الإعلام المغربي بين فرض الحداثة الفرنكوفونية وتنميط المخالفين الإسلاميين
حاتم بن محمد الكوراجي
الجزء الأول
القوة الناعمة وقوة الصورة
"إن انتصار السلاح لا يعني النصر الكامل؛ إن القوة تبني الإمبراطوريات؛ ولكنها ليست هي التي تضمن لها الاستمرار والدوام. إن الرؤوس تنحني أمام المدافع؛ في حين تظل القلوب تغذي نار الحقد والرغبة في الانتقام".
جورج هاردي
"تغطي الصحافة الأحداث، وفي اختيارها الأحداث التي تغطيها وطريقة تغطيتها تشكل نتيجتها"
كاتلين هول جاميسون، بول والدمان
في الحروب الأخيرة عرف العالم تغير وسائل السيطرة التي تعتمدها الدول الكبرى لإخضاع الدول من أجل ضمان التبعية، فلم تعد المدافع أهم هذه الوسائل بل أولت القوى الاستعمارية اهتمامها الأكبر إلى محاولة السيطرة على عقول الجماهير التي لعبت دائما دورا مهما، ولكنها لم تلعب هذا الدور بنفس حجم الأهمية التي تلعبه اليوم [1] فإخضاعها يعني بالضرورة توجيهها نحومصالح القوى الاستعمارية المهيمنة، ويشير "غوستاف لوبون" إلى كون التغيرات الضخمة التي يعرفها العالم من قبيل سقوط حضارة وصعود أخرى أوالغزوأوتغير السلطة الحاكمة راجعة في أساسها إلى التغيير الذي يصيب أفكار الشعوب فيقول: إن الانقلابات التي تسبق عادة تبديل الحضارات تبدوللوهلة الأولى وكأنها محسومة من قبل تحولات سياسة ضخمة. نذكر من بينها الغزوالذي تتعرض له الشعوب، أوقلب السلالات المالكة. ولكن الدراسة المتفحصة عن كثب لهذه الأحداث تكشف لنا غالبا أن السبب الحقيقي الذي يكمن وراء هذه الأسباب الظاهرية هوالتغير العميق الذي يصيب أفكار الشعوب...وأما الأحداث الضخمة المأثورة التي تتناقلها كتب التاريخ فهي ليست إلا آثارا مرئية للمتغيرات اللامرئية التي تصيب عواطف البشر.[2] وسر نجاح أي سلطة حاكمة مرتبط بمدى قدرتها على ترويض الجماهير وكيفية التعامل معها، فنابليون بونابارت مثلا كان ينفد بشكل رائع إلى أعماق نفسية الجماهير الفرنسية، ولكنه كان يجهل بشكل كلي أحيانا نفسية الجماهير التي تنتمي إلى أجناس أوأعراق مختلفة [3].
وقد أدرك الاستعمار أن القوة قادرة على إخضاع الأبدان لكن لها آثارا سلبية على مخططات المستعمر، فالقهر لا يولد إلا ردة فعل عنيفة ومقاومة عكسية وإن تأخرت. كان من الضروري-وحتى تكتمل الهيمنة وتدوم ولوبعد الانسحاب الشكلي للجيوش- إخضاع العقول وتوجيهها كما يقول جورج هاردي: إن انتصار السلاح لا يعني النصر الكامل؛ إن القوة تبني الإمبراطوريات؛ ولكنها ليست هي التي تضمن لها الاستمرار والدوام. إن الرؤوس تنحني أمام المدافع؛ في حين تظل القلوب تغذي نار الحقد والرغبة في الانتقام. يجب إخضاع النفوس بعد أن تم إخضاع الأبدان. وإذا كانت هذه المهمة أقل صخبا من الأولى؛ فإنها صعبة مثلها؛ وهي تتطلب في الغالب وقتا أطول.
وقد أثبت التجربة العملية نجاعة وسائل السيطرة المرنة أوالناعمة التي تستهدف العقول والوعي، فلم يعد من الضروري لتحكم شعبا أوتضمن تبعية دولة أن تجيش لذلك الجيوش وتجند آلاف الجنود وترهق ميزانية الدولة بالنفقات العسكرية الضخمة، بل أصبح من الممكن تحقيق كل ذلك وزيادة بعمليات أقل كلفة وإن كانت أكثر تعقيدا وصعوبة. ولا يعني ذلك أن الغرب والدول المهيمنة قد تخلوا عن استعمال القوة المادية في عملية السيطرة والإخضاع، لكن ذلك لم يعد يحصل في معزل عن استعمال القوى الناعمة توازيا مع الجهود العسكرية المادية، وفي الغالب يتم للجوء للقوة لإزالة العوائق التي تحول دون وصول قوى التغيير النفسية والعقلية للفئات المستهدفة كما حدث في حالة العراق، فرغم الحصار والتجويع وسياسات العقوبة ظل هذا البلد العربي عصيا على تغلل الغزاة الجدد وكانت قيادته السياسية -بقطع النظر عن الاتفاق معها من عدمه- سدا منيعا في وجه التدخل الغربي في المنطقة والاستفادة من مزيد الثروات التي حواها هذا البلد، فما كان من الولايات المتحدة إلا أن قامت بإسقاط النظام بالقوة لتتم لها السيطرة على ثروات العراق وتضمن التبعية ولوجزئيا وقد كان العراق قبل الغزويملك أفضل نظام تعليمي في المنطقة، قبل أن تحكم العقوبات الطوق عليه كانت نسب التعليم فيه أعلى نسبة في البلدان العربية[4].
وأهم ما تتميز بها القوى الغربية القدرة العريضة على تكييف وسائل التغيير المرن تبعا للأحداث المستجدة فبعيدا عن نظرية المؤامرة التي تقضي بأن الغرب هوالذي يصنع الحدث على الأرض العربية الإسلامية ويسيره كيفما شاء وحيثما شاء، فإن الثابت أن لديه القدرات الاستراتيجية الضخمة للاستفادة من أي تغيير يقع بعيدا عن الوسائل العسكرية – إلا في نطاق محدود - المستنزفة فحتى وإن بدا هذا الحدث لا يتماشى والمصالح الغربية بادئ الأمر، وهذه في الحقيقة هي الخطوة الكبيرة التي لا زال يتقدم بها الغرب علينا فإن كنا قادرين كأنظمة سياسية أوشعوب على القيام بالفعل وإحداثه فالغرب لا زالت لديه إمكانية الاستفادة منه وتوجيهه ليصب في قناة مصالحه، لأن أفعالنا نتيجة ردود أفعال غير مدروسة، وأفعالهم تنزل على أرض الواقع تبعا لدراسات استراتيجية معمقة تقوم بها معاهد تنفق عليها هذه الحكومات ميزانيات ضخمة – معهد راند كمثال فيما يخص الحالة الإسلامية -.فالركن الأساسي في خصائص القوى العظمى هوضخامة ونوعية الموارد المادية والبشرية والفكرية، مما يمكنها من الاستفادة من الأحداث على أي وجه ألقت رحالها[5].
بعد حرب فيتنام بدأت الإدارة الأمريكية إعادة النظر في فعالية القوة المادية العسكرية لفرض النموذج الغربي وإقامة نظم تضمن استمرار المصالح الأمريكية خاصة والغربية عامة. إذ أن هذه القوة ظلت قاصرة عن تحقيق أهدافها بل وأرهقت كاهل الميزانيات الدفاعية بشكل كبير. فبرزت نظرية السيطرة الناعمة التي تستهدف ابتداء التأثير على العقول وتوجيهها داخليا وخارجيا ولا شك أن هذه السياسة ناجحة داخليا بشكل مبهر وبنسبة أقل خارجيا وأبرز دليل على ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية منيت في حروبها في الدول الإسلامية بخسائر أضعاف ما كان عليه الحال في فييتنام، لكن توجيه العقول والقوى الناعمة جعلت المواطن الأمريكي بارد ردة الفعل إلا قليلا وفتحت عينه على جانب واحد وهوخطر الآخر- الإرهابي - على القيم الحداثية الأمريكية بينما كانت توابيت الجنود الأمريكان قتلى هذه الحروب خارج التغطية محظورة العرض والتصوير. وحتى النقد الموجه للسياسات الأمريكية داخليا لا يخرج عن الإطار المعد مسبقا فكل كوارث أمريكا وإجرامها إنما يندرج في خانة الأخطاء الفردية والانفعالات الآنية لبعض الجنود مع الحرص على إبعاد التهمة عن الإدارة ومدى مسؤوليتها عن هذه الكوارث، بل إن التفكير في دوافع هذه الحروب أصالة وأسبابها لا يتم إلا في دوائر مغلقة يثيرها بعد الأفراد من حين لآخر دون أن تجد صداها في المجتمع الأمريكي. ومن أغرب ما شاهدته منظر أولئك الأمريكيين الحداثيين المنطلقين الذين يسألهم المذيع عن رأيهم في الحرب التي ستشنها الولايات المتحدة الأمريكية على الدولة الارهابية الفلانية - ثم يذكر دولة صديقة لأمريكا بل تعد من أبرز حلفائها - فيجيب هؤلاء دون تردد "نحن نؤيد سيادة الرئيس". المشهد على بساطته يلخص تأثير الصورة والإعلام – أهم وسائل القوى الناعمة - في توجيه الرأي العام وقولبة الأفكار حتى تصير متماهية بدون أدنى تفكير أوتساؤل. نفس هؤلاء المواطنين لن يستنكروا تعذيب هذا الإرهابي الذي يهدد أمنهم- بعدما رأوا في أفلامهم أن ذلك ضرورة ملحة وأنه قد يجنبهم أذية بالغة - وحرياتهم كما أقنعتهم وسائل الإعلام ولن يتعاطف معه ولوقتل بأبشع الطرق بل ولوقتل المئات والآلاف ممن لا علاقة لهم بذلك في سبيل القضاء عليه.
الإعلام أوالصورة أحد أهم - إن لم يكن أهمها - ركائز القوة الناعمة، فالصورة ومنذ أوائل ظهورها بشكلها المبسط البدائي نالت إعجاب الإنسان وأبهرته أما في وضعها الحالي فقد صارت أكثر إبهارا وتأثيرا.
ويذكر غوستاف لوبون في معرض حديثه عن الوسائل المباشرة التي تأثر في وعي الجماهير أن الصورة أومصطنعة تأثر بشكل خاص في مخيلة الناس، يقول غوستاف :عندما درسنا مخيلة الجماهير رأيناها تتأثر بالصور بشكل خاص فهي تبهرها فعلا.وإن لم نكن نمتلك الصور فإنه من الممكن أن نثير في مخيلة الجماهير عن طريق الاستخدام الذكي والصائب للكلمات والعبارات المناسبة. فإذا ما استعملناها بشكل فني لبق فإنها تستطيع عندئذ أن تمتلك القوة السرية التي كان أتباع السحر يعزونها إليها في الماضي.[6]
ففي أمريكا لم يكن للرئيس ويلسون إبان فترة الحرب العالمية الأولى سوى استخدام القوى الناعمة لتغيير وعي الناس ودفعهم لقبول دخول الولايات المتحدة الحرب وضرورة تدمير ألمانيا، بعد أن كان شعار حملته الانتخابية "سلام بدون نصر" وعلى أساسه اختير رئيسا، فكانت المهمة تحويل المواطن الأمريكي المسالم المناهض للحرب إلى متعطش لها، وفي سبيل تحقيق ذلك استحدث ويلسون "لجنة كريل" وهي لجنة حكومية للدعاية للحرب وضرورة شنها وتدمير ألمانيا، وقد استطاعت اللجنة أن تحقق ذلك في مدة قياسية لا تتعدى ستة أشهر، ولم تكتف إدارة ويلسون بذلك بل استغلت هيستيريا الناس للحرب وضرورة وجود عدوقومي لا بد من مواجهته والقضاء عليه لشن حملة على القوى العمالية في الداخل تحت شعار "محاربة الشيوعية" هذه المرة، وتم توظيف هذا التكتيك لإثارة هيستيريا ضد الرعب الشيوعي وقد نجحت إلى حد كبير في تدمير الاتحادات العمالية والقضاء على بعض المشكلات الخطيرة، مثل حرية الصحافة وحرية الفكر السياسي، وكان هناك تأييد قوي من وسائل الإعلام.[7] فبعد أن تم حشوعقل المواطن الأمريكي بهاجس الخوف بواسطة وسائل صناعة الوعي سهل بعد ذلك تجييشه ضد أي عدو، حقيقيا كان أم وهميا. لا بد أن يتخوف الناس ويشعروا بالخطر الداهم ليؤيدوا الفظائع ويسهل توجيههم ذلك أن عامة الجمهور لا يجدون سببا للتورط في مغامرات خارجية أوعمليات قتل وتعذيب ولذا لا بد من تحفيزهم، ولفعل ذلك لا بد من أن تثير مخاوفهم [8] وأسهل طريقة لصناعة الرعب هي الصورة سواء كانت مرئية أم ذهنية ناشئة عن نقل الأحداث وتوجيهها لتؤدي هذا الغرض، وهذا هومجال اشتغال وسائل الإعلام، وقد رصد نعوم تشومسكي في كتابه "السيطرة على الإعلام" كيف تستطيع رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية التحكم في الرأي العام وتوجيهه إلى الاقتناع بعكس ما كان عليه قبل بضع سنين فقط، ومن ذلك تحول صدام في الوعي الشعبي الأمريكي من حليف لأمريكا في الشرق الأوسط يزوره رامسفيلد ويتباحث معه الشؤون السياسية وينقل له تحيات الرئيس إبان الحرب العراقية -الإيرانية، ليتحول وبعد سنوات قلائل إلى أيقونة للشر في الشرق الأوسط، يريد السيطرة على العالم وتدميره ومناطق النفط في الكويت والسعودية. ومن طريف ما يذكر أن أمريكيا متأثرا بما تبثه وسائل الإعلام حول صدام ظل مختبئا في كهف لمدة 10 سنين منقطعا عن العالم خوفا من وصول صدام إلى ولايته [9]، ولاية كاليفورنيا، ولعل هذه درجة متطرفة من تأثير الإعلام على عقول البشر لكنها تجسد حقيقة تأثر المشاهد بما يلقى إليه من وسائل الإعلام المرئية والسمعية والكتابية وقابليته لتصديق أي شيء.
