Quantcast
Channel: منتدى فرسان الحق فرسان السُـنة خير الناس أنفعهم للناس
Viewing all articles
Browse latest Browse all 1343

الاحتكار والاستغلال والغش أدواء قاتلة حرمها الإسلام

$
0
0
الاحتكار والاستغلال والغش أدواء قاتلة حرمها الإسلام
الشيخ سعد الشهاوي








الحمدُ لله القويِّ المتين، القاهرِ الظاهرِ الملكِ الحقِّ المبين، لا يخفى على سمعِه خفيُّ الأنينِ، ولا يعزُب عن بصرِه حركاتُ الجنِين، ذلَّ لكبريائِه جبابرةُ السلاطين، وَقدر وقضى بحكمتِه وهو أحْكَمُ الحاكمين، أحمده حمْدَ الشاكِرين، وأسْألُه مَعُونَةَ الصابِرين، وأشهد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريكَ له إِلهُ الأوَّلين والآخرين، وأشَهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه المصطَفَى على جميع المرسلين، المؤيد بالروح الأمين وبالملائِكةِ المنزَلين، صلَّى الله عليه وعلى آلِهِ وأصحابه والتابِعين لهم بإحْسانٍ إلى يومِ الدين، وسلم تسليماً كثيراً.







أمَّا بَعْد:



العناصر:



أولا: الحث على الكسب الحلال.



ثانيا: خطورة الاحتكار وغلاء الأسعار والاستغلال والغش على الفرد والمجتمع.



ثالثا: حرمة الاحتكار والاستغلال والغش والتلاعب بأقوات الناس.



رابعا: أسباب كثرة انتشار الاحتكار والاستغلال والغش والتلاعب بأقوات الناس.



خامسا: حلول مشكلة الاحتكار والاستغلال والغش والتلاعب بأقوات الناس في شريعة الله عز وجل كثيرة.



سادسا: دور الدولة والمجتمع في التعامل مع المحتكرين.



سابعا وأخيرا: رسالة إلى تجار المسلمين وما ينبغي أن يكونوا عليه في مثل هذه الأحوال.







أولا: الحث على الكسب الحلال أيها المسلمون إنَّ طلب الحلال وتحريه أمر واجب وحتم لازم ومن آداب العمل والكسب في الإسلام أن يكون من حلال فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51] وَقَالَ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ" مسلم (1015 ))







أيها المسلمون: أرأيتم ذلك الرجل ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وقال عنه يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّمَاءِ ويقول يا رَبِّ يا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ) لقد استجمع هذا الرجل من صفات الذلة والمسكنة والحاجة والفاقة ما يدعوا إلى رثاء حاله ويؤكد شدة افتقاره ويؤهله لاستجابة دعوته فقد تقطعت به السبل وطال عليه السفر وتغربت به الديار وتربت يداه وأشعثَّ رأسه واغبرَّت قدماه ولكنَّه قطع صلته بالله وحرم نفسه من مدد خالقه ومولاه فحيل بين دعائه وبين القبول لأنَّه أكل الحرام وشرب الحرام واكتسى من الحرام ونبت لحمه من الحرام فردت يداه خائبتين وأيُّ لحم نبت من سحت أي حرام فالنار أولى به.







أيها المسلمون: قولوا لي بربكم ماذا يبقى للعبد إذا انقطعت صلته بربه وحجب دعائه وحيل بينه وبين القبول والرحمة؟ لمثل هذا قال وهيب بن الورد: " لو قمت في العبادة قيام هذه السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك حلال أم حرام" حلية الأولياء ج 8 ص154







إنَّ العجب كلَّ العجب ممن يحتمي من الحلال مخافة المرض لنصح طبيب فيترك بعض ما يشتهى من ألذ المأكولات والمشروبات الحلال خوفا على صحته ولا يحتمي من الحرام مخافة النار وقد نصحه أرحم الراحمين ونصحه بعده أصدق الخلق أجمعين صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.







إن تحري الحلال له تأثير على نفسك وجميع جوارحك، قال سهل رضي الله عنه: من أكل الحرام عصت جوارحه شاء أم أبى، علم أو لم يعلم؛ ومن كانت طعمته حلالاً أطاعته جوارحه ووفقت للخيرات. وقال بعض السلف: إن أول لقمة يأكلها العبد من حلال يغفر له ما سلف من ذنوبه، ومن أقام نفسه مقام ذل في طلب الحلال تساقطت عنه ذنوبه كتساقط ورق الشجر.







عباد الله: حق عليكم تحري الحلال واتقوا الله جميعاً في أنفسكم وفي أولادكم لا تطعموهم الحرام فإنهم يصبرون على الجوع ولا يصبرون على حر النار وكانت بعض الصالحات توصي زوجها فتقول: " يا هذا اتقي الله في رزقنا فإنَّنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار ".







ولا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ بل ستسأل حتى عن شربة الماء قال تعالى: ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾(8) سورة التكاثر.




عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَرْزَمٍ الأشعري قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِى الْعَبْدَ مِنَ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ وَنُرْوِيكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ. أخرجه الترمذي (3358) الصحيحة (539)، المشكاة (5196 ).








وقال لقمان الحكيم لابنه يوما: يا بني، استعن بالكسب الحلال؛ فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب مروءته؛ وأعظم من هذه الخصال: استخفاف الناس به إنَّ حقاً على كل مسلم ومسلمة أن يتحرى الطيب من الكسب والنزيه من العمل ليأكل حلالاً وينفق في حلال، وتأملوا رحمكم الله في حال الصديق رضي الله عنه فعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت كان لِأَبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يُخْرِجُ له الْخَرَاجَ وكان أبو بَكْرٍ يَأْكُلُ من خَرَاجِهِ فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ منه أبو بَكْرٍ فقال له الْغُلَامُ تدري ما هذا فقال أبو بَكْرٍ وما هو قال كنت تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ في الْجَاهِلِيَّةِ وما أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ إلا أَنِّي خَدَعْتُهُ فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ فَهَذَا الذي أَكَلْتَ منه فَأَدْخَلَ أبو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ في بَطْنِهِ " البخاري (3629) وفي رواية قال" إن كدت أن تهلكني فأدخل يده في حلقه فجعل يتقيأ وجعلت لا تخرج فقيل له إن هذه لا تخرج إلا بالماء فدعا بطست من ماء فجعل يشرب ويتقيأ حتى رمى بها فقيل له يرحمك الله أكلَّ هذا من أجل هذه اللقمة؟ قال لو لم تخرج إلَّا مع نفسي لأخرجتها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به " فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة. حلية الأولياء (ج1 ص31.







وقيل أدخل أصابعه في فيه وجعل يقيء حتى ظنَّ أن نفسه ستخرج، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء.







