تصحيح الأفكار والمفاهيم
يؤكد الإسلام على المحافظة على الأساس الفكري للأمة، ابتداء بالعقيدة، وانتهاء بالمفاهيم العامة للإنسان عن الكون والحياة، ولا يترك المنهاج الإسلامي أي انحراف في الأفكار والمفاهيم دون تصحيح، لأن هذا الانحراف يفسح المجال لثغرات العلمية في الهيكل الفكري والعلمي في حياة الأمة، ويصبح قيدًا يكيل الأمة ويمنعها من التحرك نحو التغيير.
ومن هنا كانت خطوة الإسلام الأولى في تغيير الواقع الجاهلي هي «نفى الأفكار الجاهلية البالية، ثم رسم طريق الفكرة الإسلامية الصافية التي تخط للمستقبل بطريقة صحيحة»[1].
إن «الذي يعرفه القاصي والداني أن العالم كان مصابًا بأمراض خلقية وعمرانية واقتصادية وسياسية... حينما بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم داعيًا إلى الله، فهناك تسلط روما وفارس، وهنالك تنافس وامتيازات بين مختلف طبقات البشر، واستغلال اقتصادي ممقوت، وفوق كل ذلك الأخلاق الذميمة الفاشية في سائر أقطار العالم، وكذلك بلاد العرب نفسها لم تكن آمنة مطمئنة... فقد كانت البلدان الساحلية العربية إلى بلاد اليمن ومقاطعة العراق الخصيبة كلها كانت خاضعة للفرس، وفي الشمال كان قد تسرب النفوذ الرومي إلى ثغور الحجاز نفسها.. وتغلغل اليهود الماليين في أعماق الحجاز.. وكانوا يوقعون العرب في حبائلهم وينشبون أظافرهم - أظافر الربا الفاحش - في لحومهم وأبدانهم»[2]... كان هذا كله وأكثر منه. فكيف واجه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الركام الجاهلي الفكري والعقائدي والواقعي؟ ومن أين بدأ الطريق إلى التغيير؟ إنه «لم يتعرض في أول أمره لإحدى تلك المسائل المفصلة العديدة المتشعبة، بل قام في الناس يدعوهم ويهيب بهم بملء صوته أن يعبدوا الله ويجتنبوا الطاغوت وما كان ذلك كذلك لأن هاتيك المسائل لم تكن في شيء من الخطورة أو مما لا يستحق الاهتمام... بل لأن كل نوع من أنواع الفساد الاجتماعي والخلقي الذي يحدث في المجتمع الإنسان إنما ينشأ - حسب ما يراه الإسلام - من علة واحدة، وهي أن يجعل الإنسان نفسه مستقلًا بأمره.. وبلفظة أخرى أن يتخذ نفسه إلهه، أو يتخذ من دون الله آمرًا مطاعًا يخضع له وينقاد لأمره، سواء كان ذلك الآمر من البشر أو من غيره»[3] فإذا نُقيت العقول من هذه العقيدة المحرفة، وقبلت العقيدة الصحيحة، أفادت من شعائر هذه العقيدة الصحيحة، وتشربت شرائعها، واعتادت آدابها.
لقد «كان العرب - قبل الإسلام - شتيتًا متناثرًا لا يأتلف ولا يتجمع رغم وجود كل عوامل التجمع، من حدة الأرض، ووحدة البيئة، ووحدة اللغة، ووحدة المعتقدات، ووحدة الثقافة، ووحدة التاريخ.. ومن هناك التقطهم الإسلام»[4] بعقيدته الصحيحة ومفاهيمه الواضحة، فكانت هذه المفاهيم وتلك العقيدة هي التي صنعت من أفراد الجاهلية الأولى الذين يحبون الفوضى ويكرهون النظام وتشتعل حماستهم ثم لا تلبث أن تنطفي،.. صنعت منهم «خير أمة أخرجت للناس».
ولكن.. عبر المسيرة الطويلة لهذه الأمة خلال التاريخ، حدثت انحرافات كثيرة في حياة المسلمين.. وكان الانحراف الأخطر في حياتهم هو الانحراف في المفاهيم.. كل مفاهيم الإسلام ابتداء من لا إله إلا الله، وانتهاء بالمفاهيم العامة للمسلم عن الكون والحياة.
