سوء اختيار أم ظلم اجتماعي معتاد؟
د. زهرة وهيب خدرج
إذا خيَّرك أحدُهم بين أن تختار بين موتك حرقًا أو موتك تقطيعًا، أيهما ستختار؟ هل هناك أسوأ من أن تُجبر على اختيار أحد أمرَين أحلاهما أمرُّ من العلقم؟ أليس أسوأ الاختيارات هي تلك التي تضطرُّك للحكم على نفسك بالذلِّ والهوان في لحظة لا تتوفر لديك أية خيارات أخرى؟ أعتذر من حضراتكم مسبقًا على ما سأقول، وقبل أن أُسهب في سرد حكايتي أرجوكم ألا تسخَروا منِّي، ولا تعتبروا كلامي فلسفةً غير جديرة بها مَن هي مثلي، أمهلوني حتى أروي حكايتي، وبعدها قولوا عني ما تشاؤون، وأَصدِروا عليَّ من الأحكام ما تحبُّون، ولكن أرجو ألَّا تُحمِّلوني ما لا أطيق من اللوم والانتقاد.
أعتقد أنه لا بدَّ للمرء أن يُعيد تقييم حياته السابقة بين الحين والآخر، ليُعيِّن مكامن الضعف لديه، ويُحدِّد مناطق القوة، ويميِّز الأسباب التي حدَتْ به لسوء الحال الذي يكدِّر حاضره ويَمتهن كرامته، فهذا التقييم أجدُه مهمًّا لاستخلاص العبر من التجارِب التي مر بها، والخبرات التي اكتسبها من كل تجربة؛ حتى يضع الخطط المناسبة لمستقبله، إن كان هناك أمل في المستقبل أصلًا. تقييمٌ يعينه على الوصول لأهدافه مهما كانت مُتواضِعة كأهدافي مثلًا؛ وذلك كي يتفادى تكرار الأخطاء السابقة، وليس ليتفنَّن في جَلْدِ ذاته ولومها وتَقريعها على ما وقعت فيه من أخطاء كارثية لن يُنقذه منها إلا لطفُ الله (كما أفعل أنا دائمًا).
لا أقول هذا الكلام من باب البطر الكلامي، أو لأنهاكم عن أشياء أقوم أنا شخصيًّا بها، أبدًا؛ بل لأن هذا بالضبط ما آمنتُ به لاحقًا، وبتُّ أطبِّقه في حياتي حتى وإن توصَّلتُ لذلك بعد فوات الأوان.
في صغري لم تكن المدرسة من ضمن اهتماماتي، ولم أجد مَن ينصحني في صِغَري ويتابع دراستي؛ فبعد رسوب مُتكرِّر في الصف الثامن قررتُ ترك المدرسة دون أن أجد أي معارضة لقراري، وركنتُ للراحة وألعاب الحاسوب ومُشاهَدة التلفاز، كيف لا وأنا الفتاة المدلَّلة بين سبعة من الذكور؟
على كل حال، وجدت نفسي أَعبُر الثلاثين من العمر بين إخوة ذكور - أنا أصغرهم - تزوَّجوا جميعًا، وغادروا البيت ما عدا أخي الذي يَكبرني مباشرة، بقي معي وزوجته في بيت العائلة يؤنس وحدتي بعد أن تُوفي والداي في حادث طرق خلال أدائهما لفريضة الحج.
بدأتِ الدنيا تضيق في ناظري مع تدخُّلات زوجة أخي في حياتي وفي كلِّ ما يخصني، وبتحريضها الدائم لأخي عليَّ، ومراقبتها لي، وتعليقاتها الساخرة والجارحة!
جرَّبت الانتقال لبيوت إخوتي الآخرين ولكن لم يكن الحال مريحًا، بل شعرتُ نفسي ضيفًا ثقيلًا حلَّ بالإجبار في مكان ليس من حقه، فرجعتُ بعد تجارِبَ عدةٍ لبيت العائلة طائعةً.