ومن ذلك -أيضاً- ما رواه عبد الرحمن بن نجيح قال: نزلت على عمر، فكانت له ناقة يحلبها، فانطلق غلامه ذات يوم فسقاه لبناً أنكره، فقال: ويحك من أين هذا اللبن لك؟ قال: يا أمير المؤمنين إن الناقة انفلت عليها ولدها فشربها، فخليت لك ناقة من مال الله، فقال: ويحك تسقيني نارًا فهذا مثل من ورع أمير المؤمنين عمر، حيث خشي من عذاب الله جل وعلا لما شرب ذلك اللبن مع أنه لم يتعمد ذلك، ولم تطمئن نفسه إلا بعد أن استحل ذلك من بعض كبار الصحابة الذين يمثلون المسلمين في ذلك الأمر، بل انظر كيف فرَّق- بحلاوة إيمانه ومذاقه- بين طعم الحلال وبين ما فيه شبهة. أولئك هم الصالحون يخرجون الحرام والمشتبه من أجوافهم وقد دخل عليهم من غير علمهم، ثمَّ خلف من بعدهم خلوف يعمدون إلى الحرام ليملئوا به بطونهم وبطون أهليهم وأولادهم لا يبالون بما اخذوا من الحرام فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ، أَمِنَ الْحَلَالِ أَمْ مِنْ الْحَرَامِ" البخاري (1954).







ثانيا: خطورة الاحتكار وغلاء الأسعار والاستغلال والغش على الفرد والمجتمع:



ومع الدعوة الى تحرى الحلال في العمل والكسب فإننا نرى أسعار السلع والخدمات لا تزال تزداد يومًا بعد يومًا بصورة هستيرية، ففي خلال أيام معدودات يمكننا أن نرصد تضاعف أسعار بعض السلع أضعافًَا مضاعفة، دون حاجة ضرورية لهذه الزيادة وفى ذلك خطورة شديدة على المجتمع عامة وعلى التجار خاصة.







أولا: خطورة ذلك على الناس عامة فبعض التجار -إلا من رحم الله- غرضهم الأساسي الربح، وتراهم يسلكون من أجل ذلك كل مسلك، سواء أكان بطريق الحلال أم الحرام، وسواء أكان في ذلك استغلال للمواطنين أم لا، وما قضايا الاحتكار والغش التجاري عنا ببعيد، فهي كثيرة ومنتشرة بين التجار الذين لا يراعون فقر المستهلكين ولا حاجتهم، بل يزيدون أموالهم يومًا بعد يوم بمص دماء الفقراء والمحتاجين واستغلال حاجتهم للسلع الأساسية، وهذا يدفع بالفقراء في دوامة من العمل لا تنتهي، فبدلاً من أن يعمل عملاً صباحيًا يكفيه وأسرته؛ ثم يتفرغ بعدها لتربية أبنائه التربية الصحيحة، فإنه لا يكتفي بعمل واحد، بل يسعى للبحث عن عمل ثانٍ وثالث ليسد نفقة الأبناء وتعليمهم وإطعامهم وكسوتهم وعلاجهم، وهذا بالتأكيد يؤثر تأثيرًا سلبيًا على الأبناء وعلى تربيتهم التربية السليمة، وبالتالي يتأثر المجتمع بذلك تأثرًا بالغًا فيصبح مجتمعًا ماديًا بحتًا يلهث وراء المادة ولا يعرف للروحانيات سبيلاً.







وبالتالي يزداد الهم والحزن الذي ينتاب المواطنين البسطاء -وما أكثرهم- حول إطعام أبنائهم وأهليهم أو كسوتهم، وليت الغلاء الفاحش الذى نعيشه متعلق بالكماليات فيستغنوا عنها، ولكنها احتياجاتهم الضرورية التي لا يستطيعون منها فكاكًا، فالطعام والشراب والكسوة والدواء من الأمور التي لا يستغني عنها بشر، وإذا حورب الإنسان في رزقه وزاد التجار في أسعار السلع رغمًا عنه ودون مراعاة لقدراته المادية فإنهم بذلك يصنعون من هذا الإنسان قنبلة موقوتة دون علم أو دراية قد تنفجر في أي وقت وفى أي مكان.







ثانيا: خطورة ذلك على التجار خاصة نقول لهؤلاء التجار إنَّ أكل الحرام يعمي البصيرة ويضعف الدين ويقسي القلب ويظلم الفكر ويقعد الجوارح عن الطاعات ويوقع في حبائل الدنيا وغوائلها ويحجب الدعاء ولا يتقبل الله إلَّا من المتقين، وإنَّ للمكاسب المحرمة آثار سيئة حيث تنزع البركات وتفشوا العاهات وتحل الكوارث فترى أزمات مالية مستحكمة وبطالة متفشية وتظالم وشحناء إذا كان الكسب من حرام فويل ثمَّ ويل للذين يأكلون الحرام ويتغذَّون بالحرام ويربُّون أولادهم وأهليهم على الحرام إنَّهم كالشارب من ما البحر كلما ازدادوا شرباً ازدادوا عطشا، شاربون شرب الهيم لا يقنعون بقليل ولا يغنيهم كثير يستمرؤن الحرام ويسلكون المسالك المعوجة من ربا وقمار وغصب وسرقة وغش واحتيال، تطفيفٌ في الكيل والوزن وكتمُ للعيوب، وأكلٌ لأموال اليتامى وانتهابٌ لأموال العمال بغير حق، أيمانٌ فاجرة ومكرٌ وخديعة، زورٌ وخيانة ورشوةٌ وتزوير وطرقٌ مظلمة كثيرة فالاحتكار والغش دليل على دناءة نفس المحتكر، ومؤشر على سوء خلقه، وعلامة على قلة إيمانه لأنه يعرض نفسه للوعيد وليعلموا أنه لن تنفعهم أموالهم ولا أملاكهم فتمنع عنهم عقاب الله، وليعلموا أنهم موقوفون بين يدي خالقهم فيسألهم عن كل ما جمعوه، أهو مِن حلال أم مِن حرام؟.







