من آثار المحبة الإلهية ومظاهرها .. أن يسدد الله تعالى خطاه فيكون النجاح دائمًا حليفه
عن أبي هريرة - رضى الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى قال:... فإذا أحببتُه كنتُ سَمْعَه الذي يَسمع به، وبصَره الذي يُبصر به، ويدَه التي يبطِش بها، ورجله التي يمشي بها، ولَئِن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه"[1]. وعن أبي أُمامة يقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: "فأكون سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانَه الذي ينطق به، وعقله الذي يعقِلُ به، فإذا دعاني أجبتُه، وإذا سألني أعطيتُه، وإن استنصرني نصرْتُه"[2].
قال الحافظ:
فمن والى أولياءَ اللهِ أكرمَه اللهُ، وقال الطوفي: لما كان وليُّ الله من تولَّى اللهَ بالطاعة والتقوى تولاَّه الله بالحفظ والنصرة.. وقد استُشْكِل كيف يكون البارِي جلَّ وعلا سمعَ العبْد وبصرَه الخ، والجواب من أوجه..
أحدُها: أنه ورد على سبيل التمثيل، والمعنى كنت سمعه وبصره في إيثارِه أمري، فهو يحبُّ طاعتي ويؤثر خِدمتي، كما يحبُّ هذه الجوارح.
ثانيها: أن المعنى كليَّتُه مشغولةٌ بي؛ فلا يصغي بسمعه إلا إلى ما يرضيني، ولا يرى ببصره إلا ما أمرتُه به.
ثالثها: المعنى أجعَلُ له مقاصدَه كأنَّه ينالها بسمعه وبصره.. الخ.
رابعها: كنت له في النصرة كسمعه وبصره ويدِه ورجله في المعاونة على عدوِّه.
خامسها: قال الفاكهاني، وسبقه إلى معناه ابنُ هبيرة: هو فيما يظهر لي أنه على حذف مضافٍ، والتقديرُ كنتُ حافظَ سمعِه الذي يسمع به فلا يسمع إلا ما يحلّ استماعه، وحافظ بصرِه كذلك.. الخ.
سادسها: قال الفاكهاني: يحتمل معنى آخر أدقَّ من الذي قبله، وهو أن يكون معنى سمعه مسموعَه؛ لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول؛ مثل فلان أمَلي بمعنى مأمولي، والمعنى أنه لا يسمع إلا ذكري ولا يلتذُّ إلا بتلاوة كتابي، ولا يأنَس إلا بمناجاتي، ولا ينظرُ إلا في عجائب ملكوتي، ولا يمدُّ يدَه إلا فيما فيه رضاي، ورجله كذلك، وبمعناه قال ابنُ هبيرة أيضا.
وقال الطوفي:
اتفق العلماء ممن يُعتَدُّ بقوله أن هذا مجازٌ وكناية عن نصرة العبد وتأييده وإعانته، حتى كأنه سبحانه ينزل نفسه من عبده منزلة الآلات التي يستعين بها، ولهذا وقع في رواية "فبي يَسمع، وبي يُبصر، وبي يَبطِش، وبي يمشي"[3].
وقال الخطابي:
هذه أمثال، والمعنى توفيق الله لعبده في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء، وتيسير المحبَّة له فيها بأن يحفظ جوارحه عليه ويعصِمه عن مُواقعة ما يكرَه اللهُ؛ من الإصغاء إلى اللهو بسمعه، ومن النظر إلى ما نهى الله عنه ببصره، ومن البطش فيما لا يحلُّ له بيدِه، ومن السعي إلى الباطل برجله، وإلى هذا نحا الداودي ومثله الكلاباذي وعبر بقوله: أحفظُه فلا يتصرَّف إلا في محابِّي؛ لأنه إذا أحبَّه كرِهَ له أن يتصرف فيما يكرهه منه.