ويذكر تشومسكي أن من أهم طرق صناعة الوعي والتحكم فيه التي انتهجتها الصحافة الأمريكية اختيار الأحداث والتركيز على بعضها دون الآخر وتغطيتها بطريقة إيحائية مركزة، كما يقول "كاتلين هول جاميسون" و"بول والدمان" : تغطي الصحافة الأحداث، وفي اختيارها الأحداث التي تغطيها وطريقة تغطيتها تشكل نتيجتها [10]، ففي مايو1986 نشرت مذكرات السجين الكوبي " أرماندوفالاديرز"، وسرعان ما أصبح حديث وسائل الإعلام، فوصف حينها كاستروفي الصحافة الأمريكية بأنه ديكتاتور مجرم وأنه خلق نوعا جديدا من الاستبداد الذي أسس للتعذيب كأحد ميكانيزمات السيطرة الاجتماعية، وتمت مهاجمة كل من يدافع عن كاستروبوصفه مدافعا عن الديكتاتورية والتعذيب، في نفس الشهر تم القبض على أعضاء مجموعة حقوق الإنسان بالسلفادور وعذبوا، كان عددهم حوالي 432 محام، وقاموا بتوقيع إقرار شرحوا فيه أساليب التعذيب التي لاقوها في السجن، وسرب هذه التقرير وشهادات بالفيديوصور فيها هؤلاء وهم يقدمون شهاداتهم حول ما لاقوه من تعذيب، ثم ماذا حدث؟ رفضت الصحافة القومية تغطية الحدث إلا صحيفة يتيمة محلية في سان فرانسيسكو.[11]
وفي إيطاليا لم يكن برلسكوني - المثقل بالفضائح المالية والجنسية والقضائية- بحاجة إلا لجهاز إعلامي فعال يتولى مهمة رسم صورة شاعرية عنه وهدم الصورة القبيحة الملتصقة به في أذهان الناس، فقامت القنوات المرئية التابعة له وصحيفتي "إل جورنالي" و"إل فوليو" المملوكتين له، ومجموعة مواقع إلكترونية كانت تحت تصرفه بهاته المهمة وتحول برلسكوني من "رجل الفضائح" إلى "رجل السياسة الأول" الذي يحسب له خصومه ألف حساب، وكما قامت "الإمبراطورية الإعلامية " - والتي كان أولاده وزوجته هم من يديرها - لبرلسكوني بالترويج لصورته الجديدة ونجاحاته الاقتصادية فقد تولت نفس المهمة لتبرير إخفاقاته السياسة بعد توليه لرئاسة إيطاليا.
ولا يمكن الحديث عن تأثير الإعلام عامة والمصور بشكل خاص على المتلقي دون الإشارة إلى ما يمكن اعتباره أهم وسيلة لصناعة الوعي وهي السينما، والمثال الأكثر وضوحا هوالسينما الأمريكية وتأثيرها على عقول الأمريكيين، فإنه لا يمكن تجييش رأي الأمريكيين لقضية ما دون تناولها في أفلام مصورة تعكس وجعة النظر الرسمية، لذلك لا تتوانى الإدارة الأمريكية عن تقديم الدعم المادي والمعنوي لمنتجي هذه الأفلام ويندر أن تجد فيلما سينمائيا يناهض سياسات الإدارة الامريكية وإن وجد فلا يتعدى حدود المسموح به، وقد رصد "جاك شاهين "بعض جوانب تأثير هوليود على الوعي الأمريكي فيما يخص العرب والمسلمين في كتابه "صورة العرب السلبية في أفلام هوليود" وخلص بعد جرد وعرض كامل لما أنتجته هوليود حول العرب والمسلمين أن الصورة النمطية للعربي أوالمسلم التي تروجها السينما الأمريكية سلبية إلى درجة مبتذلة فلا تخرج عن كونه مجرما يميل للبذخ والنساء يسكن في كهوف في الجبال أوفي الخيام في وسط الصحاري المقفرة.
يقول جاك شاهين: أن الصورة النمطية السلبية للعرب مزروعة عميقا في الثقافة الشعبية الغربية، وهي بمثل صلابة صخور ما قبل التاريخ. ويتضح ذلك على نحولا مثيل له في أفلام هوليود، حيث تتواصل أبلسة المسلمين العرب، خلافا للمجموعات العرقية والإثنية الأخرى، على شاشات السينما... وبحلول سبعينات القرن العشرين، أي :بعد عقدين من قيام دولة إسرائيل، كان تصوير هوليود للشخصية العربية "عرب الأفلام السينمائية" يقوم على إظهار العرب غالب في هيئة شيوخ ميالين للنساء وأثرياء، وتواقين للانتقام، وفاسدين، وجبناء، وبدينين، بشك ثابث جزئيا... واعتبارا من ثمانينيات القرن العشرين وما بعدها :سيطر النزاع العربي - الإسرائيلي على العناوين الرئيسية، عززت هوليود ببساطة تصوير العرب على أساس أنهم أصوليون، إسلاميون، يائسون.
يتم في الأفلام دائما تصوير المسلمين كإرهابيين، رغم أنهم كانوا في العقد الأخير ضحايا على المستوى العالمي أكثر من غيرهم. ولنتذكر في هذا الصدد: القتلى في البوسنة وفلسطين، وكوسوفو، والشيشان. ونتيجة للصورة النمطية لا يجد مرتادوالسينما فرصة لمشاهدة العرب أوالمسلمين على الحقيقة أوالتعاطف معهم كضحايا للقمع[12].
وقد بلغ التنميط ذروته بعد الحادي عشر من سبتمبر وزاد إغراقا في الابتذال حتى صار تدمج هذه الصور النمطية في أفلام لا علاقة لها بالعرب والمسلمين كما وقع في فيلم"The Majestic" والذي تظهر فيه لقطة نشاز لا تتماشى مع سيناريوالفيلم حين يشاهد بطل الفيلم - ويلعب دور كاتب سيناريوهات سينمائي ذوميول شيوعية فقد ذاكرته بعد تعرضه لحادث وكان محل مذكرة بحث من الشرطة- شريطا سينمائيا، إذ يظهر عربي يحاول اغتصاب فتاة فيقوم بطل الفيلم بتخليصه منها ويطعنه طعنة قاتلة بالسيف ليكون آخر ما ينطق به هذا العربي قبيل موته "عليك اللعنة يا كافر"، هذا المشهد لا علاقة له البتة بأحداث الفيلم وكان من الممكن تعويضه بأي مشهد آخر يؤدي الغرض، لكن ذلك لم يكن عبثا بل مقصودا لإيصال فكرة لذهن المشاهد خصوصا وأن فكرة الفيلم الأساسية دعوة إلى الحرية والتسامح مع الأفكار التي قد لا تبدوموافقة لما عليه الأمريكان، فكانت اللقطة عبارة عن توضيح لا بد منه وهوكون هؤلاء الإرهابيين المسلمين حالة استثناء في القبول والتسامح معهم.[13]
إن مجال تأثير الصورة لم يكن محصورا في اختيارات الناس السياسة فقط بل استعملت في شتى المجالات التي سيكون من مصلحة من يملك السلطة والقوة أن يوجه فيها الطبقات المستهدفة، ففي عالم الاقتصاد مثلا يهتم الفاعلون الاقتصاديون بدراسة الوضع الاقتصادي العام وخصوصا المستهلكين الذين هم مادة التسويق، وتعد عملية الإشهار من أهم التقنيات التي توجه المستهلك نحوسلعة ما أونحوتفكير استهلاكي معين على أنه لا يمكن فصل ذلك عن نمط الحياة العام، فمثلا كلما زادت نسبة "أمركة"[14] مجتمع ما ومحاكاته للنمط الحياتي الأمريكي ستزداد نسبة استهلاكه للهمبورغر والكوكا، فهذه المواد الاستهلاكية لم تعد مجرد طريقة لتلبية الحاجات الضرورية لكنها نمط عيش، ويرى عبد الوهاب المسيري أن هذا التأثير والتوجيه الاستهلاكي استعمار لا يلجأ للقسر وإنما للإغواء [15]، لذلك لم يكن مستغربا أن تنشأ مراكز دراسة خاصة بالسياسات الإشهارية وما يتعلق بها تقول بدراسة المجتمعات الاستهلاكية لتتحكم في طريقة الاستهلاك، وتقوم بعملية إقناع المستهلك بالنمط الاستهلاكي المرغوب فيه، كمركز التواصل المتقدم الذي أنشأه "برنار كاتيلا" سنة 1971 في فرنسا وأول ما سيقوم به دراسة أسلوب حياة الفرنسيين وتطوره، لقد كان إسهامه كبيرا في تحول الإشهار الفرنسي وفي تحول إرساليته شكلا ومضمونا [16]، وقد اكتسب الإشهار مكانته في عالم الاقتصاد بقدرته على التوجيه والتأثير بعد أن كان في بداية أمره محل توجس حتى من الاقتصاديين أنفسهم الذين رأوا فيه عبئا زائدا على تكلفة الإنتاج، ومع مرور الزمن وظهور نجاعته في تسريع وتيرة الاستهلاك أصبح من أهم مكونات العملية الانتاجية وتسلل إلى مجالات أخرى غير الاقتصاد ليختلط بالسياسة والفن وغيرهما.
الجزء الثاني
تنميط المخالف (الإسلاميين نموذجا)
"ومن يتصور أن المؤسسات الاعلامية مجرد مناخ معرفي بحت فهويعيش وهماً كبيراً, فالمؤسسات الإعلامية كائنات سياسية لها أجندتها الخاصة وانحيازاتها العميقة, ولكن لها أدواتها الخاصة في الاستقطاب والتوظيف بما يتناغم مع بنيتها مثل: منصب كاتب عمود صحفي, أومشرف صفحة الرأي, أومدم تلفزيوني, أومعد برامج, أوضيفاً دائماً يوضع تحت اسمه خبير في الجماعات الإسلامية, ونحوها من المناصب الإعلامية التي تخطف لب الشاب في عصر الشاشة"
إبراهيم السكران، مآلات الخطاب المدني
تحرص وسائل الاعلام بشتى اتجاهاتها المرئية المكتوبة والمسموعة على تقرير نظرية وكأنها مسلمة في عالم الصحافة، لا يمكن للمشتغل بالحقل الاعلامي تجاوزها أوعلى أقل تقدير قل أن تتجاوز، وهي الحيادية، غير أن الناظر في أكثر الوسائل الإعلامية المشهودة لها بالنزاهة ولومن خصومها يجد صعوبة بل استحالة تحقق هذا المعنى ولوجزئيا. ففي ظل عالم السوق والأعمال تبقى الأداة الإعلامية مرهونة بما يجلب لمن يتولى الإشراف عليها الربح أي أن مفهوم المصلحة ثابث لا ينفك عن السياسات الإعلامية، وفي تحقق آخر يكون العامل السياسي حاسما في توجيه الأدوات الإعلامية وأدلجة طرحها. فالقنوات الرسمية التي تمول من ميزانية الدولة لا يمكنها البتة الخروج عن الخطوط العريضة لسياسات السلطة الحاكمة- وفي أكثر البلدان ديموقراطية- عن الإطار العام ، صحيح أنها قد تمارس نقدا من وقت لآخر غير أن هذا النقد في غالب الوقت لا يكون خارج الإطار المرسوم لما تحدده الجهات المهيمنة. يحدث مثل هذا في البلدان التي تدعي أنها أم الحريات في العالم ومصدرها، وما فتأت تعير غيرها بالنقص في هذا المجال كالولايات المتحدة الأمريكية، حيث لا يسمح لوسائل الإعلام أن تجاوز مثلا حدود انتقاد السياسات خارج الإطار، فكل ما يقدمه الإعلام من نظرة نقدية صريحة أحيانا وعلى استحياء أحيانا أخرى لا تخرج عما هومقرر داخل الخط العام لسياسات الخارجية الأمريكية، فليس مسموحا أن يتجاوز نقد الممارسات إلى نقد أصل السياسات الخارجية كجدوى الحرب ودوافعها.وإن كان النقاش دائرا حول استقلالية الوسائل الإعلامية الخاصة، فإن تبعية العمومية منها للنظام السياسي المهيمن لا ينتطح فيه عنزان إذ هومن أوضح الواضحات، وقد يعسر تحديد الجهة التي تتبعها الوسائل الإعلامية الخاصة ويتطلب ذلك دراسة عميقة مفصلة أما في حالة الوسائل التابعة للدولة فالأمر يسير والخطب سهل لا يحتاج إلى كثير تأمل ونظر ويتم ذلك في العادة باستقراء الخط التحريري العام، فإنه وإن خفي من يمول ويوجه فالسياسات التي تعكس توجها عاما تعني تبعية هذه المنابر لهذه التوجه وأقطاب هذا التوجه.
