Quantcast
Channel: منتدى فرسان الحق فرسان السُـنة خير الناس أنفعهم للناس
Viewing all articles
Browse latest Browse all 1343

علماء أغنياء آثروا العلم على الملذات: ابن حزم

$
0
0
علماء أغنياء آثروا العلم على الملذات: ابن حزم
أحمد الجوهري عبد الجواد







علماء أغنياء آثروا العلم على الملذات ابن حزم




[384هـ - 994م/ 456هـ - 1064م]







هذه سيرة رجل من أكثر الناس حظًّا في الحياة؛ أرفعهم منصبًا، وأغناهم ثراءً؛ اشتغل في شبابه بالوزارة، في عهدٍ كان ربيعَ دولة الإسلام في الأندلس، وتقلَّب في أعظم نعيم العيش وأرغده، حتى كانت سررَ الملك مهادُه، وحدائقَ قصور الحكم ملاعبُه، وحاضرةَ الدنيا يومئذ محلّ إقامته؛ فأعرض عن الرياسة وترك الوزارة، وودّع الملاعب والمغاني، وتفرغ لتحصيل العلوم والفنون!







ولئن ارتاح بالُه من كدّ العيش والسعي وراء الرزق بسبب ما كان فيه والده، ثم ما كان هو فيه من منصب ومال، فإنه ما لبث أن وظّف هذا كلّه في التفرغ للعلم وتحصيله، والتأليف فيه والتصنيف، حتى لنراه بعد أمد قصير يبزّ جميعَ الأقران، ويسبق من كان أمامَه في الرتبة بمراحل، ويحوي صدره علمًا تعجز العصبة أولو الفهم من الأئمة عن جمعه وقراءته ووعيه.







على أنّ هؤلاء جميعًا من أبناء الفقراء الذين طلبوا العلم فلم يشغلهم عن طلبه شيء من الرغائب، وكان بعضهم في حرصه على طلبه يهرب من عدَمٍ محقق، أما هو فكان كلّ ما حوله من المتع والملذات يغري بالترف والدعة والكسل، فغالبَ ذلك كله، وتعلم حتى كان أحد أعلام الأندلس، بل أحد أعلام الإسلام وروّاده؛ ووصل إلى رتبة "مجتهد مطلق"، وقيل عنه: "إمام حافظ" بل : "مجدد القرن الخامس".







فسبحان الملك!



مِن رجل في مثل موضعه؛ يعيش بين الجواري الحسان، وتعزفه القيان، ويرفل في حلل النعيم، فإذا هو ليس همّه وغاية مناه وصل غانية وطول عناق، إنما مناه ما يقول هو عنه:



مناي من الدنيا علوم أبثها



... وأنشرها في كل بادٍ وحاضر



دعاء إلى القرآن والسنن التي



... تناسى رجال ذكرها في المحاضر



لا غرو إذًا أن كان صاحبنا هو ... ابن حزم الأندلسي " أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم"[1].







♦ ♦ ♦ ♦



سألني صديقٌ يومًا: من هو ابن حزم؟



أصدقكم: لم أستطع جوابه؛ إنّ من العسير على من يعرف ابنَ حزم حقًّا أن يجيب بتعريفه في كلمات، أو جمل، أو حتى في ورقات؛ ولو أن الحكمة العربية تقول: من أخصب تخيّر، إلا أنها بشأن مثل ابن حزم تنقلب لتكون: من أخصب تحيّر!







وقد طفت بذهني في مآثر الرجل الكبير أودّ الظفر بما يقرّب إلى صاحبي ما أريد قوله:



فرأيت صورة المحلّى تبرز أمامي في أجزائه الاثنى عشر؛ فقلت: هذا ابن حزم، ولو عرّفته به لكان عظيمًا، وهل في كتب الإسلام في العلم مثل المحلّى؟!



وكيف لا؟



أليس المحلّى الكتابَ الذي أفاض ابنُ حزم خلاله في شرح فقه الصحابة والتابعين، وأخرج من ذلك كنوزًا نافعة، وكشف عن معين لا ينضب ماؤه، ولا ينقطع ورّاده"[2]، واستعرض فيه آراء الفقهاء والمجتهدين جميعًا، وساق أدلتهم مستوفاة، قبل أن ينقض عليها، مبديًا رأيه فيها؛ مبددًا غمام خطئها، وجازمًا بالصواب منها، وربما خالف آراء الفقهاء جميعًا، وبالاطلاع على المحلّى يجزم المنصف أن ابن حزم كان مجتهدًا مطلقًا صاحب مذهب يتبع!







