الأوفياء في زمن الضياع
محمد الأمين مقراوي الوغليسي
إن من أشد ما يلقى الإنسان في حياته تنكر من حوله للصحبة، وكفرهم بعشرة طويلة، وانقلابهم على أيام وديعة، وجحدهم للحظات سعيدة .. نعم كم هو قاس أن يتنكر لك من بذلت له أيامك وسنواتك، وأعطيته نضارة شبابك، ثم ما يلبث أن ينقلب عليك بكل جرأة وصلف، متنكراً لكل ذلك، بل وجاحداً لكل لحظة وُدٍ عشتها معه، بل وغير آبه بالجروح التي خلفتها خناجر غدره وخيانته.
ما الذي تغيّر؟
إننا نعيش في زمن صار اللؤم طبعه الأول، والتنكر حال أهله، ولا ندري أتغيرت الطباع، أم تبدلت الأخلاق، أم انقلبت المقاييس، أم رحلت عن دنيانا القيم، أم اغتالت الماديات كل الفضائل والمحامد، حتى أصبنا في مقتل الوفاء والإخاء.
فكم غدر بنا من ظننا يوماً أن الحياة من دونه تيه وظلام، وكم خذلنا من حسبناه يوماً شقنا الثاني، وتوأم روحنا الصافي، وكم خيّب أملنا من اعتقدنا يوماً أنه نحن ونحن هو .. كم خذلنا هؤلاء بعد عشرة طويلة، وذكريات جميلة، وأيام سعيدة، وأسفار ممتعة.
عندما تقسو الحياة على الأب:
كم من والد علم ابنه ورعاه، وسانده في مراحل عمره كلها، حتى صار من كوادر المجتمع، لكنه بعد أن كبر واشتد عوده تنكر له، وصرخ في وجهه بكل سفاهة: "الفضل لإرادتي وذكائي" هكذا بكل بساطة.. ثم ارتحل وترك دموع الحسرة على خد والده المسكين، المكلوم من تقلب الزمان، وتنكر الولدان.
الأرملة الجريحة والحياة القاسية:
وكم من أم ترملت أو طلقت، وقد تعلق بها أولادها، فأبت الزواج حرصاً على لم شملهم، وتربيتهم على عينيها، وقد عزمت أن توفر لهم كل مقومات النجاح والفلاح في حياتهم، فربتهم وسهرت على راحتهم، وتعبت لأجلهم، بل لعلها عملت خادمة في بيوت الناس، وهي التي كانت قادرة على أن تتزوج، ويؤتى لها بمن تخدمها، لكنها الأم .. الأم المشفقة، الأم الحنونة .. حتى إذا صاروا كباراً، وقوي عودهم، وفازوا بمناصب اجتماعية؛ تنكروا لها، وانفضوا من حولها، وتركوها غارقة في بحر من الأحزان، وهي التي ضيعت زهرة شبابها لأجلهم، فجازوها بالنكران والجحود آخر حياتها.
عندما يهان الأستاذ:
وكم من أستاذ ربى وعلم، ونصح وأرشد، فلما دار الزمن دورته، وكبر الأستاذ وتقاعد، وتصادف أن التقى به طلبة الأمس؛ ضحكوا من انحناء ظهره، وشيب شعره، وتهامسوا بالسوء وقهقهوا، وما رعوه حق قدره، حتى إذا اقترب منهم أشاحوا عنه بوجوههم، كأنه لم يعرفهم ولم يعرفوه، فأي سفالة أكثر من هذه التي تجرح من كاد أن يكون رسولاً.
زوجة وفية وزوج فرعوني:
وكم من زوجة وفية عانت لافتقار زوجها، فصبرت على ذلك، وحرمت نفسها من متع الدنيا الحلال، وإن ساءت حاله أكثر تحملت ضعفه ومرضه؛ فلما قوي واغتنى تنكر لها، وتغير حاله معها، ولعله طردها بعد أن طلقها، ولم يرع تلك الأيام التي وقفت فيها إلى جانبه في الشدة والضراء والبلاء، فتركها في صدمة نفسية لا يخرجها منها إلا لطف الله بها، فأين الود والعرفان؟ أم صار النكران هو الديدن .. وقد قال - تعالى -: (ولا تنسوا الفضل بينكم).