سابعها: قال الخطَّابي أيضًا: وقد يكون عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء والنجح في الطلب، وذلِك أن مساعيَ الإنسان كلَّها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة، وقال بعضُهم، وهو منتزَع مما تقدم: لا يتحرَّك له جارحةٌ إلا في اللهِ ولله؛ فهي كلُّها تعمل بالحقِّ للحق، وأسند البيهقي في الزهد عن أبي عثمان الجيزي أحد أئمة الطريق قال معناه: كنت أسرَع إلى قضاء حوائجِه من سمعه في الإسماع وعينه في النظر ويدِه في اللمس ورجلِه في المَشْي.
• قوله: "أعطيته"؛ أي ما سأل.
• قوله "ولئن استعاذني".. المعنى أعذته مما يخافُ، وفي حديثِ أبي أُمامة "وإذا استنصر بي نصرتُه"، وفي حديث أنس "نصحَني فنصحتُ له"[4].
وقد استشكل بأن جماعةً من العُبَّاد والصُّلَحاء دعَوْا وبالغُوا ولم يجابوا، والجواب أن الإجابة تتنوع؛ فتارةً يقع المطلوب بعينه على الفور، وتارةً يقع ولكن يتأخَّر لحكمةٍ فيه، وتارة قد تقع الإجابة ولكن بغير عين المطلوب؛ حيث لا يكون في المطلوب مصلحة ناجزة وفي الواقع مصلحة ناجزة أو أصلح منها.
وفي حديث حذيفة من الزيادة "ويكون من أوليائي وأصفيائي، ويكون جارِي مع النبيين والصديقين والشهداء في الجنة"[5].
قال الطوفي:
هذا الحديث أصلٌ في السلوك إلى الله والوصول إلى معرفتِه ومحبَّته وطريقِه؛ إذ المفترضات الباطنة وهي الإيمان، والظاهرة وهي الإسلام، والمركَّب منهما وهو الإحسان فيهما، كما تضمَّنه حديثُ جبريل، والإحسان يتضمن مقامات السالكين من الزهد والإخلاص والمراقبة وغيرِها، وفي الحديث أيضًا أن من أتى بما وجب عليه وتقرب بالنوافل لم يُرَدَّ دعاؤه لوجود هذا الوعد الصادق المؤكَّد بالقسم، وقد تقدَّم الجواب عما يتخلَّف من ذلك وفيه أن العبد، ولو بلغ أعلى الدرجات حتى يكون محبوبًا لله، لا ينقطع عن الطلب من الله لما فيه من الخضوع له وإظهار العبودية، وقد تقدَّم تقرير هذا واضحًا في أوائل كتاب الدعوات[6].
وقال المناوي - رحمه الله تعالى -:
"فإذا أحببته"؛ لتقرُّبه إليَّ بما ذكر حتى قلبه بنور معرفتي، "كنت"؛ أي صرت "سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده الذي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها".. يعني يجعَلُ الله سلطان حبِّه غالبًا حتى لا يرى ولا يسمع ولا يفعل إلا ما يحبُّه الله، عونًا له على حماية هذه الجوارح عما لا يرضاه، أو هو كنايةٌ عن نصرة الله وتأييده وإعانته له في كلِّ أموره، وحماية سمعه وبصره وسائر جوارحه عما لا يرضاه، وحقيقة القول ارتهان كلية العبد بمراضي الرب على سبيل الاتساع؛ فإنهم إذا أرادوا اختصاص شيءٍ بنوعِ اهتمام وعناية واستغراق فيه ووَلَه به ونزوعٍ إليه سلكوا هذا الطريق.. قال:
والحاصل أن من تقرّب إليه بالفرض ثم النفل قرّبه فرقّاه من درجة الإيمان مقامَ الإحسان، حتى يصِير ما في قلبِه من المعرفة يشاهده بعين بصيرته وامتلاء القلب بمعرفته (يمحو) كلّ ما سواه، فلا ينطق إلا بذكره ولا يتحرَّك إلا بأمره، فإن نظر فيه[7] أو سمع فيه أو بطش فيه وهذا هو كمال التوحيد.