ثالثا: حرمة الاحتكار والإستغلال والغش والتلاعب بأقوات الناس:



ولذلك نهى الإسلام عن الاحتكار وغلاء الأسعار والاستغلال والغش وكل هذه السلوكيات الاقتصادية السيئة، فأمر بإيفاء الكيل والميزان قال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ﴾ [الأنعام: 152]. وقال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ﴾ [الإسراء: 35]. ويمكن القول: إنَّ الأمانة في الكيل والميزان من جملة الأمانات التي أمَر الله تعالى بأدائها ومُراعاتها. ("التفسير الكبير")؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58]، وهي من الأخلاق العظيمة التي تبعَثُ على حِفظ حُقوق الآخَرين، وتُؤكِّد ما بينهم من مُودَّةٍ ومحبَّةٍ، وتُزيل طمَع النُّفوس إلى ما في أيدي الناس دُون جهدٍ، وحبَّذا للمرء أنْ يُرجِّح إذا أعطى، ويُنقص إذا أخَذ؛ قال صلى الله عليه وسلم: "إذا وزنتُم فأَرْجِحوا" (ابن ماجه، "صحيح الجامع": 825







وكمَا يعتَنِي الإسلام بتوفية الكَيْلِ والميزان يُحذِّر من التَّطفِيف؛ لأنَّ التَّطفِيف فيه دلالةٌ على أنَّ فاعلَه قد تأصَّلت فيه مَساوئ الأخلاق من غِشٍّ وخداع وخِيانة.







والتَّطفيف في الكيل والميزان أمرٌ محرَّم وكبيرةٌ من الكبائر؛ قال تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴾ [المطففين: 1 - 3]، وهو مُنذِرٌ بعقوبة الجبَّار في الدُّنيا التي تحصل في جلْب الشِّدَّة وغَلاء الأسعار والضِّيق في المعيشة. ("الأمانة في الإسلام" ص190)







وجاء عن ابن عباسٍ - رضِي الله عنهما - قوله: "لَمَّا قَدِمَ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا مِنْ أخْبثِ الناس كيلاً، فأنزَل الله سبحانه: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ﴾[المطففين: 1]، فأحسَنُوا الكيل بعد ذلك" (ابن ماجه، وحسَّنه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه")







والتَّطفيف في الكيل والميزان سبب من أسباك هلاك البلاد والعباد أخرج البيهقيُّ والحاكم عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خصالٌ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ ويتحرَّوا فيما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ " " رواه البيهقي، والحاكم، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، رقم (7978)، ؛ ("الصحيحة": 106، "صحيح الجامع": 7855)فهل يعي المسلمون معنى هذا الحديث العظيم في أحوالهم التي يعيشونها الآن؟.







وعند الطبراني في "الكبير" عن ابن عبَّاس - رضِي الله عنهما - أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمسٌ بخمْسٍ، ما نقضَ قومٌ العهدَ إلاَّ سُلِّط عليهم عدوُّهم، وما حكَموا بغير ما أنزَل الله إلاَّ فَشَا فيهمُ الفقرُ، ولا ظهَرت فيهم الفاحشةُ إلاَّ فشا فيهمُ الموتُ، ولا طفَّفوا المكيالَ إلاَّ مُنِعوا النَّبات وأُخذوا بالسنين، ولا منَعوا الزكاة إلاَّ حُبِسَ عنهُم القَطْرُ" ("صحيح الجامع": 3240)







وذكَر الله تعالى في كتابه الكريم عن أهل مَدْيَنَ أنهم كانوا ينقصون المكيال والميزان، ويبخَسون الناس أشياءهم؛ أي: يُنقِصُونهم قيمة أشيائهم في المعاملات؛ لذا كانت دعوةُ نبيِّه شعيب - عليه الصلاة والسلام - قومَه إلى توحيد الله سبحانه وتعالى ورعاية أمانة المكيال والميزان في المعاملات - ظاهرةً؛ قال تعالى: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ [هود: 84، 85].







قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: "بخس المكيال والميزان من الأعمال التي أهلَكَ الله بها قومَ شُعيب - عليه الصلاة والسلام - وقصَّ علينا قصَّتهم في غير موضعٍ من القُرآن؛ لنعتبر بذلك، والإصرارُ على ذلك من أعظم الكبائر، وصاحِبُه مُستوجِبٌ تغليظَ العُقوبةِ، وينبغي أنْ يُؤخَذ منه ما بخسَه من أموال المسلمين على طُول الزَّمان، ويُصرَف في مَصالح المسلمين، إذا لم يمكن إعادته إلى أصحابه" ("مجموع الفتاوى" (29/474)







وكذلك حرَّم الرسول صلى الله عليه وسلم الاحتكار وهذا يتناول كل بضاعة أو سلعة يحتاج إليها المسلمون، من قوت أو غير قوت، فعن معمر بن عبد اللّه- رضي اللّه عنه- عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «لا يحتكر إلّا خاطئ» « مسلم (1605) وابن ماجه (2154)







والخاطئ هو الآثم، المذنب، أي: لا يفعل هذا الفعل الشنيع إلا مَنْ اعتادت نفسه فعل الخطيئة والمعصية. وقال أيضاً: "من احتكر حَكْرة يريد أن يغلي بها على المسلمين، فهو خاطئ" أحمد، وصححه الألباني في "الصحيحة".







ووصف المحتكر بأنه خاطئ ليس أمرًا هينًا، فالله سبحانه وصف فرعون وهامان وجنودهما بأنهم كانوا خاطئين ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾ (القصص: 8)







ودعا النبي صلى الله عليه وسلم على كل محتكر بأن يبتليه الله بالمرض والإفلاس من جميع الأموال المحرمة التي جمعها من وراء هذه السلوكيات الخاطئة ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم مستجابة عن عمر بن الخطّاب- رضي اللّه عنه- قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «من احتكر على المسلمين طعاما ضربه اللّه بالجذام والإفلاس» « ابن ماجة (2155)، وفي الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله موثقون، وأحمد (1 لا 21) وصححه الشيخ أحمد شاكر رقم (135) وله شاهد عن ابن عمر (أحمد 2/ 33) وصححه الشيخ أحمد شاكر (488) وكذا عن أبي هريرة (2/ 351) ح (8602) وينظر مجمع الزوائد (4/ 100) ».







انظروا يا عباد الله إلى كلمة: "ضربه الله بالجذام والإفلاس"، فهذه معاملة له بنقيض قصده، فإنه لما سعى إلى أن يقلل السلع في الأسواق وأن يزداد المال عنده لكي يغتني ولكي يربح، أصابه الله بالإفلاس، وهو الفقر الشديد، وأيضا وعده بوعيد وهو أن يصيبه الجذام، والجذام مرض تتساقط منه الأعضاء ويتساقط منه اللحم، لأنه لما سعى إلى احتكار هذه السلع مع حاجة الناس إليها فإن الناس سيمرضون وسيصيبهم العناء، فعاقبه الله بأشد الأمراض وهو الجذام.







وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المحتكر ملعون والملعون هو المطرود من رحمة الله تعالى قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (الجالب مرزوق والمحتكر ملعون ) [رواه مسلم].







وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله برئ من هؤلاء المحتكرين والغشاشين جاء في مسند الإمام أحمد، وصححه العلامة أحمد شاكر، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي اللّه عنهما- أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَرِئَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ(عرصة -أي: مكان- ) أَصْبَحَ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى). أَخْرَجَهُ أحمد 2/33 (4880). وقال الشيخ أحمد شاكر (7/ 49) برقم (4880): إسناده صحيح. ».







وقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن يبيع طعاما مغشوشا للمسلمين وذلك حينما مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برجل يبيع طعاما "حبوبا"، فأدخل يده فيه فرأى بللا، فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟"، قال: أصابته السماء، أي: المطر، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "فهلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟ من غشنا ليس منا" رواه مسلم. وفى رواية أخرى يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من غش فليس مني" رواه مسلم وأبو داود والترمذي.







وجاء الوعيد الشديد لمن أدخَل في أسعار المسلمين شيئا ظُلمًا وعدوانًا ليغلِيَه عليهم، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ثَقُلَ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ يَعُودُهُ، فَقَالَ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيُغْلِيَهُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يُقْعِدَهُ بِعُظْمٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "، الطيالسي في مسنده ج 1/ ص 125 حديث رقم: 928.







وفى رواية، (قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لَيُغْلِيَ عَلَيْهِمْ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَقْذِفَهُ فِي مُعْظَمِ جَهَنَّمَ رَأْسُهُ أَسْفَلُهُ " الحاكم في مستدركه ج 2/ ص 15 حديث رقم: 2168) نقلا من موسوعة التخريج المكتبة الشاملة).







رابعا: أسباب كثرة انتشار الاحتكار والإستغلال والغش والتلاعب بأقوات الناس



أولا: كثرة الذنوب والمعاصي، وبُعد الناس عن ربهم ودينهم فبعض المسلمين أصبحوا مفرطين في كثير من الأحكام الشرعية، ليس ذلك فقط؛ بل أصبحوا يقعون في بعض الكبائر غير مبالين بغضب الله -تعالى- وسخطه، فعاقبهم الله تعالى بغلاء الأسعار وما يقع ذلك في الناس إلابسبب ذنوبهم، وما أصابك من سيئة فمن نفسك والله سبحانه وتعالى قد أخبرنا أنه لا تصيبنا مصيبة إلا بما كسبت أيدينا قال -تعالى-: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30).







وقال -تعالى-: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41]، وهذا الارتفاع في الأسعار عقوبة من الله تعالى، قال بعض المفسرين عن قوله تعالى: ((﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ﴾ [هود: 84] عن ابن عباس: (إني أراكم بخير)، قال: رُخْص السعر (وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط)، قال: غلاء سعر. (الأثر: 18467- " الذيال بن عمرو "، هكذا جاء هنا بالذال معجمة، وقد سلف في رقم: 14445، وتعليقي عليه، وتعليق أخي السيد أحمد رحمه الله، في ج 12: 589، رقم: 7، " الزباء بن عمرو "، وفي ابن كثير: " الديال " بدال مهملة، ولم نستطع أن نعرف من يكون. والإسناد هنا، هو الإسناد هناك نفسه).







وقال تعالى: ﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [السجدة: 21] قال القرطبي /: ولا خلاف أن العذاب الأكبر عذاب جهنم، والأدنى غلاء السعر. (14/107) فغلاء الأسعار من العذاب والعياذ بالله.







ثانيا: - حب المال، والإكثار منه، فحب المال والحرص على كسبه بأي طريق حتى ولو كان عن طريق الحرام أمر مشاهد للجميع، وخاصة مع انتشار المعاملات الربوية، واختلاط الحلال بالحرام، قال -تعالى-: ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً ﴾ [الفجر: 20]، وعندما يطغى ذلك على الناس يصبح الأمر خطيراً جدا، ويتسبب في مخالفات شرعية كثيرة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "فوالله لا الفقر أخشى عليكم! ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم" متفق عليه.







ثالثا: تلاعب التجار والمحتكرين بالسلع التي يحتاج إليها الناس؛ فبعضهم يقوم بتخزينها وإخفائها من أجل رفع ثمنها لتحصيل أكبر كسب ممكن، ويتضح ذلك خلال بعض المواسم، كدخول شهر رمضان وغيره، وهذا فيه إضرار بالناس، وخاصة الفقراء وأصحاب الحاجات، وهو -أيضاً- منهي عنه شرعاً قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا ضرر ولا ضرار" رواه أحمد ومالك في الموطأ وصححه الألباني في "الإرواء"، ج (8)، رقم (2653)، ولأنه من الظلم الواضح البيّن الذي أمر الله باجتنابه، قال الله -تعالى- في الحديث القدسي: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا" رواه مسلم.







خامسا: حلول مشكلة الاحتكار والاستغلال والغش والتلاعب بأقوات الناس في شريعة الله عز وجل كثيرة، منها:



1- تربية الضمير على التقوى ومراقبة الله تعالى قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ [ الأعراف 96 ]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة 65، 66 ]، فالتقوى هي سبب لسعة الأرزاق والبركة فيها، قال تعالى: ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]







2- كثرة الاستغفار والدعاء والتضرع الى الله تعالى والتوبة الصادقة والعمل الصالح، فما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة، والاستغفار من أسباب الازدهار فمن سنن الله أن الاستغفار المقرون بالتوبة والإنابة سبب من أسباب الرزق، قال الله تعالى: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً ﴾ [نوح: 12]. قال ابن صبيح: شكا رجل إلى الحسن البصري الجدوبة فقال له: استغفر الله. وشكا آخر إليه الفقر، فقال له: استغفر الله. وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولداً، فقال له: استغفر الله. وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله. فقلنا له في ذلك؟ فقال: ما قلت من عندي شيئاً، إن الله تعالى يقول في سورة نوح: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10-12] تفسير القرطبي 18/302.







وقال سبحانه ﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ﴾ [هود: 3].







و قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام 42، 43]، قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء ﴾ يعني الفقر والضيق في العيش، ﴿ وَالضَّرَّاء ﴾ وهي الأمراض والأسقام والآلام، ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴾ أي: يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون، ﴿ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ﴾ أي: فهلا إذ ابتليناهم بذلك تضرعوا إلينا وتمسكنوا لدينا ﴿ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ أي: ما رقت ولا خشعت، ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أي: من الشرك والمعاصي " (تفسير ابن كثير ج3 /186 سورة الأنعام )







3- التكافل الاجتماعي وأداء الزكاة والصدقات. فالزكاة عون للفقراء والمحتاجين، تأخذ بأيديهم لاستئناف العمل والنشاط إن كانوا قادرين، وتساعدهم على ظروف المعيشة إن كانوا عاجزين، فتحمي المجتمع من الفقر والدولة من الإرهاق والضعف، وعدم إخراج الزكاة سبب من أسباب البلاء والغلاء، ومن أسباب العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع لغياب التكافل فيما بينهم، أما إخراج الزكاة فهو سبب البركة وسبب المحبة والمودة بين أفراد المجتمع ولقد كَفَل الإسلام للإنسان الحاجات الأصلية التى تحقق له الحياة الكريمة وتُعينَه على عبادة الله سبحانه وتعالى، لتتفاعل الماديات والروحانيات في إطار متوازن لبناء الجسد وغذاء الروح، حتى أن الفقير الذى لا يملك الحد الأدنى للحاجات الأصلية كفل الله سبحانه وتعالى له حقاً معلوماً في مال الغنى، ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾ [المعارج: 2425]، وأن تقوم الجمعيات والمؤسسات الخيرية والأفراد بإيجاد الحلول على جميع المستويات لهؤلاء المساكين. ﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ﴾ (البقرة: من الآية272) [يا ابن آدم أَنفق أُنفق عليك].







كما أشارت السنة النبوية إلى ذلك قال صلى الله عليه وسلم: " من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له " (صحيح: صحيح الجامع‏ 6497 ).







وعندما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا معاذ بن جبل إلى اليمن فقال له: (أعلمهم بأن الله افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنياهم فتُرد على فقرائهم [ رواه مسلم]، ويعنى هذا أن للفقير حقوقاً عند الغنى وعند الدولة حتى يعيش حياة كريمة،ومن مسئولية ولى الأمر في الإسلام أن يكفل للإنسان بصفة عامة وللفقير بصفة خاصة هذه الحقوق ولا سيما عند غلاء الأسعار ويعتبر مسئولاً أمام الله عز وجل عن شقاء رعيته، فهو راع ومسئول عن رعيته.







قال الشاعر:





الله أعطاك فابذل من عطيته

فالمال عاريّة والعمْر رحالُ


المال كالماء إِنْ تحبس سواقِيَه يأسن

وإن يجرِ يعذب منه سلسالُ









وقال أبو العلاء:





ياقوتُ ما أنتَ يا قوتٌ ولا ذهبُ

فكيف تُعجِزُ أقواماً مساكينا


واحسبُ الناس لو اعطوا زكاتهُمُ

لما رأيت بني الإعدام شاكِينا


فإن تعِشْ تبصر الباكين قد ضحكوا

والضاحكينَ لِفُرطِ الجهل باكينا


لا يتركن قليلَ الخير يفعلُه من

نالَ في الأرض تأييداً وتمكينا









4- التحلي بخلق القناعة،فالغنى في الحقيقة غنى النفس، وقال صلى الله عليه وسلم: "... وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس ... " (حسن: صحيح سنن الترمذي 1876) والنبي صلى الله عليه وسلم أوصانا في أمور الدنيا إلى أن ننظر إلى من هو دوننا وليس إلى من هو فوقنا، فقال" انظروا إلى مَن أسفلَ منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله" [رواه مسلم] وقد قال صلى الله عليه وسلم " قد أفلح من أسلم ورُزق كفافا وقنعه الله بما آتاه " [رواه مسلم].





هي القناعة فالزمها تعش ملكاً

لو لم يكن منك إلا راحةُ البدن


وانظر إلى مالك الدنيا بأجمعها

هل راح منها بغير القطن والكفن









قال الخليفة هشام بن عبد الملك لسالم بن عبد الله بن عمر عند الكعبة: سلني حاجتك، فقال: والله إني لأستحي أن أسأل في بيته غيره. فلما خرج من المسجد قال هشام الآن خرجت من بيت الله فاسألني، فقال: من حوائج الدنيا أم الآخرة؟ قال: من حوائج الدنيا، فقال سالم: ما سألتها ممن يملكها، فكيف أسالها ممن لا يملكها. ( الصفدي: الوافي بالوفيات 15 / قال أبو العتاهية:





لا تخضعن لمخلوق على طمع

فإن ذلك نقص منك في الدين


لا يستطيع العبد أن يعطيك خردلة

إلا الذي سواك من طين


فلا تصاحب غنيا تستعز به

وكن عفيفا وعظم حرمة الدين


واسترزق الله مما في خزائنه

فإن رزقك بين الكاف والنون


واستغن بالله عن دنيا الملوك كما

استغن الملوك بدنياهم عن الدين










كان مالك بن دينار يمشي في سوق البصرة فرأى التين فاشتهاه ولم يكن معه نقود فخلع نعله وأعطاه لبائع التين فقال: لا يساوي شيئا فأخذ مالك نعله وانصرف فقيل للرجل إنه مالك بن دينار فملأ الرجل طبقا من التين وأعطاه لغلامه ثم قال له: ألحق بمالك بن دينار فإن قبله منك فأنت حر... فعدا الغلام وراءه فلما أدركه قال له اقبل مني فإن فيه تحريري. فقال مالك: إن كان فيه تحريرك فإن فيه تعذيبي. فألح الغلام عليه فقال: أنا لا أبيع الدين بالتين ولا آكل التين إلى يوم الدين.





جاء في بعض الآثار أن الله أوحى إلى موسى - عليه السلام -: يا موسى لا تخافنَّ غيري ما دام ليَ السُّلطان، وسلطاني دائمٌ لا ينقطعُ، يا موسى، لا تهتمَّنَّ برزقي أبداً ما دامت خزائني مملوءةً، وخزائني مملوءةٌ لا تفنَى أبداً، يا موسى لا تأنس بغيري ما وجدتَني أنيساً لك، ومتى طلبتني وجدتني، يا موسى، لا تأمن مكري ما لم تَجُزِ الصِّراطَ إلى الجنة. ( ابن رجب: شرح جامع العلوم والحكم 28).








يقول الشاعر:





دع المقادير تجري في أعنتها

ولا تبيتن إلا خالي البال


ما بين طرفة عين وإنتباهتها

يغير الله من حال إلى حال


فكن بين الناس كالميزان معتدلا

ولا تقولن ذا عمي وذا خالي


لا يقطع الراس إلا من يركّبها

ولا يرد المنايا كثرة المال









وقال آخر:





دعِ الحرصَ على الدنيا

وفي العيش فلا تطمَع


فلا تجمع من المال

فما تدري لمَن تجمع


فإن الرزق مقسوم

وسوءَ الظنِّ لا ينفع









5- ترشيد الاستهلاك الاقتصاد في المعيشة والتوسط في النفقة وعدم شراء الا ماتحتاجة: وليس المسلم الحكيم بالذي يرهق نفسه بكثرة الشراء، ويهدر الأوقات والأموال والأعمار. وفي كثير من الأحيان يكون مصير شراء ما لا حاجة له من الأطعمة براميل القمامة. وقد قال تعالى: ويقول سبحانه وتعالي: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ قال شيخ الإسلام رحمه الله: فالذين يقتصدون في المآكل نعميهم بها أكثر من المسرفين فيها. فإن أولئك إذا أدمنوها وألفوها لا يبقى لها عندهم كبير لذة، مع أنهم قد لا يصبرون عنها وتكثر أمراضهم بسببها.، يقول الله عز وجل: ﴿ وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾.







