قلب التفكير وإحداث التغيير الإيجابي
د. مطيع عبدالسلام عز الدين السروري
قرأت لصديقي تفريغًا لمكالمة قصيرة (مكتوبة في مقال) لإحدى المدرِّسات، أجرَتْ فيها اتصالًا بمديرة مدرسة، تشكرها على قبولها في المدرسة، وفي نفس الوقت تعتذر منها بأنها لن تستطيع أن تقبل العَرْض؛ لأنها وجدت عرضًا أفضل في مدرسة أخرى.
قال لي صديقي بعد أن رأى تاريخ المكالمة المكتوبة (2004م): "إنها قديمة"، ولكنه بعدما عرَف أن هذه المكالمة هي فقط مقدِّمة لمقالٍ يُقدِّم النصح لمُديري المدارس، وليس للمدرسين الذين يتقدمون للعمل - تراجع عن كلامه القائل بأن تاريخ تلك المكالمة قديم، وحلَّت الدهشة لديه محلَّ الرأي.
المقال الذي وردتْ فيه تلك المكالمة يُسدي النصح لمُديري المدارس، ويحثهم على أن يكونوا أذكياء مع المتقدِّمين للعمل عندهم؛ لأن - برأيه - المتقدِّمين عادةً يكونون أذكياء، ولن يقبلوا أن يعملوا في مدارس لا يمتازُ مُديروها بالقيادة، والذكاء، والترتيب، والنظافة، وحسن الأخلاق.
الشاهد:
المقال غير عادي لكونه يُقدِّم النصح للمُديرين، وليس كما يتوقع منه لأول وهلة أن يقدِّم النصح لمن يتقدم لعمل ما.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: مَن محتاج لمن؟ هل المديرون بحاجة للمتقدمين، أم المتقدمون بحاجة للمديرين؟
قد لا تستغرب من هذا الكلام إذا عرَفت أن هذا المقال يُسدي النصح للمديرين في الدول المتقدِّمة - والقصد بـ "المتقدمة" هو التقدم في أساليب الحياة المعيشة؛ من خدمات متنوعة، وبِنية تحتية، وطرق وأساليب تعليم، وصناعة...، إلخ - وليس لمديرينا في دول العالم المتأخر جدًّا في هذه الأمور.
2004م ليست سنة قديمة جدًّا، صحيح نحن الآن في 2016م، ولكن 12 سنة ليست بالفترة الزمنية التي يمكن القول عنها: إنها كبيرة؛ لأن الفجوة الزمنية بين بلداننا وبلدان العالم المتقدم - بالمفهوم الذي وضَّحته أعلاه - أكبر من ذلك بمراحل زمنية طويلة جدًّا تفوق الخيال للأسف الشديد.
أسئلة كثيرة وهموم لا تنفك تراود ذهن الشباب العربي:
• متى أكون - بصفتي مواطنًا يبحث عن فرصة عمل - مخيَّرًا لأختار أماكن العمل المناسبة لي ولمهاراتي ولكفاءتي؟
• متى أكون مخيرًا لأختار بين مَن يستحق مهاراتي وكفاءتي، وبين مَن قد لا يستحقها؛ لأنه قد يهدرها ويهدر جزءًا من عمري الثمين معه، وكل جهدي وفكري، بدون أي تقدم يمكن أن يتم لي وله، وفي المحصلة النهائية للوطن؟
المتعارف عليه في أوطاننا العربية، والذي لم نُفكِّر حتى في عكسه، هو أن المديرين - سواء كانوا رؤساء دول، أو وزراء، أو مديري شركات أو جامعات، أو غير ذلك مما صغُر أو كبُر من أعمال - هم المتسيدون؛ هم من يُخْطَبُ ودُّهم، هم مَن يتم البحث عن "واسطة" لقَبول الباحثين عن فرص عمل عندهم، وليتكرموا عليهم بالقَبول، بالرغم من أن العملية هي أصلًا تبادلية قائمة على المنفعة.
في وطننا العربي، المتعارف عليه عند المديرين أو أصحاب العمل، هو أن لديهم "موظفين"، أو أناسًا يبحثون عن "وظيفة"، وليس أناسًا ذوي مهارات وكفاءات، قادرين على تسيير الأعمال بما يحقق الجودة في الخدمات المقدمة، وبالتالي الربح المادي لأماكن العمل التي يعملون فيها.
