Quantcast
Channel: منتدى فرسان الحق فرسان السُـنة خير الناس أنفعهم للناس
Viewing all articles
Browse latest Browse all 1343

النسخ في القرآن عند ابن العربي

$
0
0

النسخ في القرآن عند ابن العربي
سيد ولد عيسى




اللهم صل على محمد وآله وسلم.
يعتبر القول بالنسخ في القرآن الكريم دون يقين، ولا بينة من أخطر المخاطر، وأقوى المزالق، وقد وضع العلماء لذلك ضوابط وموجهات محددة لا يجيزون القول بالنسخ في القرآن ما لم تتوفر، وقد عني الأصوليون بتلك الضوابط واهتموا بها، ويمكن أن نشير بشكل مقتضب جدا إلى بعضها وهي:
1- وجود نص شرعي أصلي مشرع لحكم عملي في غير العقائد والأخبار.

2- وجود نص شرعي رافع لحكم النص الأول مساو له في القوة أو في حكم المساوي.

3- التصريح بالنسخ من طرف المشرع، أو الحكم به من المجتهد (بشرط علم السابق واللاحق، وعدم إمكان الجمع بأي وجه، وعدم إمكان الترجيح بأي وجه).

وبالعودة إلى بعض أساطين هذا الفن نجد الاختلال الكبير في تطبيق هذا المنهاج لديهم رغم وضوحه في كتبهم الأصولية، ولنأخذ على ذلك مثالا من الإمام ابن العربي في تفسيره "أحكام القرآن"[1] باعتباره عالما ومفسرا وأصوليا وفقيها، قد حرر المصطلح، واستفاد من السابقين[2].

وقبل الدخول في تطبيق ابن العربي للقول بالنسخ يجدر بنا أن نتساءل عن رأيه في شروط النسخ، حتى لا نحاكمه إلى منهج غير منهجه، أو إلى طريق غيره طريقه، فما هي شروط النسخ عند الإمام ابن العربي رحمه الله؟
1- الأول: أن يكون شرعيا غير عقلي فإن الموت لا ينسخ التكليف[3].
ويضيف في بعضه كتبه لهذا الشرط توضيحا أكثر فيقول: "‌ونسخ القرآن لا يجوز إلا بقرآن مثله، أو بخبر متواتر، وأما ‌بنظر ‌فلا ‌يجوز"[4]؛ فيوسع معنى العقلي الذي لا ينسخ هنا أكثر.

2- الثاني: أن يكون منفصلا غير متصل؛ ونحن نعلم أنه لما قال: ﴿ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ﴾ [البقرة: 187]، لم يكن ناسخا فلا خلاف فيه إذا كانت الغاية معلومة، كما قدمنا، فإن كانت مجهولة كقوله تعالى: ﴿ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 15]، فاختلف الناس فيه هل هو نسخ أولا، والصحيح أنه نسخ؛ لأن معاني النسخ فيه موجودة، وقد بيناه في الأصول[5].

3- الثالث: أن يكون المقضى بالمنسوخ غير المقتضى بالناسخ[6].
وهذا احتراز منه من القول على الله بالبداء[7]؛ لذلك نراه حين يرد على اليهود نفيهم النسخ لما فيه من البداء يقول: "وأما تعلقهم بالنظر فمسلكه لائح لنا ولا حجة لهم فيما ذكروه من ‌البداء لأن النسخ الله تعالى ليس بما بدا له وإنما هو مما علمه وأحكمه فاقتضت المصلحة أن يقع التكليف به في وقت ولا يقع في آخر فإلزامه المكلف ظاهرا ولم يطلع على ما في الباطن ثم اطلع فعلم أن الحكمة في إخفائه أولا والمصلحة في تبديله آخرا ولذلك رد الله تعالى عليهم وبين جهلهم فقال: ﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 101، 102] "[8].

