محنة الإمام ابن حزم الظاهري
شريف عبدالعزيز الزهيري
ما من عالم عامل إلا وله أدوات وآداب يتعاطى بها العلم طلبًا ودرسًا، وتصنيفًا وتأليفًا، وإلقاءً وتنظيرًا، هذه الآداب والأدوات بمثابة الزاد والمئونة للعالم، يسير بها على طريق العلم، من غير أن يتعرض للأزمات والنوازل، وقد ألفت العديد من الكتب في هذا الباب، منها آداب السامع والمتعلم لابن جماعة قديمًا، وحلية طالب العلم لبكر أبو زيد حديثًا، ويوم أن يتخلى العالم عن بعض أدواته، وينسى بعض آداب طلب العلم؛ فإنه يواجه الكثير من المحن والفتن، التي كان هو في غنى عنها وعن أمثالها، وهذه واحدة من تلك الفتن والمحن التي أدت لقمع واحد من أكبر علماء الإسلام، وأكثرهم تصنيفًا.
التعريف به:
• هو الإمام الكبير، والمجتهد المطلق، بحر العلوم، وجامع الفنون، إمام المذهب الظاهري ومجدده، الفقيه الحافظ، الأديب الوزير، المؤرخ الناقد، صاحب التصانيف الباهرة، الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، الشهير بابن حزم الظاهري.
• وُلد في شهر رمضان سنة 384هـ بمدينة الزهراء إحدى ضواحي قرطبة، عاصمة الأندلس، في بيت عز وثراء ووزارة، فأبوه أحمد بن حزم كان أحد وزراء المنصور بن أبي عامر حاكم الأندلس القوي، فنشأ ابن حزم في تنعم ورفاهية، يلبس الحرير، ويتسور الذهب، يطالع الكتب على قناديل الذهب والفضة المضاءة بشموع العنبر والمسك، وقد كان أبوه يعده ليسير على درب الوزارة والرياسة مثله، وكان ابن حزم قد رزق ذكاءً مفرطًا، وذهنًا سيالا، فعكف على دراسة الآداب والأشعار والأخبار، وعلوم المنطق والفلسفة، وهو ما سيؤثر عليه في المستقبل، وليته لم يخض في ذلك الباب.
• وقعت حادثة لابن حزم وهو في أواسط العشرينات من عمره دفعت به إلى طريق العلم الشرعي، حيث تعرض لموقف حرج بان فيه قلة علمه وفقهه، فقرر سلوك طريق العلم والبحث، وترك طريق الوزارة والرياسة، فتفقهه أولا على مذهب الشافعي، ولم يكن مذهبًا رائجًا بالأندلس، فالسوق بها كان للمالكية، ومع تبحره في العلوم الشرعية، ونهمه الشديد في الأخذ من الأصول المباشرة، وصل إلى مرحلة الاجتهاد، وقد أدَّاه اجتهاده إلى نفي القياس كله جليه وخفيه، والأخذ بظاهر النصوص والعموميات الكلية، والقول بالبراءة الأصلية، واستصحاب الحال، وبالجملة جدد القول بالظاهر، وهو المذهب الذي وضعه الإمام داود بن علي بالعراق في القرن الثالث الهجري.
• كان ابن حزم ينهض بعلوم جمة، وفنون كثيرة، مع إجادة تامة للنقل والعرض والتصنيف، وفوق ذلك كله كان شاعرًا مطبوعًا، وأديبًا بليغًا، ومؤرخًا ناقدًا، عاصر فترة عصيبة في الأندلس، طارت شهرته في الأندلس كلها حتى تعدت البحر، ووصلت إلى بلاد المغرب والمشرق، وصار رأسًا من رءوس الإسلام، عديم النظير.
ثناء الناس عليه:
على الرغم من أن المحنة التي نالت ابن حزم كانت تدور على النيل منه، ومن مكانته العلمية، ومصنفاته الباهرة، إلا أن الناس خاضعون لعلومه، وسعة محفوظاته، مُقِرُّونَ بفضله، وهذه طائفة من أقوالهم في الثناء عليه:
• قال الإمام أبو القاسم صاعد بن محمد: كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفة، مع توسعه في علم اللسان، ووفور حظه من البلاغة والشعر، والمعرفة بالسير والأخبار.
• قال الإمام الغزالي: وجدت في أسماء الله تعالى كتابًا ألفه أبو محمد بن حزم الأندلسي يدل على عظم حفظه، وسيلان ذهنه.