في هذا السياق يأتي تعاطي القنوات الإعلامية المغربية مع خصوم التيار الحداثي الفرنكوفوني تابعا للنظرة التي يتبناها الحداثيون ومتماهيا مع نظرتها وموقفها منهم.ولا شك أن للتيار الفرنكوفوني أعداء كثر لا بد من مواجهتهم والحد من تأثيرهم في الأوساط الاجتماعية لكي لا يكونوا مصدر استقطاب أوإلهام لغيرهم، والضابط في ذلك أن كل من له قوة تجميعية في اتجاه غير اتجاه الفرنكوفونية يعتبر مناوئا أوعلى أقل تقدير منافسا. وباعتبار الخصوصية اللغوية والدينية للمغرب فمن الواضح أن أيرز خصوم الفرنكوفونية هوالخطاب الشرعي وذلك لسببين اثنين:
• الخطاب الإسلامي ذوقوة فائقة على التجميع والاستقطاب خصوصا أن البيئة مهيئة تاريخيا وانتماء فهوليس بغريب عن المنطقة ولا وافد جديد بل هومن صلب الهوية المغربية، وجزء لا يتجزء من مكوناتها، والذين يتبنونه مكون مهم من التركيبة الاجتماعية والقبلية، بهذا الاعتبار يشكل هذا الخطاب أهم مناوئ للحداثة الغربية عامة والفرنكوفونية خاصة، وليس هذا بالأمر الذي يخفى على الفريقين. يقول "روبرت ساتلوف" : الإسلاموية، السعي إلى تنظيم المجتمع، وإنشاء حكومة مرتكزة على قانون إسلامي هي أعظم تحد إيديولوجي يواجه الولايات المتحدة اليوم[17] ويقول" فرانسيس فوكوياما" : إن الإسلام هوالحضارة الرئيسية الوحيدة في العالم التي يمكن الجدال بأن لديها بعض المشاكل مع الحداثة بل يذهب "هانتنغتون" بعيدا ليعتبر معركة الإسلام مع الحداثة الغربية معركة وجود وبقاء فيقول : الإسلام هوالحضارة الوحيدة التي جعلت بقاء الغرب موضع شك [18]زد على ذلك أن هذا الخطاب يقف متوجسا من أي دخيل فكري أوعقدي يخالف الشرع ويروم إزاحة الوحي عن مركزيته وحاكميته المطلقة. فإن المسلمين وإن طال بهم العهد ومورس عليهم مسخ هوياتي مركز إلا أن قلوبهم لا تخلوا من بقية خير وحب لهذا الدين قد تتفجر في أي لحظة يقظة يسببها موقف أوكلمة، وقد ارتج العالم أجمع لما وقعت الإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم، وثار لها المسلمون من شتى المذاهب والأطياف.
• الحداثة الفرنكوفونية تبوأت مقعدها تسلقا على أكتاف هذا الخطاب وفي لحظة ضمور اضطرارية أملتها الظروف السياسية والدولية العالمية، ولا شك أن هذا الخطاب يسترد عافيته يوما بعد يوم بل إنه في لحظة ظن فيها أنه لا قائمة له إلا بعد زمن ليس بالقليل وعند أول حراك اجتماعي فيما سمي بالثورات العربية، عاد ليظهر من جديد بل وأقوى مما كان عليه وحاز ثقة واختيار من مورس عليهم هذا المسح الذهني الهوياتي المركز. فمن الطبيعي جدا أن تحتد معركة الوجود بين الحداثة الغربية والخطاب الشرعي ومناصريه في مثل هذه الظروف التي يحاول كل منهما أن لا يخسر معاقله ولا أن يتراجع إلى الوراء. لذلك قامت القنوات المرئية والجرائد والمجلات ذات التوجه العلماني الحداثي في كل تناول لموضوع يمس الإسلاميين أوما يتعلق بهم بما قد يسمى حربا ممنهجة لا هوادة فيها، فلم تكتف بتغييبهم المطلق عن شاشتها، حتى حين يكون الأمر خاصا بهم، وتهميشهم بشكل متعمد وكأنهم ليسوا جزءا من المجتمع، وكأن لا وجود لهم على أرض الواقع ليتم الإيحاء وكأنهم مجرد كائنات هامشية عددا وفعلا لا وجود لها، ومن طريف ما يذكر أن القناة الأولى في نقلها لصلاة التراويح تتحاشى إظهار ذوي اللحى على شاشتها وتركز على غيرهم غير أن كثرتهم خصوصا بقرب الإمام لا تمكنها من ذلك، يستثنى من هذا ما وقع من اختراق محدود لحزب العدالة والتنمية لبعض البرامج الحوارية فكان بعض قادته يظهرون على الشاشة، وإن كان البعض قد يعتبر هذا الحضور باهتا غير مرضي ولا ممثلا للخطاب الإسلامي، إذ أن هذا الحزب وإن كان يصرح بخلفتيه الإسلامية فإنه لم يجد بدا من علمنة خطابه وطرحه ليتماهى مع الوضع السياسي العام ومتبنيا منهج فصل الدعوي عن السياسي، فصارت تغيب عن أطروحاته وبرامجه سمات إسلامية خالصة فلا تكاد تتميز برامجه عن غيره من الأحزاب الشيوعية والاشتراكية وغيرها، ناهيك عن حرص كثير من أقطابه على التبرؤ من أسلمة خطابه لتجنب بعض الإشكالات التي يطرحها ارتباطه بالمرجعية الإسلامية، ولتلافي بعض الانتقادات الموجهة له من بعض خصومه بهذا الخصوص، وهذا دليل واضح على سيطرة الفرنكوفونية وخطابها على الحقل السياسي المغربي، يقول عبد الله بوانوفي حوار له مع جريدة هسبريس الإلكترونية :لا بد من التمايز في المجالات والرموز والخطاب.. لأنه ليس مطلوبا مني أنا كسياسي استحضار الآيات في ممارستي السياسية بقدر ما أنا مطالب بتطبيق القانون والتشريع.
هذا التغييب للمكون الاسلامي وطرحه على الشاشات العمومية بلغ الذروة ليصل إلى المواضيع التي تخصهم ويكونون طرفا مهما فيها, وفيما يلي بعض الأمثلة التي توضح طريقة تعاطي القنوات العمومية الرسمية مع بعض الأحداث التي تخص الإسلاميين وتغييبهم وسلب حق الظهور والدفاع عنهم بل وإدانتهم في بعض الأحيان ليترك الصحفي موقعه ويلبس عباءة القاضي والحكم.
ولإلقاء الضوء على الطريقة التي يتعامل بها الإعلام المغربي مع الإسلاميين وقضاياهم نضرب مثالين لتغطية وسائل الإعلام لقضايا الإسلاميين:
الحدث الأول: تعليقات أبي النعيم الشيخ السلفي المعروف على تصريحات بعض أقطاب حزب الاتحاد الاشتراكي بضرورة مساواة المرأة للرجل في الميراث.
يذكر الكاتب أحمد عشوش في كتابه "المغالطات المنطقية في وسائل الاعلام" مغالطة تعتمدها وسائل الاعلام في عمليتها الممنهج لتزييف الوعي عند المتلقي ومحاولة الالتفاف على الحقيقة تسمى (مغالطة سمكة الرنكة الحمراء) يعتمد مرتكب هذه المغالطة صرف اهتمام الآخرين بالحديث عن قضية أخرى واثارة مشاعرهم بها للتغطية على قضيته التي يعجز عن اثباتها [19].
في تعاطي القناة الثانية مع القضية ومن خلال تقرير مرئي -استضافت فيه كل المعنيين وزادت عليهم من لم يكن معنيا إلا صاحب القضية أبوالنعيم- اعتمدت هذه المغالطة بشكل بين حيث تم إهمال القضية الأساس في الموضوع وأصله وهوتصريحات القيادي في الحزب بضرورة المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث وتم القفز إلى تصريحات أبي النعيم تحليلا وتفكيكا وربطا للاتصال بجمعيات حقوقية لاستكمال فصول المسرحية مرورا بالاستشارة القانونية لمتابعة أبي النعيم قضائيا-وقد كان- انتهاء بإصدار حكم بالإدانة في آخر التقرير، ليتم لفت انتباه المشاهد بالكلية عن القضية الأساس، وهي الدعوة إلى المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث، وهي قضية خطيرة كان حريا بالقناة العمومية وتماشيا مع المرجعية الدينية المعتمدة رسميا أن تسلط عليها الضوء، فهذه الدعوة مناقضة في جوهرها والأمن الروحي للمغاربة بل ولصريح القرآن في دولة تعلن أن دينها الرسمي هوالإسلام.فالاعتراض على القرآن ومخالفة الدين الرسمي للدولة والخروج على الثوابت لم يكن بالموضوع ذي البال في عرف القناة الثانية إلا حين يتعلق الأمر بالإسلاميين، وأخطر ما ورد في التقرير تعليق لأحد رؤساء الجمعيات الحقوقية مفاده أن هذه الحادثة تفتح الباب أمام ضرورة تبني العلماء لخطاب تجديدي يعيد النظر في الأحكام الشرعية على ضوء ما استجد من القوانين العالمية المتعلق بحقوق المرأة، لتنحاز القناة الثانية بشكل سافر لطرح المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث وثبت هذه الجرعة المركزة خارج سياق التقرير، لتلقي رسالة ذهنية سريعة لينقلب الموضوع رأسا على عقب فيصير الداعي إلى خلاف الشرع محقا وما دعا له قطعي ينتظر إعادة نظر الفقهاء في آرائهم المتشددة، ليضيفوا عليها بعض بهارات التجديد، في حين يعتبر المستمسك بالوحي مجرما يستحق العقاب والمحاكمة، كل هذه المغالطات يتم تسريبها بشكل خفي لا ينتبه لها ذهن المشاهد العادي الذي لا يجعل نصب عينيه تفكيك الخطاب المقدم له ولا يملك حسا نقديا بل يكتفي بالمشاهدة ومع تكرار هذه الرسائل وتراكمها في العقل الباطن تصير موجهة للوعي والسلوك دون وعي وعملية التكرار مهمة جدا لترسيخ الرسائل المراد إيصالها للجمهور وبلوغها درجة اليقين، وقد عدها غوستاف لوبون من أهم الوسائل التي يستعملها محركوالجماهير لإقناع الجماهير، يقول لوبون : ولكن الإعلان لا يكتسب تأثيرا فعليا إلا بشرط تكراره باستمرار، وبنفس الكلمات والصياغات ما أمكن ذلك، كان نابليون يقول بأنه لا يوجد إلا شكل واحد من أشكال البلاغة هو: التكرار. فالشيء المؤكد يتوصل عن طريق التكرار إلى الرسوخ في النفوس إلى درجة أنه يقبل كحقيقة برهانية [20].
الحدث الثاني:ما نسب للمغراوي حول فتواه بخصوص إباحته تزويج القاصرات.
ولنقارن ردة الفعل الباردة لهذه التصريحات -الخاصة بموضوع أبي النعيم- ومحاولة ترويجها والحملة الشعواء التي شنتها نفس القناة على المغراوي في ما عرف آنذاك ب"فتوى تزويج القاصرات" فزيادة على ما ذكرنا من تغييب صاحب القضية في أي تقرير عمدت القناة إلى استحضار قاموس جديد كان غائبا في خطابها العام، لتصبح حريصة على الأمن الروحي للمغاربة وعدم مخالفة الثوابت والتشغيب عليها، رغم أن نفس الفتوى معمول بها في القضاء المغربي ولوبشروط[21] وحقيقة كلام المغراوي لم تكن فتيا بقدر ما كانت بيانا لحكم موجود في القرآن لا تعلقا بنازلة معينة، وقد صرح هونفسه أنه لا يقبل واقعا بتزويج ابنته الصغيرة قبل أن تبلغ سن الرشد. فالموضوع في أساسه ليس مهما بقدر أهمية تشويه قائله إن كان من الإسلاميين، فلا ضير أن تناقض الثوابت والقواطع ويهدد الأمن الروحي من قبل أصحاب التوجه العلماني لكن البأس كل البأس حين يفهم من كلام لأحد الإسلاميين مخالفة هذه الثوابت إنه كيل بمكيالين وميزان ظلم أعوج ذوكفتين متباينتين، فتغيب شعارات الحيادية والقيم الصحفية وكل كلمات القاموس الوردي حين التعاطي مع الإسلاميين.
ومن أهم الوسائل التي تعتمدها وسائل الإعلام في مجملها في التعاطي مع الإسلاميين وقضاياهم ما يطلق عله بالتنميط الذهني أوالصورة الذهنية وهذه الوسيلة هي الأخطر على الإطلاق إذ تعمد في أساسها على فرض صورة مشوهة للإسلامي باستحضار أنماط قد توجد وقد لا توجد في الواقع ثم تعميمها بشكل طولي لتشمل كل إسلامي كيفما كان وإلى أي تيار انتمى.
يقول أحد سالم: الصورة الذهنية هي تصور عقلي شائع، فرديا، اوجماعيا، نحوشيء معين، وقد يكون هذا الشيء فردا، أوجماعة، أوشعبا، أودينا أورأيا، أومذهبا، بحيث تتحول هذه الصورة إلى مدلول يستحضره الذهن بمجرد استحضار هذا الشيء، وقد يبني المتصور لهذه الصورة مواقفه وعلاقاته مع هذا الشيء بناء على هذا التصور، مما يؤدي مع التراكم إلى تحول الصورة الذهنية إلى مركب من الأحكام والتصورات، والانطباعات المتنوعة.
والذهن يقوم ببناء هذه الصورة عن طريق الاعتماد على وسائط معرفية، وإدراكية، تبدأ من أدواته هوالمعرفية، كالحواس مثلا، وتنتهي بمصادر المعرفي التي يجد فيها مادة تتعلق بالشيء الذي بريد تكوين الصورة عنه، مثل: الكتب، والأخبار، والاتصال ذاتي بشيء ونحوذلك مرورا بالذهن الذي يقوم بالربط بين المعلومات لتي تتاح له عبر المصادر المعرفية، لينتج الصورة الذهنية المطلوبة، والحقيقة أن قدرة الحواس على الاتصال مع عالم بهذا الاتساع تضل قدرة محدودة، من هنا كانت الوسائط المعرفية الأخرى هي وسيلة صناعة الصورة في غالب الأحيان.[22]
وهذه الطريقة مركبة من خللين منهجيين كبيرين أولهما التنميط ثم التعميم أي صناعة الصورة الذهنية النمطية ثم تعميمها لتشكل كل جزء من الكل وكل فرد من المجموع وهي ما يصطلح عليها ب"مغالطة التعميم المطلق" يقول أحمد دعشوش متحدثا عن هذه المغالطة :يرتكب البعض هذه المغالطة عندما يصر على تعميم حكم ليشمل كافة العناصر المعينة به دون السماح بأي استثناء، وهوغير مقبول منطقيا ولا علميا، فقد يكتشف الإنسان يوما في المستقبل وجود استثناء للقاعدة [23]. ومثال ذلك أن يقول صحفي مثلا "وجد في بيت الإرهابي كتاب العالم الفلاني وكل الإسلاميون يقرؤون لهذا العالم فكل الإسلاميين إرهابيون"، أويقول مثلا: "الإرهابي الفلاني لم يكن كث اللحية وعليه فكل صاحب لحية خفيفة إرهابي مفترض".