كنتُ في الأوقات السابقة أرفض كل مَن يتقدَّم لخطبتي لأسباب كثيرة أختلقها في كل مرة، وأصارحكم الآن أنَّ جميعها كانت أسبابًا غير حقيقية، السبب الحقيقي الوحيد أنني كنت أتهرب من المسؤولية التي يَفرضها الزواج عليَّ، والتي لم أعتَدْ عليها في بيت أهلي.
وبعد دخولي الثلاثين ووفاة والديَّ، تغيَّر حالي تمامًا، غلب عليَّ شعوري بالغربة في بيت أهلي، وطغت عليَّ الرغبة في الزواج للخروج من هذا الوضع الكئيب والمُستقبَل القاتم، ولكن لم يعد يطرق بابي أحدٌ يطلب الزواج مني، سبحان الله! عندما كنتُ أرفض الزواج كان كثيرون يَخطبون وُدِّي، وعندما غيَّرتُ رأيي وقبلت الزواج انقطع كل أمل أمامي به.
تقدَّم لي رجل مُطلِّق، أبتر اليد، يَكبرني بخمسة عشر عامًا، ولسذاجتي ورغبتي في الخلاص مما أنا فيه، قبلتُ دون تردُّد، وتمت خطبتي به على عجل، خلته أثناء ذلك إنسانًا حسن الأخلاق، هادئ الطباع، وفي يوم زفافي، جاءت امرأة عجوز لا أكاد أعرفها، ومالت عليَّ وسط أقاربي، وهمستْ في أذني بكلمات أدخلتني في دوامة، ووضعتني في مواجهة صعبة للاختيار وبشكل سريع بين الرمضاء أو النار، فقد قالت لي: "إنَّ خطيبي مُصاب بمرض عصبي" (أي مجنون بلغتنا الدارجة)، وحذَّرتني من إكمال الزفاف به!
احترتُ، أأُكمل التجربة التي بدأتها حتى النهاية بغضِّ النظر عن نتائجها؟ أم أتراجع عن هذا الزواج وأبقى في بيت أهلي فأُسمَّى حينها مطلَّقة، وأبقى تحت رحمة زوجة أخي التي ستَشمت بي وتُعايرني وستزداد معاملتها لي سوءًا؟! اتخذت قراري بسرعة، وقررتُ إكمال ما بدأت.
مرَّت الأيام الأولى بسلام، ثم بدأت الويلات تُصبُّ فوق رأسي... اكتشفت أن زوجي شكَّاك جدًّا، فكل تصرف مني يُؤوله تأويلات شتى تَبعد تمامًا عن الواقع، ولا يُعطيني نقودًا نهائيًّا بسبب ظنونه التي لا تنتهي، ولا يُحضر احتياجات البيت، ويفتعل المشاكل مع الجيران لأتفه الأسباب، ويرفض أن يُعرِّفني بأهله وأقاربه، ويَمنعني من الخروج من بيتي!
طلبتُ منه أن أذهب وأعمل في روضة أطفال، رفَضَ أيضًا، ولو كان بإمكانه أن يَحبسني في زنزانة لفعل، فضلًا عن أنه يُصاب بنوبات من التشنُّجات يدخل بعدها في نوم عميق لساعات عدة، يستيقظ منها عصبيًّا جدًّا.
أندم على أشياء كثيرة في حياتي، وليس فقط على هذا الزواج، ولكن على الرغم من كل التَّعاسة التي أعيشها الآن، إلا أنني أجدها أرحم مما لو بقيتُ عند زوجة أخي!
لو أكملتُ تعليمي لما كان حالي الآن هكذا، لو كنتُ أُتقن مهنةً أتكسَّب منها لما انحصَرت الخيارات أمامي بينه وبين بيت أهلي.
أقولها لكل فتاة: سعادتُك لا تَكمن في الدَّلال والراحة، بل في تطوير ذاتك واكتسابك للعلم والمهارات التي تؤهِّلك لمُستقبل مُشرِق، فطوِّري نفسك، واستغلِّي أوقاتك لتعلُّم ما يُفيدك في حياتك.