"وإن سألني لأعطينه" مسؤولَه؛ كما وقع لكثيرٍ من السلف، "وإن استعاذ بي" -روي بنونٍ وروي بموحدة تحتية والأول الأشهر- "لأعيذنَّه" مما يخاف، وهذا حال المحبِّ مع محبوبه، وفي وعدِه المحقق المؤكد بالقسم إيذانٌ بأنَّ من تقرب بما مر لا يُرَدّ دعاؤه[8].
فالأقوال الثالث والرابع والسابع من ردِّ ابن حجرٍ الاستشكال الأوَّل على حديث أبي هريرة، وكذلك قول الطوفي والخطابي والداودي والكلاباذي، والتفسير الثاني للمناوي، كل ذلك صريح في أن المقصودَ توفيقُ الله وإعانتُه عبدَه المحبوبَ منه، وذلك ما عنينا به تسديدَ اللهِ تعالى خُطا عبدِه وأن يكونَ النجاحُ حليفَه. وأما إحالتُهم هذا النجاحَ والتسديدَ إلى الائتمار بأوامر الدين والانتهاء عن نواهيه فلا يعني أن العبد لا يكون موفَّقًا ومسدَّدًا إلا في ذلك، بل وفي كل عملٍ يعمله ما لم يكن حرامًا، فإن كان حرامًا فليس توفيقًا من الله لمحبوبه أن ينجزه، بل هو عقابٌ على معصِيَةٍ اقترفها أو لأمرٍ آخَر، والله أعلم.
كما لا يُجْزَم بأن كلَّ من لم تُقْضَ حوائجُه غيرُ محبوبٍ لله؛ لأن عدم التوفيق هذا قد يكون لأمورٍ عارِضة، أو لمصلحةٍ علِمها اللهُ ولم نعلمْها، وفي ذلك جوابُ الاستشكال الثاني الذي أورده ابن حجر على حديث أبي هريرة، وكذا آخر كلام الطوفي.
[1] أخرجه البخاري وقد تقدم تخريجه.
[2] أخرجه الطبراني في "الكبير" (12/145)، وقال الحافظ في الفتح: وزاد عبدالواحد في روايته "وفؤاده الذي يعقل به، ولسانه الذي يتكلم به"، ونحوه في حديث أبي أمامة، وفي حديث ميمونة "وقلبه الذي يعقل به"، وفي حديث أنس "ومن أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدًا ومؤيِّدا".
[3] قال الألباني -رحمه الله تعالى- في "السلسلة الصحيحة" (2/384 ح1640): "أورد شيخ الإسلام ابن تيمية الحديث في عدة أماكن من "مجموع الفتاوي" (5/511 و10/58 و11/75-76 و17/133-134) من رواية البخاري بزيادة "فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي". ولم أر هذه الزيادة عند البخاري ولا عند غيره ممن ذكرنا من المخرجين، وقد ذكرها الحافظ في أثناء شرحه للحديث نقلا عن الطوفي، ولم يعزها لأحد". اه.
[4] لم أقف على الحديث من طريق أنس.
[5] [إسناده جيد] أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (6/116) من حديث حذيفة - رضى الله عنه - مرفوعًا، ولفظه: "يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تعالى أوحى إليّ يا أخا المرسلين ويا أخا المنذرين أنذر قومك أن لا يدخلوا بيتا من بيوتي ولأحد عندهم مظلمة، فإني ألعنه ما دام قائما بين يدي يصلي حتى يرد تلك الظلامة إلى أهلها، فأكون سمعه الذي يسمع به، وأكون بصره الذي يبصر به، ويكون من أوليائي وأصفيائي، ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء في الجنة"، قال أبو نعيم: "غريب من حديث الأوزاعي عن عبدة، ورواه علي بن معبد عن إسحاق بن أبي يحيى العكي عن الأوزاعي مثله". وعزاه ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (ص360) للطبراني، ثم قال: "سنده جيد".
[6] انظر: "فتح الباري" (ج11 ص343-345) باختصار شديد.
[7] أي ففيه نظر وفيه سمع.. إلخ، أي خالصًا لوجهه الكريم لا يشركه أحدٌ في شيءٍ من ذلك.
[8] انظر: "فيض القدير" (ج2 ص240) مختصرا.
