخلاقه الكريمة.







والتجار في الماضي كانت عندهم أمانة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْأَرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الْأَرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلَامٌ. وَقَالَ الْآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ. قَالَ: أَنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا"( البخاري ).







"وذات يوم خرج أحد التجار الأمناء في سفر له، وترك أحد العاملين عنده ليبيع في متجره، فجاء رجل يهودي واشتري ثوبًا كان به عيب. فلما حضر صاحب المتجر لم يجد ذلك الثوب، فسأل عنه، فقال له العامل: بعته لرجل يهودي بثلاثة آلاف درهم، ولم يطلع على عيبه. فغضب التاجر وقال له: وأين ذلك الرجل؟ فقال: لقد سافر. فأخذ التاجر المسلم المال، وخرج ليلحق بالقافلة التي سافر معها اليهودي، فلحقها بعد ثلاثة أيام، فسأل عن اليهودي، فلما وجده قال له: أيها الرجل! لقد اشتريت من متجري ثوبًا به عيب، فخذ دراهمك، وأعطني الثوب. فتعجب اليهودي وسأله: لماذا فعلت هذا؟ قال التاجر: إن ديني يأمرني بالأمانة، وينهاني عن الخيانة، فقد قال رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا" (مسلم)، فاندهش اليهودي وأخبر التاجر بأن الدراهم التي دفعها للعامل كانت مزيفة، وأعطاه بدلاً منها، ثم قال: لقد أسلمت لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله. "







جاء عن محمد بن المنكدر رحمه الله أنه كان له سلعٌ تباع بخمس وأخرى بعشرة. فباع غلامه في غيبته شيئاً من الخمسيات بعشرة. فلما عرف لم يزل يطلب ذلك المشتري طول النهار حتى وجده، فقال له: إن الغلام قد أخطأ فباعك ما يساوي خمسة بعشرة. فقال: يا هذا قد رضيت. قال: وإن رضيت فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضى لأنفسنا. فقد ربحت ثلاث؛ إما أن تستعيد مالك وتعيد السلعة. وإما أن نرد إليك خمسة. وإما أن تأخذ بدلاً من سلعة الخمس سلعة العشر. فقال: أعطني خمسة. فرد عليه خمسة وانصرف الأعرابي المشتري يسأل ويقول: من هذا الشيخ؟ فقيل له: هذا محمد بن المنكدر. فقال: لا إله إلا الله، هذا الذي نستسقي به في البوادي إذا قحطنا.





يا ليتني أبيع الشيء يكسب في

ه المشتري الربح ديناراً بعشرينا


أحب شيء إلى نفسي معاملةٌ

كسب العميل فنأتيه ويأتينا









وكان أبو حنيفة رحمه الله يبيع القماش وكان عنده ثوبٌ فيه عيب فجعله جانباً. فجاء خادمه في غيبته فباع الثوب المعيب بقيمته لو كان سليماً. فلما جاء الإمام إلى محله وسأل عن ذلك الثوب قال الغلام بعته قال بكم؟ قال: بكذا، أي بسعر السليم. قال: هل أطلعت المشتري على العيب الذي فيه؟ قال: لا. فتصدق بقيمة الثوب كله.







وينبغي أن يكون التاجر سخياً بالصدقات. قحط الناس في زمن أبي بكر فقدمت لعثمان رضي الله عنه قافلة من ألف راحلة من البر والطعام. فغدا التجار عليه، فخرج إليهم فقال: ماذا تريدون؟ قالوا: بلغنا أنه قدم لك ألف راحلة براً وطعاماً. براً وطعاماً. بعنا حتى نوسع على فقراء المدينة. فقال لهم: ادخلوا فدخلوا. فقال: كم تربحوني على شرائي؟ قالوا: العشرة اثنا عشر. قال: قد زادوني. قالوا: العشرة أربعة عشر. قال: قد زادوني. قالوا: العشر خمسة عشر. قال: قد زادوني. قالوا: من زادك ونحن تجار المدينة. قال: زادني بكل درهم عشرة عندكم زيادة؟ قالوا: لا. قال: فأشهدكم معشر التجار أنها صدقة على فقراء المدينة. [رواه المحب الطبري في (الرياض النظرة في مناقب العشرة): (43)].







هكذا كان عثمان رضي الله عنه وابن عوف وغيرهم من فقراء، ومن أغنياء التجار، يجودون على فقراء المسلمين، ولا يستغلّون مثل هذه الفرص لكي يرفعوا الأسعار ويحتكروا الأطعمة ليبيعوا على الناس بالغلاء. إن الرفق بالمسلمين أمرٌ جدّ طيب. وإن الحرص على مصلحتهم أمرٌ جد حسن.







فاتقوا الله -أيّها التجار- وارحموا إخوانكم وأهليكم، يرحمكم ربكم وطهِّروا بيوعَكم من الغشِّ والخداع، والمبالغة في الأسعارِ يبارَك الله لَكم فيها ولقد تبيَّنَ أن تلك الأمراض المعضلة التي بدأت تدب في الناس من غلاء واحتكار للسلع غالبها من ضعف الإيمان، وحب الدنيا، وإيثارها على العاجلة، وأنا أقول لمن يقع في ذلك ويرفع الأسعار على الناس: كم ستعيش في الدنيا؟ وكم ستملك؟ وإلى متى التمتع بملذاتها؟ أليست لك نهاية؟ أليس لك لقاء بملَك الموت؟ ألا تعلم أنك ستقف بين يدي رب العالمين فيجازيك بما فعلت؟ فلْيتَّقِ الله كُلُّ مَن تُسوِّل له نفسه احتكار السلع ورفع أسعارها.







ونقول لهم أيها التجار: هذه الدولة المباركة، كم قدمت لكم من إعانات وتسهيلات في مصانعكم وشركاتكم، فماذا قدمتم للوطن وأهل الوطن، بعيدًا عن تعميم الأحكام نقول: إن كثيرًا من التجار وللأسف مارسوا أبشع العقوق للوطن وأهله، لا تسألهم عن توظيف الكوادر الوطنية وتشجيع الشباب بالمرتبات المناسبة، بل اسألهم عن دفع ما أوجب الله عليهم من زكاة المال، التي لو دفعت لأهلها لم يبق بيننا فقير فهذه رسالة للتجار والبائعين والمقاولين وأصحاب العقارات الذين لا يراعون في مؤمن إلا ولا ذمة ولا حول ولا قوة إلا بالله.







نسأل الله عز وجل أن يلطف بنا، وأن يرفع ما نزل بنا من غلاء في الأسعار، اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والزنا والزلازل والمحن، وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.







المراجع:



القرآن الكريم.



موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم.



خطبة قيمة العمل في الإسلام للشيخ سعد الشهاوي.



خطبة الأمانة فضائلها ومجالاتها للشيخ سعد الشهاوي.



مشكلة غلاء الأسعار وأثرها على أمن المجتمع للدكتور حسين حسين شحاتة الأستاذ بجامعة الأزهر خبير استشاري في المعاملات المالية الشرعية.



اختلال الموازنات. . في فقه الأزمات د. مسفر بن علي القحطاني الأستاذ بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن.



مشكلة غلاء الأسعار وكيف عالجها الإسلام د. بدر عبد الحميد هميسه.



غلاء الأسعار الشيخ محمد صالح المنجد.



خطبة بعنوان ذكرى الإسراء والمعراج - غلاء الأسعار – التسعير المكان: جامع الإمام مالك بن أنس / بالدمام التأريخ: 27/7/1428ه.




احتكار السلع وغلاء الأسعار أ. د. عبدالله بن محمد الطيار.



أسباب غلاء الأسعار الشيخ أحمد صبري.



سياسة فقه الأزمات [عام الرمادة أنموذجا] سلمان بن يحي المالكي.



صفحات من حياة عثمان رضي الله عنه للدكتور خالد بن عبد العزيز الباتلي.



ملتقى الخطباء.




شبكة الإنترنت.





خطبة عن بر الوالدين

$
0
0
خطبة عن بر الوالدين


الشيخ أحمد الزومان





الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء:1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾.

أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.


عباد الله:
يخاطبنا ربنا تعالى بقوله ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 23-24].

فبعد أن ذكر ربنا عز وجل حقه على خلقه وذلك بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا ذكر بعد ذلك حق الوالدين دليلاً على عظم حقهما فأمر بالإحسان إليهما ويدخل في ذلك جميع وجوه الإحسان القولي والفعلي والبذل والمواساة فالوالدان سبب وجود العبد ولهما من المحبة للولد والإحسان إليه والقرب ما يقتضي تأكد الحق ووجوب البر. ويتأكد هذا الحق إذا وصلا إلى حد الكبر الذي تضعف فيه قواهما ويحتاجان من اللطف والإحسان ما هو معروف. وفي هذا السن مع شدة حاجتهما فيحرم على الولد أن يؤذيهما ولو بالتأفف وهذا أدنى مراتب الأذى نبه به على ما سواه. بل الواجب التلطف لهما بالعبارة بلفظ يحبانه وبكلام لين حسن تطمئن به نفوسهما، فاصبر على ما يبدر منها في هذا السن كما صبرا عليك في صغرك. مع وجوب التواضع لهما ذلا لهما ورحمة واحتسابا للأجر لا لأجل الخوف منهما أو الرجاء لمالهما، ونحو ذلك من المقاصد التي لا يؤجر عليها العبد. ومع القيام بحوائجهما والاحسان إليهما ولاسيما في الكبر تذكر إحسانهما لك في الصغر وأن هذا العنت الذي قد تجده حينما يردان إلى أرذل العمر قد حصل لهما مثله أو أكثر فهما السابقان إلى الفضل والإحسان ﴿ وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾.

أخي الابن:
بر الوالدين من أحب القرب إلى الله فالجهاد في سبيل الله على فضله وعلو منازل الشهداء فبر الوالدين أفضل منه فعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال أقبل رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله قال فهل من والديك أحد حي قال نعم بل كلاهما قال فتبتغي الأجر من الله قال نعم قال فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما رواه مسلم [2549].

بر الوالدين من أسباب طول العمر وسعة الرزق وبسط الدنيا للبار فعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب أن يمد له في عمره وأن يزاد له في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه رواه أحمد بإسناد حسن [12988].

أخي الابن البار:
تذكر أنك مهما بلغت من البر بأبويك فإنه يوجد من هو خير منك في البر فلا يقع في نفسك أنك بلغت الكمال في البر بأبويك والإحسان بهما تذكر بر إسماعيل بأبيه الخليل صلى الله عليهما وسلم حيث بلغ به البر منتهاه فجاد بنفسه براً بأبيه لتنفيذ وحي الله في المنام ﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصافات: 102] وعن أبى بردة أنه شهد ابن عمر ورجل يماني يطوف بالبيت - حمل أمه وراء ظهره - يقول: إني لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر ثم قال: يا ابن عمر! أترانى جزيتها؟ قال: لا. ولا بزفرة واحدة " رواه البخاري في الأدب المفرد [11] وهو صحيح الإسناد.

أخي الابن:
ليست إساءة الأب وتقصيره في حقك مسوغاً لعدم البر ومبيح لعقوقه فعلى أبيك ما حمل وعليك ما حملت من الواجبات ولا أظنك أخي الابن ترى أنَّ حقك أعظم من حق الله ومع ذلك فقد أمر الله ببر الأبوين وإن كانا كافرين ﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [سورة لقمان: 15] وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت وهي راغبة أفأصل أمي قال نعم صلي أمك" رواه البخاري [2620] ومسلم [1003] فلا يختص بر الوالدين بأن يكونا مسلمين، بل إن كانا كافرين يبرهما ويحسن إليهما. فيجب بر الوالدين وإن كانا عليهما آثار الفسق والمعاصي وإن كانا مصرين على الكبائر بل وإن كانا مرتدين بقول أو بفعل يوجب الخروج من الإسلام كترك الصلاة إذا لم يأمرا بمعصية الله.

أخي الابن:
اعلم أن من طاعة الأبوين الواجبة إعطاؤهما ما يطلبانه من مال إذا كان لا يضر بك فعن أبى الدرداء رضي الله عنه أن النبي " وأطع والديك وإن أمراك أن تخرج من دنياك فاخرج لهما "رواه البخاري في الأدب المفرد [18] بإسناد حسن لغيره ـ إن شاء الله ـ ويشهد له الحديث الصحيح أنت ومالك لأبيك.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين الذي يأمر بالعدل والإحسان، وينهى عن الفحشاء والمنكر ومن ذلك:
عقوق الوالدين فالعقوق كبيرة من كبائر الذنوب والعقوق كل ما يتأذى به الوالدان من ولدهما من قول أو فعل فعلاً أو تركاً فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور "رواه البخاري [6919] ومسلم [87] فقرن الله طاعتهما بإفراده بالعبودية وفي هذا الحديث قرن النبي معصيتهما بالشرك بالله فدل ذلك على عظم جرم عقوقهما.

و العاق إذا لم يتق ربه ويبادر بالتوبة فهو على خطر عظيم وعقوبته معجلة في الدنيا ومؤخرة في الآخرة فعن أبي بكرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من ذنب أجدرُ أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم رواه الترمذي [2511] وقال حديث حسن صحيح.

أخي الابن:
احذر أن تخرج من البيت أو تدخل أو تقوم أو تنام وقد أبكيت والديك فبكاء الوالدين من العقوق، فالسعيد الذي يبادر اغتنام فرصة برهما لئلا تفوته بموتهما فيندم على ذلك. والشقي من عقهما ولا سيما من بلغه عظم ذنب العقوق.

أخي الابن لعلك أدركت تقصيرك في حق أبويك وتريد تصحيح الخطأ لكن يتبادر إلى ذهنك سؤال ما ضابط بر الوالدين متى تجب طاعة الوالدين ومتى لا تجب فإليك الجواب من قول ابن عطية في تفسيره [5 /268] طاعة الوالدين لا تراعى في ركوب كبيرة ولا في ترك فريضة على الأعيان، وتلزم طاعتهما في المباحات وتستحسن في ترك الطاعات الندب، ومنه أمر جهاد الكفاية ا. هـ.