والتنميط لا يتوقف دائما على ذكر مقدمة ثم تعميمها بل يقع أحيانا في شكل مقدمات عامة يتحلى بها كثير من الإسلاميين كاللحية وحمل السبحة فيتم جعل ذلك خصيصة "للإرهابي" كأن يظهر وهويحمل سبحة أويناديه ابنه "أبي" أوغير ذلك، ليتولى ذهن المستقبل تعميم الحالة على كل من تلبس بهذا الفعل.فالمشاهد العادي غير معني بتحليل الرسائل الإيحائية التي يتلقاها باتباع نهج منطقي يبدأ بالملاحظة ثم التحليل فالاستنتاج بل يكفيه الوجبات التنميطية السريعة أوالتعميمات السطحية التي لا تحتاج كثير تأمل ونظر.
ولا شك أن ما يقدم كسلوكيات تعمم على أفراد الكل قد يكون موجودا في الواقع لكنها في الغالب محدودة ومثار استهجان من الاسلاميين أنفسهم، والجزء الأكبر من الصور النمطية - زيادة على التشويه الفج - يعتمد على معطيات غير صحيحة وتصورات منقولة مشاعة غير مشاهدة ولا متحققة.
والصور النمطية التي يحاول الإعلام المغربي إلصاقها بالإسلاميين كثيرة نذكر من بينها:
1- الإسلامي جاهل:
خطورة الإعلام ورسائله التوجيهية تتجلى في كونها مخاطبة للاوعي حيث تمرر الرسائل بشكل متكرر لتتراكم على شكل ربط مفاهيم ومعاني معينة بأشخاص معينين، هذه العلاقة البينية تجعل العقل وبغير وعي يستحضر المعني الإيجابي أوالسلبي مباشرة بعد ذكر من ربط به، أوالعكس، حيث يتم استحضار المعاني والخرائط الذهنية التي شكلتها الرسائل المدسوسة للإعلام كلما ذكر الشخص.وهذا ما يفعله الإعلام بالضبط عند تناوله لصورة الإسلامي حيث يتم ربطه بأوصاف لا تنفك عنه من أكثرها شيوعا كونه جاهلا بالعلوم الدنيوية ويقبع في الدرجات الدنيا للمعرفة والتحصيل العلمي.
في إحدى حلقات متتابعة يعرضها برنامج مسرح الجريمة حول بعض ما ينسب لمعتقلي ما يسمى بالسلفية الجهادية، يظهر أمير الجماعة الذي لا يعرف من اللغة العربية إلا كلمة "الفيء"، وتجاوزا للممثلين الهواة الذين كانوا يؤدون أدوارهم وكأنهم في مسرحية تجريدية وطريقتهم البسيطة المسطحة وكأنهم يخاطبون جمهورا من ذوي الإعاقات الذهنية أوممن لم يبلغ الحلم بعد في تبسيط درجت عليه وسائل الإعلام خصوصا المرئية منها على مخاطبة مشاهديها عليه وكأنهم جماعة من الحمقى والمختلين عقليا، يظهر أميرهم هويخاطب أحد أعضاء الخلية والذي سيعقد قرانه على امرأة وهويقول "جوجتك إياها" بدل "زوجتك إياها".أول انطباع سيحصل للمشاهد كون هؤلاء الإسلاميين جهال لا يفقهون شيئا بل لا يستطيع أحدهم تركيب جملة تامة كاملة، لكن الخطير في المشهد هوتنميط هذا الأمر وتعميمه ليشمل السلفيين على وجه الخصوص وإن كانوا ممن لا يتبنون خيار العنف المسلح ويتعداه إلى كل الإسلاميين بعد ذلك ففي نفس الحلقة يحرص المخرج على ربط الإرهابيين المفترضين بالمظهر السلفي المعروف بل ويتجاوز ذلك ليظهر أحدهم وهويحمل سبحة.اللافت هنا هوأن معظم السلفيين لا يرون جواز استعمال السبحة، لكن الرسالة المراد إرسالها هي أن هؤلاء الإسلاميين بشتى أصنافهم نمط واحد لا فرق بين توجهاتهم أوأفرادهم، وأن كل أولئك الذين تشاهدهم يمشون بهدوء وسكينة وربما يبتسمون في وجهك كل صباح أويقدمون لك هدية، هم مشروع إرهابي محتمل. والإشكالية هنا أن رجل الشارع العادي غير مشغول البتة بالتصنيفات والتحليلات العميقة بل يكفيه منها التعميمات السطحية والاختزالية المطلقة وهذا ما يحرص على تأكيده البرنامج المعروض لكن بربط الكل بمعان سلبية كالجهل.
والحقيقة أن تناول الإسلاميين بهذه الطريقة، زيادة على كونه سقطة أخلاقية كبيرة، يعد غير واقعي فإن نشأة كثير من التنظيمات العنفية كانت على أيدي أفراد من ذوي التعليم العالي كجماعة الهجرة والتكفير وقد كانت كلية الطب في القاهرة مرتعا لجماعة الجهاد المصرية، والتدين عامة سواء السلفي أم غيره يملأ الجامعات والمدارس العليا للمهندسين ويكفي أن يعلم في هذا المقام أن كثيرا من الشخصيات الإسلامية الناشطة هم من حاملي الشهادات العليا ولوانطلقنا نضرب الأمثلة للزمنا كراريس.
2- الاسلامي المنافق النفعي:
من أخطر ما يمكن أن تشاهده في خطة تنميط الإسلامي حلقة من سلسلة "ساعة في الجحيم"، حيث أن المخرج تعامل مع القضية بدهاء كبير متجاوزا التناول الساذج والمباشر الذي تعتمده جل باقي الوسائل الإعلامية، واعتمد على الرمز والإشارة دون الإيضاح والتصريح.
في بداية الحلقة يظهر شاب ذولحية خفيفة يضع فوق رأسه طاقية بيضاء غامقة يقطن في غرفة سوداء مظلمة مبعثرة الأركان تشبه الزاوية، لا يشاركه سكناه أحد، سمته الهدوء ويحرص أشد الحرص على قضاء حوائج جارته العجوز دون تردد، لكنه سرعان ما ينقلب إلى شخص هستيري يحدث نفسه ويصرخ ببلاهة وعنف كلما اختلى بنفسه. هذا الشاب الرمز يمثل هنا الحركات الإسلامية التي يراد تصويرها هنا وكأنها تعاني حالة انفصام مزمنة، حيث تظهر للناس بمظهر الطهر والنقاوة والمثالية بينما هي في الحقيقة تخفي خلف وجهها الباسم المنفرج عنفا وأحقادا لا تنتهي، وغايتها الأساسية اختطاف المجتمع، الذي سيرمز له بفتاة أراد هذا الشاب الزواج منها فاختطفها واحتجزها في غرفته مقيدة مكبلة. يتدخل الصحافي الحداثي المنطلق ليحرر هذه الشابة-المجتمع-من براثن هذا الوحش لكن بطريقة الحوار والتلطف والإقناع، وبينما تسير الخطة على أحسن ما يرام يتدخل الشرطي-السلطة- لتفسد خطة الصحافي-الحداثة والعلمانية- لتكون النتيجة تراجيدية مؤسفة تنتهي بقتل الفتاة. مشهد إلقاء القبض على الشاب ستكون ذروة الإشارة وزبدة التنميط حين تظهر الفتاة وهي في كرسي متحرك يدفعه الشاب هربا من الشرطة وقد ألبسها نقابا يخفي وجهها هذا المشهد يختزل رؤية أخرى يراد إيصالها وهي علاقة الإسلامي بالمرأة التي لا تخرج عن الاحتجاز قهرا أوخنق حريتها وسلب روحها، فلا ينظر إليها إلا نظرة الشهوانية والابتذال، وينظر إليها نظرته إلى الأشياء التي يملكها فحتى إن دافع عنها أوضحى لأجلها فدافعه الأول اعتبارها ملكا له لا يريد التنازل عنه لا من حيث كونها امرأة ولكن من جهة كونها شيئا يملكه.
3- الإسلامي العنيف:
ينشر أحد أشهر المواقع الإخبارية الإلكترونية خبرا بعنوان "هجوم سلفي على معرض الكتاب بالجزائر" القصة وما فيها أن المقال يتحدث عن الإقبال الكثيف للسلفيين على شراء الكتب من المعرض والكاتب لم يجد عبارة أفضل من" الهجوم". الاختيار لا يبدوعبثيا خصوصا مع تكرار مثل ذلك كثيرا في الصحافة المقروءة فترى في ابتذال سخيف لا تقوم به حتى الصحافة الغربية محاولة الربط بين التدين وكل ما هوعنفي بدمج كلمات من قبيل "هجوم"، "حد"، "جلد"، "قطع يد"، "اغتصاب"...بكلمات من قبيل "سلفي"، "إمام مسجد"، "ملتحي"...ليتم ربط هذه الحمولة السلبية العنفية بالتدين السلفي خاصة والإسلاميين عامة. نفس هذه الصحف تعرض الجرائم المستشنعة والاعتداءات اليومية على صفحاتها دون أدنى إشارة لخصيصة عرقية أوأيديولوجية للفاعل، فلن تجد في يوم من الأيام مثلا عنوانا مثل - علماني متزوج يعقد على مناضلة علمانية سرا - فالعناوين والمضامين الكيدية لا علاقة لها بممارسة باقي الفئات المجتمعية، وإن اختلفت أعراقها، وإن كان الدافع للعنف أيديولوجيا فلن يشار إليه كما وقع في حادثة مقتل الطالب الإسلامي في جامعة فاس على يد القاعديين العلمانيين، وما يقع هنا مع الإسلاميين يقع عكسه في مثل ما ذكرنا فبعد الحادثة وفي أول تغطية صحفية للقناة الأولى للحادث تذهب القناة إلى أن ما حصل كان نتيجة فوضى واشتباكات متبادلة دون الإشارة ولوبعبارة موهمة بالطبيعة المؤدلجة للجريمة، ولك أن تسرح بخيالك قليلا فتفرض رد الفعل الاعلامي العلماني لوان ما وقع العكس وتم قتل طالب قاعدي على يد إسلاميين؟
والحقيقة أن وسائل الإعلام المغربي لا تتوانى عن تشويه الإسلاميين والتنفير منهم في كل مناسبة تتاح لها وقد أصبح ذلك سمة بارزة لهذه المنابر الإعلامية، خصوصا مع التضييق الممارس على وسائل الإعلام ذات الطابع الإصلاحي عموما والسمة الإسلامية خصوصا، ولازال الصالحون يبذلون جهدهم لمزاحمة القوى العلمانية في الحقل الإعلامي بإصدار بعض الصحف والمجلات وقد تتوجت جهود هؤلاء المصلحين بإطلاق بث أول قناة فضائية إسلامية مغربية لعلها تكون فاتحة خير في هذا المجال وتتبعها خطوات أخرى في العمل الدعوي الإعلامي.
[1] غوستاف لوبون، سيكولوجية الجماهير، ص:41، ترجمة :هاشم صالح، دار الساقي.
[2] نفسه، ص:43.
[3] نفسة، ص:48.
[4] نعومي كلاي، عقيدة الصدمة، نسخة إلكترونية.
[5] أحمد سالم، تغريدة له على صفحته في الفايسبوك.
[6] غوستاف لوبون، سيكولوجية الجماهير، ص:116.
[7] نعوم تشومسكي، السيطرة على الإعلام، ص:8، تىجمة :أميمة عبد اللطيف، مكتبة الشروق الدولية.
[8] نفسه، ص:17.
[9] عبد الله الغدامي، الثقافة التلفزية، ص:35، المركز الثقافي العربي.
[10] عبد الحليم حمود، فن غسل الأدمغة، ص:25.
[11] نعوم تشومسكي، السيطرة على الإعلام، ص:25و26.بتصرف.
[12] صورة الإسلاميين على الشاشة، أحمد سالم، ص:64، 65، مركز نماء.
[13] نقلا بتصرف واختصار عن أحمد سالم، صورة الإسلاميين على الشاشة:ص:67، 77، 78.وينظر هنالك تحليلات قام بها الكاتب لأفلام أخرى.
[14] الأمركة: صبغ مجتمع أوفرد بالصبغة الأمريكية وإشاعة نمط الحياة الأمريكية، عبد الوهاب المسيري، العلمانية والحداثة والعولمة.
[15] عبد الوهاب المسيري، العلمانية والحداثة والعولمة، ص:261.
[16] برنار بروشان، مقدمة كتاب "الإشهار والمجتمع'' برنار كاتيلا، ترجمة :سعيد بنكراد، دار الحوار للنشر والتوزيع.
[17] نقلا عن أحمد سالم، صورة الإسلاميين على الشاشة، ص:61.
[18] نفسه، ص:29.
[19] أحمد دعدوش، المغالطات المنطقية في وسائل الإعلام، ص:20، نسخة إلكترونية.
[20] غوستاف لوبون، سيكولوجية الجماهير، ص:133.
[21] وقد ورد في تقرير من إصدار وزارة العدل والحريات المغربية حول تزويج القاصرات ما يلي: "فلا ينجز الزواج إلا بإذن القاضي، بمقرر معلل يبين فيه المصلحة والأسباب المبررة لذلك، بعد الاستماع لأبوي القاصر أونائبه الشرعي، والاستعانة بخبرة طبية أوإجراء بحث اجتماعي، وهي ضمانات يتعين على القضاء تحقيقها وتفعيلها على أرض الواقع، وذلك بفرض طلبات الأذن بالزواج دون سن الأهلية كلما بدا له انتفاء المصلحة أواحتمال حصول ضرر تترتب عنه عواقب وخيمة على الصحة النفسية أوالجسدية للمعنية بالأمر"
[22] أحمد سالم، صورة الإسلاميين على الشاشة، ص:55.