أليس المحلّى أشملَ كتب الفقه لمقاصده، حتى كان درجًا "إلى التبحّر في الحجاج، ومعرفة الاختلاف، وتصحيح الدلائل المؤدية إلى معرفة الحق مما تنازع الناس فيه، والإشراف على أحكام القرآن، والوقوف على جمهرة السنن الثابتة عن رسول الله، وتمييزها مما لم يصح، والوقوف على الثقات من رواة الأخبار، وتمييزهم من غيرهم"[3]؟!







أليس المحلّى أعظمَ الكتب الفقهية التزامًا للآثار، وتحرّيًا للأخبار، حتى إنه ليضم (12903) رأياً من آراء السلف، نسبها ابنُ حزم إلى 546 عالماً من علماء السلف، منهم من نسب إليه أكثر من (600) رأي، ومنهم من لم ينسب إليه سوى رأي واحد، بالإضافة إلى (250) مسألة نسبها إلى جماعة من الصحابة، لم يعرف لهم فيها مخالف[4]؛ ومنها نفائس انفرد باستخراجها والكشف عنها، فكان المحلّى بذلك من دواوين الإسلام المهمة، وثروة لا يُستغنى عنها.







هذا وهو لم يكمله، فكيف به لو أكمله[5]؟!



أليس المحلّى كتابَ ابن حزم مجددَ الإسلام في قرنه الخامس الذي يتحتم "أن يعرف المجددون له من قدر كتابه ما عرف العز ابن عبدالسلام"[6] حين قال: "ما رأيت في كتب الإسلام مثل "المحلى"، و"المجلى"[7]، وكتاب "المغنى" للشيخ موفق الدين؛ في جودتهما، وتحقيق ما فيهما، ونقل عنه قال: "لم تطب نفسي بالإفتاء حتى صار عندي نسخة المغنى"[8].







أليس المحلى.... أخرجني من تفكيري صوتُ صديقي يستفهمني: ألم تسمعني؟ سألتُك: من هو ابن حزم؟ فشردتَ!



نظرت فوجدت بسمةً رقيقةً ترتسم على وجهه، ذكّرتني نعيمَ الأنس ببستان ابن حزم الخصب، وأنا فيه بعدُ أتحير؛ ما الذي لصديقي أتخيّر؟!



فرأيت صورة ابن حزم تبرز أمامي؛ فإذا صورة العالم، الإمام، الجليل، المحدّث، الفقيه، مجدد القرن الخامس، فخر الأندلس، صاحب التصانيف الممتعة في المعقول والمنقول، والسنة، والفقه، والأصول، والخلاف، التي تبلغ مئات؛ فابن حزم هو أكبر علماء الإسلام تصنيفًا وتأليفًا بعد الطبري!







رأيت صورة الواله، الذي كتب في الحبّ وأصوله وأعراضه وصفاته، حتى حيّر العشاق والمحبّين؛ كيف خبر الكلام ذلكم الخبر، وسبر الأغوار ذلكم السبر؟!



حتى وُصف كتابه " طوق الحمامة" بأنه " أروع كتاب درس الحب في العصر الوسيط، في الشرق والغرب، في العالمين المسيحي والإسلامي، وأنه غير مسبوق في التراث العربي الإسلامي، فضلاً عن جسارة مؤلفه وصراحته، وجمعه في المعالجة بين التحليل النفسي، والواقع التاريخي، والتجربة الذاتية"[9].







فهل يكتب عن "العشق والعشَّاق، والإلف والألّاف، كتابة من ذاق طعمَ الحب، وعرف ما تعتلج به نفس المحبِّ، وما يختلج في ثنايا صدره من لواعج العشق"[10]. إلا محبٌّ وحبيب؟!







وذلك بأرقى عبارة، وأنقى لفظ، وأصون أدب، وأسمى حياء.



رأيت صورة الباحث والكاتب والمؤلف، الذي أربت كتبه على (400) كتاب، والمحدّث المجيد الحافظ، الذي يحوي صدره من الأحاديث والآثار ما يعجز عنه فئام من الحفاظ، عالم الملل والنحل؛ قديمها وحديثها، المجادل فيها، المناظر، قوي العارضة، شديد المعارضة، الذي ذاد عن حياض الإسلام هجمات اليهود والنصارى، ورد افتراءاتهم، وأوضح دسائسهم، وقد كانوا في الجوار يومئذ، فألقمهم حجرًا، وأعوزهم إلى الحجة لدينهم عند عامتهم! وهو في ذلك كله بليغ العبارة، بالغ الحجة، أريب!