فإذا أمر الوالدان الولد بفعل محرم كاشتراء آلات لهو أو دخان أو ترك واجب كترك الصلاة في المسجد فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

أما إذا أمرا الولد بمباح فعلاً أو تركاً وجبت طاعتهما كالنوم مبكراً أو ترك السفر أو ترك مصاحبة فلان. وإذا تعارض أمرهما مع أمر مندوب وجب على الولد أن يقدمهما على الأمر المستحب كطلب العلم وحفظ القرآن فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم كان جريج رجلا عابدا فاتخذ صومعة فكان فيها فأتته أمه وهو يصلي فقالت يا جريج فقال يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فانصرفت فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت يا جريج فقال يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فانصرفت فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت يا جريج فقال أي رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فقالت اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها فقالت إن شئتم لأفتننه لكم قال فتعرضت له فلم يلتفت إليها فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت فلما ولدت قالت هو من جريج فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه فقال ما شأنكم قالوا زنيت بهذه البغي فولدت منك فقال أين الصبي فجاءوا به فقال دعوني حتى أصلي فصلى فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال يا غلام من أبوك قال فلان الراعي " رواه البخاري [3436] ومسلم [2550].

فحينما لم يكلم جريج أمه واستمر في صلاة النفل دعت أمه عليه واستجيب دعاؤها فدل على تقديم إجابة الأم على صلاة التطوع لأن الاستمرار فيها نافلة وإجابة الأم وبرها واجب والواجب مقدم على النفل.


أخي الأب:
كن عونا لأولادك على برك وذلك بالعدل بينهم وعدم إثار بعضهم على بعض من غير سبب. أمدح ما يقوم به أولادك من بر تجاهك وأثن عليه. تجاهل ما يبدر منهم من تقصير ولا سيما في مرحلة المراهقة وإياك والدعاء عليهما بل ألح على الله بالدعاء لهم بالصلاح والاستقامة.

جاء رجل إلى عبد الله بن المبارك فشكا إليه بعض ولده، فقال: هل دعوت عليه؟ قال: نعم. قال: أنت أفسدته.

رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/95334/#ixzz4HKlxnUyN




مقامات القلب السعيد (2) مقام منابذة الكذب (2)

$
0
0
مقامات القلب السعيد (2) مقام منابذة الكذب (2)


د. محمد ويلالي









سلسلة أنواع القلوب (15)














الخطبة الأولى



ذكرنا في جمعة سابقة ضمن القسم الأول من الجزء الرابع عشر من سلسلة أنواع القلوب أن من مقامات القلب السعيد، مقامَ منابذة الكذب، انطلاقا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ، حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلاَ يُسْتَحْلَفُ، وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلاَ يُسْتَشْهَدُ". وتبين لنا أن الكذب لا يجلب لقلب صاحبه إلا التعاسة والضنك، وبخاصة حين يصير الكذب فاشيا، أي: سمة بارزة لصاحبه متأصلة، وعرفنا أن منه الكذب على الله، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى النفس، وعلى الناس. ثم ذكرنا ثلاثة من مخاطر الكذب: أنه يورث استمراء الحيل والغش والخديعة، حتى يطبع على قلب الكذاب، فيصير الكذب له سمة، وعليه علامة، وأنه تزوير وتغيير للحقائق، وأنه يمحق البركة.







ومن هذه المخاطر كذلك أنه:



1- استجلاب للصفات الذميمة، واستدعاء للأخلاق السقيمة. قال ابن القيم رحمه الله: "ابن القيم: "أصل أعمال القلوب كلها الصدق، وأضدادها من الرياء، والعجب، والكبر، والفخر، والخيلاء، والبطر، والأشر، والعجز، والكسل، والجبن، والمهانة، وغيرها أصلها الكذب. فكل عمل صالح ظاهر أو باطن، فمنشؤه الصدق، كل عمل فاسد ظاهر أو باطن، فمنشؤه الكذب".







وقال يزيد بن ميسرة: "الكذب يسقي باب كل شر، كما يسقي الماء أصول الشجر".







ومما يستجلبه الكذب، أن صاحبه يهوى اختلاق النكات الفارغة، والتهويلات الوضيعة، والتهويشات المستهجنة، لا لشيء إلا ليضحك الناس. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ" صحيح سنن أبي داود.قال المناوي رحمه الله: "كرره إيذانًا بشدة هلكته؛ وذلك لأنَّ الكذب وحده رأس كلِّ مذموم، وجماع كلِّ فضيحة، فإذا انضم إليه استجلاب الضحك الذي يميت القلب، ويجلب النسيان، ويورث الرعونة كان أقبح القبائح، ومن ثم قال الحكماء: إيراد المضحكات على سبيل السخف، نهاية القباحة".







حتى في الهزل يكره الكذب، لأنه مظنة للكذب في الجد. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "لا يصلح الكذب في جد ولا هزل، ولا أن يَعد أحدكم ولده شيئا ثم لا ينجز له"، وهو يقصد حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، الذي قَالَ: "دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا، فَقَالَتْ: هَا تَعَالَ أُعْطِكَ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ؟". قَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِيهِ شَيْئًا، كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ" صحيح سنن أبي داود.



لبعضُ جيفة كلبٍ خيرُ رائحةً ♦♦♦ من كِذبة المرء في جدٍّ وفي لعبِ







2- الكذب يورث مقت الرب سبحانه، ويعاقب عليه أشد العقاب. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالاَ لِي: انْطَلِقْ.. فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ، فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ.. ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الآخَرِ، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الأَوَّلِ، فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ، فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الأُولَى"، فلما سألهما النبي صلى الله عليه وسلم عن أمره، قالا له: "إِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ الْكِذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ" البخاري.







ورأينا اليوم من أنواع الكذب المقيتة، وفنون الشائعات المغرضة، وضروب الصور القبيحة ما يمكن أن يبلغ الآفاق، فيصل إلى الملايين في لحظة واحدة، عبر وسائل التواصل الحديثة، وفي ذلك من المخاطر الجسيمة ما يستدعي التأني والتثبت من الأخبار قبل نشرها وإذاعتها.







ولقد وصلتني رسالة واحدة، فيها من الكذب على الله ورسوله، والاستخفاف بالعقول والنفوس ما ترتعد له الفرائص. افتتحت الرسالة بقول المرسل: "قبل أن تفتح الرسالة، اطلب ما تتمناه"، ثم يأمرك بقراءة الرسالة كاملة"، ويقسم عليك بقوله: "اقرأها بالله عليك". وبعد ذلك يدغدغ شعورك بقوله: "إن الأحلام تتحقق، أَثبت إيمانك بالرب بإرسالك هذه الرسالة إلى عشرين من أصدقائك، وسترى أنه خلال عشرين دقيقة، سيصلك خبر لطالما رغبت في سماعه، هذه ليست مزحة"، ثم يذكر بعض أسماء الله الحسنى، ويقول بعدها: "لا تخاطر، إنها أسماء الله الحسنى، أرسلها إلى عشرين، وانظر ما ذا سيقع بعد عشرين دقيقة، جرب حتى لو كنت غير مصدق"، وبعدها مباشرة يقول: "أرسل هذه الأسماء الحسنى الخمسةَ إلى أصدقائك، وسترى أكبر مشكلة عندك ستحل بإذن الله تعالى، جرب حتى لو لم تكن مقتنعا بها"، ثم بعدها يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينسب إليه هذا الدعاء: "يا الله، يا كريم، يا أول، يا أخر، يا مجيب، يا فارج الهم، يا كاشف الغم، فرج همي، ويسر أمري، وارحم ضعفي، وقلة حيلتي، وارزقني من حيث لا أحتسب، يا رب العالمين"، ويقول كذبا وزورا: "قال صلى الله عليه وسلم: "من قرأ هذا الدعاء، وأخبر الناس به، فرج الله همه". فأين وجد هذا الكلام؟ وعن أي محدث عرفه؟ ومن أي كتاب نقله؟ والعلماء يقولون: "إن كنت ناقلا فالصحة، أو مدعيا فالدليل".







وبعد هذا الكذب المفضوح، يخوف القارئ بقوله: "إذا ما قدرت على إرسالها، فاعلم أن الله غني عنك.. في ذمتك إلى يوم القيامة، أمانة في رقبتك". ولما علم صاحب الرسالة أن ادعاءه مفند، التجأ إلى القَسم فقال: "والله العظيم، أنا بنفسي ما صدقت، وكنت أظن أنها إشاعة". ويطفح الكيل حين يزعم هذا المفتري، أن هذه الوصفة مجربة، وأن نتيجتها موثوقة، فيقول: "يقال إن هذه الرسالة وصلت عميدا بحريا، فوزعها على اثني عشر شخصا، فحصل على ترقية خلال أحد عشر يوما. ووصلت هذه الرسالة إلى تاجر، فأهملها، فخسر كل ثروته خلال اثني عشر يوما. ووصلت إلى طالب على أبواب الامتحان، فوزعها فنجح".



لا يكذب المرء إلا من مهانته ♦♦♦ أو فعلة السوء أو من قلة الأدبِ







كل هذا في رسالة واحدة، يعلم الله كم مرةً أرسلت، وكم شخصا صدق بها، فإن وافقت الرسالة خبرا سارا، اقتضته حكمة الله، نسب الفعل إلى الدعاء المكذوب، لا إلى القدر الإلهي، وهي فتنة في عقيدة الناس عظيمة، وإن لم يتحقق شيء وهذا هو الغالب الأعم شكك في الأدعية الصحيحة الأخرى، وعزف عنها، وهي فتنة في عبادة الناس جسيمة.







الخطبة الثانية



فانظر إلى مفاسد الكذب كم تجني على الناس من المفاسد والشكوك؟ وكم تقلب الحقائق؟ فتجعل الحق باطلا، والباطل حقا.







قال ابن القيم رحمه الله: "إياك وَالْكذب، فَإِنَّهُ يفْسد عَلَيْك تصور المعلومات على مَا هِيَ عَلَيْهِ.. فَإِن الْكَاذِب يصور الْمَعْدُوم مَوْجُودا، وَالْمَوْجُود مَعْدُوما، وَالْحق بَاطِلا، وَالْبَاطِل حَقًا، وَالْخَيْر شرا، وَالشَّر خيرا".







لذلك وجب التثبت من كل خبر وصلك، فإن لم تستيقن صحته، أو لم تظهر لك فائدة نشره، فلا ترسله إلى غيرك، وبخاصة إذا كان كلاما في جنب الله تعالى، أو منسوبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ". قال الحسن البصري رحمه الله: "المؤمن وقاف حتى يتبين".








3- وبالإضافة إلى أضرار الكذب المادية والاجتماعية والنفسية، هناك أيضا الأضرار الصحية؛ فقد أثبتت الدراسات الطبية، أن للكذب انعكاسات خطيرة على صحة صاحبه. فالكذاب يعيش توترا وقلقا داخليين، يولدان هرمونا يسمى (الكورتيزون)،وهو مسؤول عن زيادة نسبة السكر في الدم، ويضعف جهاز المناعة، ويزيد من سرعة ضربات القلب، ويرفع ضغط الدم، بالإضافة إلى التعرض للشعور بالتوتر، والاكتئاب، والصداع المتكرر، وقرحة المعدة، والأرق.







إن مضار الكذب لا تنتهي، وآفاته لا تنقضي. قال ابن القيم رحمه الله: "وكم قد أزيلت بالكذب من دول وممالك، وخربت به من بلاد، واستُلِبت به من نِعَم، وتعطَّلت به من معايش، وفسدت به مصالح، وغُرست به عداوات، وقُطعت به مودات، وافتقر به غني، وذل به عزيز، وهتكت به مصونة، ورُميت به محصنة.. وأفسد به بين الابن وأبيه، وغاض بين الأخ وأخيه، وأحال الصديق عدوًّا مبينًا، ورد الغنيَّ العزيز مسكينًا".



عود لسانك قول الخير تحظ به♦♦♦ إن اللسان لما عودت معتادُ






من سنن الله تعالى في خلقه (6)

$
0
0
من سنن الله تعالى في خلقه (6)


الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل





﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ



الحمد لله الخلاق العليم؛ خالق الخلق، ومالك الملك، ومدبر الأمر، له في الأنفس والآفاق براهين وآيات، وله في خلقه سنن وعبر وعظات، وله في عباده أفعال وشئون ومتغيرات؛ فيؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل قدير، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم، وندعوه فإنه هو البر الرحيم؛ وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له؛ أمضى قضاءه في عباده، فلا خروج لأحد منهم عن أمره، ولا مفر لهم من قدره، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أخلى قلبه من البشر مهما كانت قوتهم، ولم يرهب كثرة جمعهم، وعلق قلبه بالله تعالى رغباً ورهباً، وتحزبت عليه أحزاب الشرك واليهود والنفاق، فما ردوه عن دعوته، ولا ألانوا شكيمته، ولا أوهنوا عزيمته، ولم يُضعفوا في الحق قوته، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.



أما بعد:

فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واستمسكوا بدينكم ولو عارضكم فيه أهل الأرض كلهم؛ فإنه الحق من ربكم ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الزُّخرف:43].



أيها الناس:

لله تعالى في خلقه سنن لا تتبدل ولا تتحول، بل يَطَّرِد نظامها، ويتكرر وقوعها بإتيان أسبابها، فنتائجها مبنية على مقدماتها، ووقوعها مشروط بتوافر أسبابها ﴿ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا ﴾ [فاطر:43].



ومعرفة سنن الله تعالى في عباده مما يزيد الإيمان واليقين كلما تجددت سنة من تلكم السنن، كما أنه يفيد الأفراد والأمة جمعاء في إتيان أسباب الفلاح؛ لتقع فيهم سنن التغيير إلى الأحسن، واجتناب أسباب الخسران؛ لئلا تسلب نعمهم، أو يسلط عليهم أعداؤهم.



ومن سنن الله تعالى العجيبة في عباده ما ذكره سبحانه في القرآن بقوله عز وجل ﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأنعام:129].