زوج كسرته قسوة الجحود:
وكم من زوج جعل زوجته تاج رأسه، وأميرة بيته، ورعاها حق الرعاية، وصان عرضها، وحمى شرفها، وأحسن إليها كل الإحسان، لكنها كفرت بالعشرة، وقالت: "ما رأيت منك خيراً قط''، فأي تنكر هذا وأي ظلم بعد هذا الظلم؟
وبكى الشيخ:
وكم من شيخ درس وشرح، وفصّل وفسر لطلبته، فلما كبر الواحد فيهم، وظن أنه قد تعلم، تنكر لشيخه، ولعله سفّهه، وعيّره بالقصور والجهل، وقلة العلم، فاعتزل الشيخ مكلوماً بجراحه، ممن ظنهم أولياء الله في صغرهم، فأين الود والعرفان، أم أن الجحود صار دينا في هذا الزمان؟
ذبحتها بسكين الصداقة:
وكم من فتاة قضت نصف عمرها وفية لمعاني الصداقة مع صديقتها الوحيدة، فكانت تسهر معها الليالي في مذاكرة الامتحانات، وتلخيص الدروس، بل وساندتها في محن مريرة، فكانت تحزن لحزنها، وتبكي لبكائها.. وكانت شمس نهارها، وبدر ظلمتها، والأخت التي لم تلدها أمها، وكم فرحت لفرحها فأهدتها أغلى الهدايا، ولكن هذه الصداقة تحولت إلى كابوس بعد أن تزوجت صديقتها، فقد تنكرت لها، وارتحلت عنها، فإن رأتها في عرس أو قرح أشاحت عنها بوجهها كأنها لم ترها ولم تعرفها، فكان فعلها سبباً لانهيارها وانزوائها في زاوية، تبكي الأيام الملاح التي خلفتها لحظات قسوة وجحود، وغدر صديقة ناكرة، كيف لا وقد طعنتها غيلة وغدراً في ظهر صداقتها.
هكذا باعه إخوته:
وكم من أخ تيتم إخوته فترك دراسته، وتفرغ للعمل لإعالة إخوته وتربيتهم؛ مخافة أن ينحرفوا ويضيعوا، لكنهم كبروا وتغيروا بل تنكروا له، بل لربما طالبوه بالرحيل عنهم، وطردوه شر طردة، فإذا هو كالمجنون لا يعي ما حدث له، وهو الذي أبى الزواج يوماً حتى يكفلهم، وأبى أن يعيش شبابه من أجلهم، وأنفق كل ماله ثم رموه من أعلى عمارات التنكر.
وداس على شمعة حياته:
وكم من ضال كان تائهاً في طرقات الغواية والضلال؛ فسخر الله له صديقاً أو أخاً أخذ بيده إلى طريق الإيمان والسلام، لكنه تغير بعد أن ظن أنه قد وصل، فهجر أخاه وسفهه، بل حتى السلام عنه قد قطعه، فيا له من موقف تهد منه الأبدان في زمن التنكر للخلّان.
فليعد الوفاء إلى حياتنا:
إن الحر الأصيل ليأنف أن يسقط في سفالة النكران، ومهاوي الجحود، لأنها من طباع اللئام، وخصال أهل النفاق، وطبائع القلوب المريضة، والحر يأبى أن يتلبس بصفات الجحود؛ لأن من كانت تلك صفاته كان جاحداً بنعمة الله - تعالى -، وكان ذلك مدعاة لغضب الرب - تبارك وتعالى - قال ابن الأثير في النهاية: "من كانت عادته وطبعه كفران نعمة الناس، وترك شكره لهم؛ كان من عادته كفر نعمة الله - عز وجل -، وترك الشكر له"، فليعد الوفاء إلى حياتنا، حتى يعم السلام مجتمعنا، وتنكفئ الدموع والأحزان عن أيامنا، وخير الناس من حفظ أمانات العِشرة، وكان وفياً لمن أعطوه يوماً جزء من حياتهم، وكانت مكانته عندهم بمثابة الروح من الجسد، فلنشع الوفاء لننعم بمشاعر الهناء في حياتنا، ولنعد بناء جسور الوفاء في حياة مجتمعنا وأسرنا، لننعم برضى الله، ومحبة الناس أجمعين.