[23] أحمد دعدوش، المغالطات المنطقية في وسائل الإعلام، ص:12.
حاتم بن محمد الكوراجي
الجزء الأول
القوة الناعمة وقوة الصورة
"إن انتصار السلاح لا يعني النصر الكامل؛ إن القوة تبني الإمبراطوريات؛ ولكنها ليست هي التي تضمن لها الاستمرار والدوام. إن الرؤوس تنحني أمام المدافع؛ في حين تظل القلوب تغذي نار الحقد والرغبة في الانتقام".
جورج هاردي
"تغطي الصحافة الأحداث، وفي اختيارها الأحداث التي تغطيها وطريقة تغطيتها تشكل نتيجتها"
كاتلين هول جاميسون، بول والدمان
في الحروب الأخيرة عرف العالم تغير وسائل السيطرة التي تعتمدها الدول الكبرى لإخضاع الدول من أجل ضمان التبعية، فلم تعد المدافع أهم هذه الوسائل بل أولت القوى الاستعمارية اهتمامها الأكبر إلى محاولة السيطرة على عقول الجماهير التي لعبت دائما دورا مهما، ولكنها لم تلعب هذا الدور بنفس حجم الأهمية التي تلعبه اليوم [1] فإخضاعها يعني بالضرورة توجيهها نحومصالح القوى الاستعمارية المهيمنة، ويشير "غوستاف لوبون" إلى كون التغيرات الضخمة التي يعرفها العالم من قبيل سقوط حضارة وصعود أخرى أوالغزوأوتغير السلطة الحاكمة راجعة في أساسها إلى التغيير الذي يصيب أفكار الشعوب فيقول: إن الانقلابات التي تسبق عادة تبديل الحضارات تبدوللوهلة الأولى وكأنها محسومة من قبل تحولات سياسة ضخمة. نذكر من بينها الغزوالذي تتعرض له الشعوب، أوقلب السلالات المالكة. ولكن الدراسة المتفحصة عن كثب لهذه الأحداث تكشف لنا غالبا أن السبب الحقيقي الذي يكمن وراء هذه الأسباب الظاهرية هوالتغير العميق الذي يصيب أفكار الشعوب...وأما الأحداث الضخمة المأثورة التي تتناقلها كتب التاريخ فهي ليست إلا آثارا مرئية للمتغيرات اللامرئية التي تصيب عواطف البشر.[2] وسر نجاح أي سلطة حاكمة مرتبط بمدى قدرتها على ترويض الجماهير وكيفية التعامل معها، فنابليون بونابارت مثلا كان ينفد بشكل رائع إلى أعماق نفسية الجماهير الفرنسية، ولكنه كان يجهل بشكل كلي أحيانا نفسية الجماهير التي تنتمي إلى أجناس أوأعراق مختلفة [3].
وقد أدرك الاستعمار أن القوة قادرة على إخضاع الأبدان لكن لها آثارا سلبية على مخططات المستعمر، فالقهر لا يولد إلا ردة فعل عنيفة ومقاومة عكسية وإن تأخرت. كان من الضروري-وحتى تكتمل الهيمنة وتدوم ولوبعد الانسحاب الشكلي للجيوش- إخضاع العقول وتوجيهها كما يقول جورج هاردي: إن انتصار السلاح لا يعني النصر الكامل؛ إن القوة تبني الإمبراطوريات؛ ولكنها ليست هي التي تضمن لها الاستمرار والدوام. إن الرؤوس تنحني أمام المدافع؛ في حين تظل القلوب تغذي نار الحقد والرغبة في الانتقام. يجب إخضاع النفوس بعد أن تم إخضاع الأبدان. وإذا كانت هذه المهمة أقل صخبا من الأولى؛ فإنها صعبة مثلها؛ وهي تتطلب في الغالب وقتا أطول.
وقد أثبت التجربة العملية نجاعة وسائل السيطرة المرنة أوالناعمة التي تستهدف العقول والوعي، فلم يعد من الضروري لتحكم شعبا أوتضمن تبعية دولة أن تجيش لذلك الجيوش وتجند آلاف الجنود وترهق ميزانية الدولة بالنفقات العسكرية الضخمة، بل أصبح من الممكن تحقيق كل ذلك وزيادة بعمليات أقل كلفة وإن كانت أكثر تعقيدا وصعوبة. ولا يعني ذلك أن الغرب والدول المهيمنة قد تخلوا عن استعمال القوة المادية في عملية السيطرة والإخضاع، لكن ذلك لم يعد يحصل في معزل عن استعمال القوى الناعمة توازيا مع الجهود العسكرية المادية، وفي الغالب يتم للجوء للقوة لإزالة العوائق التي تحول دون وصول قوى التغيير النفسية والعقلية للفئات المستهدفة كما حدث في حالة العراق، فرغم الحصار والتجويع وسياسات العقوبة ظل هذا البلد العربي عصيا على تغلل الغزاة الجدد وكانت قيادته السياسية -بقطع النظر عن الاتفاق معها من عدمه- سدا منيعا في وجه التدخل الغربي في المنطقة والاستفادة من مزيد الثروات التي حواها هذا البلد، فما كان من الولايات المتحدة إلا أن قامت بإسقاط النظام بالقوة لتتم لها السيطرة على ثروات العراق وتضمن التبعية ولوجزئيا وقد كان العراق قبل الغزويملك أفضل نظام تعليمي في المنطقة، قبل أن تحكم العقوبات الطوق عليه كانت نسب التعليم فيه أعلى نسبة في البلدان العربية[4].
وأهم ما تتميز بها القوى الغربية القدرة العريضة على تكييف وسائل التغيير المرن تبعا للأحداث المستجدة فبعيدا عن نظرية المؤامرة التي تقضي بأن الغرب هوالذي يصنع الحدث على الأرض العربية الإسلامية ويسيره كيفما شاء وحيثما شاء، فإن الثابت أن لديه القدرات الاستراتيجية الضخمة للاستفادة من أي تغيير يقع بعيدا عن الوسائل العسكرية – إلا في نطاق محدود - المستنزفة فحتى وإن بدا هذا الحدث لا يتماشى والمصالح الغربية بادئ الأمر، وهذه في الحقيقة هي الخطوة الكبيرة التي لا زال يتقدم بها الغرب علينا فإن كنا قادرين كأنظمة سياسية أوشعوب على القيام بالفعل وإحداثه فالغرب لا زالت لديه إمكانية الاستفادة منه وتوجيهه ليصب في قناة مصالحه، لأن أفعالنا نتيجة ردود أفعال غير مدروسة، وأفعالهم تنزل على أرض الواقع تبعا لدراسات استراتيجية معمقة تقوم بها معاهد تنفق عليها هذه الحكومات ميزانيات ضخمة – معهد راند كمثال فيما يخص الحالة الإسلامية -.فالركن الأساسي في خصائص القوى العظمى هوضخامة ونوعية الموارد المادية والبشرية والفكرية، مما يمكنها من الاستفادة من الأحداث على أي وجه ألقت رحالها[5].
بعد حرب فيتنام بدأت الإدارة الأمريكية إعادة النظر في فعالية القوة المادية العسكرية لفرض النموذج الغربي وإقامة نظم تضمن استمرار المصالح الأمريكية خاصة والغربية عامة. إذ أن هذه القوة ظلت قاصرة عن تحقيق أهدافها بل وأرهقت كاهل الميزانيات الدفاعية بشكل كبير. فبرزت نظرية السيطرة الناعمة التي تستهدف ابتداء التأثير على العقول وتوجيهها داخليا وخارجيا ولا شك أن هذه السياسة ناجحة داخليا بشكل مبهر وبنسبة أقل خارجيا وأبرز دليل على ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية منيت في حروبها في الدول الإسلامية بخسائر أضعاف ما كان عليه الحال في فييتنام، لكن توجيه العقول والقوى الناعمة جعلت المواطن الأمريكي بارد ردة الفعل إلا قليلا وفتحت عينه على جانب واحد وهوخطر الآخر- الإرهابي - على القيم الحداثية الأمريكية بينما كانت توابيت الجنود الأمريكان قتلى هذه الحروب خارج التغطية محظورة العرض والتصوير. وحتى النقد الموجه للسياسات الأمريكية داخليا لا يخرج عن الإطار المعد مسبقا فكل كوارث أمريكا وإجرامها إنما يندرج في خانة الأخطاء الفردية والانفعالات الآنية لبعض الجنود مع الحرص على إبعاد التهمة عن الإدارة ومدى مسؤوليتها عن هذه الكوارث، بل إن التفكير في دوافع هذه الحروب أصالة وأسبابها لا يتم إلا في دوائر مغلقة يثيرها بعد الأفراد من حين لآخر دون أن تجد صداها في المجتمع الأمريكي. ومن أغرب ما شاهدته منظر أولئك الأمريكيين الحداثيين المنطلقين الذين يسألهم المذيع عن رأيهم في الحرب التي ستشنها الولايات المتحدة الأمريكية على الدولة الارهابية الفلانية - ثم يذكر دولة صديقة لأمريكا بل تعد من أبرز حلفائها - فيجيب هؤلاء دون تردد "نحن نؤيد سيادة الرئيس". المشهد على بساطته يلخص تأثير الصورة والإعلام – أهم وسائل القوى الناعمة - في توجيه الرأي العام وقولبة الأفكار حتى تصير متماهية بدون أدنى تفكير أوتساؤل. نفس هؤلاء المواطنين لن يستنكروا تعذيب هذا الإرهابي الذي يهدد أمنهم- بعدما رأوا في أفلامهم أن ذلك ضرورة ملحة وأنه قد يجنبهم أذية بالغة - وحرياتهم كما أقنعتهم وسائل الإعلام ولن يتعاطف معه ولوقتل بأبشع الطرق بل ولوقتل المئات والآلاف ممن لا علاقة لهم بذلك في سبيل القضاء عليه.
الإعلام أوالصورة أحد أهم - إن لم يكن أهمها - ركائز القوة الناعمة، فالصورة ومنذ أوائل ظهورها بشكلها المبسط البدائي نالت إعجاب الإنسان وأبهرته أما في وضعها الحالي فقد صارت أكثر إبهارا وتأثيرا.
ويذكر غوستاف لوبون في معرض حديثه عن الوسائل المباشرة التي تأثر في وعي الجماهير أن الصورة أومصطنعة تأثر بشكل خاص في مخيلة الناس، يقول غوستاف :عندما درسنا مخيلة الجماهير رأيناها تتأثر بالصور بشكل خاص فهي تبهرها فعلا.وإن لم نكن نمتلك الصور فإنه من الممكن أن نثير في مخيلة الجماهير عن طريق الاستخدام الذكي والصائب للكلمات والعبارات المناسبة. فإذا ما استعملناها بشكل فني لبق فإنها تستطيع عندئذ أن تمتلك القوة السرية التي كان أتباع السحر يعزونها إليها في الماضي.[6]
ففي أمريكا لم يكن للرئيس ويلسون إبان فترة الحرب العالمية الأولى سوى استخدام القوى الناعمة لتغيير وعي الناس ودفعهم لقبول دخول الولايات المتحدة الحرب وضرورة تدمير ألمانيا، بعد أن كان شعار حملته الانتخابية "سلام بدون نصر" وعلى أساسه اختير رئيسا، فكانت المهمة تحويل المواطن الأمريكي المسالم المناهض للحرب إلى متعطش لها، وفي سبيل تحقيق ذلك استحدث ويلسون "لجنة كريل" وهي لجنة حكومية للدعاية للحرب وضرورة شنها وتدمير ألمانيا، وقد استطاعت اللجنة أن تحقق ذلك في مدة قياسية لا تتعدى ستة أشهر، ولم تكتف إدارة ويلسون بذلك بل استغلت هيستيريا الناس للحرب وضرورة وجود عدوقومي لا بد من مواجهته والقضاء عليه لشن حملة على القوى العمالية في الداخل تحت شعار "محاربة الشيوعية" هذه المرة، وتم توظيف هذا التكتيك لإثارة هيستيريا ضد الرعب الشيوعي وقد نجحت إلى حد كبير في تدمير الاتحادات العمالية والقضاء على بعض المشكلات الخطيرة، مثل حرية الصحافة وحرية الفكر السياسي، وكان هناك تأييد قوي من وسائل الإعلام.[7] فبعد أن تم حشوعقل المواطن الأمريكي بهاجس الخوف بواسطة وسائل صناعة الوعي سهل بعد ذلك تجييشه ضد أي عدو، حقيقيا كان أم وهميا. لا بد أن يتخوف الناس ويشعروا بالخطر الداهم ليؤيدوا الفظائع ويسهل توجيههم ذلك أن عامة الجمهور لا يجدون سببا للتورط في مغامرات خارجية أوعمليات قتل وتعذيب ولذا لا بد من تحفيزهم، ولفعل ذلك لا بد من أن تثير مخاوفهم [8] وأسهل طريقة لصناعة الرعب هي الصورة سواء كانت مرئية أم ذهنية ناشئة عن نقل الأحداث وتوجيهها لتؤدي هذا الغرض، وهذا هومجال اشتغال وسائل الإعلام، وقد رصد نعوم تشومسكي في كتابه "السيطرة على الإعلام" كيف تستطيع رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية التحكم في الرأي العام وتوجيهه إلى الاقتناع بعكس ما كان عليه قبل بضع سنين فقط، ومن ذلك تحول صدام في الوعي الشعبي الأمريكي من حليف لأمريكا في الشرق الأوسط يزوره رامسفيلد ويتباحث معه الشؤون السياسية وينقل له تحيات الرئيس إبان الحرب العراقية -الإيرانية، ليتحول وبعد سنوات قلائل إلى أيقونة للشر في الشرق الأوسط، يريد السيطرة على العالم وتدميره ومناطق النفط في الكويت والسعودية. ومن طريف ما يذكر أن أمريكيا متأثرا بما تبثه وسائل الإعلام حول صدام ظل مختبئا في كهف لمدة 10 سنين منقطعا عن العالم خوفا من وصول صدام إلى ولايته [9]، ولاية كاليفورنيا، ولعل هذه درجة متطرفة من تأثير الإعلام على عقول البشر لكنها تجسد حقيقة تأثر المشاهد بما يلقى إليه من وسائل الإعلام المرئية والسمعية والكتابية وقابليته لتصديق أي شيء.