4- الرابع: أن يكون الجمع بين الدليلين غير ممكن[9].
وفي هذا يقول: "النسخ إنما يكون في القولين المتعارضين من كل وجه، اللذين لا يمكن الجمع بينهما بحال، وأما إذا كان الحكم ممدودا إلى غاية، ثم وقع بيان الغاية بعد ذلك فليس بنسخ؛ لأنه كلام ‌منتظم ‌متصل لم يرفع ما بعده ما قبله، ولا اعتراض عليه"[10]. وقال الطبري: "وقد دللنا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره على أن الناسخ لا يكون إلا ما نفى حكم المنسوخ ‌من ‌كل ‌وجه. فأما ما كان بخلاف ذلك، فغير كائنٍ ناسخا"[11] وقد اختار ابن العربي هذا المعنى فقال: يقول أيضا: "أما من قال: إن الآية منسوخة فما فهم النسخ؛ إذ بينا أنه لا يكون إلا بين الآيتين المتعارضتين من كل وجه"[12].

5- الخامس: أن يكون الناسخ في العلم والعمل مثل المنسوخ[13].
والشرط الخامس ينتهج فيه قريبا من نهج الإمام الشافعي حين رفض نسخ القرآن بالسنة؛ إلا أن ابن العربي قبل النسخ بالسنة المتواترة دون الآحاد[14]؛ لذلك يقول: "ونسخ القرآن لا يجوز إلا بقرآن مثله، أو بخبر متواتر،"[15]، وقال في المحصول: "النسخ لا يثبت إلا من البلاغ"[16]. وقال فيه في نسخ خبر الواحد للقرآن: "خبر الواحد مظنون ولا يساوي الظن اليقين فضلا أن يعارضه"[17].

6- السادس: معرفة المتقدم من المتأخر[18].
وهو أمر لا بد منه عنده قبل القول بالنسخ، قال في أحكام القرآن: "شروط النسخ أربعة[19] منها: معرفة التاريخ بتحصيل المتقدم والمتأخر. وهذا ‌مجهول ‌من ‌هاتين ‌الآيتين، فامتنع أن يدعى أن واحدة منهما ناسخة للأخرى، وبقي الأمر على حاله"[20]، وقال في موضع آخر منه: "إنما ‌يكون ‌النسخ ‌عند تعذر الجمع والجمع ممكن، وبه يتم البيان، وتستمر في سبلها الأحكام"[21]

قد ورد النسخ في أحكام القرآن لابن العربي في عدد كبير من المواضيع وبصيغ مختلفة يمكن أن نأخذ منها بعض النماذج:
هذه إذن شروط النسخ عند ابن العربي، فهل التزم بمراعاتها عند التطبيق في كتابه: "أحكام القرآن" أم خرج عنها؟
ذلك ما سيجيب عنه هذا البحث إن شاء الله[22].
النسخ[23]:بصيغة المصدر وقد ورد بهذا اللفظ مرات كثيرة يهمنا منها:
1- "... الْخَامِسُ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ مَشْرُوعَةً ثُمَّ نُسِخَتْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ[24]، فَلَمَّا ضَعَّفَهَا النَّسْخُ قَوِيَتْ بِتَقْدِيمِ الذِّكْرِ؛ وَذِكْرُهُمَا مَعًا كَانَ يَقْتَضِي أَنْ تَتَعَلَّقَ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْمَالِ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ. لَكِنَّ الْوَصِيَّةَ خُصِّصَتْ بِبَعْضِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ جَازَتْ فِي جَمِيعِ الْمَالِ لَاسْتَغْرَقَتْهُ"... (ابن العربي، أحكام القرآن، 1/445).

فيه تقرير نسخ الوصية المشار إليها بقوله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة: 180] نسخا جزئيا!!، وهذا إلى التخصيص أقرب منه إلى النسخ.

2- "المسألة الأولى: اجتمعت الأمة[25] على أن هذه الآية[26] ليست منسوخة، ‌لأن ‌النسخ ‌إنما ‌يكون في القولين المتعارضين من كل وجه، اللذين لا يمكن الجمع بينهما بحال، وأما إذا كان الحكم ممدودا إلى غاية، ثم وقع بيان الغاية بعد ذلك فليس بنسخ؛ لأنه كلام منتظم متصل لم يرفع ما بعده ما قبله، ولا اعتراض عليه"[27]. (ابن العربي، أحكام القرآن، 1/457).