• قال أبو عبد الله الحميدي: كان ابن حزم حافظًا للحديث وفقهه، مستنبطًا للأحكام من الكتاب والسنة، متفننًا في علوم جمة، عاملا بعلمه، ما رأينا فيما اجتمع له من الذكاء وسرعة الحفظ، وكرم النفس والتدين، وكان له في الأدب والشعر نَفَسٌ واسع، وباع طويل.
• قال اليسع الغافقي: أما محفوظة فبحر عجاج، وماء ثجَّاج، يخرج من بحره مرجان الحكم، وينبت بثجاجه ألفاف النعم في رياض الهمم، لقد حفظ علوم المسلمين، وأربى على كل أهل دين.
• قال أبو مروان بن حيان: كان ابن حزم رحمه الله حامل فنونه من حديث وفقه وجدل ونسب، وما يتعلق بأذيال الأدب، مع المشاركة في أنواع التعاليم القديمة من المنطق والفلسفة.
• قال الحافظ الذهبي: بلغ ابن حزم رتبة الاجتهاد، وشهد له بذلك عدة أئمة، وكان ينهض بعلوم جمة، ويجيد النقل، ويحسن النظم والنثر، وفيه دين وخير، ومقاصده جميلة، ومصنفاته مفيدة، وقد زهد في الرئاسة.
مصنفاته:
• هناك اتفاق بين أهل العلم أن أكثر علماء الإسلام تصنيفًا وتأليفًا الإمام ابن جرير الطبري، يليه الإمام ابن حزم الأندلسي، فلقد ترك ابن حزم ثروة علمية ضخمة وشاملة في شتى أنواع الفنون، لا يعلم مثلها إلا من قلة نادرة من فطاحل أهل العلم، وله مصنفات بديعة، ومؤلفات باهرة في الفقه والحديث وأصول الدين، والمذاهب والفرق والتاريخ والأدب والطب، ويأتي على رأس مصنفاته كتاب (المحلي بالآثار) الذي قال عنه العز بن عبد السلام سلطان العلماء: ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل ((المحلى)) لابن حزم، وكتاب ((المغني)) لابن قدامة، ولابن حزم كتب أخرى بلغت كما قال عن ذلك ولده أبو رافع الثمانين ألف ورقة، ومن أهم كتبه: ((الإيصال في فهم الخصال)) وهو في خمسة عشر ألف ورقة، وكتاب ((الجامع في صحيح الحديث))، و ((اختلاف الفقهاء))، ((مراتب الإجماع))، ((الإملاء في قواعد الفقه))، ((الفرائض))، ((الفصل في الملل والنحل)) وهو من كتب الفرق الشهيرة، ((مختصر في علل الحديث))، ((طوق الحمامة)) وهو من الكتب المثيرة للجدل، والتي جلبت على ابن حزم كثيرًا من اللوم، ((نقط العروس)) وهو من الكتب الرائعة في التاريخ، وجلب عليه كثيرًا من المحن مع ملوك عصره، ((الرسائل الخمس، أو جوامع السيرة))، ((رسالة في الطب النبوي))، ((الإحكام في أصول الأحكام)) وهو من كتبه الفريدة في بابها، وعلى منوالها نسج من جاء بعده: مثل الآمدي والرازي وابن الحاجب وغيرهم، ((الآثار التي ظاهرها التعارض، ونفي التناقض عنها))، وهو في عشرة آلاف ورقة، وهو من أروع ما كتبه هذا الإمام الفذ العلَّامة، وله مصنفات أخرى كثيرة يضيق المقام بذكرها تدل على سعة علمه، وسيلان ذهنه، وذكائه المفرط، وبصيرته النافذة لأحوال عصره.
محنته:
• ذهب معظم المؤرخين الذين أرخوا لحياة الإمام ابن حزم الظاهري أن السبب الرئيس للمحن المتتالية التي أصابته هو حدة لسانه وقلمه، وأنه لم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، وكان إذا عارضه أحد في مسألة صار كالبحر المغرق، والجحيم المحرق، فنفرت منه النفوس، واستحكمت عداوته في القلوب، فألبوا عليه الناس، ومنعوا طلبة العلم من الجلوس إليه، وطورد وشرد عن دياره، وأحرقت كتبه في مَحْضَرٍ عَامٍ بإشبيلية وقرطبة، وعاش منفيًا قرابة العشرين سنة حتى مات رحمه الله.