محمد الأمين مقراوي الوغليسي
إن من أشد ما يلقى الإنسان في حياته تنكر من حوله للصحبة، وكفرهم بعشرة طويلة، وانقلابهم على أيام وديعة، وجحدهم للحظات سعيدة .. نعم كم هو قاس أن يتنكر لك من بذلت له أيامك وسنواتك، وأعطيته نضارة شبابك، ثم ما يلبث أن ينقلب عليك بكل جرأة وصلف، متنكراً لكل ذلك، بل وجاحداً لكل لحظة وُدٍ عشتها معه، بل وغير آبه بالجروح التي خلفتها خناجر غدره وخيانته.
ما الذي تغيّر؟
إننا نعيش في زمن صار اللؤم طبعه الأول، والتنكر حال أهله، ولا ندري أتغيرت الطباع، أم تبدلت الأخلاق، أم انقلبت المقاييس، أم رحلت عن دنيانا القيم، أم اغتالت الماديات كل الفضائل والمحامد، حتى أصبنا في مقتل الوفاء والإخاء.
فكم غدر بنا من ظننا يوماً أن الحياة من دونه تيه وظلام، وكم خذلنا من حسبناه يوماً شقنا الثاني، وتوأم روحنا الصافي، وكم خيّب أملنا من اعتقدنا يوماً أنه نحن ونحن هو .. كم خذلنا هؤلاء بعد عشرة طويلة، وذكريات جميلة، وأيام سعيدة، وأسفار ممتعة.
عندما تقسو الحياة على الأب:
كم من والد علم ابنه ورعاه، وسانده في مراحل عمره كلها، حتى صار من كوادر المجتمع، لكنه بعد أن كبر واشتد عوده تنكر له، وصرخ في وجهه بكل سفاهة: "الفضل لإرادتي وذكائي" هكذا بكل بساطة.. ثم ارتحل وترك دموع الحسرة على خد والده المسكين، المكلوم من تقلب الزمان، وتنكر الولدان.
الأرملة الجريحة والحياة القاسية:
وكم من أم ترملت أو طلقت، وقد تعلق بها أولادها، فأبت الزواج حرصاً على لم شملهم، وتربيتهم على عينيها، وقد عزمت أن توفر لهم كل مقومات النجاح والفلاح في حياتهم، فربتهم وسهرت على راحتهم، وتعبت لأجلهم، بل لعلها عملت خادمة في بيوت الناس، وهي التي كانت قادرة على أن تتزوج، ويؤتى لها بمن تخدمها، لكنها الأم .. الأم المشفقة، الأم الحنونة .. حتى إذا صاروا كباراً، وقوي عودهم، وفازوا بمناصب اجتماعية؛ تنكروا لها، وانفضوا من حولها، وتركوها غارقة في بحر من الأحزان، وهي التي ضيعت زهرة شبابها لأجلهم، فجازوها بالنكران والجحود آخر حياتها.
عندما يهان الأستاذ:
وكم من أستاذ ربى وعلم، ونصح وأرشد، فلما دار الزمن دورته، وكبر الأستاذ وتقاعد، وتصادف أن التقى به طلبة الأمس؛ ضحكوا من انحناء ظهره، وشيب شعره، وتهامسوا بالسوء وقهقهوا، وما رعوه حق قدره، حتى إذا اقترب منهم أشاحوا عنه بوجوههم، كأنه لم يعرفهم ولم يعرفوه، فأي سفالة أكثر من هذه التي تجرح من كاد أن يكون رسولاً.
زوجة وفية وزوج فرعوني:
وكم من زوجة وفية عانت لافتقار زوجها، فصبرت على ذلك، وحرمت نفسها من متع الدنيا الحلال، وإن ساءت حاله أكثر تحملت ضعفه ومرضه؛ فلما قوي واغتنى تنكر لها، وتغير حاله معها، ولعله طردها بعد أن طلقها، ولم يرع تلك الأيام التي وقفت فيها إلى جانبه في الشدة والضراء والبلاء، فتركها في صدمة نفسية لا يخرجها منها إلا لطف الله بها، فأين الود والعرفان؟ أم صار النكران هو الديدن .. وقد قال - تعالى -: (ولا تنسوا الفضل بينكم).