ويذكر تشومسكي أن من أهم طرق صناعة الوعي والتحكم فيه التي انتهجتها الصحافة الأمريكية اختيار الأحداث والتركيز على بعضها دون الآخر وتغطيتها بطريقة إيحائية مركزة، كما يقول "كاتلين هول جاميسون" و"بول والدمان" : تغطي الصحافة الأحداث، وفي اختيارها الأحداث التي تغطيها وطريقة تغطيتها تشكل نتيجتها [10]، ففي مايو1986 نشرت مذكرات السجين الكوبي " أرماندوفالاديرز"، وسرعان ما أصبح حديث وسائل الإعلام، فوصف حينها كاستروفي الصحافة الأمريكية بأنه ديكتاتور مجرم وأنه خلق نوعا جديدا من الاستبداد الذي أسس للتعذيب كأحد ميكانيزمات السيطرة الاجتماعية، وتمت مهاجمة كل من يدافع عن كاستروبوصفه مدافعا عن الديكتاتورية والتعذيب، في نفس الشهر تم القبض على أعضاء مجموعة حقوق الإنسان بالسلفادور وعذبوا، كان عددهم حوالي 432 محام، وقاموا بتوقيع إقرار شرحوا فيه أساليب التعذيب التي لاقوها في السجن، وسرب هذه التقرير وشهادات بالفيديوصور فيها هؤلاء وهم يقدمون شهاداتهم حول ما لاقوه من تعذيب، ثم ماذا حدث؟ رفضت الصحافة القومية تغطية الحدث إلا صحيفة يتيمة محلية في سان فرانسيسكو.[11]
وفي إيطاليا لم يكن برلسكوني - المثقل بالفضائح المالية والجنسية والقضائية- بحاجة إلا لجهاز إعلامي فعال يتولى مهمة رسم صورة شاعرية عنه وهدم الصورة القبيحة الملتصقة به في أذهان الناس، فقامت القنوات المرئية التابعة له وصحيفتي "إل جورنالي" و"إل فوليو" المملوكتين له، ومجموعة مواقع إلكترونية كانت تحت تصرفه بهاته المهمة وتحول برلسكوني من "رجل الفضائح" إلى "رجل السياسة الأول" الذي يحسب له خصومه ألف حساب، وكما قامت "الإمبراطورية الإعلامية " - والتي كان أولاده وزوجته هم من يديرها - لبرلسكوني بالترويج لصورته الجديدة ونجاحاته الاقتصادية فقد تولت نفس المهمة لتبرير إخفاقاته السياسة بعد توليه لرئاسة إيطاليا.
ولا يمكن الحديث عن تأثير الإعلام عامة والمصور بشكل خاص على المتلقي دون الإشارة إلى ما يمكن اعتباره أهم وسيلة لصناعة الوعي وهي السينما، والمثال الأكثر وضوحا هوالسينما الأمريكية وتأثيرها على عقول الأمريكيين، فإنه لا يمكن تجييش رأي الأمريكيين لقضية ما دون تناولها في أفلام مصورة تعكس وجعة النظر الرسمية، لذلك لا تتوانى الإدارة الأمريكية عن تقديم الدعم المادي والمعنوي لمنتجي هذه الأفلام ويندر أن تجد فيلما سينمائيا يناهض سياسات الإدارة الامريكية وإن وجد فلا يتعدى حدود المسموح به، وقد رصد "جاك شاهين "بعض جوانب تأثير هوليود على الوعي الأمريكي فيما يخص العرب والمسلمين في كتابه "صورة العرب السلبية في أفلام هوليود" وخلص بعد جرد وعرض كامل لما أنتجته هوليود حول العرب والمسلمين أن الصورة النمطية للعربي أوالمسلم التي تروجها السينما الأمريكية سلبية إلى درجة مبتذلة فلا تخرج عن كونه مجرما يميل للبذخ والنساء يسكن في كهوف في الجبال أوفي الخيام في وسط الصحاري المقفرة.
يقول جاك شاهين: أن الصورة النمطية السلبية للعرب مزروعة عميقا في الثقافة الشعبية الغربية، وهي بمثل صلابة صخور ما قبل التاريخ. ويتضح ذلك على نحولا مثيل له في أفلام هوليود، حيث تتواصل أبلسة المسلمين العرب، خلافا للمجموعات العرقية والإثنية الأخرى، على شاشات السينما... وبحلول سبعينات القرن العشرين، أي :بعد عقدين من قيام دولة إسرائيل، كان تصوير هوليود للشخصية العربية "عرب الأفلام السينمائية" يقوم على إظهار العرب غالب في هيئة شيوخ ميالين للنساء وأثرياء، وتواقين للانتقام، وفاسدين، وجبناء، وبدينين، بشك ثابث جزئيا... واعتبارا من ثمانينيات القرن العشرين وما بعدها :سيطر النزاع العربي - الإسرائيلي على العناوين الرئيسية، عززت هوليود ببساطة تصوير العرب على أساس أنهم أصوليون، إسلاميون، يائسون.
يتم في الأفلام دائما تصوير المسلمين كإرهابيين، رغم أنهم كانوا في العقد الأخير ضحايا على المستوى العالمي أكثر من غيرهم. ولنتذكر في هذا الصدد: القتلى في البوسنة وفلسطين، وكوسوفو، والشيشان. ونتيجة للصورة النمطية لا يجد مرتادوالسينما فرصة لمشاهدة العرب أوالمسلمين على الحقيقة أوالتعاطف معهم كضحايا للقمع[12].
وقد بلغ التنميط ذروته بعد الحادي عشر من سبتمبر وزاد إغراقا في الابتذال حتى صار تدمج هذه الصور النمطية في أفلام لا علاقة لها بالعرب والمسلمين كما وقع في فيلم"The Majestic" والذي تظهر فيه لقطة نشاز لا تتماشى مع سيناريوالفيلم حين يشاهد بطل الفيلم - ويلعب دور كاتب سيناريوهات سينمائي ذوميول شيوعية فقد ذاكرته بعد تعرضه لحادث وكان محل مذكرة بحث من الشرطة- شريطا سينمائيا، إذ يظهر عربي يحاول اغتصاب فتاة فيقوم بطل الفيلم بتخليصه منها ويطعنه طعنة قاتلة بالسيف ليكون آخر ما ينطق به هذا العربي قبيل موته "عليك اللعنة يا كافر"، هذا المشهد لا علاقة له البتة بأحداث الفيلم وكان من الممكن تعويضه بأي مشهد آخر يؤدي الغرض، لكن ذلك لم يكن عبثا بل مقصودا لإيصال فكرة لذهن المشاهد خصوصا وأن فكرة الفيلم الأساسية دعوة إلى الحرية والتسامح مع الأفكار التي قد لا تبدوموافقة لما عليه الأمريكان، فكانت اللقطة عبارة عن توضيح لا بد منه وهوكون هؤلاء الإرهابيين المسلمين حالة استثناء في القبول والتسامح معهم.[13]
إن مجال تأثير الصورة لم يكن محصورا في اختيارات الناس السياسة فقط بل استعملت في شتى المجالات التي سيكون من مصلحة من يملك السلطة والقوة أن يوجه فيها الطبقات المستهدفة، ففي عالم الاقتصاد مثلا يهتم الفاعلون الاقتصاديون بدراسة الوضع الاقتصادي العام وخصوصا المستهلكين الذين هم مادة التسويق، وتعد عملية الإشهار من أهم التقنيات التي توجه المستهلك نحوسلعة ما أونحوتفكير استهلاكي معين على أنه لا يمكن فصل ذلك عن نمط الحياة العام، فمثلا كلما زادت نسبة "أمركة"[14] مجتمع ما ومحاكاته للنمط الحياتي الأمريكي ستزداد نسبة استهلاكه للهمبورغر والكوكا، فهذه المواد الاستهلاكية لم تعد مجرد طريقة لتلبية الحاجات الضرورية لكنها نمط عيش، ويرى عبد الوهاب المسيري أن هذا التأثير والتوجيه الاستهلاكي استعمار لا يلجأ للقسر وإنما للإغواء [15]، لذلك لم يكن مستغربا أن تنشأ مراكز دراسة خاصة بالسياسات الإشهارية وما يتعلق بها تقول بدراسة المجتمعات الاستهلاكية لتتحكم في طريقة الاستهلاك، وتقوم بعملية إقناع المستهلك بالنمط الاستهلاكي المرغوب فيه، كمركز التواصل المتقدم الذي أنشأه "برنار كاتيلا" سنة 1971 في فرنسا وأول ما سيقوم به دراسة أسلوب حياة الفرنسيين وتطوره، لقد كان إسهامه كبيرا في تحول الإشهار الفرنسي وفي تحول إرساليته شكلا ومضمونا [16]، وقد اكتسب الإشهار مكانته في عالم الاقتصاد بقدرته على التوجيه والتأثير بعد أن كان في بداية أمره محل توجس حتى من الاقتصاديين أنفسهم الذين رأوا فيه عبئا زائدا على تكلفة الإنتاج، ومع مرور الزمن وظهور نجاعته في تسريع وتيرة الاستهلاك أصبح من أهم مكونات العملية الانتاجية وتسلل إلى مجالات أخرى غير الاقتصاد ليختلط بالسياسة والفن وغيرهما.
الجزء الثاني
تنميط المخالف (الإسلاميين نموذجا)
"ومن يتصور أن المؤسسات الاعلامية مجرد مناخ معرفي بحت فهويعيش وهماً كبيراً, فالمؤسسات الإعلامية كائنات سياسية لها أجندتها الخاصة وانحيازاتها العميقة, ولكن لها أدواتها الخاصة في الاستقطاب والتوظيف بما يتناغم مع بنيتها مثل: منصب كاتب عمود صحفي, أومشرف صفحة الرأي, أومدم تلفزيوني, أومعد برامج, أوضيفاً دائماً يوضع تحت اسمه خبير في الجماعات الإسلامية, ونحوها من المناصب الإعلامية التي تخطف لب الشاب في عصر الشاشة"
إبراهيم السكران، مآلات الخطاب المدني
تحرص وسائل الاعلام بشتى اتجاهاتها المرئية المكتوبة والمسموعة على تقرير نظرية وكأنها مسلمة في عالم الصحافة، لا يمكن للمشتغل بالحقل الاعلامي تجاوزها أوعلى أقل تقدير قل أن تتجاوز، وهي الحيادية، غير أن الناظر في أكثر الوسائل الإعلامية المشهودة لها بالنزاهة ولومن خصومها يجد صعوبة بل استحالة تحقق هذا المعنى ولوجزئيا. ففي ظل عالم السوق والأعمال تبقى الأداة الإعلامية مرهونة بما يجلب لمن يتولى الإشراف عليها الربح أي أن مفهوم المصلحة ثابث لا ينفك عن السياسات الإعلامية، وفي تحقق آخر يكون العامل السياسي حاسما في توجيه الأدوات الإعلامية وأدلجة طرحها. فالقنوات الرسمية التي تمول من ميزانية الدولة لا يمكنها البتة الخروج عن الخطوط العريضة لسياسات السلطة الحاكمة- وفي أكثر البلدان ديموقراطية- عن الإطار العام ، صحيح أنها قد تمارس نقدا من وقت لآخر غير أن هذا النقد في غالب الوقت لا يكون خارج الإطار المرسوم لما تحدده الجهات المهيمنة. يحدث مثل هذا في البلدان التي تدعي أنها أم الحريات في العالم ومصدرها، وما فتأت تعير غيرها بالنقص في هذا المجال كالولايات المتحدة الأمريكية، حيث لا يسمح لوسائل الإعلام أن تجاوز مثلا حدود انتقاد السياسات خارج الإطار، فكل ما يقدمه الإعلام من نظرة نقدية صريحة أحيانا وعلى استحياء أحيانا أخرى لا تخرج عما هومقرر داخل الخط العام لسياسات الخارجية الأمريكية، فليس مسموحا أن يتجاوز نقد الممارسات إلى نقد أصل السياسات الخارجية كجدوى الحرب ودوافعها.وإن كان النقاش دائرا حول استقلالية الوسائل الإعلامية الخاصة، فإن تبعية العمومية منها للنظام السياسي المهيمن لا ينتطح فيه عنزان إذ هومن أوضح الواضحات، وقد يعسر تحديد الجهة التي تتبعها الوسائل الإعلامية الخاصة ويتطلب ذلك دراسة عميقة مفصلة أما في حالة الوسائل التابعة للدولة فالأمر يسير والخطب سهل لا يحتاج إلى كثير تأمل ونظر ويتم ذلك في العادة باستقراء الخط التحريري العام، فإنه وإن خفي من يمول ويوجه فالسياسات التي تعكس توجها عاما تعني تبعية هذه المنابر لهذه التوجه وأقطاب هذا التوجه.