• ولكن عند التحقيق التاريخي، والتوثيق البحثي للمحن التي تعرض لها الإمام ابن حزم الظاهري نكتشف أن أسباب محنته أكبر وأبعد من شدته النقدية، وحدته وسلاطة لسانه، بل نستطيع أن نقول بكل اقتناع أن حدة لسانه وقلمه ما هي إلا عارض للأسباب الرئيسية التي كانت وراء المحن التي تعرض لها في حياته، وهذه الأسباب الثلاث هي:
1- نشأة ابن حزم وتربيته:
فلقد ولد ابن حزم في بيئه مترفة، وحياة ناعمة، في بيت وزارة ورياسة، وجاه وغنى، ومنذ نعومة أظفاره وأبو يعده ويهيئه للوزارة والزعامة، والمراتب العليا، وقد غرس ذلك في قلبه الصغير، فتربى ابن حزم على الزعامة والقيادة والسيادة، تربى على أن يقود ولا يقاد، يأمر ولا يؤمر، وقد تولى بالفعل الوزارة لعبد الرحمن بن هشام الملقب بالمستظهر الأموي، وهو في أوائل العشرينيات، قد مر ابن حزم بكل تلك المراحل قبل أن يسلك سبيل العلم والبحث والدراسة، فأثرت تلك التنشئة والتربية عليه، وجعلته يفتقد لسياسة العلم التي هي بعض الأحيان أهم أدوات العالم الرباني في نشر علمه، واجتماع الناس عليه، فكان ابن حزم إذا ناظر أحدًا من العلماء لا يبالي إلا بالنصوص الشرعية القطعية، فهو كما أسلفنا من أكبر أئمة الظاهرية، إن لم يكن أكبرهم، وكان يرد قول أي عالم مهما كانت درجته ومنزلته، ويسفه رأيه، ويقذع في نقده، طالما لم يستصحب لرأيه دليلا من القرآن والسنة، وكان لا يعرف تعريضًا ولا تورية، بل يلقى قوله ورأيه كالحجر الثقيل، بلا تزيين ولا تهذيب، وتلك الصراحة الفجة إنما تولدت في نفس ابن حزم بسبب تربيته الأولى، ونشأته القيادية في البداية.
2- مذهبية أهل الأندلس:
فلقد كان أهل الأندلس كبيرهم وصغيرهم، عالمهم وعاميهم متمذهبًا بالمالكية، وكان هو المذهب السائد بالأندلس منذ أيام الدولة الأموية التي أسسها عبد الرحمن الداخل، أو صقر قريش، وكانوا لا يعرفون إلا مُوَطَّأ مالك، وما عداه من مذاهب وكتب ومصنفات للحديث أو غيره كانت مهجورة أو مجهولة، ولقد عانى الإمام بقي بن مخلد رحمه الله والمتوفى سنة 276هـ من قبل من جمود علماء الأندلس، وانغلاقهم على مذهب المالكية فقط، وكان الإمام بقي بن مخلد قد أدخل حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى تلك البلاد، ويفتي بالأثر، وعلماء الأندلس لا يخرجون عن قول مالك وتفريعاته، فقاموا عليه ويدعوه، ورموه بالزندقة، وأغروا به السلطان، وجرت له محن كثيرة، وخطوب كبيرة نصره الله فيها، وأعلى ذكره وأمره.
ولما بدأ ابن حزم في طلب العلم اختار المذهب الشافعي، وبرع فيه، وناظر عليه، وفي تلك الفترة تعرض ابن حزم لنقد شديد من مالكية الأندلس، وضيقوا عليه كثيرًا، فلما تحول ابن حزم للمذهب الظاهري، وترقى في سلم العلوم، وتوَّسع وتبحر، وصار من المجتهدين الذين لا يتقيدون بمذهب، زادت حدة النقد حتى وصلت لحملات حربية، ووقائع ومشاهد، استخدم فيها المالكية شتى الأساليب لتنفير الناس عن ابن حزم، وتبغيضه لديهم، وساعدهم ابن حزم نفسه على ذلك بحدة لسانه، وسطوة قلمه، وفجاجة عباراته، وتمامًا مثلما حدث مع الإمام بقي بن مخلد استعدى المالكية السلطان على ابن حزم، فآذوه كثيرًا، وضيقوا عليه، وفضوا الناس من حوله، وأجبروه على الخروج من دياره يهيم في الأرض، كلما حط رحاله في بلد تنادى المالكية بها لطرده وزجره، ومنعه من الدرس والعلم، وهكذا ظل الإمام العشرين سنة الأخيرة من حياته شريدًا طريدًا منقطعًا عن التدريس، ضحية من ضحايا العصبية المذهبية، والجمود الفقهي، ضحية لعلماء يظنون أنهم يحسنون صنعًا، ويحمون مذهبًا، ويدافعون عن الدين والحق، وهم بلا شك مدانون حتى النخاع، متورطون في محنة هذا الإمام العظيم.