محمد محمود صقر |
عن أبي هريرة - رضى الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى قال:... فإذا أحببتُه كنتُ سَمْعَه الذي يَسمع به، وبصَره الذي يُبصر به، ويدَه التي يبطِش بها، ورجله التي يمشي بها، ولَئِن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه"[1]. وعن أبي أُمامة يقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: "فأكون سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانَه الذي ينطق به، وعقله الذي يعقِلُ به، فإذا دعاني أجبتُه، وإذا سألني أعطيتُه، وإن استنصرني نصرْتُه"[2].
قال الحافظ:
فمن والى أولياءَ اللهِ أكرمَه اللهُ، وقال الطوفي: لما كان وليُّ الله من تولَّى اللهَ بالطاعة والتقوى تولاَّه الله بالحفظ والنصرة.. وقد استُشْكِل كيف يكون البارِي جلَّ وعلا سمعَ العبْد وبصرَه الخ، والجواب من أوجه..
أحدُها: أنه ورد على سبيل التمثيل، والمعنى كنت سمعه وبصره في إيثارِه أمري، فهو يحبُّ طاعتي ويؤثر خِدمتي، كما يحبُّ هذه الجوارح.
ثانيها: أن المعنى كليَّتُه مشغولةٌ بي؛ فلا يصغي بسمعه إلا إلى ما يرضيني، ولا يرى ببصره إلا ما أمرتُه به.
ثالثها: المعنى أجعَلُ له مقاصدَه كأنَّه ينالها بسمعه وبصره.. الخ.
رابعها: كنت له في النصرة كسمعه وبصره ويدِه ورجله في المعاونة على عدوِّه.
خامسها: قال الفاكهاني، وسبقه إلى معناه ابنُ هبيرة: هو فيما يظهر لي أنه على حذف مضافٍ، والتقديرُ كنتُ حافظَ سمعِه الذي يسمع به فلا يسمع إلا ما يحلّ استماعه، وحافظ بصرِه كذلك.. الخ.
سادسها: قال الفاكهاني: يحتمل معنى آخر أدقَّ من الذي قبله، وهو أن يكون معنى سمعه مسموعَه؛ لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول؛ مثل فلان أمَلي بمعنى مأمولي، والمعنى أنه لا يسمع إلا ذكري ولا يلتذُّ إلا بتلاوة كتابي، ولا يأنَس إلا بمناجاتي، ولا ينظرُ إلا في عجائب ملكوتي، ولا يمدُّ يدَه إلا فيما فيه رضاي، ورجله كذلك، وبمعناه قال ابنُ هبيرة أيضا.
وقال الطوفي:
اتفق العلماء ممن يُعتَدُّ بقوله أن هذا مجازٌ وكناية عن نصرة العبد وتأييده وإعانته، حتى كأنه سبحانه ينزل نفسه من عبده منزلة الآلات التي يستعين بها، ولهذا وقع في رواية "فبي يَسمع، وبي يُبصر، وبي يَبطِش، وبي يمشي"[3].
وقال الخطابي:
هذه أمثال، والمعنى توفيق الله لعبده في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء، وتيسير المحبَّة له فيها بأن يحفظ جوارحه عليه ويعصِمه عن مُواقعة ما يكرَه اللهُ؛ من الإصغاء إلى اللهو بسمعه، ومن النظر إلى ما نهى الله عنه ببصره، ومن البطش فيما لا يحلُّ له بيدِه، ومن السعي إلى الباطل برجله، وإلى هذا نحا الداودي ومثله الكلاباذي وعبر بقوله: أحفظُه فلا يتصرَّف إلا في محابِّي؛ لأنه إذا أحبَّه كرِهَ له أن يتصرف فيما يكرهه منه.
سابعها: قال الخطَّابي أيضًا: وقد يكون عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء والنجح في الطلب، وذلِك أن مساعيَ الإنسان كلَّها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة، وقال بعضُهم، وهو منتزَع مما تقدم: لا يتحرَّك له جارحةٌ إلا في اللهِ ولله؛ فهي كلُّها تعمل بالحقِّ للحق، وأسند البيهقي في الزهد عن أبي عثمان الجيزي أحد أئمة الطريق قال معناه: كنت أسرَع إلى قضاء حوائجِه من سمعه في الإسماع وعينه في النظر ويدِه في اللمس ورجلِه في المَشْي.