ولهذه السنة الربانية في الظالمين جانبان:

فالجانب الأول: أن الظلمة بعضهم أولياء بعض، ولو اختلفت أديانهم ومناهجهم ومذاهبهم وثقافاتهم واتجاهاتهم، فيجمعهم الظلم ولو تفرقوا، ويوحدهم قصدهم للمظلوم بالظلم ولو تباينت غاياتهم من ظلمه.



ولما كان الشرك أعظم الظلم كان الكفر ملة واحدة، وكان الكفار بعضهم أولياء بعض، وكان المنافقون بعضهم أولياء بعض؛ لأن بغضهم للإيمان يجمعهم ولو تفرقوا في غير ذلك؛ ولو كان بعضهم يعبد الحجر، وبعضهم يعبد البشر، ولو كان منهم من يعبد هواه وشهوته كالملاحدة والعلمانيين، أو من يعبد المادة كالشيوعيين، فيجتمعون على ظلم أهل الإيمان ولو فرقتهم أديانهم وأفكارهم.



إن هدفهم محو الإيمان الصحيح من الوجود، ثم يختلفون بعد ذلك فيما يَخْلُف الإيمان بعد محوه، أو يختلفون في اقتسام تركة أهل الإيمان وبلدانهم، فهم أولياء في الهدف والقصد، وإن اختلفوا بعد تحقيق غايتهم في بلد من البلدان، أو في زمن من الأزمان.



قال الله تعالى في الكفار ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾ [الأنفال: 73] وقال تعالى في كفار أهل الكتاب ﴿ لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [المائدة: 51] وقال سبحانه في المنافقين ﴿ المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ﴾ [التوبة:67] أي: كأنهم نفس واحدة، وفيه نفي أن يكونوا من المؤمنين، وتكذيبهم في حلفهم أنهم من المؤمنين ﴿ وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ ﴾ وتقرير لقوله ﴿ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ ﴾ [التوبة:56] فبين سبحانه أن النفاق حالة واحدة، وأن أصحابه أولياء، سواء كان نفاقا سلوليا شهوانيا، أم كان نفاقا سبئيًا باطنيا؛ لأن غاية النفاقين هدم الإسلام الصحيح من داخله، وحينئذ فلا غرابة أن يوالي العلماني والليبرالي الصفوي الباطني.



والجامع الذي يجمع هذه المذاهب والملل والأهواء الضالة عن الحق أنهم لا يعلمون الحق بسبب تقصيرهم في الوصول إليه، أو بسبب استكبارهم عن قبوله، أو بسبب إعراضهم عن معرفته.



ومن عجائب القرآن وكنوزه أن الله تعالى وصف فيه أصحاب كل المذاهب الباطلة في جملة واحدة هي: أنهم لا يعلمون، وجعل في مقابلهم من يعلمون شريعة الله تعالى، فأمرهم بالاستمساك بها، فلا يغترون بكثرة الضالين عنها، ولا يخدعون بتنوع مذاهبهم، واختلاف مناهجهم، فكلهم لا يعلمون، وأعجب من ذلك أن الله سبحانه لما ذكر الأديان المختلفة، والمذاهب المتباينة، والمناهج المتعددة، ووصف أصحابها بأنهم لا يعلمون؛ ذكر سنته الماضية في الظالمين بتولية بعضهم بعضا، فاستمعوا لذلك في هذه الآية العظيمة ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [الجاثية: 18، 19]. نعم، بعضهم أولياء بعض، ولن يغنوا عن أهل الإيمان شيئا، بل يتعاونون عليهم ويتعاضدون، ولو اختلفوا فيما عدا ذلك، فلا يهولن المؤمن اجتماعهم وتولي بعضهم بعضا؛ لأن الله تعالى هو ولي المتقين.



ورأينا هذه السنة الربانية في كل قضايا المسلمين المعاصرة بدءا بقضية فلسطين التي احتلها اليهود بمعونة البروتستانت، ثم آزرهم الكاثوليك بعد ذلك، وخضع لهم الأرثوذكس، كما أيدهم العلمانيون من رأسماليين وشيوعيين، على ما بينهم من خلافات كثيرة، وحروب مستعرة. وآخرها قضية سوريا التي اقتسموا الأدوار فيها حتى آلت الشام إلى ما آلت إليه من تدمير وخراب، وقتل بمئات الآلاف، وتهجير بالملايين، في زمن رفع لافتات حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وحقوق الطفل.



ومن كان يظن أن الصليب الأرثذوكسي المطعم بالشيوعية المادية سيقف مع العمامة الصفوية المتعصبة التي وقفت من قبل مع النصيري العلماني مع أن المذهب الإمامي يكفر النصيرية ويستحل دماءهم؟! وبقية اللاعبين من بروتستانت وكاثوليك وملاحدة يمسكون بالضحية للذابح بمبادرات ومقترحات؛ ليستمر العذاب بالمعذب، وليقتل المجرم أكبر قدر ممكن من المؤمنين. وبين القضيتين الفلسطينية والسورية عشرات القضايا للمسلمين التي والى فيها الظالمون بعضهم بعضا لسحق المؤمنين، والاجتماع عليهم، واقتسام الأدوار بينهم. فهذا الجانب من هذه السنة الربانية واضح وضوح الشمس، ورآه من عاشوا عصرنا رأي العين.



وأما الجانب الآخر من هذه السنة الربانية التي تخبر عنها الآية الكريمة ﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأنعام:129] فهو تسليط الظالمين بعضهم على بعض، فالظالم يسلط عليه ظالم مثله أو أشد ظلما منه، وكما قيل: من أعان ظالما على ظلمه سلط عليه، وقيل أيضا: وما ظالم إلا سيُبلى بظالم. وقرأنا في التاريخ عبرا كثيرة في ذلك. وكم من ظالم تسلق على جثث ضحاياه بأعوان أعانوه على ظلمه، ثم سحقوه بعد ذلك، ولا يزال الظالمون يسحق بعضهم بعضا، وفي حادثة التتار سهل ابن العلقمي احتلالهم بغداد لذبح أهل الإيمان، فسلطوا عليه فأذلوه حتى مات كمدا بعد أشهر قليلة من خيانته الشنيعة. وفي عراق اليوم لا زال الصفويون يذلون من شاركوهم الخيانة، وأعانوهم على الظلم، وسيسلط على الصفويين من يقتص منهم من أهل الحق أو من يبالغ في ظلمهم من أهل الباطل؛ فإن سنة الله في تسليط الظالمين بعضهم على بعض لا تتخلف ولا تتبدل ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ﴾ [الأحزاب: 38].



بارك الله لي ولكم في القرآن...



الخطبة الثانية


الحمد لله حمدًا طيِّبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.



أما بعد:

فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ [البقرة:48].



أيها المسلمون:

قد يبدو للناظر لأول وهلة أنه لا قبل لأهل العدل والإيمان بمواجهة أهل الظلم والطغيان بشتى مللهم الكفرية ومذاهبهم النفاقية، ولا سيما أن الأحداث تلو الأحداث تكشف عن تحالفات خبيثة، ومخططات رهيبة ضد أهل الإيمان، تعمد إلى فنائهم، واقتسام بلدانهم، وقهرهم بالعمائم الصفوية، ولكن سنة الله تعالى المذكورة في القرآن تفيد عكس ذلك؛ ففي شأن المنافقين قال الله تعالى ﴿ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 61- 62].



وفي شأن الكفار قال تعالى ﴿ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الفتح: 22- 23].



فإنهم وإن والى بعضهم بعضا، وتعاضدوا وتناصروا على أهل الإيمان، واقتسموا الأدوار فيما بينهم؛ فإنهم لن يصمدوا أمام أهل الإيمان، ولن يحققوا غايتهم في محوهم من الوجود.



ومعرفة المؤمنين لهذه السنة الربانية لن تزيدهم إلا تمسكا بإيمانهم، وذودا على حقهم، ودفعا للظلم عنهم؛ فإنهم منصورون، ولن ينفع الظالمون تولي بعضهم بعضا، بل سيخذلون ساعة الحسم.



ويستفيد أهل الإيمان بمعرفة هذه السنة: مجانبة الظلم بشتى أنواعه، وعدم استقلال القليل منه؛ لئلا تجري عليه سنة الله تعالى في الظالمين.




كما أن معرفة هذه السنة سبب للحذر من الكفار والمنافقين؛ لأن بعضهم يوالي بعضا، ولو صاح إعلامهم بخلاف ذلك؛ فالجعجعة شيء، والفعل شيء آخر، وقد رأينا العمائم الصفوية ترتمي في أحضان الشيطان الأكبر، ورأينا أبواق الصمود والممانعة انقلبت رأسا على عقب، وكم من أحداث مباركة كشفت خبايا كان كثير من الناس عنها غافلين، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.



وصلوا وسلموا على نبيكم...






فتية الكهف

$
0
0
فتية الكهف


عبدالله بن عبده نعمان العواضي







إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70-71].




أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.




أيها المسلمون، يا أهل الجمعة، لعل الكثير منكم قرأ اليوم سورة الكهف؛ فقد جاء الترغيب في قراءتها هذا اليوم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين)[2].




إن هذه السورة الكريمة أنزلها الله تعالى على رسوله محمد عليه الصلاة والسلام في مكة حينما بلغ أذى المشركين للمسلمين الغاية، فجاءت هذه السورة لتفتح للسابقين الأولين أبواب الفرج، وترسم أمامهم طريق الأمل، وسبيل الخروج من الضيق الذي يعانونه إلى سعة عظمى تنتظر موكبهم الكريم.




ولقد كان من وسائل التأثير التي اتخذتها هذه السورة: وسيلةُ القصة، فكان من القصص التي ذكرتها: قصة أصحاب الكهف، وهي أول قصة فيها. يقول الله تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ﴾ [الكهف: 9] إلى قوله تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 26].




عباد الله،

هذه قصة شبانٍ آمنوا بالله وحده بين قوم يعبدون غير الله تعالى، فلم يستطيعوا أن يجهروا بالحق في بيئة تعج بالشرك والمشركين، فخرجوا من أرض قومهم إلى كهف قريب من مدينتهم ليعبدوا الله فيه. فضرب الله تعالى على آذانهم النوم فناموا أكثر من ثلاثمائة سنة، وبقوا تلك المدة على حالتهم لم يتغيروا. ثم أيقظهم الله عز وجل بعد ذلك فقاموا من نومهم وظنوا أنهم ما ناموا إلا يومًا واحداً؛ فأجسادهم لم تتغير وشعورهم كما هي عليه وأظفارهم لم تطل[3]. فاحتاجوا إلى الطعام فأرسلوا واحداً منهم إلى المدينة لجلب ذلك، فرجع بالطعام إلى رفاقه، وقد كُشف أمرهم لأهل المدينة، بالدراهم التي اشترى بها صاحبهم[4]. فأماتهم الله تعالى بعد أن أطلع أهلَ المدينة على قصتهم؛ لتكون للناس عظة وعبرة.




أيها المسلمون،

هذه القصة قصة عجيبة؛ ولذلك تداولتها الأجيال جيلاً بعد جيل إلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآيات على رسوله عليه الصلاة والسلام ليبين أنها قصة فيها عظات وعبر، لكنه يقول لرسوله وللناس: إن في خلق الله ما هو أعجب من ذلك. يقول تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ﴾ [الكهف: 9]. والرقيم: هو اللوح الذي كتبت فيه أسماؤهم.




لقد أجمل الله تعالى قصتهم في ثلاث آيات بيّن فيها خروجهم ودعاءهم ثم إماتتهم ثم إيقاظهم. قال تعالى: ﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 10] ﴿ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا [الكهف:11] ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ﴾ [الكهف: 12]. وهذا الأسلوب القائم على الإجمال ثم التفصيل مما يشوق المتابع للقصة؛ فقد جاء التفصيل بعد هذا الإجمال يبين للناس أن القرآن الكريم سيذكر خبرهم العجيب كما هو عليه من غير تحريف ولا كذب كما هي عادة بعض القُصّاص، وكما هي عادة القصص التي تتناقلها الألسنة. فبين تعالى أن هؤلاء المؤمنين كانوا شيابًا آمنوا بالله تعالى وزادهم الله ثباتًا وهدى وقوّى قلوبهم لاتباع الحق بين قومهم المشركين الذين حادوا عن سبيل الحق فعبدوا غير الله تعالى من غير برهان فجأوا بأعظم فرية. قال تعالى: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ [الكهف: 13 - 15].




عباد الله:

إن هؤلاء الشباب الصالحين عندما عرفوا الحق لم يترددوا في قبوله والتضحية في سبيله؛ فقد فارقوا الأهلَ والجيران والمحبوبات والوطن فاعتزلوا؛ فراراً بدين الله تعالى كما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مخلّفين وراءهم علائق دنياهم ليفوزوا بدينهم. وهذا فيه رسالة للناس وخاصة للشباب؛ -لأنهم أصحاب أذهان صافية فهم أسرع لقبول الحق-، هذه الرسالة مضمونها: أن الدنيا بجميع ملذاتها ومتعلقاتها إذا كانت تقف عائقًا أمام الحق فإنها تترك وتهجر، ويُنتقل عنها إلى المكان الذي يسهل لزوم الحق فيه والعمل به. قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 100].




أيها الأحبة الكرام:

إن البيئة الفاسدة عقديًا وعمليًا وخُلقيًا تؤثّر على الإنسان الصالح مع مرور الزمن، فهؤلاء الشباب كانوا يستطيعون أن يخفوا إيمانهم بين قومهم ويعبدون الله في السر. لكنهم خافوا إن استمروا بين قومهم وهم يرون تلك المنكرات؛ فلذلك لجأوا إلى العزلة التي وجدوا فيها صلاحَ الدين والدنيا. قال تعالى: ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ﴾ [الكهف:16]. فوصلوا إلى الكهف فضرب الله تعالى عليهم النوم الطويل فناموا، فحفظ الله أجسامهم من البلى فلم تأكلها الأرض خلال تلك المدة الطويلة. وكان من إكرام الله لهم أن الشمس إذا طلعت من المشرق تميل عن مكانهم إلى جهة اليمين، وإذا غربت تتركهم إلى جهة اليسار، فلا تؤذيهم حرارة الشمس ولا ينقطع عنهم الهواء. قال تعالى: ﴿ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ﴾ [الكهف: 17 - 18].