علينا أن نعمل على تطبيق المنهج الشرعي في الاقتصاد وعدم الإسراف والتبذير في حياتنا اليومية، فالتبذير نوع من أنواع كفر النعمة، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾ [الإسراء: 27].







ولا يوجد أدل على ذلك أفضل من بيت النبوة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعروة بن الزبير: " ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار يعني لا يطبخون شيئاً قال عروة: فقلت: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء " (رواه البخاري 6459، ومسلم 2973 ).




دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ابنته حفصة رضي الله عنها فقدمت إليه مرقا باردا وصبت عليه زيتا فقال: إدمان في إناء واحد؟ لا آكله حتى ألقى الله عز وجل.








رَوَى جَابِرٌ قَالَ رَأَى عُمَرُ لَحْمًا مُعَلَّقًا فِي يَدِي فَقَالَ: مَا هَذَا يَا جَابِرُ؟ فَقُلْتُ: اشْتَهَيْتُ لَحْمًا فَاشْتَرَيْتُهُ، فَقَالَ أَوَ كُلَّمَا اشْتَهَيْتَ اشْتَرَيْتَ يَا جَابِرُ؟ أَمَا تَخَافُ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا ﴾. ابن مفلح: الآداب الشرعية 3/341.







سادسا: دور الدولة والمجتمع في التعامل مع المحتكرين على الدولة مسؤولية عظيمة تجاه هذه الأزمة الطاحنة، تتمثل في كبح جماح التجار وضبط تغولهم وافتراسهم للمواطنين بزيادة الأسعار دون رقيب أو حسيب، والنهى عن الاحتكار في نشرات الأخبار والجرائد الرسمية.







كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكذلك عثمان في خلافتيهما -رضي الله عنهما- "كانا ينهيان في الأسواق عن احتكار الطعام".



ويحب على المسؤولين إجبار المحتكر على بيع ما يحتكِره، والفقهاء يقولون: إن من احتكر سلعة على الوجه الممنوع يجب عليه أن يتوب إلى الله تعالى، ويخرج السلعة إلى السوق ويبيعها لأهل الحاجة إليها بالسعر الذي اشتراها به ولا يزيد عليه شيئا، لأنه منع الناس منها بشرائها من غير وجه حق، فيجب أن يمكنهم منها بالسعر الذي كانوا يشترونها به لو لم يتعدَّ عليها، ويذهب جمهور الفقهاء إلى أن لولي الأمر إذا رفض المحتكِر تنفيذ ذلك مصادرة السلع المخزونة وبيعها في السوق بثمن المثل، ويجوز تعويض المحتكر بعد ذلك أو عدم تعويضه، كذلك يجوز لولي الأمر تعزير المحتكِر بأحد أمور يراها الحاكم، فقد يكون التعزير بأخذ ما يترتب على الاحتكار من ربح ويوزعه على المحتاجين، وقد يكون التعزير بحبْس المحتكِر، وقد يكون التعزير عن طريق إتلاف أمواله المحتكَرة تأديباً له، كما فعل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مع بعض المحتكِرين أو يكون بالحجر عليه وغيره مما هو داخل في قاعدة: "تحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام".







وعلى الناس الاتحاد والوقوف بجانب الدولة في مواجهة المحتكرين والمتسببين في غلاء الأسعار جاء في الأثر أن الناس في زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاؤوا إليه وقالوا: نشتكي إليك غلاء اللحم فسعِّرْه لنا، فقال: أرْخِصُوهُ أنتم؟ فقالوا: نحن نشتكي غلاء السعر، واللحم عند الجزارين، ونحن أصحاب الحاجة، فتقول: أرخصوه أنتم! وهل نملكه حتى نرخصه؟ وكيف نرخصه وهو ليس في أيدينا؟ فقال قولته الرائعة: اتركوه لهم. فدلهم رضي الله عنه إلى طريقة سديدة لمعالجة سعر هذه السلعة وذلك بتركها، فهل يعي المسلمون ذلك ويتركوا ما غلا سعره إلى ما هو دونه كي يعلم هؤلاء المحتكرون أن الناس يمكنهم ترك سلعتهم فيرخصونها؟.







بل إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يطرح بين أيدينا طريقة أخرى في مكافحة الغلاء وهي إرخاص السلعة عبر إبدالها بسلعة أخرى؛ فعن رزين بن الأعرج مولى لآل العباس قال: غلا علينا الزبيب بمكة فكتبنا إلى على بن أبى طالب بالكوفة أن الزبيب قد غلا علينا، فكتب أن أرخصوه بالتمر. أي: استبدلوه بشراء التمر الذي كان متوفرا في الحجاز وأسعاره رخيصة فيقل الطلب على الزبيب فيرخص، وإن لم يرخص فالتمر خير بديل فانتبهوا -عباد الله- لتلك التوجيهات، فأنتم بيدكم بعض علاج مشكلة الغلاء واحتكار السلع، فإذا وجد التجار أن الناس زهدوا فيما عندهم من السلع الغالية أرخصوها وحرصوا على بيعها.







قال محمود الوراق:





إني رأيت الصبر خير معول

في النائبات لمن أراد معولا


ورأيت أسباب القناعة أكدت

بعرى الغنى فجعلتها لي معقلا


فإذا نبا بي منزل جاوزته

وجعلت منه غيره لي منزلا


وإذا غلا شيء علي تركته

فيكون أرخص ما يكون إذا غلا









ولما قامت الأزمة في عهد عمر رضي الله عنه في عام الرمادة، وحصل قحطٌ شديد وقل الطعام، ودام تسعة أشهر. وسمي عام الرمادة لأن الريح كانت تسفي تراباً كالرماد. وقيل: لأن الأرض كانت سوداء مثل الرماد. فما هي التدابير التي اتخذها عمر رضي الله عنه في هذه الأزمة؟



أولاً: حث الناس على كثرة الصلاة والدعاء واللجوء إلى الله. وكان يصلي بالناس العشاء ثم يخرج حتى يدخل بيته فلا يزال يصلي حتى يكون آخر الليل، ثم يخرج فيأتي الأنقاب –أطراف المدينة – فيطوف عليها ويقول في السحر: اللهم لا تجعل هلاك أمة محمد على يدي. ويقول: اللهم لا تهلكنا بالسنين –يعني القحط- وارفع عنا البلاء يردد هذه الكلمة.