• قوله: "أعطيته"؛ أي ما سأل.
• قوله "ولئن استعاذني".. المعنى أعذته مما يخافُ، وفي حديثِ أبي أُمامة "وإذا استنصر بي نصرتُه"، وفي حديث أنس "نصحَني فنصحتُ له"[4].
وقد استشكل بأن جماعةً من العُبَّاد والصُّلَحاء دعَوْا وبالغُوا ولم يجابوا، والجواب أن الإجابة تتنوع؛ فتارةً يقع المطلوب بعينه على الفور، وتارةً يقع ولكن يتأخَّر لحكمةٍ فيه، وتارة قد تقع الإجابة ولكن بغير عين المطلوب؛ حيث لا يكون في المطلوب مصلحة ناجزة وفي الواقع مصلحة ناجزة أو أصلح منها.
وفي حديث حذيفة من الزيادة "ويكون من أوليائي وأصفيائي، ويكون جارِي مع النبيين والصديقين والشهداء في الجنة"[5].
قال الطوفي:
هذا الحديث أصلٌ في السلوك إلى الله والوصول إلى معرفتِه ومحبَّته وطريقِه؛ إذ المفترضات الباطنة وهي الإيمان، والظاهرة وهي الإسلام، والمركَّب منهما وهو الإحسان فيهما، كما تضمَّنه حديثُ جبريل، والإحسان يتضمن مقامات السالكين من الزهد والإخلاص والمراقبة وغيرِها، وفي الحديث أيضًا أن من أتى بما وجب عليه وتقرب بالنوافل لم يُرَدَّ دعاؤه لوجود هذا الوعد الصادق المؤكَّد بالقسم، وقد تقدَّم الجواب عما يتخلَّف من ذلك وفيه أن العبد، ولو بلغ أعلى الدرجات حتى يكون محبوبًا لله، لا ينقطع عن الطلب من الله لما فيه من الخضوع له وإظهار العبودية، وقد تقدَّم تقرير هذا واضحًا في أوائل كتاب الدعوات[6].
وقال المناوي - رحمه الله تعالى -:
"فإذا أحببته"؛ لتقرُّبه إليَّ بما ذكر حتى قلبه بنور معرفتي، "كنت"؛ أي صرت "سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده الذي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها".. يعني يجعَلُ الله سلطان حبِّه غالبًا حتى لا يرى ولا يسمع ولا يفعل إلا ما يحبُّه الله، عونًا له على حماية هذه الجوارح عما لا يرضاه، أو هو كنايةٌ عن نصرة الله وتأييده وإعانته له في كلِّ أموره، وحماية سمعه وبصره وسائر جوارحه عما لا يرضاه، وحقيقة القول ارتهان كلية العبد بمراضي الرب على سبيل الاتساع؛ فإنهم إذا أرادوا اختصاص شيءٍ بنوعِ اهتمام وعناية واستغراق فيه ووَلَه به ونزوعٍ إليه سلكوا هذا الطريق.. قال:
جنوني فيك لا يَخفَى ![]() وناري فيك لا تخبو ![]() وأنت السمْع والناظـ ![]() ر والمُهْجَةُ والقلبُ ![]() |
والحاصل أن من تقرّب إليه بالفرض ثم النفل قرّبه فرقّاه من درجة الإيمان مقامَ الإحسان، حتى يصِير ما في قلبِه من المعرفة يشاهده بعين بصيرته وامتلاء القلب بمعرفته (يمحو) كلّ ما سواه، فلا ينطق إلا بذكره ولا يتحرَّك إلا بأمره، فإن نظر فيه[7] أو سمع فيه أو بطش فيه وهذا هو كمال التوحيد.