3- الظروف السياسة المحيطة:
من بين الأسباب الرئيسة والمهمة لمحنة الإمام ابن حزم الظاهري، الظروف والأوضاع السياسية المحيطة بدولة الإسلام في الأندلس، فقد وُلد ابن حزم أيام الحاجب المنصور، والذي كان يحكم بمسمى الدولة الأموية - أحفاد عبد الرحمن الداخل - ولما شب ابن حزم وقعت أحداث الفتنة بقرطبة، والأهوال التي عانتها دولة الإسلام لفترة طويلة هناك، ورأى ابن حزم ذلك رأى العين، فتجول حينًا في ألمرية وبلنسية في كنف الفتيان العامريين - وهم موالي الحاجب المنصور - وكان مثلهم من أتباع الخلافة الأموية، ثم قامت دولة ملوك الطوائف، وانقسمت دولة الخلافة الأموية إلى أكثر من عشرين مملكة، على رأس كل واحدة منها متغلب، ومستقو بعشيرة أو بعصبية أو بنفوذ وجاه، وأغلبهم لا دين له ولا أخلاق، وفي خضم تلك الأحداث المضطربة عاش ابن حزم، ورأى انحلال خلافة وقيام طوائف، وشهد الكثير من أحوال ذلك العصر وتقلباته، ورأى أيضًا تصرفات ملوك الطوائف ومثالبهم، وبغيهم ومجونهم وانحلالهم؛ فهزت هذه التقلبات مشاعر ابن حزم إلى الأعماق، فأطلق لحكمه العنان يؤرخ لتلك الفترة العصيبة من حياة دولة الإسلام في الأندلس، وحمل على ملوك الطوائف بعنف، وبعباراته اللاذعة على استهتارهم بالدين والعقيدة، حتى قال عنهم في كتابه الشهير ((نقط العروس)): والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستعدون النصارى، فيمكنونهم من حُرم المسلمين وأبنائهم ورجالهم، يحملونهم أسارى إلى بلادهم، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعًا فأخلوها من الإسلام، وعمروها بالنواقيس.
لذلك كره ملوك الطوائف ابن حزم، وحرصوا على إبعاده عن أراضيهم، ونفيه من مكان لآخر، فقد كانوا يخافون من آرائه النقدية، وحملاته الفكرية على فضائحهم وجرائمهم، ولربما أحرقوا كتبه بمحضر عام من الناس، كما فعل ذلك طاغية إشبيلية المعتضد بن عباد، وحرضوا العوام عليه، ومنعوا الطلبة من الجلوس إليه، فقضى الإمام آخر عشرين عامًا في حياته منفيًا في مسقط رأس أسرته في قرية منت ليشم من أعمال لبلة في غرب الأندلس، ولكنه استفاد من تلك المحنة، وتفرغ بالكلية في التأليف والتصنيف؛ فأخرج دررًا وكنوزًا رائعة في شتى الفنون، وحول الإمام محنته ومنفاه إلى قلعة علمية للكتابة والتأليف، ليخرج بعد ذلك علمه للعالم بأسره ينتفع به الناس على مر العصور حتى الآن، وإلى أن يشاء الله عز وجل.
المصادر والمراجع:
• سير أعلام النبلاء: (18/ 184).
• البداية والنهاية: (12/ 99).
• جذوة المقتبس: (308).
• الصلة: (2/ 415).
• المغرب في حلى المغرب: (1/ 354).
• الإحاطة: (4/ 111).
• نفح الطيب: (2/ 77).
• وفيات الأعيان: (3/ 325).
• تذكرة الحفاظ: (3/ 1146).
• شذرات الذهب: (3/ 299).
• ابن حزم الأندلس - للدكتور/ عبد الحليم عويس.
• ابن حزم - للشيخ أبو زهرة.
ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009 م.
شريف عبدالعزيز الزهيري
ما من عالم عامل إلا وله أدوات وآداب يتعاطى بها العلم طلبًا ودرسًا، وتصنيفًا وتأليفًا، وإلقاءً وتنظيرًا، هذه الآداب والأدوات بمثابة الزاد والمئونة للعالم، يسير بها على طريق العلم، من غير أن يتعرض للأزمات والنوازل، وقد ألفت العديد من الكتب في هذا الباب، منها آداب السامع والمتعلم لابن جماعة قديمًا، وحلية طالب العلم لبكر أبو زيد حديثًا، ويوم أن يتخلى العالم عن بعض أدواته، وينسى بعض آداب طلب العلم؛ فإنه يواجه الكثير من المحن والفتن، التي كان هو في غنى عنها وعن أمثالها، وهذه واحدة من تلك الفتن والمحن التي أدت لقمع واحد من أكبر علماء الإسلام، وأكثرهم تصنيفًا.
التعريف به:
• هو الإمام الكبير، والمجتهد المطلق، بحر العلوم، وجامع الفنون، إمام المذهب الظاهري ومجدده، الفقيه الحافظ، الأديب الوزير، المؤرخ الناقد، صاحب التصانيف الباهرة، الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، الشهير بابن حزم الظاهري.
• وُلد في شهر رمضان سنة 384هـ بمدينة الزهراء إحدى ضواحي قرطبة، عاصمة الأندلس، في بيت عز وثراء ووزارة، فأبوه أحمد بن حزم كان أحد وزراء المنصور بن أبي عامر حاكم الأندلس القوي، فنشأ ابن حزم في تنعم ورفاهية، يلبس الحرير، ويتسور الذهب، يطالع الكتب على قناديل الذهب والفضة المضاءة بشموع العنبر والمسك، وقد كان أبوه يعده ليسير على درب الوزارة والرياسة مثله، وكان ابن حزم قد رزق ذكاءً مفرطًا، وذهنًا سيالا، فعكف على دراسة الآداب والأشعار والأخبار، وعلوم المنطق والفلسفة، وهو ما سيؤثر عليه في المستقبل، وليته لم يخض في ذلك الباب.
• وقعت حادثة لابن حزم وهو في أواسط العشرينات من عمره دفعت به إلى طريق العلم الشرعي، حيث تعرض لموقف حرج بان فيه قلة علمه وفقهه، فقرر سلوك طريق العلم والبحث، وترك طريق الوزارة والرياسة، فتفقهه أولا على مذهب الشافعي، ولم يكن مذهبًا رائجًا بالأندلس، فالسوق بها كان للمالكية، ومع تبحره في العلوم الشرعية، ونهمه الشديد في الأخذ من الأصول المباشرة، وصل إلى مرحلة الاجتهاد، وقد أدَّاه اجتهاده إلى نفي القياس كله جليه وخفيه، والأخذ بظاهر النصوص والعموميات الكلية، والقول بالبراءة الأصلية، واستصحاب الحال، وبالجملة جدد القول بالظاهر، وهو المذهب الذي وضعه الإمام داود بن علي بالعراق في القرن الثالث الهجري.
• كان ابن حزم ينهض بعلوم جمة، وفنون كثيرة، مع إجادة تامة للنقل والعرض والتصنيف، وفوق ذلك كله كان شاعرًا مطبوعًا، وأديبًا بليغًا، ومؤرخًا ناقدًا، عاصر فترة عصيبة في الأندلس، طارت شهرته في الأندلس كلها حتى تعدت البحر، ووصلت إلى بلاد المغرب والمشرق، وصار رأسًا من رءوس الإسلام، عديم النظير.
ثناء الناس عليه:
على الرغم من أن المحنة التي نالت ابن حزم كانت تدور على النيل منه، ومن مكانته العلمية، ومصنفاته الباهرة، إلا أن الناس خاضعون لعلومه، وسعة محفوظاته، مُقِرُّونَ بفضله، وهذه طائفة من أقوالهم في الثناء عليه:
• قال الإمام أبو القاسم صاعد بن محمد: كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفة، مع توسعه في علم اللسان، ووفور حظه من البلاغة والشعر، والمعرفة بالسير والأخبار.
• قال الإمام الغزالي: وجدت في أسماء الله تعالى كتابًا ألفه أبو محمد بن حزم الأندلسي يدل على عظم حفظه، وسيلان ذهنه.