في هذا السياق يأتي تعاطي القنوات الإعلامية المغربية مع خصوم التيار الحداثي الفرنكوفوني تابعا للنظرة التي يتبناها الحداثيون ومتماهيا مع نظرتها وموقفها منهم.ولا شك أن للتيار الفرنكوفوني أعداء كثر لا بد من مواجهتهم والحد من تأثيرهم في الأوساط الاجتماعية لكي لا يكونوا مصدر استقطاب أوإلهام لغيرهم، والضابط في ذلك أن كل من له قوة تجميعية في اتجاه غير اتجاه الفرنكوفونية يعتبر مناوئا أوعلى أقل تقدير منافسا. وباعتبار الخصوصية اللغوية والدينية للمغرب فمن الواضح أن أيرز خصوم الفرنكوفونية هوالخطاب الشرعي وذلك لسببين اثنين:
• الخطاب الإسلامي ذوقوة فائقة على التجميع والاستقطاب خصوصا أن البيئة مهيئة تاريخيا وانتماء فهوليس بغريب عن المنطقة ولا وافد جديد بل هومن صلب الهوية المغربية، وجزء لا يتجزء من مكوناتها، والذين يتبنونه مكون مهم من التركيبة الاجتماعية والقبلية، بهذا الاعتبار يشكل هذا الخطاب أهم مناوئ للحداثة الغربية عامة والفرنكوفونية خاصة، وليس هذا بالأمر الذي يخفى على الفريقين. يقول "روبرت ساتلوف" : الإسلاموية، السعي إلى تنظيم المجتمع، وإنشاء حكومة مرتكزة على قانون إسلامي هي أعظم تحد إيديولوجي يواجه الولايات المتحدة اليوم[17] ويقول" فرانسيس فوكوياما" : إن الإسلام هوالحضارة الرئيسية الوحيدة في العالم التي يمكن الجدال بأن لديها بعض المشاكل مع الحداثة بل يذهب "هانتنغتون" بعيدا ليعتبر معركة الإسلام مع الحداثة الغربية معركة وجود وبقاء فيقول : الإسلام هوالحضارة الوحيدة التي جعلت بقاء الغرب موضع شك [18]زد على ذلك أن هذا الخطاب يقف متوجسا من أي دخيل فكري أوعقدي يخالف الشرع ويروم إزاحة الوحي عن مركزيته وحاكميته المطلقة. فإن المسلمين وإن طال بهم العهد ومورس عليهم مسخ هوياتي مركز إلا أن قلوبهم لا تخلوا من بقية خير وحب لهذا الدين قد تتفجر في أي لحظة يقظة يسببها موقف أوكلمة، وقد ارتج العالم أجمع لما وقعت الإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم، وثار لها المسلمون من شتى المذاهب والأطياف.
• الحداثة الفرنكوفونية تبوأت مقعدها تسلقا على أكتاف هذا الخطاب وفي لحظة ضمور اضطرارية أملتها الظروف السياسية والدولية العالمية، ولا شك أن هذا الخطاب يسترد عافيته يوما بعد يوم بل إنه في لحظة ظن فيها أنه لا قائمة له إلا بعد زمن ليس بالقليل وعند أول حراك اجتماعي فيما سمي بالثورات العربية، عاد ليظهر من جديد بل وأقوى مما كان عليه وحاز ثقة واختيار من مورس عليهم هذا المسح الذهني الهوياتي المركز. فمن الطبيعي جدا أن تحتد معركة الوجود بين الحداثة الغربية والخطاب الشرعي ومناصريه في مثل هذه الظروف التي يحاول كل منهما أن لا يخسر معاقله ولا أن يتراجع إلى الوراء. لذلك قامت القنوات المرئية والجرائد والمجلات ذات التوجه العلماني الحداثي في كل تناول لموضوع يمس الإسلاميين أوما يتعلق بهم بما قد يسمى حربا ممنهجة لا هوادة فيها، فلم تكتف بتغييبهم المطلق عن شاشتها، حتى حين يكون الأمر خاصا بهم، وتهميشهم بشكل متعمد وكأنهم ليسوا جزءا من المجتمع، وكأن لا وجود لهم على أرض الواقع ليتم الإيحاء وكأنهم مجرد كائنات هامشية عددا وفعلا لا وجود لها، ومن طريف ما يذكر أن القناة الأولى في نقلها لصلاة التراويح تتحاشى إظهار ذوي اللحى على شاشتها وتركز على غيرهم غير أن كثرتهم خصوصا بقرب الإمام لا تمكنها من ذلك، يستثنى من هذا ما وقع من اختراق محدود لحزب العدالة والتنمية لبعض البرامج الحوارية فكان بعض قادته يظهرون على الشاشة، وإن كان البعض قد يعتبر هذا الحضور باهتا غير مرضي ولا ممثلا للخطاب الإسلامي، إذ أن هذا الحزب وإن كان يصرح بخلفتيه الإسلامية فإنه لم يجد بدا من علمنة خطابه وطرحه ليتماهى مع الوضع السياسي العام ومتبنيا منهج فصل الدعوي عن السياسي، فصارت تغيب عن أطروحاته وبرامجه سمات إسلامية خالصة فلا تكاد تتميز برامجه عن غيره من الأحزاب الشيوعية والاشتراكية وغيرها، ناهيك عن حرص كثير من أقطابه على التبرؤ من أسلمة خطابه لتجنب بعض الإشكالات التي يطرحها ارتباطه بالمرجعية الإسلامية، ولتلافي بعض الانتقادات الموجهة له من بعض خصومه بهذا الخصوص، وهذا دليل واضح على سيطرة الفرنكوفونية وخطابها على الحقل السياسي المغربي، يقول عبد الله بوانوفي حوار له مع جريدة هسبريس الإلكترونية :لا بد من التمايز في المجالات والرموز والخطاب.. لأنه ليس مطلوبا مني أنا كسياسي استحضار الآيات في ممارستي السياسية بقدر ما أنا مطالب بتطبيق القانون والتشريع.
هذا التغييب للمكون الاسلامي وطرحه على الشاشات العمومية بلغ الذروة ليصل إلى المواضيع التي تخصهم ويكونون طرفا مهما فيها, وفيما يلي بعض الأمثلة التي توضح طريقة تعاطي القنوات العمومية الرسمية مع بعض الأحداث التي تخص الإسلاميين وتغييبهم وسلب حق الظهور والدفاع عنهم بل وإدانتهم في بعض الأحيان ليترك الصحفي موقعه ويلبس عباءة القاضي والحكم.
ولإلقاء الضوء على الطريقة التي يتعامل بها الإعلام المغربي مع الإسلاميين وقضاياهم نضرب مثالين لتغطية وسائل الإعلام لقضايا الإسلاميين:
الحدث الأول: تعليقات أبي النعيم الشيخ السلفي المعروف على تصريحات بعض أقطاب حزب الاتحاد الاشتراكي بضرورة مساواة المرأة للرجل في الميراث.
يذكر الكاتب أحمد عشوش في كتابه "المغالطات المنطقية في وسائل الاعلام" مغالطة تعتمدها وسائل الاعلام في عمليتها الممنهج لتزييف الوعي عند المتلقي ومحاولة الالتفاف على الحقيقة تسمى (مغالطة سمكة الرنكة الحمراء) يعتمد مرتكب هذه المغالطة صرف اهتمام الآخرين بالحديث عن قضية أخرى واثارة مشاعرهم بها للتغطية على قضيته التي يعجز عن اثباتها [19].
في تعاطي القناة الثانية مع القضية ومن خلال تقرير مرئي -استضافت فيه كل المعنيين وزادت عليهم من لم يكن معنيا إلا صاحب القضية أبوالنعيم- اعتمدت هذه المغالطة بشكل بين حيث تم إهمال القضية الأساس في الموضوع وأصله وهوتصريحات القيادي في الحزب بضرورة المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث وتم القفز إلى تصريحات أبي النعيم تحليلا وتفكيكا وربطا للاتصال بجمعيات حقوقية لاستكمال فصول المسرحية مرورا بالاستشارة القانونية لمتابعة أبي النعيم قضائيا-وقد كان- انتهاء بإصدار حكم بالإدانة في آخر التقرير، ليتم لفت انتباه المشاهد بالكلية عن القضية الأساس، وهي الدعوة إلى المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث، وهي قضية خطيرة كان حريا بالقناة العمومية وتماشيا مع المرجعية الدينية المعتمدة رسميا أن تسلط عليها الضوء، فهذه الدعوة مناقضة في جوهرها والأمن الروحي للمغاربة بل ولصريح القرآن في دولة تعلن أن دينها الرسمي هوالإسلام.فالاعتراض على القرآن ومخالفة الدين الرسمي للدولة والخروج على الثوابت لم يكن بالموضوع ذي البال في عرف القناة الثانية إلا حين يتعلق الأمر بالإسلاميين، وأخطر ما ورد في التقرير تعليق لأحد رؤساء الجمعيات الحقوقية مفاده أن هذه الحادثة تفتح الباب أمام ضرورة تبني العلماء لخطاب تجديدي يعيد النظر في الأحكام الشرعية على ضوء ما استجد من القوانين العالمية المتعلق بحقوق المرأة، لتنحاز القناة الثانية بشكل سافر لطرح المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث وثبت هذه الجرعة المركزة خارج سياق التقرير، لتلقي رسالة ذهنية سريعة لينقلب الموضوع رأسا على عقب فيصير الداعي إلى خلاف الشرع محقا وما دعا له قطعي ينتظر إعادة نظر الفقهاء في آرائهم المتشددة، ليضيفوا عليها بعض بهارات التجديد، في حين يعتبر المستمسك بالوحي مجرما يستحق العقاب والمحاكمة، كل هذه المغالطات يتم تسريبها بشكل خفي لا ينتبه لها ذهن المشاهد العادي الذي لا يجعل نصب عينيه تفكيك الخطاب المقدم له ولا يملك حسا نقديا بل يكتفي بالمشاهدة ومع تكرار هذه الرسائل وتراكمها في العقل الباطن تصير موجهة للوعي والسلوك دون وعي وعملية التكرار مهمة جدا لترسيخ الرسائل المراد إيصالها للجمهور وبلوغها درجة اليقين، وقد عدها غوستاف لوبون من أهم الوسائل التي يستعملها محركوالجماهير لإقناع الجماهير، يقول لوبون : ولكن الإعلان لا يكتسب تأثيرا فعليا إلا بشرط تكراره باستمرار، وبنفس الكلمات والصياغات ما أمكن ذلك، كان نابليون يقول بأنه لا يوجد إلا شكل واحد من أشكال البلاغة هو: التكرار. فالشيء المؤكد يتوصل عن طريق التكرار إلى الرسوخ في النفوس إلى درجة أنه يقبل كحقيقة برهانية [20].
الحدث الثاني:ما نسب للمغراوي حول فتواه بخصوص إباحته تزويج القاصرات.
ولنقارن ردة الفعل الباردة لهذه التصريحات -الخاصة بموضوع أبي النعيم- ومحاولة ترويجها والحملة الشعواء التي شنتها نفس القناة على المغراوي في ما عرف آنذاك ب"فتوى تزويج القاصرات" فزيادة على ما ذكرنا من تغييب صاحب القضية في أي تقرير عمدت القناة إلى استحضار قاموس جديد كان غائبا في خطابها العام، لتصبح حريصة على الأمن الروحي للمغاربة وعدم مخالفة الثوابت والتشغيب عليها، رغم أن نفس الفتوى معمول بها في القضاء المغربي ولوبشروط[21] وحقيقة كلام المغراوي لم تكن فتيا بقدر ما كانت بيانا لحكم موجود في القرآن لا تعلقا بنازلة معينة، وقد صرح هونفسه أنه لا يقبل واقعا بتزويج ابنته الصغيرة قبل أن تبلغ سن الرشد. فالموضوع في أساسه ليس مهما بقدر أهمية تشويه قائله إن كان من الإسلاميين، فلا ضير أن تناقض الثوابت والقواطع ويهدد الأمن الروحي من قبل أصحاب التوجه العلماني لكن البأس كل البأس حين يفهم من كلام لأحد الإسلاميين مخالفة هذه الثوابت إنه كيل بمكيالين وميزان ظلم أعوج ذوكفتين متباينتين، فتغيب شعارات الحيادية والقيم الصحفية وكل كلمات القاموس الوردي حين التعاطي مع الإسلاميين.
ومن أهم الوسائل التي تعتمدها وسائل الإعلام في مجملها في التعاطي مع الإسلاميين وقضاياهم ما يطلق عله بالتنميط الذهني أوالصورة الذهنية وهذه الوسيلة هي الأخطر على الإطلاق إذ تعمد في أساسها على فرض صورة مشوهة للإسلامي باستحضار أنماط قد توجد وقد لا توجد في الواقع ثم تعميمها بشكل طولي لتشمل كل إسلامي كيفما كان وإلى أي تيار انتمى.
يقول أحد سالم: الصورة الذهنية هي تصور عقلي شائع، فرديا، اوجماعيا، نحوشيء معين، وقد يكون هذا الشيء فردا، أوجماعة، أوشعبا، أودينا أورأيا، أومذهبا، بحيث تتحول هذه الصورة إلى مدلول يستحضره الذهن بمجرد استحضار هذا الشيء، وقد يبني المتصور لهذه الصورة مواقفه وعلاقاته مع هذا الشيء بناء على هذا التصور، مما يؤدي مع التراكم إلى تحول الصورة الذهنية إلى مركب من الأحكام والتصورات، والانطباعات المتنوعة.
والذهن يقوم ببناء هذه الصورة عن طريق الاعتماد على وسائط معرفية، وإدراكية، تبدأ من أدواته هوالمعرفية، كالحواس مثلا، وتنتهي بمصادر المعرفي التي يجد فيها مادة تتعلق بالشيء الذي بريد تكوين الصورة عنه، مثل: الكتب، والأخبار، والاتصال ذاتي بشيء ونحوذلك مرورا بالذهن الذي يقوم بالربط بين المعلومات لتي تتاح له عبر المصادر المعرفية، لينتج الصورة الذهنية المطلوبة، والحقيقة أن قدرة الحواس على الاتصال مع عالم بهذا الاتساع تضل قدرة محدودة، من هنا كانت الوسائط المعرفية الأخرى هي وسيلة صناعة الصورة في غالب الأحيان.[22]
وهذه الطريقة مركبة من خللين منهجيين كبيرين أولهما التنميط ثم التعميم أي صناعة الصورة الذهنية النمطية ثم تعميمها لتشكل كل جزء من الكل وكل فرد من المجموع وهي ما يصطلح عليها ب"مغالطة التعميم المطلق" يقول أحمد دعشوش متحدثا عن هذه المغالطة :يرتكب البعض هذه المغالطة عندما يصر على تعميم حكم ليشمل كافة العناصر المعينة به دون السماح بأي استثناء، وهوغير مقبول منطقيا ولا علميا، فقد يكتشف الإنسان يوما في المستقبل وجود استثناء للقاعدة [23]. ومثال ذلك أن يقول صحفي مثلا "وجد في بيت الإرهابي كتاب العالم الفلاني وكل الإسلاميون يقرؤون لهذا العالم فكل الإسلاميين إرهابيون"، أويقول مثلا: "الإرهابي الفلاني لم يكن كث اللحية وعليه فكل صاحب لحية خفيفة إرهابي مفترض".