أيها المسلمون:

إن المسلم إذا كان من الاتقياء الصالحين الذين آثروا الآخرة على الدنيا، وقدموا مرضاة الله على شهوات أنفسهم فإن الله يرعاهم ويحوطهم بعنايته وحفظه، ويدفع عنهم السوء بقدر ما عندهم من الإيمان والعمل الصالح. قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل:128]، وقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ﴾ [الحج:38].




ويجعل من أحوالهم عبرة للمعتبرين يتعظون بها، وتسلك بالاقتداء بهم طريقُ الحق أحياء وأمواتًا. وهذا يربي المسلم على أن القيام بالحق باطنًا وظاهراً يرفع شأن صاحبه، ويصبح له درعًا حصينة تدفع عنه الضر. ﴿ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الشورى:36].




عباد الله:

وكما أن الله جعل بهم آية حينما أنامهم تلك المدة الطويلة حافظًا لهم، أيقظهم بعد ذلك دون تغير. فجعل بعضهم يسأل بعضًا عن المدة التي ناموها، فقال بعضهم: نمنا يومًا أو بعض يوم، وبعضهم فوّض الأمر إلى الله تعالى. وانشغلوا بما هو أهم لهم من معرفة الزمن الذي لبثوه وهو البحث عن الطعام، فأرسلوا واحداً منهم إلى السوق ليشتري لهم طعامًا، وكانت لديهم عُملة من الفضة، وحذروا صاحبهم من أي عمل يعمله يكون سببًا لكشف أمرهم؛ لأن أهل المدينة لو اطلّعوا عليهم فإنهم إما أن يقتلوهم وإما أن يردوهم إلى الكفر بالله تعالى. وهم لا يدرون أن أهل جيلهم قد ماتوا وجاء جيل آخر عقبهم. قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ﴾ [الكهف: 19- 20].




عباد الله:

إن هاتين الآيتين تشيران إلى أن على الإنسان أن لا يشغل بالَه بالأشياء التي لا تُعلم أو التي لا فائدة من معرفتها، بل عليه أن يشغل نفسه بما ينفعه من أمر دينه ودنياه. وأن على المسلم أن يتحرى الحلالَ الطيب فيأخذه ويترك الحرام الخبيث فيجتنبه. وأن عليه أن يكون حذراً من الأمور المكروهة، ويتخذ الوسائل المناسبة لحمايته منها، وأن لا يتمنى لقاء الفتن، ويسأل الله العافية منها؛ فإنها لو أصابته في دينه فاستجاب لها فقد يموت عليها ويخسر بذلك خسرانً مبينا.




أيها المسلمون، فلما كشف البائعُ أمرَ الدراهم بدأ خبر الفتية ينتشر في المدينة، ولعل أهل تلك المدينة قد تناقلوا الخبر عمن قبلهم بأن فتية تركوا المدينة في ذلك الزمن. وكان أهل المدينة وقت إيقاظ هؤلاء الفتية مؤمنين فكان في ذلك عبرة وآية على إمكان البعث، وتقوية لإيمان أهل المدينة بيوم القيامة؛ لوجود المنكرين والمشككين في زمانهم، فكانت هذه الحادثة رداً على المنكرين، وتقوية لإيمان المؤمنين[5].




فلما رآهم أهل المدينة واطلّعوا على قصتهم أمات الله هؤلاء الفتية؛ لتمام حصول العبرة، فاختلف الناس المؤمنون ماذا يفعلون بهم؟ فقال بعضهم: نبني عليهم بنيانًا يمنع الناس من الاقتراب منهم؛ خشية أن يؤذوا أجسادهم، لكن أهل الكلمة والسلطان فيهم قالوا: نبني على مكانهم مسجداً للعبادة؛ إكرامًا لهم وتعهداً لهم. وقد كان اتخاذ المساجد على قبور الصالحين من سنة النصارى،[6] لكن في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم جاء النهي عن ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك) [7].




قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ﴾ [الكهف:21].




أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.




الخطبة الثانية


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، أما بعد،

أيها المسلمون:

لما شاعت قصة أهل الكهف صارت حديثَ النوادي والألسنة في ذلك الزمان وبعده، حتى اختلف أهل الكتاب في عدد هؤلاء الفتية على ثلاثة أقوال، حكم القرآن على اثنين منها بالإبطال؛ لأنها كانت قائمة على الظن والحدس، ولم يتعقب القولَ الثالث منها ليدل على صحته. فالقول الأول: أنهم ثلاثة رابعهم كلبهم، والقول الثاني: أنهم خمسة سادسهم كلبهم، والقول الثالث أنهم سبعة ثامنهم كلبهم، وهذا هو الصحيح.




لكن الله تعالى نهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن مجادلة أهل الكتاب واستفتائهم في شأنهم؛ لأنهم لا علم لهم بذلك على وجه الحقيقة، ولأنه لا عبرة من معرفة العدد، إنما العبرة بحصول الحدث. قال تعالى: ﴿ سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ﴾ [الكهف:22].




عباد الله، ذكر الإمام الطبري في تفسيره أن المشركين لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مختبرين له - كما علمهم أهل الكتاب - عن أهل الكهف وعن ذي القرنين وعدهم صلى الله عليه وسلم بالإجابة عن سؤالهم الغد، ولم يقل: إن شاء الله، فلم يأته جبريل إلا بعد خمسة عشر يومًا، وقيل غير ذلك، وأنزل الله تعالى: ﴿ وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ﴾ [الكهف:24].




وهذا يعلمنا قول: إن شاء الله عند إرادة الفعل في المستقبل، وأن نذكر الله عند النسيان؛ لأن ذكر الله يذّكر الإنسان ما نسي. ثم أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالمدة التي بقي فيها أهل الكهف نيامًا في كهفهم أنها ثلاثمائة سنة بالتاريخ الشمسي الذي كان عليه أصحاب الكهف وهو تاريخ الروم النصارى، وبالتاريخ القمري - وهو تاريخ العرب والمسلمين - ثلاثمائة وتسع سنين[8]. وذلك أن الفرق بين التاريخ الشمسي والقمري سنة قمرية زائدة في كل ثلاث وثلاثين سنة شمسية، ففي ثلاثمائة سنة شمسية تسع سنوات قمرية، قال تعالى: ﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ﴾ [الكهف:25].




أيها الأحبة الكرام:

ثم ختم الله تعالى القصة بدرس عظيم وهو أن على الإنسان إذا سئل عن شيء لا يعلم الجواب عنه أن يكل أمره إلى الله تعالى، وبهذا أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم. وفي نهاية القصة أشار سبحانه وتعالى إلى سعة سمعه وبصره وإحاطته بخلقه، وأنه لا وليَ للخلق من دون الله تعالى، وأنه المتفرد في حكمه بين عباده من غير شريك. قال تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف:26].




فيا أيها المسلمون، ينبغي لنا أن نستحضر هذه المعاني عند قراءة هذه القصة يوم الجمعة وفي غير الجمعة؛ لكي نستفيد علمًا وعملا. نسأل الله تعالى أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا.




هذا وصلوا وسلموا على نبينا محمد...







[1] ألقيت في مسجد ابن الأمير الصنعاني، صنعاء، في 29/5/1436هـ، 20/3/2015م.




[2] رواه الحاكم والبيهقي، وهو صحيح.




[3] ينظر: فتح القدير، للشوكاني (3/ 392).




[4] ينظر: تفسير ابن كثير (3/ 96).




[5] ينظر: التحرير والتنوير، لابن عاشور (15/ 41)، تفسير ابن كثير / دار طيبة (5/ 146).





[6] ينظر: أضواء البيان (2/ 301)، أيسر التفاسير للجزائري (3/ 248)، تفسير ابن كثير / دار طيبة (5/ 147).




[7] رواه مسلم.




[8] ينظر: البحر المديد، لابن عجيبة(4/ 219).







۩۞۩ أوسمة نبوية ۞ لا حسد الا في اثنتين ۞ الدكتور عمر المقبل ۩۞۩

$
0
0

أوسمة نبوية - الدكتور عمر المقبل

.(((((( لا حسد الا في اثنتين )))))).


رابط فيديو avi جودة ممتـــازة:
رابط فيديو rm جودة متوسطـة:
رابط فيديو mp4 جودة عاليــة:
رابط صوت mp3 جودة عاليـة:
رابط صوت wma جودة عاليـة:


المشاهدة المباشرة

جزاكم الله خيرا
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد

وعلى آله وصحبه وسلم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بين رد فعل موسى والسحرة

$
0
0
بين رد فعل موسى والسحرة
محمد علي يوسف


ونلاحظ فارقاً ظاهراً بين رد فعل السحرة على وعيد فرعون، ورد فعل موسى - عليه السلام - حين التقى الجمعان، وقال أصحابه: (إنا لمدركون)، فمع اعتبار فارق مقام النبوة إلا أن موسى - عليه السلام - كان لديه وعد قطعي محدد فيه جزم بأن الله - تعالى - معه هو تحديداً (إنني معكما أسمع وأرى)، وأنه لا محالة غالب عدوه (بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون)، لذلك كان رد فعله يقيناً قاطعاً في وعد محدد له هو بعينه وفي حياته.
هنا قال للمشككين والمهتزين والمرجفين بجزم قاطع: (كلا إن معي ربي سيهدين)
قضية منتهية لا يوجد لديه ذرة شك فيها.
أما السحرة فلم يكن لديهم مثل ذلك الوعد القطعى المحدد لأعيانهم، والذي يقطع لهم من الله بالنجاة الدنيوية من قبضة الطاغية، لكن مع ذلك كان رد فعلهم الصدع بالحق، والثبات عليه (لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا) جنباً إلى جنب مع التسليم الكامل لقضاء الله في عزة، واستعلاء على الباطل بلا أدنى ذلة، أو استكانة، أو وهن (فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا).
بل تراهم ثبتوا وأقدموا، وأمَّلوا خيراً عند من هم إليه راجعون معلنين: (لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون)، ثم أعلنوا الرغبة فيما عند الله، والاستبشار بجزائه الذي هو خير وأبقى (إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى).
الخلاصة أنهم لم يجزموا بنجاتهم في الدنيا؛ لكنهم التزموا حدودهم البشرية، ولم يتألوا على رب البرية بأن ينسبوا إلى أنفسهم ما لم ينسب لها، أو يخصوها بخصوصية زائدة، أو يقيدوا وعداً أطلقه الله - سبحانه -.




الولاء والبراء بين الإفراط والتفريط

$
0
0
الولاء والبراء بين الإفراط والتفريط
. عبدالله التميمي

الولاء والبراء بين الإفراط والتفريط

الحمدلله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد:

فإن المتأمل فيما يدور اليوم من نوازل عظيمة في ديار المسلمين ليأخذه الفزع والخوف على إيمانه ودينه وذلك مما ظهر في هذه الأحداث ويظهر من فتن وابتلاءات يمتحن الله عز وجل فيها إيمان عباده ولاسيما عقيدة الولاء والبراء التي هي صلب التوحيد .

ولمن يكون ولاء المسلم ولمن لايكون ، ولمن تكون براءته ولمن لا تكون ، وذلك في هذا الصراع الذي تشهده الأمة بين معسكر الإيمان والتوحيد وبين معسكر الكفر والشرك والردة والنفاق .

ولقد تعرضت عقيدة الولاء والبراء كغيرها من أبواب العقيدة إلى الانحراف عن الموقف الوسط العدل حيث افرزت هذه الابتلاءات والمحن فريقين من الناس مالوا بهذه العقيدة عن وسطيتها وثبت الله عز وجل أهل الحق وحماهم من الميل إلى أي من الفريقين

الفريق الأول : أهل التفريط والإضاعة

الفريق الثاني : أهل الغلو والإفراط وقبل ذكر تفاصيل بعض مظاهر هذين الفريقين وأحوالهما أود تقرير بعض الأمور المتعلقة بهذا الأصل العظيم من أصول التوحيد لأهميتها في بيان وجه الحق في هذه المسألة العظيمة.

الأمر الأول : إن المتدبر لآيات الولاء والموالاة والبراءة من المشركين في كتاب الله عز وجل يتقرر عنده أن عقيدة الولاء والبراء هي صلب التوحيد وأنها قضية إيمان وكفر وتوحيد وشرك وليست قضية جزئية فرعية. إن كلمة التوحيد (لا إله إلا الله ) نصفها براءة من الشرك والمشركين من قول (لا إله ) ونصفها الآخر ولاء لله عز وجل بإفراده سبحانه بالعبودية وذلك من قوله ( إلا الله )

الأمرالثاني : كما أن المستقرئ لآيات الولاء والبراء في القرآن يخرج بنتيجة مهمه ألا وهي أنه ليس في كتاب الله عز وجل في الكلام على التوحيد من الأدلة أبين وأوضح وأكثر من الحديث عن الولاء والبراء لأنه الصورة العملية والتطبيقية لكلمة التوحيد.

الأمر الثالث : ومع هذا الوضوح والبيان عن هذه العقيدة فإنا نرى الغياب المذهل لهذه العقيدة عن واقع كثير من المنتسبين للإسلام والانشغال عنها بالاستغراق في ملذات الدنيا وشهواتها

الأمر الرابع : في قراءة التاريخ واستقراء السنن الالهية يتضح لنا ان الذين يتولون الكفار من دون المؤمنين يعاقبهم الله بنقيض قصدهم فبينما هم يقصدون العزة بتولي الكفار فإن أمرهم يؤول إلى نقيض ذلك حيث يقهرهم الكفار ويذلونهم ويستعبدونهم {الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا} [النساء 138]

الأمر الخامس : بيان معنى الولاء والبراء: الولاء يعني المحبة والنصرة ولذا لايجوز صرفها لغير الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين قال الله عز وجل {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } [المائدة 55] ومن لوازم محبة الله عز وجل محبة من يحبه الله وما يحبه وبغض من يبغضه وما يبغضه.