• قال أبو عبد الله الحميدي: كان ابن حزم حافظًا للحديث وفقهه، مستنبطًا للأحكام من الكتاب والسنة، متفننًا في علوم جمة، عاملا بعلمه، ما رأينا فيما اجتمع له من الذكاء وسرعة الحفظ، وكرم النفس والتدين، وكان له في الأدب والشعر نَفَسٌ واسع، وباع طويل.
• قال اليسع الغافقي: أما محفوظة فبحر عجاج، وماء ثجَّاج، يخرج من بحره مرجان الحكم، وينبت بثجاجه ألفاف النعم في رياض الهمم، لقد حفظ علوم المسلمين، وأربى على كل أهل دين.
• قال أبو مروان بن حيان: كان ابن حزم رحمه الله حامل فنونه من حديث وفقه وجدل ونسب، وما يتعلق بأذيال الأدب، مع المشاركة في أنواع التعاليم القديمة من المنطق والفلسفة.
• قال الحافظ الذهبي: بلغ ابن حزم رتبة الاجتهاد، وشهد له بذلك عدة أئمة، وكان ينهض بعلوم جمة، ويجيد النقل، ويحسن النظم والنثر، وفيه دين وخير، ومقاصده جميلة، ومصنفاته مفيدة، وقد زهد في الرئاسة.
مصنفاته:
• هناك اتفاق بين أهل العلم أن أكثر علماء الإسلام تصنيفًا وتأليفًا الإمام ابن جرير الطبري، يليه الإمام ابن حزم الأندلسي، فلقد ترك ابن حزم ثروة علمية ضخمة وشاملة في شتى أنواع الفنون، لا يعلم مثلها إلا من قلة نادرة من فطاحل أهل العلم، وله مصنفات بديعة، ومؤلفات باهرة في الفقه والحديث وأصول الدين، والمذاهب والفرق والتاريخ والأدب والطب، ويأتي على رأس مصنفاته كتاب (المحلي بالآثار) الذي قال عنه العز بن عبد السلام سلطان العلماء: ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل ((المحلى)) لابن حزم، وكتاب ((المغني)) لابن قدامة، ولابن حزم كتب أخرى بلغت كما قال عن ذلك ولده أبو رافع الثمانين ألف ورقة، ومن أهم كتبه: ((الإيصال في فهم الخصال)) وهو في خمسة عشر ألف ورقة، وكتاب ((الجامع في صحيح الحديث))، و ((اختلاف الفقهاء))، ((مراتب الإجماع))، ((الإملاء في قواعد الفقه))، ((الفرائض))، ((الفصل في الملل والنحل)) وهو من كتب الفرق الشهيرة، ((مختصر في علل الحديث))، ((طوق الحمامة)) وهو من الكتب المثيرة للجدل، والتي جلبت على ابن حزم كثيرًا من اللوم، ((نقط العروس)) وهو من الكتب الرائعة في التاريخ، وجلب عليه كثيرًا من المحن مع ملوك عصره، ((الرسائل الخمس، أو جوامع السيرة))، ((رسالة في الطب النبوي))، ((الإحكام في أصول الأحكام)) وهو من كتبه الفريدة في بابها، وعلى منوالها نسج من جاء بعده: مثل الآمدي والرازي وابن الحاجب وغيرهم، ((الآثار التي ظاهرها التعارض، ونفي التناقض عنها))، وهو في عشرة آلاف ورقة، وهو من أروع ما كتبه هذا الإمام الفذ العلَّامة، وله مصنفات أخرى كثيرة يضيق المقام بذكرها تدل على سعة علمه، وسيلان ذهنه، وذكائه المفرط، وبصيرته النافذة لأحوال عصره.
محنته:
• ذهب معظم المؤرخين الذين أرخوا لحياة الإمام ابن حزم الظاهري أن السبب الرئيس للمحن المتتالية التي أصابته هو حدة لسانه وقلمه، وأنه لم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، وكان إذا عارضه أحد في مسألة صار كالبحر المغرق، والجحيم المحرق، فنفرت منه النفوس، واستحكمت عداوته في القلوب، فألبوا عليه الناس، ومنعوا طلبة العلم من الجلوس إليه، وطورد وشرد عن دياره، وأحرقت كتبه في مَحْضَرٍ عَامٍ بإشبيلية وقرطبة، وعاش منفيًا قرابة العشرين سنة حتى مات رحمه الله.