3- "الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ: لَا يَأْخُذُ الزَّوْجُ مِنْ الْمُخْتَلِعَةِ شَيْئًا لِقَوْلِهِ: ﴿ فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا [النساء: 20] إلَى قَوْلِهِ: ﴿ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء: 21]. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: رَخَّصَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة: 229]، فَنَسَخَ ذَلِكَ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: بَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ. وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ بَكْرٍ إنْ أَرَادَتْ هِيَ الْعَطَاءَ، فَقَدْ «جَوَّزَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لِثَابِتٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ زَوْجَتِهِ مَا سَاقَ إلَيْهَا وَصَدَّقَ» إنَّمَا يَكُونُ النَّسْخُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ، وَبِهِ يَتِمُّ الْبَيَانُ، وَتَسْتَمِرُّ فِي سُبُلِهَا الْأَحْكَامُ". (ابن العربي، أحكام القرآن، 1/474).

4- "... لَا تَسْتَحِلُّ الزِّنَا أَوْ بِمُشْرِكَةٍ تَسْتَحِلُّهُ، وَالزَّانِيَةُ لَا يَزْنِي بِهَا إلَّا زَانٍ لَا يَسْتَحِلُّ الزِّنَا أَوْ مُشْرِكٌ يَسْتَحِلُّهُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ فَمَا فَهِمَ النَّسْخَ؛ إذْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ الْمُتَعَارِضَتَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ بَلْ الْآيَةُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا[28] عَاضِدَةٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَمُوَافَقَةٌ لَهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ نِكَاحَ الزُّنَاةِ وَالزَّوَانِي، وَأَمَرَ بِنِكَاحِ الصَّالِحَاتِ وَالصَّالِحِينَ. (ابن العربي، أحكام القرآن، 1/516).

5- فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي بَقَاءِ حُكْمِهَا أَوْ نَسْخِهِ: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ الْمُوَادَعَةِ وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ؛ ثُمَّ نُسِخَ؛ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ-[29]. (ابن العربي، أحكام القرآن، 4/227).

6- "وَقَدْ رُوِيَ، عَنْ سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: نَسْخٌ لِكُلِّ مَا تَقَدَّمَ يَعْنِي مِنْ الْأَمْرِ بِالْكِتَابِ وَالْإِشْهَادِ وَالرَّهْنِ". (ابن العربي، أحكام القرآن، 1/346).

لا يصح نسخ مثل هذا لأن الحكم لم يثبت الوجوب أصلا، وإنما غاية ما في الأمر أن بين الشرط ﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ [البقرة: 283] أن الأمر ليس للوجوب في كل حال. فكيف يدعى في مثل هذا نسخ؟ وكيف يستقيم قول الإمام ابن العربي رحمه الله: "وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ هَذَا نَاسِخٌ لِلْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ، وَتَابَعَهُمْ جَمَاعَةٌ؛ وَلَا مُنَازَعَةَ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ، بَلْ هُوَ جَائِزٌ[30]، وَحَبَّذَا الْمُوَافَقَةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَلَا نُبَالِي مِن الِاخْتِلَافِ فِي الدَّلِيلِ" (ابن العربي، أحكام القرآن، 1/345). فكيف تصح الموافقة على القول بنسخ آية مع إمكان الجمع بينها وبين غيرها، موافقة لمن لا تلزم موافقته شرعا؟

7- "الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي تَحْقِيقِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَقْوَالِ[31]: أَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهُ الزِّنَا وَالنُّشُوزُ فَقَدْ بَيَّنَّا أَحْكَامَ جَوَازِ الْخُلْعِ وَأَخْذِ مَالِ الْمَرْأَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ عَطَاءٍ[32] فَمُحْتَمَلٌ صَحِيحٌ تَتَنَاوَلُهُ الْآيَةُ، لَكِنْ لَا يُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا إنَّهُ نَسْخٌ، وَإِنْ كَانَ فِي التَّحْقِيقِ نَسْخًا[33]؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- نَسَخَ الْبَاطِلَ، وَلَكِنْ اللَّفْظَ مُجْمَلٌ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ، وَشَرْطٌ يَرْتَبِطُ بِهِ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: كَانَ فِي الزِّنَا ثَلَاثَةُ أَنْحَاءٍ فَتَحَكُّمٌ مَحْضٌ، وَنَقْلٌ لَمْ يَصِحَّ، وَتَقْدِيرٌ يَفْتَقِرُ إلَى نَقْلٍ ثَابِتٍ، وَلَمْ يَكُنْ، فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِهِ". (ابن العربي، أحكام القرآن، 1/467).