رأيت صورة الشاعر الثائر، الذى يقارب بشعره فحولَ الشعراء، ويمتاز نثره بالبراعة في المعنى، وجودة الخيال، ونصاعة اللفظ وإشراق الأسلوب، ويجمع فيما كتب من نثر فني بين جودة التعبير وحسن التصوير، وسلامة المعنى، وعمق التفكير، وبراعة الاستهلال, وجودة الخيال، يصف خلجات النفوس ونبضات القلوب في عبارات فياضة بالأحاسيس وصور بيانية رائعة، حتى إنه ليعد في الصف الأول بين الناثرين، ولم يكن تنثره ضجة ألفاظ، بل كان معنى جميلًا عميقاً، فى ديباجة أنيقة مشرقة[11].





أكتمه ويكشفه شهيقٌ

يلازمني وإطراق طويلُ


ووجه شاهداتُ الحزن فيه

وجسمٌ كالخيال ضن نحيل


وأثبت ما يكون المرء يومًا

بلا شك إذا صحّ الدليل









رأيت صورة "الوزير" الذي وزر أربع مرات، فكان ذا حظوة ومكانة عند من وزر لهم .. "ابن الوزير" فقد تولى أبوه الوزارة - أيضًا - لثلاثة من الملوك: المنصور ابن أبي عامر، وابنه المظفر، وابنه عبد الرحمن شنجول، وهؤلاء من أعظم ملوك الأندلس، وكان ذا حظوة لديهم .. فهو إذًا الوزير ابن الوزير؛ مما كان له أعظم الأثر في رفاهية حياة الأسرة؛ سكنى في قرطبة حاضرة الأندلس، ملاصقًا للزاهرة؛ قصر الحكم؛ وجاهًا عريضًا توفّره الوزارة، وثراء وغنى، فارتاح البال من كد العيش، والسعي وراء الرزق، فنشأ وعاش طويلًا في تنعم ورفاهية، حتى إن الأسرة امتلكت قرية بأسرها هي قرية "منت ليشم" المعروفة بـ "مونتيخار" حالياً، وهي عزبة قريبة من ولبة، وهي ذات القرية التي قضى ابن حزم بها آخر أيامه.



العالم، والمحب، والمناظر، والشاعر، والوزير، بل والثائر، كل هؤلاء رأيتهم في شخص ابن حزم؛ فهالني أن تجتمع كلّ هذه الصور في شخص واحد، وأكبرت أن يعبر عن هذه الصور كلها كلمةٌ أو كلمات، أو جملةٌ أو عبارات!







وتساءلت: أنّى لي بالتعبير عن هذه النفس الكبيرة في علوها، العظيمة في شرفها؟!



ولو لم يذكر له من منقبة أو فضيلة إلا أنه الصادع بالحق - بعد ما تبين له - في ميادين الحقّ والكفاح، كما كان يصدع بالحق - بعد ما تحقق له - في ميادين العلم والكتاب والصفاح؛ لكفى!



لقد كان ابنُ حزم - رحمه الله - عالمًا حرًّا؛ تمذهب أولَ أمره بمذهب مالك وعايش بيئة المالكية العامرة في أرض الأندلس، ثم تحول عنه إلى مذهب الشافعي وتبحر فيه وناضل عنه حتى وسم به، واطّلع في أثناء ذلك على مذهب أبي حنيفة.



لكنه لم يرض لنفسه ودينه أن يتبع واحدًا من هذه المذاهب –مع إجلاله لأصحابها- بعدما رُزق واسعَ الاطلاع على السنن والآثار، وحوى صدرُه الدليلَ وقلبُه الحججَ والبراهين، إلى جوار ما كان يجمعه من فنون جمّة ويشارك فيه من علوم كثيرة، مع ثقافة متشعّبة في العديد من المجالات، وإلمام بعلوم اللغة والأدب، واطلاع مستمر على الكتب والمؤلفات المختلفة؛ لقد كان واسع الاطلاع جداً على كتب ومصنفات ودوواين، ربما لم يسمع باسمها كثير من علماء زمانه، وفّرتها له مكتبة ذاخرة بالنفائس ورثها عن أبيه، بل قيل: "ما دخل الأندلس رجلٌ أكثر اطلاعاً من ابن حزم، بل ما يساويه، في الاطلاع، في تاريخ الإسلام، إلا قلائل، وفوق كل ذي علمٍ عليم"[12].







هذا كلّه إلى جانب ما كان يتمتع به من ذكاءٍ مفرطٍ وذهنٍ سيّالٍ.