أما موالاة المؤمن فإنها تجب في حقه الموالاة المطلقة إذا كان من الأتقياء الصالحين ، أما إذا ظهر عليه الفسق وفعل المنكرات فإن الموالاة المطلقة تنتفي في حقه، ويبقى مطلق الموالاة لبقاء أصل الايمان لديه،بمعنى أنه لا يكون له الولاء الكامل من كل وجه،وإنما يوالى من جانب لإيمانه وصلاحه ،ويعادى من جانب آخر لفسوقه وعصيانه . أما الكافر والمشرك فينتفي في حقه مطلق الولاء فلا يبقى في القلب أي ولاء له وانما البراءة المطلقة منه.

والبراءة تعني البعد والبغض والعداوة وهذه لا تكون كاملة الا للكافر حيث البراءة المطلقة منه وأما بالنسبة للمؤمن العاصي فإنها تكون مقيدة حيث يكون له مطلق البراءة مع مطلق الولاء حيث يجتمع في حقة الولاء والبراء فلا يوالى بإطلاق لوجود المعاصي ولا يتبرأ منه بإطلاق لوجود أصل الايمان. إذاً يتحصل من هذا التفصيل الأحوال التالية:

1 – من يجب في حقه الولاء المطلق وهو المؤمن التقي الصالح.

2 – من يجب في حقه مطلق الولاء وينتفي عنه الولاء المطلق وهو المؤمن الفاسق بقدر فسقه فيوالى بقدر ما فيه من الايمان والصلاح ويتبرأ منه بقدر ما فيه من المعاصي والمنكرات فلا يوالى بإطلاق ولا يتبرأ منه بإطلاق .

3 – من يجب في حقه البراء المطلق،فيُتبرأ منه من كل وجه، وينتفي عنه مطلق الولا،فلا يوالى من أي وجه، وهو الكافر والمشرك والمرتد.

الأمر السادس : بيان الولاء المكفر وغير المكفر : سبق بيان أن مولاة الكافر لا تجوز بإطلاق ولكن موالاة الكفار ليست على درجة واحدة في الحكم والتحريم وإنما لها الاحكام التالية :

الحكم الأول : موالاة مكفرة ناقضة من نواقض الاسلام وهي التي يتلبس صاحبها بأحد امرين لا شك فيهما :

1 . محبة الكفار لأجل دينهم وأنظمتهم المناقضة لدين الاسلام .

2 . نصرة الكفار ومظاهرتهم في حربهم على المسلمين لاحتلال ديارهم أو فتنتهم عن دينهم .

الحكم الثاني : موالاة غير مكفرة لا تخرج صاحبها عن الاسلام وهي التي لا تدخل في صور الموالاة المكفرة السابقة الذكر وانما هي دون ذلك ولها صور وأحوال وأحكام فقد تكون كبيرة محرمة وقد تكون دون ذلك كالتشبه بهم في لباسهم وهيئاتهم أو حضور أعيادهم أو مداهنتهم والسكوت على منكراتهم وقد يكون بعض صور الموالاة للكفار ظاهرها ولاء ولكنها غير محرمة وذلك في إظهار الموافقة لهم في بعض المسائل المخالفة لشرعنا تقية ومدارات لشرهم وضررهم أو يكون هناك مصلحة للمسلمين في إظهار موالاتهم لخداعهم في الحروب والتجسس عليهم كما قرر ذلك شيخ الاسلام بن تيميه رحمه الله تعالى بقوله: (ومثل ذلك اليوم لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأموراً بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر لما عليه في ذلك من الضرر بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين أو الاطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الشرعية ){ اقتضاء الصراط المستقيم 1/176 } إن عدم التفريق بين المداهنة المحرمة والمداراة الجائزة أو بين الولاء المكفر وغير المكفر وجعل كل صور الموالاة مكفرة أو غير مكفرة دون تفصيل في ذلك هو الذي أدى ببعض الدعاة أو المجاهدين إلى الإفراط أو التفريط في الحكم على الناس واتخاذ المواقف. وبعد هذا التفصيل في هذه المسائل المهمة ندخل إلى صلب الموضوع ألا وهو ذكر الطرفين والوسط في تناول عقيدة الولاء والبراء وذكر صور من ذلك :

الطرف الأول :

أهل التفريط والاضاعة :
وهم الذين فرطوا في فهمهم وتطبيقهم لهذه الشعيرة العظيمة ووقعوا في موالاة الكفار ومداهنتهم بحجة المداراة والتقية أو بعض التأويلات الخاطئة ولم يفرقوا بين المحرم منها وبين المخرج منها من الملة بل هي عندهم إما جائزة أو محرمة لا تخرج من الملة، ومع النصوص الصريحة في كتاب الله عز وجل التي تحذر من موالاة أعداء الله من الكفار والمنافقين إلا أننا نشهد اليوم ضعف هذه العقيدة في بعض النفوس وتساهل كثير من الناس في الأخذ بها وتحكيمها في المعاملات والمواقف .

وقبل أن أذكر أمثلة لهذا الضعف والتفريط في عقيدة الولاء والبراء أسوق آية من كتاب الله عز وجل وحديثاً من الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتضح منهما خطورة إثم موالاة الكفار والوقوف في خندقهم وعدم البراءة منهم. فأما الآية فهي قوله تعالى : {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا} [النساء 97 ] ذكر عامة المفسرين أن هذه الآية نزلت في قوم أسلموا بمكة قبل الهجرة فلما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة تخلفوا عن الهجرة فلما كان يوم بدر حملهم الكفار مع أنفسهم إلى بدر كرهاً فقتلوا بين الكفار. ويقول القرطبي رحمه الله تعالى عند قوله {فيم كنتم}: (وقول الملائكة {فيم كنتم} سؤال تقريع وتوبيخ ،أي أكنتم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أم كنتم من المشركين } القرطبي 5/346 ويقول البغوي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالي {فيم كنتم } )أي في ماذا كنتم أو في أي الفريقين كنتم ؟ افي المسلمين أم المشركين(البغوي 2/272) ويقول السعدي رحمه الله تعالى عند قوله {فيم كنتم}: (أي على أي حال كنتم، وبأي شيء تميزتم عن المشركين بل كثرتم سوادهم وربما ظاهرتموهم على المؤمنين وفاتكم الخير الكثير والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والكون مع المسلمين ومعاونتهم على أعدائهم) تفسير السعدي ص 195 وفي ضوء هذه الآية الكريمة ينبغي للمسلم اليوم وفي هذا الصراع المرير الذي تشن فيه الحرب على الاسلام من كافة قوى الكفر العالمية ومن والاهم وحالفهم من المنافقين .

على المسلم ان يحدد موقفه من هذا الصراع وأهله وأن يعد لهذا السؤال العظيم { فيم كنتم } جوابه ويحدد موقفه في أي الفريقين يكون ؟ وأما الحديث فهو قوله صلى الله عليه وسلم ( لاتزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس ) (مسلم (1037) ففي هذا الحديث قسم النبي صلى الله عليه وسلم الناس في الصراع بين الحق والباطل الى ثلاثة اقسام :

1. قسم ناصر لدين الله عز وجل مجاهد في سبيله موال لأوليائه معاد لأعدائه

2. قسم مخالف لأهل الحق معاد لهم محارب لهم سواء من أهل الكفر والنفاق أو من يواليهم ويناصرهم.

3. قسم خاذل تارك لمعونة أهل الحق القائمين بأمر الله مخذل لهم معتزل للكفار ظان أنه ناج بهذا الموقف. ففي أي هذه الاقسام الثلاثة تضع نفسك أيها المسلم ولمن تعطي ولاءك ؟ أنه امتحان عظيم لصدق الولاء والبراء في قلبك .

وبعد هذه الآية وهذا الحديث أسوق بعض الصور والمواقف التي تدل على ضعف الولاء والبراء أو زواله عن بعض النفوس حيث ان هذه الاحداث والنوازل المعاصرة يمتحن الله عز وجل فيها صدق ايمان المؤمنين وصدق ولائهم لله عز وجل ولرسوله وللمؤمنين وصدق براءتهم من الشرك والمشركين والنفاق والمنافقين

الصورة الأولى : تولي أعداء الله الكفرة ومناصرتهم ومظاهرتهم على المسلمين ولاسيما أهل السنة منهم .

الصورة الثانية : تولي أعداء الله الكفرة بتمجيد مبادئهم وأنظمتهم الكفريه التي تستحل ماحرم الله وتحرم ما احل الله والحكم بها في ديار المسلمين وتغريب مجتمعات المسلمين

الصورة الثالثه : مع وضوح هذا التولي للكفار في الصورة الاولى والثانية وتعري أهله في ظل الأحداث المعاصرة فإنا نجد بعض المسلمين يثني على هؤلاء الظلمة الذين يتولون أعداء الله ويكيلون لهم المدائح والتبجيل

الصورة الرابعة : إعطاء الولاء لتلك الروابط الجاهلية كالوطنية والقومية وتقديمها على رابطة الدين والموالاة والمعاداة على ذلك، إن أي آصرة من هذه الأواصر الجاهلية التي يعطي كثير من الناس ولاءهم على أساسه ويقدمها على رابطة الدين هي أواصر فاسدة باطلة شرعاً فإن الله عز وجل يأبى على المسلمين أن يعطو ولاءهم الا لمن ارتبط معهم برباط الايمان والاسلام فلا ولاء في الاسلام الا على أساس هذا الدين وما سواه باطل قال الله عز وجل : {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الانعام 14] وقال سبحانه عن نبيه نوح عليه الصلاة والسلام {ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين} [هود 45-46 ]

الصورة الخامسة : معاداة وبغض الجماعات الاسلامية المنتسبة لأهل السنة التي تدعو إلى الله عز وجل في مجتمعات المسلمين أو الفصائل المجاهدة في سبيل الله والوقوف مع الأنظمة العلمانية في محاربتهم بحجة بعض الأخطاء التي يرتكبها بعض هذه الجماعات.

إن الأفراد والتجمعات والجماعات الإسلامية التي تعمل في الساحة الاسلامية داخل دائرة أهل السنة والجماعة على امتداد العالم والتي تجاهد وتضحي بكل غال ونفيس من أجل إقامة دين الله في الأرض ، إن هؤلاء جميعا يمثلون اليوم جزء من حزب الرحمن ومعسكر الحق والإيمان وإن وجد عندهم بعض الأخطاء.

وعن أهمية الموالاة والمعاداة في الله يقول الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى ( إن الواجب على الرجل أن يعلم عياله وأهل بيته الحب في الله والبغض في الله والموالاة في الله والمعاداة فيه مثل تعليمهم الوضوء والصلاة لأنه لا صحة لإسلام المرء إلا بصحة الصلاة ولا صحة لإسلامه ايضاً الا بصحة الموالاة والمعاداة في الله (الرسائل الشخصية للامام محمد بن عبدالوهاب ص 323 ) ويقول ابن عقيل رحمه الله تعالى ( إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك وانما انظر الى مواطأتهم أعداء الشريعة (الاداب الشرعية 1/299)

الصورة السادسة : ما يتعرض له بعض الفصائل المجاهدة من ضغوط عسكرية ومالية وحلول سياسية تدفع بهم إلى أن يقدموا بعض التنازلات والجلوس مع العدو الكافر المجرم على مائدة المفاوضات كما تضطر بعضهم ممن لم يقبل بالحلول السياسية إلى قبول المساعدات المالية المشروطة من بعض الدول التي لها أهدافها من هذه المساعدات وليس قصدها حب الإسلام والمجاهدين ونحن نتفهم أن بعض المجاهدين في بعض الظروف القاهرة قد يضطرون من باب السياسة الشرعية وفقه الموازنات والمدارات أن يحاوروا العدو الكافر أو من يسانده أو يهادنوه لكف شره وقد يضطروا للأستعانة مالياً أو عتاداً حربياً بالكافر حسب شروط معروفة وضعها أهل العلم وليس هذا مكان تفصيلها ولكن هذه الضرورة محكومة بضوابط وشروط إن لم تتوفر فلا يجوز حينها ارتكاب المحظور الشرعي واستباحته .

والمراقب فيما يحصل من مؤامرات على المشروع الجهادي بعامة والجهاد الشامي بخاصة يلحظ عدم توفر بعض هذه الضوابط والشروط في ماحصل من تنازلات .

ومن أهم هذه الشروط أن لا يمس التنازل الثوابت الشرعية والأصول الاعتقادية والرضى بما يخرمها أو يهدمها ومن ذلك عدم التنازل عن مقصد الجهاد وما بذل فيه من الأرواح والأموال ألا وهو ان يكون الدين كله لله وأن تكون الشريعة هي الحاكمة المهيمنة في حياة الناس أما الرضا بإملاءات الاعداء من كفار ومنافقين في اقصاء الاسلام عن الحكم والرضا بحكومة علمانية ديموقراطية فهذا خيانة للجهاد وضرب من ضروب الموالاة للكفار والمنافقين ومن موالاة الكفار التي يقع فيها بعض الفصائل المجاهدة وهي خطيرة أن يستعينوا أو يقبلو بعرض الكفار لمساعدتهم لقتال فصيل آخر من فصائل المجاهدين مهما كان عند هذا الفصيل أو ذاك من أخطاء أو بدع فما دام أنه من أهل القبلة ويقاتل الكفرة فإن قبول مساعدة الكافر في حربه بغطاء جوي أو مساعدات لو جستيه يعد نوع من أنواع الموالاة للكفار على المسلمين ولا سيما اذا كان الكافر المستعان به له التمكين والصدارة والكلمة

الصورة السابعة : التألم لما يصيب الكفار في ديارهم من الكوارث أو قتل من يقتل منهم من رعايا الدول التي أعلنت حربها على المسلمين أو المسيئين لدين الإسلام ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم أو من اللوطية والشاذين منهم والتعاطف معهم وتعزيتهم في الوقت الذي لا نجد مثل هذا التعاطف والتناصر مع اخواننا المسلمين وما يعانونه من ما يقوم به الغرب الكافر وعلى رأسه أمريكا الطاغية من قتل وتشريد وتعذيب مئات الآلاف من المسلمين أطفالاً ونساءً ورجالاً بطائراتهم المسيرة وغير المسيرة.