وأما ما قاله في قول من قال: كان في الزنا ثلاثة أنحاء، فقول وجيه في كل من ادعى دعوى في تسلسل تاريخ التشريع لأي حكم لم يقم عليها بينة سوى فهم له لا دليل عليه من تاريخ، ولا شهادة من حضروا نزول الوحي، ولا منطق غير قابل للرد.

8- "الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ ﴿ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [الأنفال: 75]: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ الْآيَةُ نَسْخٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمُوَالَاةِ بِالْهِجْرَةِ دُونَ الْقَرَابَةِ الَّتِي لَيْسَ مَعَهَا هِجْرَةٌ". (ابن العربي، أحكام القرآن، 2/442).
يمكن الجمع، وهو مقدم على الترجيح، أحرى على النسخ.

9- "الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي فَائِدَةِ الْآيَةِ وَلِأَجْلِ مَا سِيقَتْ لَهُ: وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ: الْأُولَى: نَسْخُ الْحُكْمِ الَّذِي كَانَ اللَّهُ قَدْ أَلْزَمَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ [الأحزاب: 52] فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ أَحَلَّ لَهُ أَزْوَاجَهُ اللَّوَاتِي عِنْدَهُ، وَغَيْرَهُنَّ مِمَّنْ سَمَّاهُ مَعَهُنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ". (ابن العربي، أحكام القرآن، 3/593).

ألا يمكن أن يكون النبي قد حُرِمَ من النساء فلم يبق له منهن: إلا زوجاته وما ملكت يمينه، أو من وهبت نفسها له ممن سمى الله في قوله: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ... ﴾ [الأحزاب: 50]، الظاهر لي أن ذلك أسلم من القول بالنسخ، وهو اختيار ابن جرير الطبري، وهو المنسجم مع السياق، قال ابن جرير: "وأولى الأقوال عندي بالصحة قول من قال: معنى ذلك: لا يحل لك النساء من بعد بعد اللواتي أحللتهن لك بقولي: ﴿ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ﴾... إلى قوله: ﴿ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ﴾ [الأحزاب: 50]. وإنما قلت ذلك أولى بتأويل الآية؛ لأن قوله: ﴿ لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ ﴾ عقيب قوله: ﴿ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ﴾ وغير جائز أن يقول: قد أحللت لك هؤلاء ولا يحللن لك إلا بنسخ أحدهما صاحبه، وعلى أن يكون وقت فرض إحدى الآيتين، فعل الأخرى منهما. فإذ كان ذلك كذلك ولا دلالة ولا برهان على نسخ حكم إحدى الآيتين حكمَ الأخرى، ولا تقدم تنزيل إحداهما قبل صاحبتها، وكان غير مستحيل مخرجهما على الصحة، لم يجز أن يقال: إحداهما ناسخة الأخرى. وإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن لقول من قال: معنى ذلك: لا يحل من بعد المسلمات يهودية ولا نصرانية ولا كافرة، معنى مفهوم، إذ كان قوله ﴿ مِنْ بَعْدُ ﴾ إنما معناه: من بعد المسميات المتقدم ذكرهن في الآية قبل هذه الآية، ولم يكن في الآية المتقدم فيها ذكر المسميات بالتحليل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر إباحة المسلمات كلهن، بل كان فيها ذكر أزواجه وملك يمينه الذي يفيء الله عليه، وبنات عمه وبنات عماته، وبنات خاله وبنات خالاته اللاتي هاجرن معه، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي، فتكون الكوافر مخصوصات بالتحريم، صح ما قلنا في ذلك، دون قول من خالف قولنا فيه"[34].

ويشهد لهذا أيضا ما روي في سبب نزول هذه آية: ﴿ لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ﴾، فقد ورد فيها أنها كانت مكافأة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين اخترن الله ورسوله والدار الآخرة[35]، وهو أقرب للمعنى، وأبعد عن ادعاء نسخ آية متقدمة في الترتيب لأخرى متأخرة عنها، ولا تاريخ معروف لنزولهما، ولا دليل على ذلك يجب التسليم له.

10- "الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَفْسِيرِهَا: وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهَا رَفْضُ النِّسَاءِ، وَقَدْ نُسِخَ[36] ذَلِكَ فِي دِينِنَا، كَمَا تَقَدَّمَ". (ابن العربي، أحكام القرآن، 4/182).