فما ملك - بعد هذا كله - إلا أن يسلك طريق "نبذ التقليد وتحرير الاتباع"، ليأخذ من هذه المذاهب ما وافق الحقّ الذي تبين له، ويترك ما قامت الحجة لديه بأنه ضعيف أو مرجوح، وقد تكلم ابن حزم بهذا، وأشاعه، حتى عرف عنه، فنفرت عنه القلوب، ووقعت به الندوب، وثارت ضده الحناجر، حتى استُهدف لفقهاء وقته، وناظره مقدمو القوم وأئمتهم، فأفحمهم ابنُ حزم حين أبان عن بليغ الحجة، وقوة العارضة، وكان في المناظرة كما يقول ابن حيان: «يصك معارضه صك الجندل».







فماذا فعل القوم وجاهه؟!



لقد "تمالؤوا عليه، وأجمعوا على تضليله، وشنعوا عليه، وحذروا سلاطينهم من فتنته، ونهوا عوامهم عن الدنو منه .. ولم يبق عالم يخالفه إلا ناظره فغلبه بالحجة وأفحمه بالمحجة، فأوجد ذلك شيئًا في قلوبهم عليه، وكان -إلى جوار ذلك- ذا حدة ظهرت كثيرًا في جدله، حتى قيل عنه: "لسان ابن حزم في المغرب كسيف الحجاج في المشرق".







وقد طفق الملوك يقصونه عن قربهم، ويسيرونه عن بلادهم إلى أن انتهوا به منقطعَ أثره: قريته، تلك التي امتلكها أجداده!



بقي بها حتى مات في عام 456هـ، وقد جاوز التسعين؛ مكبًّا على العلم، مقبلًا على تدريسه، وهذا هو الذي أسعده، وأفرحه، وملأ قلبه، ونفى غيظه، كما يعبر عن ذلك فيقول: "غاظني أهل الجهل مرتين من عمري؛ أحدهما: بكلامهم فيما لا يحسنونه أيام جهلي، والثاني: بسكوتهم عن الكلام بحضرتي، فهم أبداً ساكتون عما ينفعهم، ناطقون فيما يضرهم.



وسرني أهل العلم مرتين من عمري؛ أحدهما: بتعليمي أيام جهلي، والثاني: بمذاكرتي أيام علمي[13].







ولعل هذا يفسر لنا قناعته بالنفي، وزهده في الرئاسة، ولزومه منزله مكبًّا على العلم وتعليمه، فلم يحاول الفرار، أو الكرار! حتى صار فوق ما كان، بل ربما استفاد من هذه المعركة الحامية فوظف حقدها وحسدها وضرامها وضراءها في المضيّ قدمًا نحو ما يريده ويصله بما ينفعه، وكيف لا؟ وهو القائل: "لكل شيء فائدة، ولقد انتفعت بمحكّ أهل الجهل منفعة عظيمة، وهي أنه توقد طبعي، واحتدم خاطري، وحمي فكري، وتهيج نشاطي، فكان ذلك سبباً إلى تواليف لي عظيمة المنفعة، ولولا استثارتهم ساكني، واقتداحهم كامني، ما انبعثتُ لتلك التواليف[14].



الحقّ أنه لو قيل: إن ابن حزم كان عالم الأندلس غير مدافع، ما عدا هذا القائل الحقيقة قيد أنملة، بل أزيد: كان ابن حزم ولا يزال أحد أعلام علماء الإسلام المعدودين.



لكن .. أهكذا يقابل الرأي والفكر والنظر؟



بالبطش والقوة والقهر والنفي!







ولنعم ما قي:



بلاء ليس يعدله بلاء



... عداوة غير ذي حسب ودين



يبيحك منه عرضًا لم يصنه



... ويرتع منك في عرض مصون







ربما كان هذا بحد ذاته الذي جعل ابن حزم لا يقنع بموقفهم، ولو تكاثرت أعدادهم، وامتد سلطانهم؛ إذ نظر إليهم وإلى نفسه؛ فرأى حجتهم السطوة والسلطة وأما هو فحجته العلم والدليل والرأي ولذا حمل علمه هذا وجادل عنه من خالفه؛ اقتناعًا بما يقوله واستنادًا "إلى العهد الذي أخذه الله على العلماء: ﴿ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ﴾، فلم يك يلطف صدعه بما عنده بتعريض ولا بتدريج، بل يصك به من عارضه صك الجندل، وينشقه إنشاق الخردل"[15]!







فلم يكن ليرجع - وهو كذلك - عن رأيه، بل هو سائر في ذلك غير مرتدع ولا راجع، يبث علمه فيمن ينتابه من بادية بلده، من عامة المقتبسين من أصاغر الطلبة، الذين لا يخشون فيه الملامة؛ يحدثهم ويفقههم ويدارسهم، حتى كمل من مصنفاته وقر بعير[16]!