ثانياً: كتب إلى عماله على الأمصار طالباً الإغاثة، وفي رسالته إلى عمرو بن العاص والي مصر، بعث إليه: يا غوثاه! يا غوثاه! أنت ومن معك ومن قبلك فيما أنت فيه، ونحن فيما نحن فيه. فأرسل إليه عمرو بألف بعير تحمل الدقيق. وبعث في البحر بعشرين سفينة تحمل الدقيق والدهن. وبعث إليه بخمسة آلاف كساء. وهكذا أرسل إلى سعد بن أبي وقاص فأرسل له بثلاثة آلاف بعير تحمل الدقيق، وبعث إليه بثلاثة آلاف عباءة، وإلى والي الشام فأرسل إليه بألفي بعير تحمل الدقيق، ونحو ذلك مما حصل من مواساة المسلمين لبعضهم. لأن هذه الأمة واحدة. فإذا مسّ بعضها شدّة، تداعى الباقي لها. جسدٌ واحد.







ثالثاً: أحس عمر بمعاناة الناس. قال أنس رضي الله عنه: كان بطن عمر يقرقر عام الرمادة وكان يأكل الزيت، ولا يأكل السمن. فقرقر بطنه فنقرها بأصبعيه، وقال: تقرقر، إنه ليس لك عندنا غيره حتى يُحيا الناس. أي: يأتي الله بالحيا والمطر الذي يغيث به الأرض. وقال أسلم: كنا نقول لو لم يرفع الله المحن عام الرمادة لظننّا أن عمر يموت هماً بأمر المسلمين. ثم يقوم رضي الله عنه بوعظ الناس وينادي: أيها الناس استغفروا ربكم ثم توبوا إليه وسلوه من فضله واستسقوا سقيا رحمة. وطلب الناس من العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام الرجل الصالح، وأقرب الحاضرين إلى النبي عليه الصلاة والسلام أن يخرج ليستسقي لهم استشفاعاً بدعاء الرجل الصالح من آل البيت. وكان العباس حياً فلم يطلبوا من ميت ولم يطلبوا شيئاً لا يقدر عليه الحي. وخرج العباس يدعو الله، فدعا ودعا، وبكى، فاستجاب الله ونزل الغيث.







سابعا وأخيرا: رسالة إلى تجار المسلمين وما ينبغي أن يكونوا عليه في مثل هذه الأحوال



أيها التجار: لقد جاءت شريعتنا العظيمة برحمة العباد، والراحمون يرحمهم الرحمن، والمحسنون جزاؤهم الإحسان. والتاجر المسلم يجب أن يكون ذو شفَقَة وعَطف بإخوانه المسلمين، يتحلّى بحسن النية، والرفق بالمسلمين، وتوفير الجيد لهم بالثمن المناسب لهم لا يغالي في الرِّبح، ولا يبالغ في التكسُّب، ولا يرهق كواهل إخوانه، فعَن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "رحِم الله رجلاً سمحًا إذا باع وإذا اشتَرى وإذا اقتَضَى" أخرجه البخاريّ.







وهؤلاء التجار أصحاب القلوبِ الرحيمة، هم المحظوظون بالرحمة، الموعودون بالبركةِ في أرزاقهم، والسعةِ في أموالهم، والصِّحةِ في أبدانهِم، والسعادة في نفوسهم. والتاجر الأمين في جنَّة ربِّ العالمين مع النبيِّين والصِّدِّيقين: أخرج الترمذي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "التاجر الصَّدوق الأمين مع النبيِّين والصِّديقين والشُّهَداء" (إسناده جيد، وأشار الألباني إلى ضعفه في "جامع الترمذي"، ولكن له شواهد كثيرة يتقوَّى بها، قال الذهبي: هو حديثٌ جيِّد الإسناد صَحيح المعنى)




والتاجر المسلم يجب لا يكذب ولا يحتال وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون فقال: يا معشر التجار. فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفعوا أعناقهم، وأبصارهم إليه. فقال: إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً، إلا من اتقى الله وبر وصدق. رواه الترمذي وهو حديث صحيح.








والتاجر المسلم يجب أن يكون أمينا وبأمانة التُّجَّار المسلمين وصِدقهم دخَل الناس في دِين الله أفواجًا: إنَّ أثَر التُّجَّار الأمناء الصادقين في انتشار الإسلام لا يقلُّ عن أثَر الجيوش في الفتوحات الإسلاميَّة، بل إنَّه فاقَ أثَر هذه الجيوش، ووصَل إلى مناطق لم تدخُلها جيوش المسلمين، وإنما دخَلها التُّجَّار المسلمون بأمانتهم؛ كمناطق جنوب شرق آسيا، وغرب إفريقيا ووسطها.







ولِمَكارم الأخلاق وعلى رأسها الأمانةُ أسرَعَ كرامُ الناس إلى اعتناق الإسلام لدَعوته إليها.







وما أسلم صفوةُ الصحابة على يد أبي بكرٍ الصِّدِّيق إلاَّ لِمَا عَهِدوه فيه من خُلُقٍ وأمانة؛ فأسلَمَ على يديه عثمان بن عفَّان، والزبير بن العوَّام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقَّاص، وطلحة بن عبيدالله رضِي الله عنهم وذلك لِمُخالطتهم الصِّدِّيقَ التاجرَ الأمين، وما لمسوه من أخلاقه الكريمة.







والتجار في الماضي كانت عندهم أمانة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْأَرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الْأَرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلَامٌ. وَقَالَ الْآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ. قَالَ: أَنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا"( البخاري ).







"وذات يوم خرج أحد التجار الأمناء في سفر له، وترك أحد العاملين عنده ليبيع في متجره، فجاء رجل يهودي واشتري ثوبًا كان به عيب. فلما حضر صاحب المتجر لم يجد ذلك الثوب، فسأل عنه، فقال له العامل: بعته لرجل يهودي بثلاثة آلاف درهم، ولم يطلع على عيبه. فغضب التاجر وقال له: وأين ذلك الرجل؟ فقال: لقد سافر. فأخذ التاجر المسلم المال، وخرج ليلحق بالقافلة التي سافر معها اليهودي، فلحقها بعد ثلاثة أيام، فسأل عن اليهودي، فلما وجده قال له: أيها الرجل! لقد اشتريت من متجري ثوبًا به عيب، فخذ دراهمك، وأعطني الثوب. فتعجب اليهودي وسأله: لماذا فعلت هذا؟ قال التاجر: إن ديني يأمرني بالأمانة، وينهاني عن الخيانة، فقد قال رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا" (مسلم)، فاندهش اليهودي وأخبر التاجر بأن الدراهم التي دفعها للعامل كانت مزيفة، وأعطاه بدلاً منها، ثم قال: لقد أسلمت لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله. "