تكاد تندر - إن لم تنعدم - الكتابات والمقابلات، واللقاءات والندوات والمؤتمرات، التي تُسلِّط الضوء على أرباب الأعمال وتوعيتهم بأهمية العاملين معهم، مقابل تلك التي تخاطب الطرف الضعيف دائمًا، وهو الباحث عن العمل؛ لذلك ترى مَن هم في مستوى القيادة متسلطين دائمًا؛ لأنهم لا يعون أهمية الأمر بالاهتمام بالعاملين لديهم.
كنت دائمًا أقول - وما أزال -: إن معظم ساستنا وقياداتنا، وأصحاب الأعمال في بلداننا العربية، إلا من رحم الله - تجَّارٌ جهلاء للأسف، مقارنة بسيطة فقط بينهم وبين أصغر رجال الأعمال في الدول المتقدمة، تجعلُك تلاحظ الفرق بين التجارة الغبية والتجارة الذكية.
ماذا يعني أن يمتلك كثيرٌ من ساستنا وقياداتنا، وأصحاب الأعمال عندنا في الوطن العربي بضعَ مليارات من الدولارات، وهم مَن يفترض بهم أنهم يقودون دولًا، وليس شركات؛ دولًا ذات إمكانيات كبيرة جدًّا، تفوق إمكانيات الأفراد والشركات مجتمعة؟
مثلًا، صاحب شركة "فيسبوك" الفتية، والذي يبلغ الثانية والثلاثين من العمر فقط، حقَّق في وقت وجيز، بفكرة بسيطة جدًّا، ما لم تستطع دولُنا - أو حتى شركاتنا التجارية - تحقيقه، وغيرُه كثيرٌ بلا شك، والسبب بسيط جدًّا أيضًا، وهو احترام زبائنه، واحترام العاملين لديه، واحترام نفسه قبل كل شيء.
العامل البشري هو أساس قيام المجتمعات، وأساس البِنَى الاقتصادية والصناعية بكل أشكالها.
• عندما لا تهتم بالعامل البشري، عندما لا تهتم بالعاملين معك في شركتك أو تحت إدارتك.
• عندما لا تهتم بمَن هم أصلًا سبب وجودك في مكانك الذي أنت فيه.
• عندما لا تهتم بزبائنك الذين تُقدِّم لهم خدماتك.
• عندما لا تهتم بمَن يريد الالتحاق بالعمل معك (وليس لديك).
• عندما لا تهتم بالمنتَج الذي تقدمه.
• عندما لا تهتم بكل ذلك، فسوف تحقق فقط أدنى إمكانات الربح وليس غير ذلك؛ لأن عملك يكون أصلًا يتحرك بقوة دفع استغلال الناس وحاجاتهم فقط، وهذا هو للأسف ما يحدث في أكثر مؤسسات وشركات عالَمنا العربي.
إننا بحاجة لتغيير دفَّة التفكير والكتابات المتنوعة والمختلفة؛ بحيث تتركز على القائمين في دولنا ومؤسساتنا المختلفة، وليس فقط على الطرف أو الحلقة الأضعف، أغلب أولئك القائمين على مؤسساتنا هم أصلًا سبب نكباتنا المتلاحقة بطرق تفكيرهم البدائية والمدمرة لآمال وأحلام الشباب العربي المتطلع للنهوض وموازاة الأمم المنتجة.
إنهم لا يلقون بالًا بمَن ينتج أو سينتج منتجاتهم، ومن يستخدمها أو يستهلكها.
الرئيس أو المدير هو شخص واحد، ولكن أداءه يؤثر على كل العاملين معه؛ إما يدفعهم للإبداع، أو يُعيق أو يحجم تقدمهم على أقل تقدير؛ شخص واحد أو فئة قليلة مقابل مجموعة عمل كبيرة كاملة.
الإنسان ممكن أن يعيش بدون يدٍ أو رجل أو كُلْية أو مَعِدة... إلخ، لكن لا يستطيع أن يعيش بدون الأجزاء العليا فيه؛ مثل القلب، أو الرأس، أو الرئتين؛ فتسليط الضوء على فعالية وكفاءة الأجزاء العليا من الجسد، ومحاولة تحسينها - أهمُّ وأولى، وخاصة في أوقات الأزمات مثل التي تمر بها بلداننا العربية والإسلامية في الوقت الحاضر.
أكتب هذا الكلام وأنا أعي تمامًا أن بلداننا العربية تعيش فترة تعيسة جدًّا من حياتها، وأعرف تمامًا أن كلامي هذا أقل مِن أن يُغيِّر وضعًا صعبًا؛ وإنما هو محاولة ومساهمة بسيطة لإضاءة جزء بسيط من سواد الليل، وأيضًا ليعرف شبابنا أننا نقاوم ولو بكلمة.