11- "الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَحْرِيرِ الْأَقْوَالِ: أَمَّا نَسْخُ بَعْضِ هَذِهِ لِبَعْضٍ فَيَفْتَقِرُ إلَى مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ فِيهَا[37]. وَأَمَّا الظَّاهِرُ فَنَسْخُ الِاسْتِنْفَارِ الْعَامِّ؛ لِأَنَّهُ الطَّارِئُ[38]؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَغْزُو فِي فِئَامٍ مِنْ النَّاسِ، وَلَمْ يَسْتَوْفِ قَطُّ جَمِيعَ النَّاسِ، إلَّا فِي غَزْوَةِ الْعُسْرَةِ"[39]. (ابن العربي، أحكام القرآن، 2/602).

تقدم أن ابن العربي لا يرى النص المتصل ناسخا بعضه بعضا، وهو هنا جعل المانع من نسخ بعض الآية لبعض هو الجهل بالتاريخ!.


"نَسَخَ + نُسِخَ: (بالبناء للمعلوم والمجهول):
وقد ورد بهذه الصيغ الثلاث في التفسير مما يتعلق بموضوعنا –من غير ما ذكر قبل- ما يلي:
12- "وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مَنْسُوخٌ[40] فَنَظَرَ إلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بِهَذَا الْوَجْهِ فَرْضًا سِوَى الزَّكَاةِ، وَجَاءَتْ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ فَنَسَخَتْ كُلَّ صَدَقَةٍ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ، كَمَا نَسَخَ صَوْمُ رَمَضَانَ كُلَّ صَوْمٍ، وَنَسَخَتْ الصَّلَاةُ كُلَّ صَلَاةٍ"[41]. (ابن العربي، أحكام القرآن، 1/19).

13- "اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ السُّجُودَ لِآدَمَ لَمْ يَكُنْ سُجُودَ عِبَادَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا سَلَامُ الْأَعَاجِمِ بِالتَّكَفِّي وَالِانْحِنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ، وَإِمَّا وَضْعُهُ قِبْلَةً كَالسُّجُودِ لِلْكَعْبَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهُوَ الْأَقْوَى؛ لِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿ فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر: 29]. وَلَمْ يَكُنْ عَلَى مَعْنَى التَّعْظِيمِ؛ وَإِنَّمَا صَدَرَ عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ لِلْعِبَادَةِ، وَاِتِّخَاذِهِ قِبْلَةً، وَقَدْ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعَ ذَلِكَ[42] فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ". (ابن العربي، أحكام القرآن، 1/27).

14- "وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ؛ وَاخْتَلَفُوا فِي نَسْخِهَا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نُسِخَ جَمِيعُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نُسِخَ بَعْضُهَا، وَهِيَ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ؛ وَالصَّحِيحُ نَسْخُهَا[43]، وَأَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ إلَّا فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ بَيَانُهُ أَوْ الْخُرُوجُ بِأَدَاءٍ عَنْهُ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ اللَّفْظُ بِظَاهِرِهِ، وَذِكْرُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ الْحَقِّ الَّذِي يَقْتَضِي الْحَثَّ، وَيَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالنَّدْبَ". (ابن العربي، أحكام القرآن، 1/102).

15- "... وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا لَزِمَهُ الصَّوْمُ، وَمَنْ كَانَ مُسَافِرًا أَوْ مَرِيضًا فَلَا صَوْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا وَلَزِمَهُ الصَّوْمُ، وَأَرَادَ تَرْكَهُ، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 185] مُطْلَقًا"[44]. (ابن العربي، أحكام القرآن، 1/113).

16- "وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْمُبَاشَرَةُ الْجَمْعُ[45]، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ يَكُنِّي، وَهَذَا يَعْضُدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: ﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 183] أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ كَذَلِكَ يَصُومُونَ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ"[46]. (ابن العربي، أحكام القرآن، 1/128).
فيه توهم حالٍ نُسِخَ، فكيف ينسخ ما يشك في ثبوته؟!

17- "...أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة: 240] وَكَانَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ حَوْلًا، كَمَا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ؛ قَالَهُ الْأَكْثَرُ". (ابن العربي، أحكام القرآن، 1/279).
يتبع


Viewing all articles
Browse latest Browse all 1343

Trending Articles