تلك الكتب التي أحرقت في عهد المعتضد بن عباد، فلم توهن عزيمتة ابن حزم وراح يعزي نفسه في مصابه بها بقوله:





فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي

تضمنه القرطاس بل هو في صدري


يسير معي حيث استقلت ركائبي

وينزل أن أنزل ويدفن في قبري


دعوني من إحراق رقٍّ وكاغدٍ

وقولوا بعلم كي يرى الناس بدري


وإلا فعودوا في المكاتب بدأة

فكم دون ما تبغون للَه من سترِ









انقلب الدهر على ابن حزم إذًا؛ أدبرت عنه لذاته، وتوالت عليه فجائعه، فصدق فيه قوله:





هل الدهر إلا ما عرفنا وأدركنا

فجائعه تبقى ولذاته تفنى


إذا أمكنت فيه مسرة ساعة

تولت كمر الطرف واستخلفت حزنا









ولا عجب فهذا شأن أولي الفضل:



ذو الفضل كالتّبر طَورًا تحت ميفعة ♦♦♦ وتارة في ذرى تاج على ملك







♦ ♦ ♦ ♦



لقد تعجبت كثيرًا لهذه المقابلة: "فكر وسيف"، أو "لسان وقوة"، وتفكّرت في أسبابها طويلًا؛ أتساءل: ما عساه يكون وراءها من أسباب خفية؟



يقول البعض: هو حسد العلماء.



وأقول: ربما.



ويقول آخر: هو التعصب المذهبي!



وأقول: ربما.



وأنا أقول: آلعلماء فقط؟



فهذه الأسباب كلها تتعلق بهم لا بغيرهم!



صحيح أن ابن حزم غلبهم، وقبح أقوالهم، وأظهر عجزهم، وطعن –كما أشاعوا- في أئمتهم.







لكن أفليس للملوك في ذلك يد؟! خاصة إذا تأملنا استجابة الملوك السريعة بإبعاد ابن حزم، فمنذ متى كان الملوك في طاعة العلماء لهذا الحد، حتى نراهم لا يكتفون بالنفي، بل يزيدون عليه هدم دوره، ومصادرة أمواله، بل وأحرقَت كتبه في حاضرة المملكة؛ "إشبيلية"، وفُرِض عليه ألاّ يغادر بلدة أجداده "منت ليشم"، وألا يُفتي أحدًا بمذهب مالك أو غيره، بل توعّد من يدخل إليه بالعقوبة!! إن هذا لشيء عجاب!







أكلّ هذا لأجل فقهاء حاسدين، أو متعصبين، أو مغلوبين، أو حتى منتفعين من مناصبهم؟! ألا نجيل النظر في الأحوال لنرى، علّ النظر يرتد إلينا بشيء مقنع؟!







فلأفعل!



يلفتني في الأحوال أن ابن حزم كان وزيرًا أمويًّا، وكان والده كذلك؛ حتى إنه ليشار في ترجمته إلى " اتجاهه للحزب الأموي وعمق ولائه لأمرائه وخلفائه"، وكل ذلك كان سببًا في حب ابن حزم، بل تعصبه، لبني أميّة؛ أصحاب لواء الخلافة بالأندلس.







ويُلفتني في الأحوال أيضًا أنّ الفترة التي عاش فيها ابن حزم - فترة ملوك الطوائف - كان أبرز خصائصها ضياعُ وحدة المسلمين وانقسامهم إلى فئات متناحرة، مما كان له أثره في ضعف شوكة الإسلام وضياع هيبته في الجزيرة، وصل ذلك الأثر إلى أنّ ملوك الأندلس تعهدوا بدفع جزية سنويّة لملوك النصارى، الأمر الذي أزعج كثيرًا من الأحرار علمائهم –ومنهم ابن حزم- وعامتهم، وكان ذلك الوضع المخزي يشبع القلوب حنينًا إلى راية الخلافة الذاهبة الزائلة التي كانت يومًا رمز الوحدة والعزة والهيبة!







ويُلفتني أيضًا في هذه الأحوال أن ملوك إشبيلية - أكبر ممالك الطوائف في الأندلس - قررت استغلال هذا الحنين الجارف بشيء زائف، فاستغلوا وجود شبه كبير في الخَلق بين بائع حصر يدعَى "خلف الحصري" وهشام المؤيد بالله آخر خلفاء بني أمية، فأشاعوا بين الناس أنهم عثروا بالخليفة هشام - وذلك بعد اثنتين وعشرين سنة من موته، وكان الناس في شك من أمر موته- وأنهم ينوون إرجاع عهد الخلافة الزاهر!