د. مطيع عبدالسلام عز الدين السروري
قرأت لصديقي تفريغًا لمكالمة قصيرة (مكتوبة في مقال) لإحدى المدرِّسات، أجرَتْ فيها اتصالًا بمديرة مدرسة، تشكرها على قبولها في المدرسة، وفي نفس الوقت تعتذر منها بأنها لن تستطيع أن تقبل العَرْض؛ لأنها وجدت عرضًا أفضل في مدرسة أخرى.
قال لي صديقي بعد أن رأى تاريخ المكالمة المكتوبة (2004م): "إنها قديمة"، ولكنه بعدما عرَف أن هذه المكالمة هي فقط مقدِّمة لمقالٍ يُقدِّم النصح لمُديري المدارس، وليس للمدرسين الذين يتقدمون للعمل - تراجع عن كلامه القائل بأن تاريخ تلك المكالمة قديم، وحلَّت الدهشة لديه محلَّ الرأي.
المقال الذي وردتْ فيه تلك المكالمة يُسدي النصح لمُديري المدارس، ويحثهم على أن يكونوا أذكياء مع المتقدِّمين للعمل عندهم؛ لأن - برأيه - المتقدِّمين عادةً يكونون أذكياء، ولن يقبلوا أن يعملوا في مدارس لا يمتازُ مُديروها بالقيادة، والذكاء، والترتيب، والنظافة، وحسن الأخلاق.
الشاهد:
المقال غير عادي لكونه يُقدِّم النصح للمُديرين، وليس كما يتوقع منه لأول وهلة أن يقدِّم النصح لمن يتقدم لعمل ما.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: مَن محتاج لمن؟ هل المديرون بحاجة للمتقدمين، أم المتقدمون بحاجة للمديرين؟
قد لا تستغرب من هذا الكلام إذا عرَفت أن هذا المقال يُسدي النصح للمديرين في الدول المتقدِّمة - والقصد بـ "المتقدمة" هو التقدم في أساليب الحياة المعيشة؛ من خدمات متنوعة، وبِنية تحتية، وطرق وأساليب تعليم، وصناعة...، إلخ - وليس لمديرينا في دول العالم المتأخر جدًّا في هذه الأمور.
2004م ليست سنة قديمة جدًّا، صحيح نحن الآن في 2016م، ولكن 12 سنة ليست بالفترة الزمنية التي يمكن القول عنها: إنها كبيرة؛ لأن الفجوة الزمنية بين بلداننا وبلدان العالم المتقدم - بالمفهوم الذي وضَّحته أعلاه - أكبر من ذلك بمراحل زمنية طويلة جدًّا تفوق الخيال للأسف الشديد.
أسئلة كثيرة وهموم لا تنفك تراود ذهن الشباب العربي:
• متى أكون - بصفتي مواطنًا يبحث عن فرصة عمل - مخيَّرًا لأختار أماكن العمل المناسبة لي ولمهاراتي ولكفاءتي؟
• متى أكون مخيرًا لأختار بين مَن يستحق مهاراتي وكفاءتي، وبين مَن قد لا يستحقها؛ لأنه قد يهدرها ويهدر جزءًا من عمري الثمين معه، وكل جهدي وفكري، بدون أي تقدم يمكن أن يتم لي وله، وفي المحصلة النهائية للوطن؟
المتعارف عليه في أوطاننا العربية، والذي لم نُفكِّر حتى في عكسه، هو أن المديرين - سواء كانوا رؤساء دول، أو وزراء، أو مديري شركات أو جامعات، أو غير ذلك مما صغُر أو كبُر من أعمال - هم المتسيدون؛ هم من يُخْطَبُ ودُّهم، هم مَن يتم البحث عن "واسطة" لقَبول الباحثين عن فرص عمل عندهم، وليتكرموا عليهم بالقَبول، بالرغم من أن العملية هي أصلًا تبادلية قائمة على المنفعة.
في وطننا العربي، المتعارف عليه عند المديرين أو أصحاب العمل، هو أن لديهم "موظفين"، أو أناسًا يبحثون عن "وظيفة"، وليس أناسًا ذوي مهارات وكفاءات، قادرين على تسيير الأعمال بما يحقق الجودة في الخدمات المقدمة، وبالتالي الربح المادي لأماكن العمل التي يعملون فيها.