د. زهرة وهيب خدرج
إذا خيَّرك أحدُهم بين أن تختار بين موتك حرقًا أو موتك تقطيعًا، أيهما ستختار؟ هل هناك أسوأ من أن تُجبر على اختيار أحد أمرَين أحلاهما أمرُّ من العلقم؟ أليس أسوأ الاختيارات هي تلك التي تضطرُّك للحكم على نفسك بالذلِّ والهوان في لحظة لا تتوفر لديك أية خيارات أخرى؟ أعتذر من حضراتكم مسبقًا على ما سأقول، وقبل أن أُسهب في سرد حكايتي أرجوكم ألا تسخَروا منِّي، ولا تعتبروا كلامي فلسفةً غير جديرة بها مَن هي مثلي، أمهلوني حتى أروي حكايتي، وبعدها قولوا عني ما تشاؤون، وأَصدِروا عليَّ من الأحكام ما تحبُّون، ولكن أرجو ألَّا تُحمِّلوني ما لا أطيق من اللوم والانتقاد.
أعتقد أنه لا بدَّ للمرء أن يُعيد تقييم حياته السابقة بين الحين والآخر، ليُعيِّن مكامن الضعف لديه، ويُحدِّد مناطق القوة، ويميِّز الأسباب التي حدَتْ به لسوء الحال الذي يكدِّر حاضره ويَمتهن كرامته، فهذا التقييم أجدُه مهمًّا لاستخلاص العبر من التجارِب التي مر بها، والخبرات التي اكتسبها من كل تجربة؛ حتى يضع الخطط المناسبة لمستقبله، إن كان هناك أمل في المستقبل أصلًا. تقييمٌ يعينه على الوصول لأهدافه مهما كانت مُتواضِعة كأهدافي مثلًا؛ وذلك كي يتفادى تكرار الأخطاء السابقة، وليس ليتفنَّن في جَلْدِ ذاته ولومها وتَقريعها على ما وقعت فيه من أخطاء كارثية لن يُنقذه منها إلا لطفُ الله (كما أفعل أنا دائمًا).
لا أقول هذا الكلام من باب البطر الكلامي، أو لأنهاكم عن أشياء أقوم أنا شخصيًّا بها، أبدًا؛ بل لأن هذا بالضبط ما آمنتُ به لاحقًا، وبتُّ أطبِّقه في حياتي حتى وإن توصَّلتُ لذلك بعد فوات الأوان.
في صغري لم تكن المدرسة من ضمن اهتماماتي، ولم أجد مَن ينصحني في صِغَري ويتابع دراستي؛ فبعد رسوب مُتكرِّر في الصف الثامن قررتُ ترك المدرسة دون أن أجد أي معارضة لقراري، وركنتُ للراحة وألعاب الحاسوب ومُشاهَدة التلفاز، كيف لا وأنا الفتاة المدلَّلة بين سبعة من الذكور؟
على كل حال، وجدت نفسي أَعبُر الثلاثين من العمر بين إخوة ذكور - أنا أصغرهم - تزوَّجوا جميعًا، وغادروا البيت ما عدا أخي الذي يَكبرني مباشرة، بقي معي وزوجته في بيت العائلة يؤنس وحدتي بعد أن تُوفي والداي في حادث طرق خلال أدائهما لفريضة الحج.
بدأتِ الدنيا تضيق في ناظري مع تدخُّلات زوجة أخي في حياتي وفي كلِّ ما يخصني، وبتحريضها الدائم لأخي عليَّ، ومراقبتها لي، وتعليقاتها الساخرة والجارحة!
جرَّبت الانتقال لبيوت إخوتي الآخرين ولكن لم يكن الحال مريحًا، بل شعرتُ نفسي ضيفًا ثقيلًا حلَّ بالإجبار في مكان ليس من حقه، فرجعتُ بعد تجارِبَ عدةٍ لبيت العائلة طائعةً.