والتنميط لا يتوقف دائما على ذكر مقدمة ثم تعميمها بل يقع أحيانا في شكل مقدمات عامة يتحلى بها كثير من الإسلاميين كاللحية وحمل السبحة فيتم جعل ذلك خصيصة "للإرهابي" كأن يظهر وهويحمل سبحة أويناديه ابنه "أبي" أوغير ذلك، ليتولى ذهن المستقبل تعميم الحالة على كل من تلبس بهذا الفعل.فالمشاهد العادي غير معني بتحليل الرسائل الإيحائية التي يتلقاها باتباع نهج منطقي يبدأ بالملاحظة ثم التحليل فالاستنتاج بل يكفيه الوجبات التنميطية السريعة أوالتعميمات السطحية التي لا تحتاج كثير تأمل ونظر.
ولا شك أن ما يقدم كسلوكيات تعمم على أفراد الكل قد يكون موجودا في الواقع لكنها في الغالب محدودة ومثار استهجان من الاسلاميين أنفسهم، والجزء الأكبر من الصور النمطية - زيادة على التشويه الفج - يعتمد على معطيات غير صحيحة وتصورات منقولة مشاعة غير مشاهدة ولا متحققة.
والصور النمطية التي يحاول الإعلام المغربي إلصاقها بالإسلاميين كثيرة نذكر من بينها:
1- الإسلامي جاهل:
خطورة الإعلام ورسائله التوجيهية تتجلى في كونها مخاطبة للاوعي حيث تمرر الرسائل بشكل متكرر لتتراكم على شكل ربط مفاهيم ومعاني معينة بأشخاص معينين، هذه العلاقة البينية تجعل العقل وبغير وعي يستحضر المعني الإيجابي أوالسلبي مباشرة بعد ذكر من ربط به، أوالعكس، حيث يتم استحضار المعاني والخرائط الذهنية التي شكلتها الرسائل المدسوسة للإعلام كلما ذكر الشخص.وهذا ما يفعله الإعلام بالضبط عند تناوله لصورة الإسلامي حيث يتم ربطه بأوصاف لا تنفك عنه من أكثرها شيوعا كونه جاهلا بالعلوم الدنيوية ويقبع في الدرجات الدنيا للمعرفة والتحصيل العلمي.
في إحدى حلقات متتابعة يعرضها برنامج مسرح الجريمة حول بعض ما ينسب لمعتقلي ما يسمى بالسلفية الجهادية، يظهر أمير الجماعة الذي لا يعرف من اللغة العربية إلا كلمة "الفيء"، وتجاوزا للممثلين الهواة الذين كانوا يؤدون أدوارهم وكأنهم في مسرحية تجريدية وطريقتهم البسيطة المسطحة وكأنهم يخاطبون جمهورا من ذوي الإعاقات الذهنية أوممن لم يبلغ الحلم بعد في تبسيط درجت عليه وسائل الإعلام خصوصا المرئية منها على مخاطبة مشاهديها عليه وكأنهم جماعة من الحمقى والمختلين عقليا، يظهر أميرهم هويخاطب أحد أعضاء الخلية والذي سيعقد قرانه على امرأة وهويقول "جوجتك إياها" بدل "زوجتك إياها".أول انطباع سيحصل للمشاهد كون هؤلاء الإسلاميين جهال لا يفقهون شيئا بل لا يستطيع أحدهم تركيب جملة تامة كاملة، لكن الخطير في المشهد هوتنميط هذا الأمر وتعميمه ليشمل السلفيين على وجه الخصوص وإن كانوا ممن لا يتبنون خيار العنف المسلح ويتعداه إلى كل الإسلاميين بعد ذلك ففي نفس الحلقة يحرص المخرج على ربط الإرهابيين المفترضين بالمظهر السلفي المعروف بل ويتجاوز ذلك ليظهر أحدهم وهويحمل سبحة.اللافت هنا هوأن معظم السلفيين لا يرون جواز استعمال السبحة، لكن الرسالة المراد إرسالها هي أن هؤلاء الإسلاميين بشتى أصنافهم نمط واحد لا فرق بين توجهاتهم أوأفرادهم، وأن كل أولئك الذين تشاهدهم يمشون بهدوء وسكينة وربما يبتسمون في وجهك كل صباح أويقدمون لك هدية، هم مشروع إرهابي محتمل. والإشكالية هنا أن رجل الشارع العادي غير مشغول البتة بالتصنيفات والتحليلات العميقة بل يكفيه منها التعميمات السطحية والاختزالية المطلقة وهذا ما يحرص على تأكيده البرنامج المعروض لكن بربط الكل بمعان سلبية كالجهل.
والحقيقة أن تناول الإسلاميين بهذه الطريقة، زيادة على كونه سقطة أخلاقية كبيرة، يعد غير واقعي فإن نشأة كثير من التنظيمات العنفية كانت على أيدي أفراد من ذوي التعليم العالي كجماعة الهجرة والتكفير وقد كانت كلية الطب في القاهرة مرتعا لجماعة الجهاد المصرية، والتدين عامة سواء السلفي أم غيره يملأ الجامعات والمدارس العليا للمهندسين ويكفي أن يعلم في هذا المقام أن كثيرا من الشخصيات الإسلامية الناشطة هم من حاملي الشهادات العليا ولوانطلقنا نضرب الأمثلة للزمنا كراريس.
2- الاسلامي المنافق النفعي:
من أخطر ما يمكن أن تشاهده في خطة تنميط الإسلامي حلقة من سلسلة "ساعة في الجحيم"، حيث أن المخرج تعامل مع القضية بدهاء كبير متجاوزا التناول الساذج والمباشر الذي تعتمده جل باقي الوسائل الإعلامية، واعتمد على الرمز والإشارة دون الإيضاح والتصريح.
في بداية الحلقة يظهر شاب ذولحية خفيفة يضع فوق رأسه طاقية بيضاء غامقة يقطن في غرفة سوداء مظلمة مبعثرة الأركان تشبه الزاوية، لا يشاركه سكناه أحد، سمته الهدوء ويحرص أشد الحرص على قضاء حوائج جارته العجوز دون تردد، لكنه سرعان ما ينقلب إلى شخص هستيري يحدث نفسه ويصرخ ببلاهة وعنف كلما اختلى بنفسه. هذا الشاب الرمز يمثل هنا الحركات الإسلامية التي يراد تصويرها هنا وكأنها تعاني حالة انفصام مزمنة، حيث تظهر للناس بمظهر الطهر والنقاوة والمثالية بينما هي في الحقيقة تخفي خلف وجهها الباسم المنفرج عنفا وأحقادا لا تنتهي، وغايتها الأساسية اختطاف المجتمع، الذي سيرمز له بفتاة أراد هذا الشاب الزواج منها فاختطفها واحتجزها في غرفته مقيدة مكبلة. يتدخل الصحافي الحداثي المنطلق ليحرر هذه الشابة-المجتمع-من براثن هذا الوحش لكن بطريقة الحوار والتلطف والإقناع، وبينما تسير الخطة على أحسن ما يرام يتدخل الشرطي-السلطة- لتفسد خطة الصحافي-الحداثة والعلمانية- لتكون النتيجة تراجيدية مؤسفة تنتهي بقتل الفتاة. مشهد إلقاء القبض على الشاب ستكون ذروة الإشارة وزبدة التنميط حين تظهر الفتاة وهي في كرسي متحرك يدفعه الشاب هربا من الشرطة وقد ألبسها نقابا يخفي وجهها هذا المشهد يختزل رؤية أخرى يراد إيصالها وهي علاقة الإسلامي بالمرأة التي لا تخرج عن الاحتجاز قهرا أوخنق حريتها وسلب روحها، فلا ينظر إليها إلا نظرة الشهوانية والابتذال، وينظر إليها نظرته إلى الأشياء التي يملكها فحتى إن دافع عنها أوضحى لأجلها فدافعه الأول اعتبارها ملكا له لا يريد التنازل عنه لا من حيث كونها امرأة ولكن من جهة كونها شيئا يملكه.
3- الإسلامي العنيف:
ينشر أحد أشهر المواقع الإخبارية الإلكترونية خبرا بعنوان "هجوم سلفي على معرض الكتاب بالجزائر" القصة وما فيها أن المقال يتحدث عن الإقبال الكثيف للسلفيين على شراء الكتب من المعرض والكاتب لم يجد عبارة أفضل من" الهجوم". الاختيار لا يبدوعبثيا خصوصا مع تكرار مثل ذلك كثيرا في الصحافة المقروءة فترى في ابتذال سخيف لا تقوم به حتى الصحافة الغربية محاولة الربط بين التدين وكل ما هوعنفي بدمج كلمات من قبيل "هجوم"، "حد"، "جلد"، "قطع يد"، "اغتصاب"...بكلمات من قبيل "سلفي"، "إمام مسجد"، "ملتحي"...ليتم ربط هذه الحمولة السلبية العنفية بالتدين السلفي خاصة والإسلاميين عامة. نفس هذه الصحف تعرض الجرائم المستشنعة والاعتداءات اليومية على صفحاتها دون أدنى إشارة لخصيصة عرقية أوأيديولوجية للفاعل، فلن تجد في يوم من الأيام مثلا عنوانا مثل - علماني متزوج يعقد على مناضلة علمانية سرا - فالعناوين والمضامين الكيدية لا علاقة لها بممارسة باقي الفئات المجتمعية، وإن اختلفت أعراقها، وإن كان الدافع للعنف أيديولوجيا فلن يشار إليه كما وقع في حادثة مقتل الطالب الإسلامي في جامعة فاس على يد القاعديين العلمانيين، وما يقع هنا مع الإسلاميين يقع عكسه في مثل ما ذكرنا فبعد الحادثة وفي أول تغطية صحفية للقناة الأولى للحادث تذهب القناة إلى أن ما حصل كان نتيجة فوضى واشتباكات متبادلة دون الإشارة ولوبعبارة موهمة بالطبيعة المؤدلجة للجريمة، ولك أن تسرح بخيالك قليلا فتفرض رد الفعل الاعلامي العلماني لوان ما وقع العكس وتم قتل طالب قاعدي على يد إسلاميين؟
والحقيقة أن وسائل الإعلام المغربي لا تتوانى عن تشويه الإسلاميين والتنفير منهم في كل مناسبة تتاح لها وقد أصبح ذلك سمة بارزة لهذه المنابر الإعلامية، خصوصا مع التضييق الممارس على وسائل الإعلام ذات الطابع الإصلاحي عموما والسمة الإسلامية خصوصا، ولازال الصالحون يبذلون جهدهم لمزاحمة القوى العلمانية في الحقل الإعلامي بإصدار بعض الصحف والمجلات وقد تتوجت جهود هؤلاء المصلحين بإطلاق بث أول قناة فضائية إسلامية مغربية لعلها تكون فاتحة خير في هذا المجال وتتبعها خطوات أخرى في العمل الدعوي الإعلامي.
[1] غوستاف لوبون، سيكولوجية الجماهير، ص:41، ترجمة :هاشم صالح، دار الساقي.
[2] نفسه، ص:43.
[3] نفسة، ص:48.
[4] نعومي كلاي، عقيدة الصدمة، نسخة إلكترونية.
[5] أحمد سالم، تغريدة له على صفحته في الفايسبوك.
[6] غوستاف لوبون، سيكولوجية الجماهير، ص:116.
[7] نعوم تشومسكي، السيطرة على الإعلام، ص:8، تىجمة :أميمة عبد اللطيف، مكتبة الشروق الدولية.
[8] نفسه، ص:17.
[9] عبد الله الغدامي، الثقافة التلفزية، ص:35، المركز الثقافي العربي.
[10] عبد الحليم حمود، فن غسل الأدمغة، ص:25.
[11] نعوم تشومسكي، السيطرة على الإعلام، ص:25و26.بتصرف.
[12] صورة الإسلاميين على الشاشة، أحمد سالم، ص:64، 65، مركز نماء.
[13] نقلا بتصرف واختصار عن أحمد سالم، صورة الإسلاميين على الشاشة:ص:67، 77، 78.وينظر هنالك تحليلات قام بها الكاتب لأفلام أخرى.
[14] الأمركة: صبغ مجتمع أوفرد بالصبغة الأمريكية وإشاعة نمط الحياة الأمريكية، عبد الوهاب المسيري، العلمانية والحداثة والعولمة.
[15] عبد الوهاب المسيري، العلمانية والحداثة والعولمة، ص:261.
[16] برنار بروشان، مقدمة كتاب "الإشهار والمجتمع'' برنار كاتيلا، ترجمة :سعيد بنكراد، دار الحوار للنشر والتوزيع.
[17] نقلا عن أحمد سالم، صورة الإسلاميين على الشاشة، ص:61.
[18] نفسه، ص:29.
[19] أحمد دعدوش، المغالطات المنطقية في وسائل الإعلام، ص:20، نسخة إلكترونية.
[20] غوستاف لوبون، سيكولوجية الجماهير، ص:133.
[21] وقد ورد في تقرير من إصدار وزارة العدل والحريات المغربية حول تزويج القاصرات ما يلي: "فلا ينجز الزواج إلا بإذن القاضي، بمقرر معلل يبين فيه المصلحة والأسباب المبررة لذلك، بعد الاستماع لأبوي القاصر أونائبه الشرعي، والاستعانة بخبرة طبية أوإجراء بحث اجتماعي، وهي ضمانات يتعين على القضاء تحقيقها وتفعيلها على أرض الواقع، وذلك بفرض طلبات الأذن بالزواج دون سن الأهلية كلما بدا له انتفاء المصلحة أواحتمال حصول ضرر تترتب عنه عواقب وخيمة على الصحة النفسية أوالجسدية للمعنية بالأمر"
[22] أحمد سالم، صورة الإسلاميين على الشاشة، ص:55.
[23] أحمد دعدوش، المغالطات المنطقية في وسائل الإعلام، ص:12.