زوج كسرته قسوة الجحود:
وكم من زوج جعل زوجته تاج رأسه، وأميرة بيته، ورعاها حق الرعاية، وصان عرضها، وحمى شرفها، وأحسن إليها كل الإحسان، لكنها كفرت بالعشرة، وقالت: "ما رأيت منك خيراً قط''، فأي تنكر هذا وأي ظلم بعد هذا الظلم؟
وبكى الشيخ:
وكم من شيخ درس وشرح، وفصّل وفسر لطلبته، فلما كبر الواحد فيهم، وظن أنه قد تعلم، تنكر لشيخه، ولعله سفّهه، وعيّره بالقصور والجهل، وقلة العلم، فاعتزل الشيخ مكلوماً بجراحه، ممن ظنهم أولياء الله في صغرهم، فأين الود والعرفان، أم أن الجحود صار دينا في هذا الزمان؟
ذبحتها بسكين الصداقة:
وكم من فتاة قضت نصف عمرها وفية لمعاني الصداقة مع صديقتها الوحيدة، فكانت تسهر معها الليالي في مذاكرة الامتحانات، وتلخيص الدروس، بل وساندتها في محن مريرة، فكانت تحزن لحزنها، وتبكي لبكائها.. وكانت شمس نهارها، وبدر ظلمتها، والأخت التي لم تلدها أمها، وكم فرحت لفرحها فأهدتها أغلى الهدايا، ولكن هذه الصداقة تحولت إلى كابوس بعد أن تزوجت صديقتها، فقد تنكرت لها، وارتحلت عنها، فإن رأتها في عرس أو قرح أشاحت عنها بوجهها كأنها لم ترها ولم تعرفها، فكان فعلها سبباً لانهيارها وانزوائها في زاوية، تبكي الأيام الملاح التي خلفتها لحظات قسوة وجحود، وغدر صديقة ناكرة، كيف لا وقد طعنتها غيلة وغدراً في ظهر صداقتها.
هكذا باعه إخوته:
وكم من أخ تيتم إخوته فترك دراسته، وتفرغ للعمل لإعالة إخوته وتربيتهم؛ مخافة أن ينحرفوا ويضيعوا، لكنهم كبروا وتغيروا بل تنكروا له، بل لربما طالبوه بالرحيل عنهم، وطردوه شر طردة، فإذا هو كالمجنون لا يعي ما حدث له، وهو الذي أبى الزواج يوماً حتى يكفلهم، وأبى أن يعيش شبابه من أجلهم، وأنفق كل ماله ثم رموه من أعلى عمارات التنكر.
وداس على شمعة حياته:
وكم من ضال كان تائهاً في طرقات الغواية والضلال؛ فسخر الله له صديقاً أو أخاً أخذ بيده إلى طريق الإيمان والسلام، لكنه تغير بعد أن ظن أنه قد وصل، فهجر أخاه وسفهه، بل حتى السلام عنه قد قطعه، فيا له من موقف تهد منه الأبدان في زمن التنكر للخلّان.
فليعد الوفاء إلى حياتنا:
إن الحر الأصيل ليأنف أن يسقط في سفالة النكران، ومهاوي الجحود، لأنها من طباع اللئام، وخصال أهل النفاق، وطبائع القلوب المريضة، والحر يأبى أن يتلبس بصفات الجحود؛ لأن من كانت تلك صفاته كان جاحداً بنعمة الله - تعالى -، وكان ذلك مدعاة لغضب الرب - تبارك وتعالى - قال ابن الأثير في النهاية: "من كانت عادته وطبعه كفران نعمة الناس، وترك شكره لهم؛ كان من عادته كفر نعمة الله - عز وجل -، وترك الشكر له"، فليعد الوفاء إلى حياتنا، حتى يعم السلام مجتمعنا، وتنكفئ الدموع والأحزان عن أيامنا، وخير الناس من حفظ أمانات العِشرة، وكان وفياً لمن أعطوه يوماً جزء من حياتهم، وكانت مكانته عندهم بمثابة الروح من الجسد، فلنشع الوفاء لننعم بمشاعر الهناء في حياتنا، ولنعد بناء جسور الوفاء في حياة مجتمعنا وأسرنا، لننعم برضى الله، ومحبة الناس أجمعين.