"وإن سألني لأعطينه" مسؤولَه؛ كما وقع لكثيرٍ من السلف، "وإن استعاذ بي" -روي بنونٍ وروي بموحدة تحتية والأول الأشهر- "لأعيذنَّه" مما يخاف، وهذا حال المحبِّ مع محبوبه، وفي وعدِه المحقق المؤكد بالقسم إيذانٌ بأنَّ من تقرب بما مر لا يُرَدّ دعاؤه[8].
فالأقوال الثالث والرابع والسابع من ردِّ ابن حجرٍ الاستشكال الأوَّل على حديث أبي هريرة، وكذلك قول الطوفي والخطابي والداودي والكلاباذي، والتفسير الثاني للمناوي، كل ذلك صريح في أن المقصودَ توفيقُ الله وإعانتُه عبدَه المحبوبَ منه، وذلك ما عنينا به تسديدَ اللهِ تعالى خُطا عبدِه وأن يكونَ النجاحُ حليفَه. وأما إحالتُهم هذا النجاحَ والتسديدَ إلى الائتمار بأوامر الدين والانتهاء عن نواهيه فلا يعني أن العبد لا يكون موفَّقًا ومسدَّدًا إلا في ذلك، بل وفي كل عملٍ يعمله ما لم يكن حرامًا، فإن كان حرامًا فليس توفيقًا من الله لمحبوبه أن ينجزه، بل هو عقابٌ على معصِيَةٍ اقترفها أو لأمرٍ آخَر، والله أعلم.
كما لا يُجْزَم بأن كلَّ من لم تُقْضَ حوائجُه غيرُ محبوبٍ لله؛ لأن عدم التوفيق هذا قد يكون لأمورٍ عارِضة، أو لمصلحةٍ علِمها اللهُ ولم نعلمْها، وفي ذلك جوابُ الاستشكال الثاني الذي أورده ابن حجر على حديث أبي هريرة، وكذا آخر كلام الطوفي.
[1] أخرجه البخاري وقد تقدم تخريجه.
[2] أخرجه الطبراني في "الكبير" (12/145)، وقال الحافظ في الفتح: وزاد عبدالواحد في روايته "وفؤاده الذي يعقل به، ولسانه الذي يتكلم به"، ونحوه في حديث أبي أمامة، وفي حديث ميمونة "وقلبه الذي يعقل به"، وفي حديث أنس "ومن أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدًا ومؤيِّدا".
[3] قال الألباني -رحمه الله تعالى- في "السلسلة الصحيحة" (2/384 ح1640): "أورد شيخ الإسلام ابن تيمية الحديث في عدة أماكن من "مجموع الفتاوي" (5/511 و10/58 و11/75-76 و17/133-134) من رواية البخاري بزيادة "فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي". ولم أر هذه الزيادة عند البخاري ولا عند غيره ممن ذكرنا من المخرجين، وقد ذكرها الحافظ في أثناء شرحه للحديث نقلا عن الطوفي، ولم يعزها لأحد". اه.
[4] لم أقف على الحديث من طريق أنس.
[5] [إسناده جيد] أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (6/116) من حديث حذيفة - رضى الله عنه - مرفوعًا، ولفظه: "يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تعالى أوحى إليّ يا أخا المرسلين ويا أخا المنذرين أنذر قومك أن لا يدخلوا بيتا من بيوتي ولأحد عندهم مظلمة، فإني ألعنه ما دام قائما بين يدي يصلي حتى يرد تلك الظلامة إلى أهلها، فأكون سمعه الذي يسمع به، وأكون بصره الذي يبصر به، ويكون من أوليائي وأصفيائي، ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء في الجنة"، قال أبو نعيم: "غريب من حديث الأوزاعي عن عبدة، ورواه علي بن معبد عن إسحاق بن أبي يحيى العكي عن الأوزاعي مثله". وعزاه ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (ص360) للطبراني، ثم قال: "سنده جيد".
[6] انظر: "فتح الباري" (ج11 ص343-345) باختصار شديد.
[7] أي ففيه نظر وفيه سمع.. إلخ، أي خالصًا لوجهه الكريم لا يشركه أحدٌ في شيءٍ من ذلك.
[8] انظر: "فيض القدير" (ج2 ص240) مختصرا.