تكاد تندر - إن لم تنعدم - الكتابات والمقابلات، واللقاءات والندوات والمؤتمرات، التي تُسلِّط الضوء على أرباب الأعمال وتوعيتهم بأهمية العاملين معهم، مقابل تلك التي تخاطب الطرف الضعيف دائمًا، وهو الباحث عن العمل؛ لذلك ترى مَن هم في مستوى القيادة متسلطين دائمًا؛ لأنهم لا يعون أهمية الأمر بالاهتمام بالعاملين لديهم.
كنت دائمًا أقول - وما أزال -: إن معظم ساستنا وقياداتنا، وأصحاب الأعمال في بلداننا العربية، إلا من رحم الله - تجَّارٌ جهلاء للأسف، مقارنة بسيطة فقط بينهم وبين أصغر رجال الأعمال في الدول المتقدمة، تجعلُك تلاحظ الفرق بين التجارة الغبية والتجارة الذكية.
ماذا يعني أن يمتلك كثيرٌ من ساستنا وقياداتنا، وأصحاب الأعمال عندنا في الوطن العربي بضعَ مليارات من الدولارات، وهم مَن يفترض بهم أنهم يقودون دولًا، وليس شركات؛ دولًا ذات إمكانيات كبيرة جدًّا، تفوق إمكانيات الأفراد والشركات مجتمعة؟
مثلًا، صاحب شركة "فيسبوك" الفتية، والذي يبلغ الثانية والثلاثين من العمر فقط، حقَّق في وقت وجيز، بفكرة بسيطة جدًّا، ما لم تستطع دولُنا - أو حتى شركاتنا التجارية - تحقيقه، وغيرُه كثيرٌ بلا شك، والسبب بسيط جدًّا أيضًا، وهو احترام زبائنه، واحترام العاملين لديه، واحترام نفسه قبل كل شيء.
العامل البشري هو أساس قيام المجتمعات، وأساس البِنَى الاقتصادية والصناعية بكل أشكالها.
• عندما لا تهتم بالعامل البشري، عندما لا تهتم بالعاملين معك في شركتك أو تحت إدارتك.
• عندما لا تهتم بمَن هم أصلًا سبب وجودك في مكانك الذي أنت فيه.
• عندما لا تهتم بزبائنك الذين تُقدِّم لهم خدماتك.
• عندما لا تهتم بمَن يريد الالتحاق بالعمل معك (وليس لديك).
• عندما لا تهتم بالمنتَج الذي تقدمه.
• عندما لا تهتم بكل ذلك، فسوف تحقق فقط أدنى إمكانات الربح وليس غير ذلك؛ لأن عملك يكون أصلًا يتحرك بقوة دفع استغلال الناس وحاجاتهم فقط، وهذا هو للأسف ما يحدث في أكثر مؤسسات وشركات عالَمنا العربي.
إننا بحاجة لتغيير دفَّة التفكير والكتابات المتنوعة والمختلفة؛ بحيث تتركز على القائمين في دولنا ومؤسساتنا المختلفة، وليس فقط على الطرف أو الحلقة الأضعف، أغلب أولئك القائمين على مؤسساتنا هم أصلًا سبب نكباتنا المتلاحقة بطرق تفكيرهم البدائية والمدمرة لآمال وأحلام الشباب العربي المتطلع للنهوض وموازاة الأمم المنتجة.
إنهم لا يلقون بالًا بمَن ينتج أو سينتج منتجاتهم، ومن يستخدمها أو يستهلكها.
الرئيس أو المدير هو شخص واحد، ولكن أداءه يؤثر على كل العاملين معه؛ إما يدفعهم للإبداع، أو يُعيق أو يحجم تقدمهم على أقل تقدير؛ شخص واحد أو فئة قليلة مقابل مجموعة عمل كبيرة كاملة.
الإنسان ممكن أن يعيش بدون يدٍ أو رجل أو كُلْية أو مَعِدة... إلخ، لكن لا يستطيع أن يعيش بدون الأجزاء العليا فيه؛ مثل القلب، أو الرأس، أو الرئتين؛ فتسليط الضوء على فعالية وكفاءة الأجزاء العليا من الجسد، ومحاولة تحسينها - أهمُّ وأولى، وخاصة في أوقات الأزمات مثل التي تمر بها بلداننا العربية والإسلامية في الوقت الحاضر.
أكتب هذا الكلام وأنا أعي تمامًا أن بلداننا العربية تعيش فترة تعيسة جدًّا من حياتها، وأعرف تمامًا أن كلامي هذا أقل مِن أن يُغيِّر وضعًا صعبًا؛ وإنما هو محاولة ومساهمة بسيطة لإضاءة جزء بسيط من سواد الليل، وأيضًا ليعرف شبابنا أننا نقاوم ولو بكلمة.