وكانت خدعة شبيه هشام هذا صنيغة قاضي إشبيلية محمّد بن إسماعيل (ابن عبّاد) بهدف تقوية أمره به وإنعاش دولته، وقطع أطماع ملوك الطَّوائف عنها، بل زاد فكتب ابن عبّاد إلى ملوك الأندلس يرغِّبهم في طاعة المؤيد هشامٍ المزعوم، وأقام نيفاً وعشرين سنة، يُخطب له على المنابر ويُدعى بأمير المؤمنين، وحجابه من آل عباد يحكمون البلاد على الحقيقة، ومات - الحصري - في أيام المعتضد، فأخفى موتَه إلى أن أحكم أمره، ثمَّ أظهر ذلك سنة 451هـ[17].







ذلك الهراء لم يكن ليروج على ابن حزم!



فها هو الصّفديُّ ينقل في "أعيان العصر" عن أبي محمّد بن حزم قال: «أنذرنا الجفلى لحضور دفن المؤيّد هشام بن الحكم، فرأيت أنا وغيري نعشاً، وفيه شخص مكفَّن، وقد شاهد غسله رجلان شيخان حكمان من حكَّام المسلمين من عدول القضاة، وخارج البيت أبي رحمه الله تعالى وجماعةٌ من عظماء البلد، ثم صلَّينا عليه في ألوف من النّاس، ثم لم نلبث إلا شهوراً نحو التِّسعة، حتى ظهر حيًّا، وبويع بالخلافة، ودخلت إليه أنا وغيري وجلست بين يديه، وبقي كذلك ثلاثة أعوامٍ غير شهرين وأيام، حتى لقد أدى ذلك إلى توسوس جماعةٍ لهم عقولٌ في ظاهر الأمر، إلى أن ادعوا حياته، وزاد الأمر حتى أظهروا بعد ثلاث وعشرين سنة من موته على الحقيقة إنساناً -يريد خلفاً الحصري- قالوا: هو هذا، وسفكت بذلك الدِّماء، وهتكت الأستار، وأخليت الدِّيار، وأثيرت الفتن»[18].







لذلك يحملني التأمل على القول بأن الأمر لم يكن عن حسد علماء، أو تعصب فقهاء فحسب، بل كان ذلك الظاهر هو الرماد، ووميض الجمر من تحته كان خشية الملوك لسان ابن حزم الذي ما يفتأ يتحدث بهم عند العامة، فيزري بمواقفهم، ويكشف للناس أكاذيبهم، ويحرّض العامة على العمل لتحقيق حنينهم إلى خلافة تحمي دينهم وتحميهم.







ويؤيد ذلك أن الموقف من ابن حزم قد بدأ مبكّرًا، حتى قبل أن يجتهد بانفرادٍ عن المذاهب؛ حين كان على مذهب الشافعي، فما أن تمذهب به، وعرف عنه، وناصر آراءه، حتى بدت ردة الفعل عنيفة، وليست ردة فعل من يتعصب لمذهب على آخر!







أوَ يكون تمذهب ابن حزم بمذهب الشافعي ومخالفته مذهبَ مالك فقط –وإن كان مذهب سائر الأندلسيين رسميًّا وشعبيًّا- سببًا لعداوة فقهاء الأندلس له؟







ولعل عبارة أبي مروان ابن حيان تفصح بوضوح، عما أريد قوله، وهذا نصُّها: "ومال –أي ابن حزم - أولًا إلى النظر على رأي الشافعي، وناضل عن مذهبه، حتى وسم به، فاستهدف بذلك لكثير من الفقهاء، وعيب بالشذوذ"!







دار الكلام بخاطري سريعًا كالبرق، وتساءلت بعده: هل هذا يفي بتعريف ابن حزم لدى صديقي؟!







فلم ألبث أن انتبهت على هزات خفيفة بمنكبي، كأنني أحلم، وصديقي تعاتبني عيناه؛ أكل هذا لسؤال سألتكه، أتراك لا تعرف الجواب، أم ما لك تتمنّع؟!







ابتسمت بدوري وبادرت: ما جهلت، ولا تمنّعت، إنّما أحاول أن أمدّ يدي لأقطف لك شيئًا من بستانه، يغنيك في تعريفه، فيستعصي على نفسي أن أقول لك بشيء فيه: هذا هو ابن حزم، فتكون رأيت شيئًا منه، ولم تره كلّه، فلا تقدره وقتئذ حقّ قدره!



أيا صديقي السائل!



إنك سألتني: من هو ابن حزم؟



وجوابي لك: ابن حزم؛ هو ابن حزم.