• ولكن عند التحقيق التاريخي، والتوثيق البحثي للمحن التي تعرض لها الإمام ابن حزم الظاهري نكتشف أن أسباب محنته أكبر وأبعد من شدته النقدية، وحدته وسلاطة لسانه، بل نستطيع أن نقول بكل اقتناع أن حدة لسانه وقلمه ما هي إلا عارض للأسباب الرئيسية التي كانت وراء المحن التي تعرض لها في حياته، وهذه الأسباب الثلاث هي:
1- نشأة ابن حزم وتربيته:
فلقد ولد ابن حزم في بيئه مترفة، وحياة ناعمة، في بيت وزارة ورياسة، وجاه وغنى، ومنذ نعومة أظفاره وأبو يعده ويهيئه للوزارة والزعامة، والمراتب العليا، وقد غرس ذلك في قلبه الصغير، فتربى ابن حزم على الزعامة والقيادة والسيادة، تربى على أن يقود ولا يقاد، يأمر ولا يؤمر، وقد تولى بالفعل الوزارة لعبد الرحمن بن هشام الملقب بالمستظهر الأموي، وهو في أوائل العشرينيات، قد مر ابن حزم بكل تلك المراحل قبل أن يسلك سبيل العلم والبحث والدراسة، فأثرت تلك التنشئة والتربية عليه، وجعلته يفتقد لسياسة العلم التي هي بعض الأحيان أهم أدوات العالم الرباني في نشر علمه، واجتماع الناس عليه، فكان ابن حزم إذا ناظر أحدًا من العلماء لا يبالي إلا بالنصوص الشرعية القطعية، فهو كما أسلفنا من أكبر أئمة الظاهرية، إن لم يكن أكبرهم، وكان يرد قول أي عالم مهما كانت درجته ومنزلته، ويسفه رأيه، ويقذع في نقده، طالما لم يستصحب لرأيه دليلا من القرآن والسنة، وكان لا يعرف تعريضًا ولا تورية، بل يلقى قوله ورأيه كالحجر الثقيل، بلا تزيين ولا تهذيب، وتلك الصراحة الفجة إنما تولدت في نفس ابن حزم بسبب تربيته الأولى، ونشأته القيادية في البداية.
2- مذهبية أهل الأندلس:
فلقد كان أهل الأندلس كبيرهم وصغيرهم، عالمهم وعاميهم متمذهبًا بالمالكية، وكان هو المذهب السائد بالأندلس منذ أيام الدولة الأموية التي أسسها عبد الرحمن الداخل، أو صقر قريش، وكانوا لا يعرفون إلا مُوَطَّأ مالك، وما عداه من مذاهب وكتب ومصنفات للحديث أو غيره كانت مهجورة أو مجهولة، ولقد عانى الإمام بقي بن مخلد رحمه الله والمتوفى سنة 276هـ من قبل من جمود علماء الأندلس، وانغلاقهم على مذهب المالكية فقط، وكان الإمام بقي بن مخلد قد أدخل حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى تلك البلاد، ويفتي بالأثر، وعلماء الأندلس لا يخرجون عن قول مالك وتفريعاته، فقاموا عليه ويدعوه، ورموه بالزندقة، وأغروا به السلطان، وجرت له محن كثيرة، وخطوب كبيرة نصره الله فيها، وأعلى ذكره وأمره.
ولما بدأ ابن حزم في طلب العلم اختار المذهب الشافعي، وبرع فيه، وناظر عليه، وفي تلك الفترة تعرض ابن حزم لنقد شديد من مالكية الأندلس، وضيقوا عليه كثيرًا، فلما تحول ابن حزم للمذهب الظاهري، وترقى في سلم العلوم، وتوَّسع وتبحر، وصار من المجتهدين الذين لا يتقيدون بمذهب، زادت حدة النقد حتى وصلت لحملات حربية، ووقائع ومشاهد، استخدم فيها المالكية شتى الأساليب لتنفير الناس عن ابن حزم، وتبغيضه لديهم، وساعدهم ابن حزم نفسه على ذلك بحدة لسانه، وسطوة قلمه، وفجاجة عباراته، وتمامًا مثلما حدث مع الإمام بقي بن مخلد استعدى المالكية السلطان على ابن حزم، فآذوه كثيرًا، وضيقوا عليه، وفضوا الناس من حوله، وأجبروه على الخروج من دياره يهيم في الأرض، كلما حط رحاله في بلد تنادى المالكية بها لطرده وزجره، ومنعه من الدرس والعلم، وهكذا ظل الإمام العشرين سنة الأخيرة من حياته شريدًا طريدًا منقطعًا عن التدريس، ضحية من ضحايا العصبية المذهبية، والجمود الفقهي، ضحية لعلماء يظنون أنهم يحسنون صنعًا، ويحمون مذهبًا، ويدافعون عن الدين والحق، وهم بلا شك مدانون حتى النخاع، متورطون في محنة هذا الإمام العظيم.