كنتُ في الأوقات السابقة أرفض كل مَن يتقدَّم لخطبتي لأسباب كثيرة أختلقها في كل مرة، وأصارحكم الآن أنَّ جميعها كانت أسبابًا غير حقيقية، السبب الحقيقي الوحيد أنني كنت أتهرب من المسؤولية التي يَفرضها الزواج عليَّ، والتي لم أعتَدْ عليها في بيت أهلي.
وبعد دخولي الثلاثين ووفاة والديَّ، تغيَّر حالي تمامًا، غلب عليَّ شعوري بالغربة في بيت أهلي، وطغت عليَّ الرغبة في الزواج للخروج من هذا الوضع الكئيب والمُستقبَل القاتم، ولكن لم يعد يطرق بابي أحدٌ يطلب الزواج مني، سبحان الله! عندما كنتُ أرفض الزواج كان كثيرون يَخطبون وُدِّي، وعندما غيَّرتُ رأيي وقبلت الزواج انقطع كل أمل أمامي به.
تقدَّم لي رجل مُطلِّق، أبتر اليد، يَكبرني بخمسة عشر عامًا، ولسذاجتي ورغبتي في الخلاص مما أنا فيه، قبلتُ دون تردُّد، وتمت خطبتي به على عجل، خلته أثناء ذلك إنسانًا حسن الأخلاق، هادئ الطباع، وفي يوم زفافي، جاءت امرأة عجوز لا أكاد أعرفها، ومالت عليَّ وسط أقاربي، وهمستْ في أذني بكلمات أدخلتني في دوامة، ووضعتني في مواجهة صعبة للاختيار وبشكل سريع بين الرمضاء أو النار، فقد قالت لي: "إنَّ خطيبي مُصاب بمرض عصبي" (أي مجنون بلغتنا الدارجة)، وحذَّرتني من إكمال الزفاف به!
احترتُ، أأُكمل التجربة التي بدأتها حتى النهاية بغضِّ النظر عن نتائجها؟ أم أتراجع عن هذا الزواج وأبقى في بيت أهلي فأُسمَّى حينها مطلَّقة، وأبقى تحت رحمة زوجة أخي التي ستَشمت بي وتُعايرني وستزداد معاملتها لي سوءًا؟! اتخذت قراري بسرعة، وقررتُ إكمال ما بدأت.
مرَّت الأيام الأولى بسلام، ثم بدأت الويلات تُصبُّ فوق رأسي... اكتشفت أن زوجي شكَّاك جدًّا، فكل تصرف مني يُؤوله تأويلات شتى تَبعد تمامًا عن الواقع، ولا يُعطيني نقودًا نهائيًّا بسبب ظنونه التي لا تنتهي، ولا يُحضر احتياجات البيت، ويفتعل المشاكل مع الجيران لأتفه الأسباب، ويرفض أن يُعرِّفني بأهله وأقاربه، ويَمنعني من الخروج من بيتي!
طلبتُ منه أن أذهب وأعمل في روضة أطفال، رفَضَ أيضًا، ولو كان بإمكانه أن يَحبسني في زنزانة لفعل، فضلًا عن أنه يُصاب بنوبات من التشنُّجات يدخل بعدها في نوم عميق لساعات عدة، يستيقظ منها عصبيًّا جدًّا.
أندم على أشياء كثيرة في حياتي، وليس فقط على هذا الزواج، ولكن على الرغم من كل التَّعاسة التي أعيشها الآن، إلا أنني أجدها أرحم مما لو بقيتُ عند زوجة أخي!
لو أكملتُ تعليمي لما كان حالي الآن هكذا، لو كنتُ أُتقن مهنةً أتكسَّب منها لما انحصَرت الخيارات أمامي بينه وبين بيت أهلي.
أقولها لكل فتاة: سعادتُك لا تَكمن في الدَّلال والراحة، بل في تطوير ذاتك واكتسابك للعلم والمهارات التي تؤهِّلك لمُستقبل مُشرِق، فطوِّري نفسك، واستغلِّي أوقاتك لتعلُّم ما يُفيدك في حياتك.