أخي القارئ! هذه صورة ابن حزم، انطبعت في ذهني أنا، نتيجة قراءاتي في كتب ابن حزم، وقراءاتي عنه، وأحسبها لا توفي ابنَ حزم حقه، فلست أزعم بها، ولا أحلّ لأحد أن يزعم فيها أنها ترجمة لابن حزم!







♦ ♦ ♦ ♦



هذا شيء - أو كما قلت: انطباع - من سيرة ابن حزم؛ الوزير ذي المناصب، الثريّ ذي الغنى، الذي هجر ملذات الجاه ومتاع الحياة، إلى متعة ولذة رآها أعظم وأكبر من كل هاتيك الملذات.







وعودًا على بدء؛ يجدر بنا أن نسوق هذا الخبر نختم به هذه العبر، لعله يجد من يقفو الأثر:



ناظر ابن حزم علماء عصره؛ وممن ناظر أبا الوليد الباجي مقدّم المالكية في زمانه؛ فغلبه، وكان أبو الوليد فقيرًا بينما ابن حزم من علمنا؛ فقال الباجي -كأنه يعتذر بذلك عن هزيمته- أمام ابن حزم: «أنا أعظم منك همة في طلب العلم؛ لأنك طلبته وأنت معان عليه؛ تسهر بمشكاة الذهب، وطلبته أنا، وأنا أسهر على قنديل من قناديل الحرس».



فقال ابن حزم: "هذا الكلام عليك لا لك؛ لأنك إنما طلبت العلم وأنت في تلك الحال رجاء تبديلها بمثل حالي، أما أنا فلم أرج إلا علو القدر في الدنيا والآخرة"[19].







يا لله على هذه النفس الأبية، لقد "نشأ بين النساء وعرف من أسرارهن ما لم يعرفه أحد.. وحفظه الله من الحرام فنشأ بينهن عفيفًا .. لكن نفسيته استوت بين الرجال صعبة المراس خشنة القياد"[20].



هذه النفس التي صنعت رجلا استفاد منه كل من جاء بعده، حتى العز ابن عبد السلام وابن تيمية وابن القيم وجميع من خالفوه قد استفادوا منه، ولشدة تأثيره في قارئه وفي واقعه سمّوه منجنيق الغرب أو منجنيق المغرب.







ولعل السؤال الذي يرد على الذهن وجاه هذا الخبر هو : كيف استطاع ابن حزم النجاة من هذا، أو الترفع عنه؟



والجواب: قد أعانه على ذلك أمران:



الأول: أن والده - رحمه الله - وكل به رقيبات عليه.. وما أصعب رقابة النساء.



والثاني: أن الذي تولى رعايته في صباه هو أبو علي الفاسي وكان رجلًا متواضعًا عفيفًا فغرس العفة في ابن حزم، فلم يكشف إزاره على حرام قط منذ سن البلوغ"[21]!







ثم أمّا بعد، ففي سيرة ابن حزم فوائد فرائد، أهمها:



أن طالب العلم قد ينجح في التمهّر بفنون عديدة، لا بفنّ واحد، فليطرح عن باله التفكير بالاستحالة والعجز، وليخل الفتور والعجز، وليسرج دابته ويشد عزيمته ويتخذ أهبته ويضنى لأجل غايته يصل بإذن الله.



إن من الشائعات التي ترسخت في أذهان العالمين مؤخرًا القول بأن عصر العلماء الموسوعيين انتهى بلا رجعة ولم يعد بالإمكان أن يكون لدينا عالم متبحر في فنون العلم المختلفة من تفسير وعلومه وحديث وعلومه ولغة وعلومها وبقية علوم الشريعة!



ويعللون ذلك بأن العلوم قد تقسّمت وتجزّأت فاتسعت بحورها وأنهارها وكثرت مجاريها وقنواتها ولم يعد إلى الإلمام بها من سبيل!



وهذه دعوى خطيرة، سلم لها كثيرون، فحملت نتائج ضارّة وتسببت في خسائر فادحة، لعل من أكثر النتائج ضررًا ما اتجه إليه البعض من القول بتجزؤ الاجتهاد! وهو قول قديم معروف مشهور .



ثم وجدنا من العلماء وطلاب العلم - حديثًا - من ذهب إلى القول بالتخصص - لا في علم من العلوم - بل في كتاب واحد من كتب هذا العلم!



ولا أدري كيف يصح التخصص دون شمولية!



أو كيف يقبل الاجتهاد ممن لا يحسن إلا جزءا من العلم والفقه!



وقد تسببت هذه الدعاوى في وقوع خسائر فادحة ، لا تقل في فداحتها عن الخسائر التي نجمت عن القول بإغلاق باب الاجتهاد الذي تبناه البعض في الفقه والبعض الآخر في الحكم على الأحاديث!