إن مثل هذه الموقف تدل على ضعف الولاء للمؤمنين وضعف البراءة من الكافرين.

الصورة الثامنة : وهذه الصورة شائعة في أوساط مجتمعات المسلمين ولم يسلم منها إلا من رحم الله تعالى ألا وهي التشبه بالكفار في هديهم وعاداتهم ولباسهم ومآكلهم وأعيادهم مما يعد سمة لهم وهدياً معروفاً لهم والمقصود الإشارة إلى هذا النوع من موالاة الكفار وليس المقام مقام تفصيل هذه الأحوال ومن أرد التوسع في مسالة التشبه بالكفار وصوره وأحكامه فليرجع إلى الكتاب النفيس لشيخ الاسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ) ومما يلحق بهذه الصورة مؤانسة الكفار لغير مصلحة والانبساط معهم وتقديمهم في المجالس واحترامهم ومداهنتهم بالسكوت على المنكرات والمجاهرة بها وتهنئتهم بأعيادهم ومشاركتهم فيها وغيرها من صور المداهنة.

الطرف الثاني :

أهل الإفراط والغلو:
وهذا هو الفريق الثاني الذي مال بقضية الولاء والبراء عن طريق أهل الاستقامة والعدل حيث جنح في مسألة الولاء والبراء الى التشديد فيها بأن أدخل في موالاة الكفار ماليس منها أو جعل الصورة المحرمة من موالاة الكفار ولاءً مكفراً مخرجاً من الملة .

أو نظر إلى المداراة المطلوبة شرعاً مع الكافر المتسلط بأنها نوع من أنواع المداهنة والموالاة المكفرة ولم يراع أبواب السياسة الشرعية وفقه الموازنات فيما يواجه بعض الدعاة والمجاهدين من نوازل وتعارضات بين المصالح والمفاسد.

هذا وإن كنا نقدر حرص هذا الطرف وغيرته على الدين وثوابته ونفترض حسن قصده إن شاء الله تعالى إلا أن حسن القصد إن لم يقترن بصحة الفهم للمناط المكفر وغير المكفر من الولاء والبراء وفهم الواقع ومدى توافر الشروط وانتفاء الموانع فقد يجنح بصاحبه إلى مجانبة الصواب في المواقف والأحكام فالعبرة بموافقة العمل للشريعة فإن كان مخالفاً لها فلا أثر لحسن النية في الحكم على الفعل ومن خطورة هذه المواقف المتشددة أنها لا تقف عند مجرد الحكم بالكفر والردة على ماتراه من وقوع في الموالاة المكفرة بل يواكب ذلك غالباً عندها استباحة الدماء والأموال لمن وقع في هذا النوع من الموالاة ولتوضيح ماذكر أسوق بعض الصور لهذه المواقف المُفْرِطة :

الصورة الاولى :
النظر الى من يرى جواز العمل السياسي مع الحكومات العلمانية والعمل الديموقراطي هذا من الموالاة المكفرة المخرجة من الملة دون أن ينظر من أصدر هذا الحكم إلى أصناف من يدخلون في العمل الديمقراطي هل هم ملاحدة علمانيون أم إسلاميون من جماعات إسلامية أو مستقلون ودون النظر إلى أهداف الاسلاميين وتأويلاتهم في ذلك وغيرها من المعارضات الشرعية التي تمنع من تكفيره ولا تمنع من تأثيمه ومع أننا لا نوافق على دخول مسلم لمثل هذه المجالس الكفرية ونرى أن في ذلك إثماً عظيماً إلا أننا لا نحكم بكفرهم بمجرد دخولهم لوجود موانع تمنع من ذلك وعليه فإن الحكم على كل من دخل في هذه المجالس أنه وقع في الموالاة المكفرة فيكون بذلك مرتداً فإن هذا نوع من الافراط والغلو في فهم وتطبيق عقيدة الولاء والبراء والأشد من ذلك غلواً تكفير من لم يكفر من دخل في هذه المجالس ـو أجاز ذلك .

الصورة الثانية : الحكم على من جلس مع الكفارأو حاورهم أو صالحهم من الدعاة والمجاهدين لدرء شرهم عن المسلمين أو جلب مصلحة للمسلمين أن ذلك نوع من أنواع الموالاة المكفرة وبالتالي الحكم على أهلها بالردة المستلزمة عندها إباحة الدماء بل وصل الحال إلى أن من يثني عليه الكفار فهو موال لهم موالاة مكفرة وكذلك من اضطر الى الاستعانة بمال ممن يرونه كافراً فإن هذا من الموالاة المكفرة ولا أدري ان كان هذا الفريق قد اطلع على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وما فيها من الجلوس مع الكفار وعقد الصلح معهم واستعانته صلى الله عليه وسلم ببعض المشركين وعتادهم كما جاء ذلك في استعارته لأدرع صفوان ابن أمية يوم حنين ومفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم مع غطفان يوم الخندق على نصف ثمار المدينة ليرجعوا ودخوله مكة عندما رجع من الطائف في جوار مطعم ابن عدي وهو كافر .

والمقصود أنه ليس كل من جلس مع الكافر وحاوره يكون بذلك مرتداً وإنما لابد من التفصيل .

والتكفير وعدمه ينبني على ما ينبثق من هذه الجلسات والحوارات من اتفاقات إذ قد تكون مكفره وقد تكون محرمه وقد تكون جائزه يذكر الدكتور فهد العجلان حفظه الله تعالى سبباً لهذا الغلو فيقول : (غير أن ما جعل هذه الابواب وكأنها أبواب سهلة ميسورة هو أن البعض يحفظ قواعد كلية عامة فيرى ان المسألة واضحة جدا لا تحتاج لأي بحث أو نظر بل يطبقها مباشرة وحين يأتي من يعارضها لا يرى أن الموضوع يستحق المعارضة وإنما يفتش عن الخلل في دين المعارض او نيته بل حتى من يتحفظ أو يحتاط في الفتيا في قضايا الدماء والتكفير فمن السهولة بمكان أن يرمى بالأرجاء والجهل والخيانة ! فهو يحفظ مثلاً أن ( مظاهرة الكفار على المسلمين من نواقض الاسلام ) أو أن ( التشريع المخالف لما أنزل الله كفر ) وهذا حق لكنه يبني على معرفته الاجمالية اليسيرة لهذه النواقض كافة منظومته القضائية والفقهية مع أن كل طالب علم يدرك أن في هذه النواقض من التفصيلات والدقائق ما يتطلب بحثأ ونظراً وتوقفاً وحين ينتقل الى مرحلة تنزيلها على الوقائع والأعيان فهذا يتطلب تحفظاً أكثر كما ان ما تقتضيه من أحكام فقهية يتطلب علماً أوسع إلا ان صاحب المعرفة الاجمالية لا يدري عنها فيجعل جهله حجة له على جرأته ولهذا قيل أجرأ الناس على التكفير أقلهم علماً به لأنه أصبح يتعامل مع التكفير كمثل مسائل الرياضيات فهي حسابات واضحة ماعليه سوى ان يجمع فيها ويطرح ! ) ا. هـ [موقع أنا المسلم . بتصرف يسير ]

الصورة الثالثة: الانطلاق من المعرفة الاجمالية لقاعدة ( من لم يكفر الكافر فهو كافر ) الى تكفير كل من لم يكفر من يرونه كافراً بموالاته للكفار في نظرهم دون التفريق بين كفر النوع وكفر العين ودون النظر في هذا الكافر هل هو من الكفار المقطوع بكفرهم كاليهود والنصارى والشيوعيين حيث أن هذه القاعدة تنطبق في حق من لم يكفرهم أما ان تنزل هذه القاعدة على شخص أو أشخاص مشتبه في كفرهم وقد يكون هناك من الموانع مايمنع من تكفيرهم فإن اعمال هذه القاعدة بأن يكفر كل من لم يكفرهم نوع من التحكم والتعصب ومصادرة عقول الاخرين ومواقفهم فكون هذا الشخص عندك قد بان لديك كفره كالشمس فليس لك الحق ان تلزم غيرك ان يكفره لعدم اكتمال البينات والأدلة لديه .

الصورة الرابعة : وهي من أشد أنواع الغلو ألا وهي تكفير المخالف المنتقد لأفكار أهل الغلو والافراط ورفضه الانحياز اليهم بحجة وقوفه أمام المشروع الاسلامي لاقامة شرع الله عز وجل وهكذا يتحول الموضوع إلى تعصب وصراع حزبي يكون فيه الحزب هو الاسلام فمن حاربه فهو محارب للاسلام مرتد مباح الدم ، ومن كان مع الحزب فهو المؤمن الموحد المجاهد .

ومن كان خارجه فإنه وان لم يكن كافراً فهو على خطر في إيمانه وولائه.

يتحدث دكتور فهد العجلان عن مفاسد الخصومة الحزبية فيقول : (الخصومة الحزبية تعمي الشخص عن الواجب الشرعي المطلوب اتخاذه قبل نسبه أحد إلى قول أو فعل كفري فقد يكون الفعل أو القول كفراً لاشك فيه إنما قبل ان تنزله على أحد من الناس لابد ان تكون لديك دلائل قطعية تثبت ذلك غير ان الخصومة الحزبية تعمي فئة من الناس فتغير كل المعاير البديهية للتثبت فيكون من السهل جدا ان يكفر شخصاً او ربما جماعة بل تياراً واسعاً من الناس بناء على خبر في صحيفة غربية قرأها على الشبكة الاجتماعية أومن ترجمة من لا يدري حتى ما مصدرها وحين يطالب بالاثبات العلمي الذي يتطلب دقة موضوعية ومنهجية فإنه يبدأ بسرد مايفعل هذا التيار وما تقع فيه هذه الجماعات بما يعني ان الإشكال الحزبي والصراع مع الجماعات كان هو الدافع الأكبر للتكفير بما خفف من وسائل الاثبات فأصبح يبحث بعدها عن أي شيء ليستند إليه ..) [ موقع أنا المسلم ] .

الصورة الخامسة : الغلو في الحب والموالاة لشيخ او جماعة بحيث يحمله هذا الغلو في المحبوب على الطاعة المطلقة له وكأنه معصوم لا يخطئ ومن ذلك الانطلاق في تكفير وردة شخص أو جماعة في كونه وقع في الموالاة المكفرة لا من بحث علمي شرعي ولا معرفة بحال الشخص والجماعة إنما لمجرد ان القائد الفلاني في حزبه وجماعته كفرهم دون ان يأتي بالمبررات الشرعية والواقعية لهذا الحكم وإنما مجرد التقليد والثقة العمياء بما يقوله شيخه او تتبناه جماعته لغلوه في حبه له وبغضه لمخالفه بل ان الامر في الحب والتقليد الاعمى للشيخ او الحزب ليصل ان ينفذ التابع امر متبوعه المطاع في استباحته الدماء دون ان يعرف التابع المقلد أسباب الاستباحة الشرعية وانما لمجرد ان قائده او شيخه امره بذلك، وليتدبر هؤلاء المقلدون النصين التاليين ليعلموا منهما منهج السلف في الاتباع والتثبت وعدم التقليد الأعمى لشخص غير الرسول صلى الله عليه وسلم ولو كان محبوباً: روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه بسنده عن حرمله- مولى أسامة – قال أرسلني أسامةُ إلى عليّ وقال: إنه سيسألُكَ الآن فيقول: ما خَلَّفَ صاحبك؟ فَقُلْ له: يقول لك: لو كُنْتَ في شِدْقِ الأسَدِ؛ لأَحْبَبْتُ أن أكون معك فيه، ولكن هذا أَمْرٌ لم أرَهُ.

(البخاري 6665) كما روى البخاري رحمه الله تعالى بسنده إلى سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن أبيه قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا فجعل خالد يقتل منهم ويأسر ودفع إلى كل رجل منا أسيره حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره فقلت والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكرناه فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يده فقال اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين( البخاري 3992)

كلمتان اخيرتان

الأولى : أنصح نفسي وإخواني الدعاة والمجاهدين بأن نتقي الله عز وجل في انفسنا وامتنا وان نخاف الموقف العظيم بين يدي الله عز وجل يوم يقوم الناس لرب العالمين ويسألنا عن مواقفنا واحكامنا في هذه الاحداث هل اتقينا الله وتحرينا الحق فيها (ستكتب شهادتهم ويسألون ) فما جوابنا وعذرنا عند الله عز وجل وهاهي أمم الكفر قد رمتنا عن قوس واحدة اليهود والنصارى الصليبيون والروس الملاحدة والرافضة الباطنيون والمنافقون من بني جلدتنا وقد تناسوا خلافاتهم في حربهم لنا فهلا تناسينا خلافاتنا في حربنا لهم {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } [الأنفال 73 ]

الثانية ينبغي ان نعلم بأن رأس الافعى في هذه الحرب المشبوبة على المسلمين هي امريكا الطاغية دون التهوين من شركائها في هذه الحرب .

ان المشروع الامريكي هو الاخطر في المنطقة فينبغي على الدعاة والمجاهدين ان يعوا هذا الخطر .

أقول هذا القول لما لمسته من غفلة عن هذا المشروع مقابل المشروع الإيراني والروسي في المنطقة الذي أخذ حقه من البيان والفضح لقد نجحت امريكا الى حد كبير في صرف انظار كثير من السلمين ومنهم بعض الدعاة والمجاهدين عن خطرها وحاولت توجيه الكره والعداوة إلى ايران ومشروعها الرافضي فكثرت البيانات والتحذيرات من الخطر الصفوي وهذا حق وواجب ولكن هذا يجب أن لايصرفنا عن خطر وجرائم المشروع الامريكي ومن سار في فلكه فإنهم أخطر مايكون على المسلمين بل ان المشروع الصفوي الرافضي إن هو إلا أداة من أدوات تنفيذ المشروع الامريكي وتمريره في المنطقة فينبغي أن يأخذ حقه من الفضح ويبان خطره وأن لا ينسينا الحديث عن خطر المشروع الصفوي بيان الخطر الامريكي وضرورة التصدي له ولألاعيبه واهدافه .

اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة انت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون إهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء الي صراط مستقيم
والحمدلله رب العالمين حرر في 12 / شوال / 1437



الكراك

طلب نغمة بمناسبة الحج

$
0
0
إخواني الكرام

حياكم الله جميعا، وكل عام وأنتم بخير

أبحث منذ فترة على نغمة تلبية الحج (لبيك اللهم لبيك) التي تُذاع على إذاعة القرآن الكريم بمصر، mp3

فليت أحدًا يدلنا عليها، وله جزيل الشكر والامتنان.

ورزقنا الله وإياكم حج بيته الحرام.

قبسات : ‫قصة في الحلم والحكمة


۩۞۩ أوسمة نبوية ۞ رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقنا عليه ۞ الدكتور عمر المقبل ۩۞۩

$
0
0

أوسمة نبوية - الدكتور عمر المقبل

.(((((( رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقنا عليه )))))).


رابط فيديو avi جودة ممتـــازة:
رابط فيديو rm جودة متوسطـة:
رابط فيديو mp4 جودة عاليــة:
رابط صوت mp3 جودة عاليـة:
رابط صوت wma جودة عاليـة:


المشاهدة المباشرة

جزاكم الله خيرا
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد

وعلى آله وصحبه وسلم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

۩۞۩ أوسمة نبوية ۞ خير الناس أحسنهم قضاء ۞ الدكتور عمر المقبل ۩۞۩

$
0
0

أوسمة نبوية - الدكتور عمر المقبل

.(((((( خير الناس أحسنهم قضاء )))))).


رابط فيديو avi جودة ممتـــازة:
رابط فيديو rm جودة متوسطـة:
رابط فيديو mp4 جودة عاليــة:
رابط صوت mp3 جودة عاليـة:
رابط صوت wma جودة عاليـة:


المشاهدة المباشرة

جزاكم الله خيرا
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد

وعلى آله وصحبه وسلم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

۩۞۩ أوسمة نبوية ۞ من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ۞ الدكتور عمر المقبل ۩۞۩

$
0
0

أوسمة نبوية - الدكتور عمر المقبل

.(((((( من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا )))))).


رابط فيديو avi جودة ممتـــازة:
رابط فيديو rm جودة متوسطـة:
رابط فيديو mp4 جودة عاليــة:
رابط صوت mp3 جودة عاليـة:
رابط صوت wma جودة عاليـة:


المشاهدة المباشرة

جزاكم الله خيرا
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد

وعلى آله وصحبه وسلم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تداخل المصالح الدولية وأثرها على فشل الحل السياسي باليمن

$
0
0
تداخل المصالح الدولية وأثرها على فشل الحل السياسي باليمن
. أمجد خشافة

تداخل المصالح الدولية وأثرها على فشل الحل السياسي باليمن

بانتهاء مشاورات الكويت تكون اليمن، هذه المرة، قد طفت على بحر من التداخلات المصالحية الدولية؛ إذ لم تعد هذه البقعة من جنوب الجزيرة العربية في منأىً عن الصراع الشائك في سوريا والمنطقة كلها.
وعلى الرغم من أن الحديث عن ربط الملف اليمني بالسوري في بداية عملية التحالف العربي العسكرية ضد الحوثيين كانت مستبعَدة إلاّ أن الظواهر السياسية والعسكرية التي طرأت على سوريا بتدخُّل روسيا فيها؛ أدت إلى وضع الملفَّين على طاولة الشطرنج، أو كما أرادت روسيا أن يحدث على هذا النحو، بينما أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية تمارس نشاطها في الهامش خصوصاً تجاه قضايا اليمن.
الموقف الروسي:
وقبل أن تدخل روسيا كفاعل دولي متسبب في إطالة أمد الحرب وتضاؤل الحلول السياسية كانت تتخذ مواقفَ حياديةً تجاه الصراع في اليمن أو تكتفي بالصمت لا سيما عقب عملية عاصفة الحزم في مارس 2015.
وحين تمكنت المملكة من انتزاع قرارٍ من مجلس الأمن ضد جماعة الحوثي وصالح عقب العاصفة لم تعترض روسيا على القرار، ونأت بنفسها حتى نُفذ القرار رغم أنه صادر ضد حليف لإيران وهي من تقف مع إيران في أغلب قضايا المنطقة.
لم يكن لروسيا مصلحة من الوقوف ضد التحالف الذي تقوده السعودية، فهي - أي السعودية - البلد الذي بمعارضته تخسر روسيا تبادل مصالحَ أكثرَ مما ستقدمه حركة متمردة بنظر المجتمع الدولي ومن خلفها إيران التي هي الأخرى عالقة بحصار اقتصادي، لكن وما إن تدخلت عسكرياً في سوريا 30 سبتمبر 2015 بدأت تُحول المنطقة إلى كتلة واحدة متشابكة في الصراع ومتوازية في الحلول.
في تلك الأثناء كان علي صالح والحوثيون يطالبون روسيا بالتدخل في اليمن رغبةً في توسعة دائرة الصراع بعد أن كانت مقتصرة بين الحكومة وتحالف انقلب على السلطة، لكن دخول روسيا في خط الصراع بسوريا كان أكثر دافعاً لها أن تتجه نحو ربط الملف اليمني لكي تضع السعودية أمام أمر واقع يقول: "أتركوا لنا سوريا وسنترك لكم اليمن".
ونتيجة لملاقاة القوات الروسية استماتةً ضدهم في سوريا تمسكت أكثر بمحاولة الضغط على دول المنطقة الداعمة للفصائل السورية المقاتلة وعلى رأسهم السعودية، وبدأت تتخذ مواقف سياسية تقف إلى جانب تحالف الحوثي وصالح لا سيما في مجلس الأمن وعرقلة أي قرارات تقضي بالتصعيد ضد الحوثي وصالح.
في المقابل تمسك الحوثيون وصالح برفض أي انصياع لقرار مجلس الأمن الذي يقضي بإنهاء الانقلاب، باعتبار أن روسيا باتت تدفع من خلفهم، وهو ما جعل مشاورات جنيف 2 نهاية العام المنصرم 2015م بين وفد الحكومة ووفد الحوثي وصالح تنتهي بنتائج صفرية دون تقدم أي خطوة.
وفي مطلع العام الجاري بدأت السعودية تكثِّف من الحديث عن نية التدخل في سوريا بالتحالف مع تركيا ضمن غطاء دولي لكن روسيا حاولت أن تستخدم ثقلها بمجلس الأمن للوقوف مع تحالف الانقلاب باليمن لكسر أي تصعيد في المقابل بسوريا.
ورغم أن السعودية كانت ولا زالت ترفض أي مقايضات بين الملف السوري واليمني إلاّ أن روسيا ربما تمكنت من استغلال الفعل الهامشي للولايات المتحدة الأمريكية في ربط الملفين. حينها، وتحديداً، في يناير من العام الجاري قال جون كيري وزير خارجة أمريكا عقب لقائه بوزراء خارجية دول الخليج إنه اتفق معهم على العمل سوياً لتسريع وتيرة الجهود لحل الأزمة في اليمن بينما تلتزم السعودية بالعمل لتحقيق الاستقرار في سوريا.
وبقدر ما كان هذا الاتفاق، الشكلي، صادراً من كيري إلاّ أنه من المؤكد أنها كانت بتنسيق مع روسيا لتهدئة الوضع في سوريا واليمن معاً، لكن تعقيد الصراع في سوريا أدى معه إلى إطالة أمد الحل السياسي في اليمن.
وحين بدأت مشاورات الكويت في 22 أبريل الماضي بين الحكومة ووفد الحوثي وصالح انتهت المشاورات بعد 90 يوماً ولكن دون أن يقبل الأخير بقرار تسليم السلاح والانسحاب من مؤسسات الدولة واستغلوا الوقت لا عادة الانتشار المسلح على الأرض، وكل هذا يأتي في إطار تفهُّم الحوثي وصالح بأن روسيا لن تتركهم في وسط الطريق.
وفي مطلع الشهر الجاري حين اجتمع أعضاء مجلس الأمن تقدمت بريطانيا ببيان يدين جماعة الحوثي وصالح على إنشاء "المجلس السياسي" الذي لا يخدم المسار السياسي لكن روسيا فاجأت الجميع باعتراضها على البيان وإحباطه.
أظهرت روسيا بموقفها بمجلس الأمن المتماهي مع تحالف الحوثي وصالح بأنها باتت تقف ضد مشروع الحل السياسي وإعادة الشرعية للبلد، لكن روسيا ربما اتخذت هذا الموقف في مجلس الأمن بالتزامن مع ما كان يحدث من انتصارات في حلب واستعادة الفصائل المقاتلة كتلتها في مواجهة ما تبقى من نظام الأسد.
الموقف الأمريكي:
باعتبار الولايات المتحدة الأمريكية فاعل دولي مؤثر في اليمن إلاّ أنها أدارت ظهرها هذه المرة لصراعات البلد رغم أن اليمن باتت تتداخل مصالحها القومية مع السعودية التي تعتبر بالنسبة لأمريكا ثاني دولة تعتمد عليها في المشتقات النفطية.
وعلى الرغم أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت داعماً استخبارياً لعمليات "عاصفة الحزم" ضد الحوثيين إلاّ أنها اكتفت بهذه المهمة ودورٍ غير فاعل في الضغط في مجلس الأمن وتفعيل قراراته التي يمكن أن تنهي الانقلاب وترك المجال مفتوحاً أمام روسيا لعرقلة كل ما يدين الانقلاب.
الموقف الواضح لأمريكا ربما كان في إطار الاجتماع الرباعي في لندن في يوليو الماضي، والذي ضم الاجتماع السعودية والإمارات وأمريكا وبريطانيا وخرجوا ببيان يدعو الأطراف اليمنية للاتفاق حول انحساب الميليشيات من المدن وتسليم السلاح وتشكيل حكومة توافقية، لكن لم يؤكد البيان على جوهر الخلاف الذي يرفضه تحالف الانقلاب وهو البَدء بتسليم السلاح والانسحاب.
وتلاقي سياسة أمريكا، على هذا النحو من الهامشية وغير الواقفة بقوة مع الشرعية انتقاداتٍ واسعةً، وهو ما نتج عنه فراغ لصالح الدور الروسي المعرقِل للحل، وترك فسحة أمام الحوثيين لمزيد من التصلب في مواقفهم.
وتتخذ أمريكا بسياسة الانكفاء على ذاتها أو ما بات يعرف بـ "مبدأ أوباما" في اليمن وسوريا والمنطقة أمام التدخلات الإيرانية نتيجة لعدة عوامل: إما لأنها تقف أمام انتخابات رئاسية وشيكة تسببت في تقليص الاهتمام الخارجي وقد تتغير بقدوم الرئيس القادم، بحسب خبراء أمريكيين، أو العامل الثاني وهو أنها سياسةً مدروسةً وممنهجةً للتحضير لواقع جديد ستفرضه في المنطقة يشمل سوريا واليمن، ضمن مشروع شرق أوسط جديد يصب أغلبُه في صالح إيران وحلفائها.
وفضلاً عن ذلك، لا زالت أمريكا تبقي في أعلى سُلم اهتمامِها في اليمن الحرب على "الإرهاب" إذ لا خطر بالنسبة لها في بقاء البلد منقسماً بقدر خطر توسع "الإرهاب"، فهي لا زالت تتخذ سياسة تضخيم "الإرهاب" في اليمن واعتباره بالنسبة لها أكثر خطورة من بقاء اليمن حظيرة إيرانية.
وخلال الأيام الأخيرة، وتحديداً في يونيو الماضي، تحدث الجنرال جوزيف فوتيل الذي يشرف على القوات الأمريكية في المنطقة إن بلاده تدرس زيادة وجودها في اليمن للتصدي بشكل أفضل لتنظيم القاعدة بجزيرة العرب.
السعودية في مواجهة الدب الروسي:
بعد أن سمعت السعودية تصريح المسؤول الإيراني علي رضا زكاني يقول إن اليمن باتت في طريقها لأن تكون العاصمة الرابعة في يد الثورة الخمينية، لم يعد أمامها مجال لترك اليمن لتكون حظيرة إيرانية وأصبحت معركة اليمن هي معركة الخليج والسعودية بامتياز.
لكن وبعد أن أصبحت روسيا هي صاحبة الثقل في مجلس الأمن وتضع مطبات أمام إنهاء الانقلاب في اليمن، باتت إيران تقف في الظل وأصبحت المملكة أمام الدب الروسي الذي يحاول أن يفرض مكاسب في اليمن لكي تتخلى المملكة عن دعم الفصائل المقاومة لنظام بشار الأسد.
ورغم الزيارات التي حدثت خلال الأشهر الماضية من قبل المملكة إلى روسيا ومحاولة ترتيب صفقات اقتصادية إلا أن السعودية لا زالت في طور دفع روسيا عن محاولة ربط الصراع اليمني بالصراع في سوريا.
قبل أسبوعين قال عادل الجبير وزير خارجة السعودية إن الرياض مستعدة لكي تعطي حصة لروسيا في الشرق الأوسط لتصبح أقوى بكثير من الاتحاد السوفييتي سابقاً، مقابل تخليها عن الرئيس السوري بشار الأسد، وفي مقابلة مع صحيفة "بوليتيكو" الأمريكية خلال زيارته إلى بروكسل قال إن السعودية مستعدة للتعاون مع روسيا بصفتها من أكبر منتجي النفط في العالم، بمعنى أن المملكة باتت تخوض حرباً دبلوماسية مع روسيا لكي تترك الأسد وعدم استغلال اليمن وعرقلة إنهاء الانقلاب في مجلس الأمن.
وعلى هذا النحو من تداخل المصالح الدولية في اليمن، كانت الأمم المتحدة هي الأخرى التي تخلت عن مسؤوليتها في كشف المتسبب بعرقلة الحل السياسي وإنهاء الحرب؛ إذ تحولت الأمم المتحدة من وسيط للحل السياسي إلى أشبه بمُيسر في كيفية الاشتباك القانوني ومركز لإدارة الصراع.
وبقدر ما كانت الحكومة اليمنية تطالب مبعوث الأمم المتحدة بإعلان المتسبب في عرقلة المشاورات والحل السياسي إلا أن المبعوث كان يختتم كلَّ مرةٍ المشاورات الفاشلة دون ذكر المتسبب في عرقلة الحل، وآخرها ما حدث في نهاية مشاورات الكويت نهاية أغسطس الماضي حين انتهى بالفشل بسبب الحوثيين، لكن ولد الشيخ مبعوث الأمم المتحدة اختتمها بكلام لا يعبر سوى عن موقف غامض يقود عملياً لمزيد من الصراع على الأرض.