جاء عن محمد بن المنكدر رحمه الله أنه كان له سلعٌ تباع بخمس وأخرى بعشرة. فباع غلامه في غيبته شيئاً من الخمسيات بعشرة. فلما عرف لم يزل يطلب ذلك المشتري طول النهار حتى وجده، فقال له: إن الغلام قد أخطأ فباعك ما يساوي خمسة بعشرة. فقال: يا هذا قد رضيت. قال: وإن رضيت فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضى لأنفسنا. فقد ربحت ثلاث؛ إما أن تستعيد مالك وتعيد السلعة. وإما أن نرد إليك خمسة. وإما أن تأخذ بدلاً من سلعة الخمس سلعة العشر. فقال: أعطني خمسة. فرد عليه خمسة وانصرف الأعرابي المشتري يسأل ويقول: من هذا الشيخ؟ فقيل له: هذا محمد بن المنكدر. فقال: لا إله إلا الله، هذا الذي نستسقي به في البوادي إذا قحطنا.





يا ليتني أبيع الشيء يكسب في

ه المشتري الربح ديناراً بعشرينا


أحب شيء إلى نفسي معاملةٌ

كسب العميل فنأتيه ويأتينا









وكان أبو حنيفة رحمه الله يبيع القماش وكان عنده ثوبٌ فيه عيب فجعله جانباً. فجاء خادمه في غيبته فباع الثوب المعيب بقيمته لو كان سليماً. فلما جاء الإمام إلى محله وسأل عن ذلك الثوب قال الغلام بعته قال بكم؟ قال: بكذا، أي بسعر السليم. قال: هل أطلعت المشتري على العيب الذي فيه؟ قال: لا. فتصدق بقيمة الثوب كله.







وينبغي أن يكون التاجر سخياً بالصدقات. قحط الناس في زمن أبي بكر فقدمت لعثمان رضي الله عنه قافلة من ألف راحلة من البر والطعام. فغدا التجار عليه، فخرج إليهم فقال: ماذا تريدون؟ قالوا: بلغنا أنه قدم لك ألف راحلة براً وطعاماً. براً وطعاماً. بعنا حتى نوسع على فقراء المدينة. فقال لهم: ادخلوا فدخلوا. فقال: كم تربحوني على شرائي؟ قالوا: العشرة اثنا عشر. قال: قد زادوني. قالوا: العشرة أربعة عشر. قال: قد زادوني. قالوا: العشر خمسة عشر. قال: قد زادوني. قالوا: من زادك ونحن تجار المدينة. قال: زادني بكل درهم عشرة عندكم زيادة؟ قالوا: لا. قال: فأشهدكم معشر التجار أنها صدقة على فقراء المدينة. [رواه المحب الطبري في (الرياض النظرة في مناقب العشرة): (43)].







هكذا كان عثمان رضي الله عنه وابن عوف وغيرهم من فقراء، ومن أغنياء التجار، يجودون على فقراء المسلمين، ولا يستغلّون مثل هذه الفرص لكي يرفعوا الأسعار ويحتكروا الأطعمة ليبيعوا على الناس بالغلاء. إن الرفق بالمسلمين أمرٌ جدّ طيب. وإن الحرص على مصلحتهم أمرٌ جد حسن.







فاتقوا الله -أيّها التجار- وارحموا إخوانكم وأهليكم، يرحمكم ربكم وطهِّروا بيوعَكم من الغشِّ والخداع، والمبالغة في الأسعارِ يبارَك الله لَكم فيها ولقد تبيَّنَ أن تلك الأمراض المعضلة التي بدأت تدب في الناس من غلاء واحتكار للسلع غالبها من ضعف الإيمان، وحب الدنيا، وإيثارها على العاجلة، وأنا أقول لمن يقع في ذلك ويرفع الأسعار على الناس: كم ستعيش في الدنيا؟ وكم ستملك؟ وإلى متى التمتع بملذاتها؟ أليست لك نهاية؟ أليس لك لقاء بملَك الموت؟ ألا تعلم أنك ستقف بين يدي رب العالمين فيجازيك بما فعلت؟ فلْيتَّقِ الله كُلُّ مَن تُسوِّل له نفسه احتكار السلع ورفع أسعارها.







ونقول لهم أيها التجار: هذه الدولة المباركة، كم قدمت لكم من إعانات وتسهيلات في مصانعكم وشركاتكم، فماذا قدمتم للوطن وأهل الوطن، بعيدًا عن تعميم الأحكام نقول: إن كثيرًا من التجار وللأسف مارسوا أبشع العقوق للوطن وأهله، لا تسألهم عن توظيف الكوادر الوطنية وتشجيع الشباب بالمرتبات المناسبة، بل اسألهم عن دفع ما أوجب الله عليهم من زكاة المال، التي لو دفعت لأهلها لم يبق بيننا فقير فهذه رسالة للتجار والبائعين والمقاولين وأصحاب العقارات الذين لا يراعون في مؤمن إلا ولا ذمة ولا حول ولا قوة إلا بالله.







نسأل الله عز وجل أن يلطف بنا، وأن يرفع ما نزل بنا من غلاء في الأسعار، اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والزنا والزلازل والمحن، وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.







المراجع:



القرآن الكريم.



موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم.



خطبة قيمة العمل في الإسلام للشيخ سعد الشهاوي.



خطبة الأمانة فضائلها ومجالاتها للشيخ سعد الشهاوي.



مشكلة غلاء الأسعار وأثرها على أمن المجتمع للدكتور حسين حسين شحاتة الأستاذ بجامعة الأزهر خبير استشاري في المعاملات المالية الشرعية.



اختلال الموازنات. . في فقه الأزمات د. مسفر بن علي القحطاني الأستاذ بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن.



مشكلة غلاء الأسعار وكيف عالجها الإسلام د. بدر عبد الحميد هميسه.



غلاء الأسعار الشيخ محمد صالح المنجد.



خطبة بعنوان ذكرى الإسراء والمعراج - غلاء الأسعار – التسعير المكان: جامع الإمام مالك بن أنس / بالدمام التأريخ: 27/7/1428ه.




احتكار السلع وغلاء الأسعار أ. د. عبدالله بن محمد الطيار.



أسباب غلاء الأسعار الشيخ أحمد صبري.



سياسة فقه الأزمات [عام الرمادة أنموذجا] سلمان بن يحي المالكي.



صفحات من حياة عثمان رضي الله عنه للدكتور خالد بن عبد العزيز الباتلي.



ملتقى الخطباء.




شبكة الإنترنت.






Viewing all articles
Browse latest Browse all 1343

Trending Articles