خسرنا بها عقولًا كبيرة ضاقت عن السعي والإنتاج، وهممًا عالية أخمدت جذوة نشاطها تلكم الدعاوى.



وفي واقعنا المعاصر أمثلة تجاوزت هذه الدعوى ولم تلتفت إليها؛ فكان أن ضربت المثل لكنهم قلة قليلة، ولولا تلك الشائعة لكان لنا - إن شاء الله - واقع أفضل.







ملحوظة: لست أدعو هنا إلى فوضى التبديد، وفي الذهن ضوابط الموسوعية حتى لا يحصل الإفراط في مقابل التفريط.



والخلاصة: العالم الموسوعي حقيقة ، ممكنة، سهلة، لمن سعى إليها بجد واجتهاد.



وفوائد أخرى لا يعدمها المتأمل في سيرة عالم هو رأس في علوم الاسلام ، متبحر في النقل، عديم النظير[22].







[1] للاستزادة من أخبار ابن حزم راجع: سير أعلام النبلاء، للذهبي ج 18، وجذوة المقتبس، للحميدي، البداية والنهاية للحافظ ابن كثير ج 6، وغيرهم في القديم، وفي الحديث: كتاب "ابن حزم ... حياته وعصره آراؤه وفقهه" للعلامة محمد أبو زهرة، وكتاب "ابن حزم الظاهري وأثره في المجتمع الأندلسي"، وهو أطروحة للماجستير للدكتور عبد الباقي السيد عبدالهادى الظاهري، وسيرة ابن حزم، لـ سهير فضل الله، وكتاب "ابن حزم خلال ألف عام" لـ أبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري.



[2] ابن حزم (ص 4)، أبو زهرة.



[3] المحلى (1/ 169)، المنيرية.



[4] ابن حزم وجهوده في البحث التاريخي، (ص96)، د. عبد الحليم عويس رحمه الله.



[5] الكلام حول تكملة المحلى؛ هل هي لابن حزم أيضًا ، أو لولده أبي رافع؛ كلام طويل الذيل، فليرجع إليه في المقدمات التحقيقيّة للكتاب.



[6] من كلمات الأستاذ محمد رشيد رضا رحمه الله.



[7] "المحلى"، و"المجلى"، كلاهما لابن حزم، والأول شرح فيه الثاني.



[8] المقصد الارشد (2/ 18)، لابن مفلح، مكتبة الرشد.



[9] مقدمة كتاب طوق الحمامة (ص 9، 10) بقلم ، الدكتور الطاهر أحمد مكي، نقلا عن كتاب ابن حزم وجهوده في البحث التاريخي (374)، د. عبد الحليم عويس، الزهراء للإعلام العربي.



[10] في الكلام قبسات من كتاب ابن حزم (8)، أبو زهرة.



[11] نفسه.



[12] مقال " منهج ابن حزم الأندلسي الظاهري" موقع الشيخ محمد الأمين بقلمه، ولعله تفريغ محاضرة.



[13]الأخلاق والسير (ص: 68)، ابن حزم الأندلسي.



[14] الأخلاق والسير (ص: 111)، ابن حزم، دار المشرق العربي، القاهرة.



[15] سير أعلام النبلاء (18/ 201).



[16] نفسه.



[17] انظر ترجمة هشام المؤيد بالله، في موقع المعرفة - موسوعة على الشابكة.



[18] أعيان العصر (1/ 226).



[19] نفح الطيب ، (2/ 282)، المقري، وانظر: مناظرات في أصول الشريعة الإسلامية بين ابن حزم و الباجي، دكتور عبد المجيد تركي، دار الغرب الإسلامي.



[20] من مقال: " ابن حزم "، عبدالله عمر خياط، عكاظ (13 / 8 / 1435 هـ11 يونيو 2014 م).



[21] نفسه.



[22] التقيت ابن حزم ثلاث مرات؛ في كتابي "صفعات قادت إلى الخيرات" متناولًا سبب تحوّل ابن حزم إلى طلب العلم، وتوجهه إلى ساحته، ومنافسته فيه، حتى صار أحد الأئمة، ومجدد القرن الخامس. ثم هنا في كتابي: "علماء أغنياء آثروا العلم على الملذات"، وهو هذا، وأخيرًا في كتابي "ملوك بلا تيجان" متناولًا مواقفه في الصدع بالحق، وإصراره على محاكمة الملوك إلى أحكام الشريعة، وفي النفس شوق إلى الاجتماع به مرات ومرات، فبعيد أن لا يجد الطالب جديدًا في حياة ذلك الجبل كلما طالعها.















Viewing all articles
Browse latest Browse all 1343

Trending Articles