صفات المؤمنين في سورة المؤمنون

$
0
0
صفات المؤمنين في سورة المؤمنون
عبدالله بن عبده نعمان العواضي


إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب70 - 71].


أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.


أيها الناس يقول الله تعالى في كتابه الكريم: بسم الرحمن الرحيم، ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 1 - 11].


عباد الله، هذه آيات جامعة لخصال نافعة من خصال الخير التي يحصل بها الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة. فقد جمعت هذه الآيات الكريمة بين حق الخالق وحق المخلوق، وبين أعمال القلوب وأعمال الجوارح، وبين الأعمال اللازمة والأعمال المتعدية. وتضمنت هذه الآيات المنيرات أسبابَ الفوز باجتماعها في أعمال صالحة عظيمة وهي: المحافظة على الصلاة الخاشعة، والإعراض عما لا ينفع من القول والعمل، وحفظ الفروج عن الحرام، وأداء الأمانات، والوفاء بالعهود. ثم ختمت الآيات بذكر الجزاء الحسن لأهل هذه الأعمال الحسنة، وجزاء الإحسان الإحسان: ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 10، 11].


والمتأمل في هذه الآيات الكريمات يرى علاماتِ الاهتمام بالفحوى جليّةً في ألفاظها وجملها، مثل الإتيان بالجملة الاسمية التي تفيد ثباتهم على تلك الأعمال، وتقديمِ ما حقه التأخير الذي يفيد شدة اعتنائهم بها، والإتيانِ بضمير الفصل الذي يفيد ذلك مع التأكيد.


أيها المسلمون، لقد افتتح الله تعالى هذه الصفات بحرف(قد) الداخلِ على الفعل الماضي، وفائدة هذا الحرف التحقيق والتأكيد بأن الفلاح قد حصل وتمّ لمن تمسك من المؤمنين بهذه الأعمال الصالحة؛ ابتغاء وجه الله تعالى ومات على ذلك.


ومن حُسن الافتتاح لهذه الصفات والترغيب في التحلي بها: أنه ذكر الفلاح بها أولاً قبل أن يذكرها؛ لكي يرغبك أيها الإنسان في التمسك بها حتى تنال ذلك الجزاء المقدَّم ألا وهو الفلاح.


إن هذه الصفات التي توصل إلى الفلاح والجنة لا يصح أن تكون إلا لمن اتصف بالإيمان الذي هو التصديق الجازم الذي لا يخالطه شك بكل ما يجب اعتقاده من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ثم تجيء الأعمال الصالحة بعد ذلك؛ ليكتمل سببا الفلاح؛ إذ لابد من إيمان وعمل صالح، صفاء في الباطن، وصفاء في الظاهر. قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ﴾ [الكهف:107].


أيها الأحبة الكرام، أولى هذه الصفات لأهل الإيمان الذين نالوا بها الفلاح والفوز بالفردوس: الصلاة الخاشعة، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ [المؤمنون:2]. الصلاة تلك العبادة العظيمة التي هي صلة بين العبد وربه لبُّها الخشوع وهو الخوف الموجب لتعظيم الله تعالى. والخشوع بهذا المعنى مطلوب داخل الصلاة وخارجها، لكنه في الصلاة يكون أولى من غيرها؛ لأنها وقوف بين يدي الله تعالى. إن الخشوع عبادة قلبية تظهر آثارها على أعمال الجوارح، ففي الصلاة يحرص المؤمن الخاشع على إقامة الصلاة بشروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها. ويحرص على أن يكون حاضرَ القلب والذهن بين يدي ربه، واعيًا متدبراً ما يقرأ أو يسمع، ويكون بذلك مستفيداً من الصلاة بعد ذلك. قال تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت:45]. ومما يعين المصليَ على الخشوع في الصلاة: أن يستحضر أنه بين يدي ملك الملوك، وأن يستشعر أنها قد تكون آخر صلاة يصليها فليتقنها، وأن يبعد عن نفسه كل ما يشغله عنها من الشواغل الحسية والشواغل المعنوية؛ ولهذا جاء نهي الشرع المصليَ عن الإتيان إلى الصلاة مسرعًا أو تاركًا لطعام يشتهيه، أو حاقنًا أو حاقبًا-يعني حابسًا للبول أو الغائط، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون عليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)[2].


وقال عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة بحضرة الطعام، ولا هو يدافعه الأخبثان)[3].


فالخشوعَ الخشوعَ - يا عباد الله - تفلحوا وتلتذوا بصلاتكم.


عباد الله، ثانية هذه الصفات: الإعراض عن الباطل من قول أو فعل، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴾ [المؤمنون:3]. ومثل هذه الآية قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ [القصص:55]، وقوله: ﴿ وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾[الفرقان:72].


إن أهل الإيمان حريصون على عدم مواقعة ما يضر آخرتهم، فهم مشغولون بالله عن غيره، مهتمون بما يعنيهم، وتاركون لما لا يعنيهم، مقبلون على شأنهم، فأكثر الناس في شؤون وهم في شأن آخر.


فألسنتهم محفوظة عن السوء والفحشاء، وجوارحهم مصونة عن الشر والعدوان. فعبادة الله تعالى، والإحسان إلى الناس، وتفريج كرباتهم مما يعنيهم. ومعصية الله تعالى، والاعتداء على الناس، والانصراف إلى ما يضيع الأعمال والجهود والأوقات مما لا يعنيهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)[4].


وإن مما يعينك -أيها المسلم- على ترك اللغو: أن تعرف الغايةَ التي خُلقت لأجلها، والنهاية التي تنتظرك، فاعمل لها وانشغل بها ولا تنشغل عنها. وأن تعلم أن ما تعمله مسجل لك أو عليك، وأنت عليه مثاب أو معاقب، فانظر لنفسك أيَّ الأمرين تختار.


والصفة الثالثة: تزكية النفس وتزكية المال، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ﴾ [المؤمنون:4]. إن الزكاة في أصل وضعها اللغوي تعني التطهير، والنفس الإنسانية مليئة بالنقائص والعيوب، وقد كُلِّف الإنسان بإصلاحها وتقويم عوجها. وضُمِن الفلاح لمن نجح في ذلك، قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [ الشمس:9، 10]. فالمؤمن يطهر نفسه من الاعتقادات الفاسدة، والأفكار المنحرفة، والأخلاق السيئة، ويجعلها صافية خالصة من شوائب الرذائل. فإذا فعل ذلك فقد أفلح في الدنيا والآخرة. إن من الأخلاق النفسية الرذيلة: خلقَ الشح والبخل، الذي يجعل الإنسان مقصراً في أداء الحقوق التي عليه لغيره؛ ولذلك شرع الإسلام زكاة المال؛ لتطهير النفس وتطهير المال. فإخراج الزكاة مطهرة وأجر، وزيادة ونقاء، فلا يظن صاحب المال أن إخراج الزكاة نقص وخسارة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نقص مال عبد من صدقة)[5].


فإذا أردت الفلاح -أيها المسلم- فزكِ نفسك وزكِ مالك، وإياك أن تطيع النفس في السير وراءها إلى أهوائها المحظورة، فمن أصلح نفسه صلحت دنياه وآخرته.


أيها الأحبة الأفاضل، الصفة الرابعة: حفظ الفروج عن الحرام، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴾ [المؤمنون:5] ﴿ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴾ [المؤمنون:6] ﴿ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ [المؤمنون:7]. إن الرغبة الجنسية فطرة وطبيعة في الإنسان البالغ تطلب من صاحبها التصريف والخروج، وقد جعل الله تعالى لها سبيلاً صالحاً نظيفًا نافعًا هو الزواج، الذي هو سبب العفة والسعادة، والذرية وكثرة الأمة، وتعارف الناس وتقاربهم، وصلاح هذه الحياة. قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم:21]. هذا هو الطريق الصالح النقي لتصريف هذه الرغبة الجِبلية، وهو الذي يحفظ للإنسان شرفه وسمعته الحسنة بين الناس، ويعينه على طاعة الله تعالى وعلى إصلاح عيشه.


غير أن بعض الناس غلب عليهم الشيطان والنفس الأمارة بالسوء وجلساء الخطيئة على تصريف الشهوة في الزنا أو اللواط أو العادة السرية. وهذه المجالات العفنة تهدم الدين، وتهد البدن، وتفسد المجتمع، وتجلب الكوارث والمصائب على الناس. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا) [6].


إن الحياة المعاصرة بوسائل اتصالها وإعلامها الحديثة، وغياب إقامة حدود الله تعالى، وكثرة الجهل هذه الأمور وغيرها دعت بعض الذكور والإناث إلى الغرق في مستنقع الرذيلة، ولم ينتبه بعضهم إلا وهو غارق في وحلها يطلب قوارب النجاة، بعد أن باع دينه ودنياه بشهوة عاجلة، ولذة عابرة، وقد يخسر بها الدنيا والآخرة.


فالحذرَ الحذرَ، والنجاةَ النجاة قبل الفضيحة في الدنيا والآخرة.


وأقول: على الأزواج أن يتقوا الله في إعفاف زوجاتهم، وعلى النساء أن يتقين الله في إعفاف أزواجهن، وعلى من لا يجد أن يصبر ويدعو الله حتى يجعل الله له فرجًا ومخرجاً. قال تعالى: ﴿ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النور:33].


عباد الله، الصفة الخامسة: أداء الأمانة، والوفاء بالعهود، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المؤمنون:8]. الأمانة هي كل حق وجب على الإنسان حفظه وأداؤه لأهله، فعبادة الله تعالى أمانة، والحكم أمانة، والوظيفة أمانة، والحقوق الزوجية أمانة، وتربية الأولاد أمانة، وردُّ الوديعة أمانة، والبيع والشراء أمانة، والأسرار التي يطلب كتمانها أمانة، والعلم أمانة، وإيصال الرسائل إلى أهلها كما هي عليه أمانة، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء:58].


والعهود حقوق يجب الوفاء بها، وأعظمها العهد مع الله تعالى، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة:1]. وخلف العهود علامة من علامات النفاق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)[7].


ويقرب من العهود الوعودُ التي قطعها الإنسان على نفسه، فمن الإيمان ومن الكرم الوفاءُ بها لأهلها، قال تعالى في صفة نبيه إسماعيل عليه السلام: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ﴾ [مريم:54]. وكثرة إخلاف الوعود من صفات المنافقين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان)[8].


أيها الأخوة الفضلاء، والصفة السادسة: المحافظة على الصلاة، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ [المؤمنون:9]. والمحافظة على الصلاة تعني الاستمرار عليها، والمداومة على إقامتها في وقتها بشروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها. وشأن الصلاة في الإسلام في المنزلة المرموقة، وفي فضلها تنزلت الآيات، ووردت الأحاديث الصحيحات، وجاءت الآثار عن الأخيار الأبرار، ويكفي في مكانتها أنها الركن الثاني من أركان الإسلام، وأنها أول ما يحاسب عليه العبد من عمله يوم القيامة.


أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
♦ ♦ ♦


الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على النبي الكريم، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها المسلمون، إن هذه الصفات الصالحة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآيات الكريمات كانت للمؤمنين من أسباب فلاحهم ودخولهم الجنة؛ فلذلك ذكر الله تعالى الجزاء الطيب لأهلها عقبها فقال: ﴿ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ﴾ [المؤمنون:10] ﴿ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون:11].


فذكر الله تعالى استحقاقهم للفردوس بلفظ الوراثة التي هي من أعظم أسباب استحقاق المال. والفردوس أوسط الجنة وأعلاها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن)[9].


فنعمت الكرامة، ونعمت الجائزة الطيبة على هذه الأعمال الصالحة.


فيا من كان بعيداً عن الصلاة الخاشعة اقرب وادنُ منها وحافظ عليها وعلى خشوعها، تَنَلِ الفردوس.


ويا من شغل نفسه بما لا يعنيه، وسلط لسانه فيما لا ينفعه ولا يرضيه عند لقاء حسابه، احفظ لسانك، واحفظ قولك وفعلك تنل الفردوس.


ويا من لم يزكِ نفسه، وقصّر في زكاة ماله زكِ نفسك ومالك تنل الفردوس.


ويا من صرف شهوته الجنسية فيما حرم الله عليه تُب إلى الله وارجع إليه، واكتفِ بالحلال ففيه غُنية للمؤمنين تنل الفردوس.


ويا من قصر في أداء الأمانات، وخان العهود والوعود والمواثيق، فِ بالعهود والوعود، وأدِّ الأمانة للعابد والمعبود تنل الفردوس.


فإذا فعلت ذلك نلت الفلاح والنجاح، وحزت السعادة في دنياك وأخراك.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل هذه الصفات وأن يتوفانا على ذلك.


هذا وصلوا على البشير النذير...



[1] ألقيت في مسجد ابن الأمير الصنعاني، صنعاء، في 13/ 2/ 1436ه، 5/ 12/ 2014م.

[2] متفق عليه.

[3] متفق عليه.

[4] رواه الترمذي وابن ماجه، وهو حسن.

[5] رواه أحمد والترمذي، وهو صحيح.

[6] رواه ابن ماجه والحاكم والبيهقي م، وهو صحيح.

[7] متفق عليه.

[8] متفق عليه.

[9] رواه البخاري.





Viewing all 1343 articles
Browse latest View live