3- الظروف السياسة المحيطة:
من بين الأسباب الرئيسة والمهمة لمحنة الإمام ابن حزم الظاهري، الظروف والأوضاع السياسية المحيطة بدولة الإسلام في الأندلس، فقد وُلد ابن حزم أيام الحاجب المنصور، والذي كان يحكم بمسمى الدولة الأموية - أحفاد عبد الرحمن الداخل - ولما شب ابن حزم وقعت أحداث الفتنة بقرطبة، والأهوال التي عانتها دولة الإسلام لفترة طويلة هناك، ورأى ابن حزم ذلك رأى العين، فتجول حينًا في ألمرية وبلنسية في كنف الفتيان العامريين - وهم موالي الحاجب المنصور - وكان مثلهم من أتباع الخلافة الأموية، ثم قامت دولة ملوك الطوائف، وانقسمت دولة الخلافة الأموية إلى أكثر من عشرين مملكة، على رأس كل واحدة منها متغلب، ومستقو بعشيرة أو بعصبية أو بنفوذ وجاه، وأغلبهم لا دين له ولا أخلاق، وفي خضم تلك الأحداث المضطربة عاش ابن حزم، ورأى انحلال خلافة وقيام طوائف، وشهد الكثير من أحوال ذلك العصر وتقلباته، ورأى أيضًا تصرفات ملوك الطوائف ومثالبهم، وبغيهم ومجونهم وانحلالهم؛ فهزت هذه التقلبات مشاعر ابن حزم إلى الأعماق، فأطلق لحكمه العنان يؤرخ لتلك الفترة العصيبة من حياة دولة الإسلام في الأندلس، وحمل على ملوك الطوائف بعنف، وبعباراته اللاذعة على استهتارهم بالدين والعقيدة، حتى قال عنهم في كتابه الشهير ((نقط العروس)): والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستعدون النصارى، فيمكنونهم من حُرم المسلمين وأبنائهم ورجالهم، يحملونهم أسارى إلى بلادهم، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعًا فأخلوها من الإسلام، وعمروها بالنواقيس.
لذلك كره ملوك الطوائف ابن حزم، وحرصوا على إبعاده عن أراضيهم، ونفيه من مكان لآخر، فقد كانوا يخافون من آرائه النقدية، وحملاته الفكرية على فضائحهم وجرائمهم، ولربما أحرقوا كتبه بمحضر عام من الناس، كما فعل ذلك طاغية إشبيلية المعتضد بن عباد، وحرضوا العوام عليه، ومنعوا الطلبة من الجلوس إليه، فقضى الإمام آخر عشرين عامًا في حياته منفيًا في مسقط رأس أسرته في قرية منت ليشم من أعمال لبلة في غرب الأندلس، ولكنه استفاد من تلك المحنة، وتفرغ بالكلية في التأليف والتصنيف؛ فأخرج دررًا وكنوزًا رائعة في شتى الفنون، وحول الإمام محنته ومنفاه إلى قلعة علمية للكتابة والتأليف، ليخرج بعد ذلك علمه للعالم بأسره ينتفع به الناس على مر العصور حتى الآن، وإلى أن يشاء الله عز وجل.
المصادر والمراجع:
• سير أعلام النبلاء: (18/ 184).
• البداية والنهاية: (12/ 99).
• جذوة المقتبس: (308).
• الصلة: (2/ 415).
• المغرب في حلى المغرب: (1/ 354).
• الإحاطة: (4/ 111).
• نفح الطيب: (2/ 77).
• وفيات الأعيان: (3/ 325).
• تذكرة الحفاظ: (3/ 1146).
• شذرات الذهب: (3/ 299).
• ابن حزم الأندلس - للدكتور/ عبد الحليم عويس.
• ابن حزم - للشيخ أبو زهرة.
ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009 م.