فأما «مفهوم لا إله إلا الله - أساس الإسلام كله وأكبر أركانه - فقد تحول إلى كلمة تقال باللسان، لا علاقة لها بالواقع، ولا مقتضى لها في حياة المسلمين أكثر من أن يُنطق بها بضع مرات في كل نهار. فضلًا عما أحاط بالعقيدة من خرافة وعبادة للأضرحة والأولياء والمشايخ، بدلًا من العبادة الصافية لله دون وسيط.
وأما مفهوم العبادة - الشامل الواسع - فقد انحصر في شعائر التعبد، من أداها فقد أدى كل ما عليه من العبادة، ولم يعد مطالبًا بشيء من التكاليف أمام الله فضلًا عما أصاب الشعائر التعبدية ذاتها من عزلة كاملة عن واقع الحياة، كأنها شيء ليس له مقتضى في الحياة الدنيا ولا تأثير!
وأما مفهوم القضاء والقدر - الذي كان في صورته الصحيحة قوة دافعة رافعة - فقد صار في صورته السلبية قوة مخذلة مثبطة عن العمل والنشاط والحركة والأخذ بالأسباب.
وأما مفهوم الدنيا والآخرة - الذي يربط الدنيا بالآخرة، ويجعل الدنيا مزرعة الآخرة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقد تحول إلى فصل كامل بين الدنيا والآخرة، يجعلها موضع التقابل الكامل وموضع التضاد، فمن أراد الدنيا ترك الآخرة، ومن أراد الآخرة ترك الدنيا واكتفى فيها بالكفاف! وأما عمارة الأرض فقد أهملت حين أهملت الدنيا من أجل الآخرة، فخيم على الناس الفقر والجهل والمرض والتخلف الحضاري والمادي والعلمي والعقلي..
وزاد على ذلك كله أنه كان في حس المسلمين أن هذا الذي حدث لهم قدر مقدور من عند الله، لا حيلة لهم فيه إلا التسليم والرضا!!»[5].
وهكذا أصاب الأمة الإسلامية تخلفًا ماديًا كنتيجة لتخلفها الديني الذي بلغ - عبر تراكم السنين - درجات خطيرة، إلى الحد الذي غابت فيه معالم السنن، وتشوشت العقائد، واضطربت المفاهيم، وبعدت الأمة عن التصور الإسلامي للحياة «فبعد واقعها عن النظام الإسلامي للحياة.. ثم إن بُعد حياتها عن النظام الإسلامي أخذ بدوره يبعدها عن التصور الإسلامي من جديد... وهكذا ظلت هذه الأمة تدور في هذه الحلقة المفرغة، ويتم في حياتها ذلك التفاعل النكد يفعل عوامل داخلية كامنة في تركيبها التاريخي من ناحية، ويفعل عوامل خارجية تهاجمها بكل وسيلة وتستغل وتنشئ عوامل التمييع والتمزيق في كيانها من ناحية أخرى... حتى انتهت إلى أن تصبح غريبة غربة كاملة عن الإسلام»[6].. ولا بد أن نكون صرحاء مع أنفسنا... إن الموجود اليوم في حياة الأمة ليس هو الدين الذي أنزله الله، وليس هو الإسلام الذي صنع خير أمة أخرجت للناس[7].
إن المفاهيم التي كان عليها سلف هذه الأمة، هي بالتأكيد غير المفاهيم التي نحن عليها بواقعنا اليوم «فالذل والضعف، وغلبة الأعداء الذين لا يرقبون في المسلمين إلًا ولا ذمة، وعدوانهم المستمر على كراماتهم ودمائهم وأعراضهم وأموالهم، هو الحال حين يكون الناس غثاءً كغثاء السيل.. وهم لا يكونون كذلك إلا حين تتحول لا إله إلا الله إلى كلمة تقال باللسان، بغير دلالة ولا رصيد واقعي، «وحين ينحصر مفهوم العبادة في الشعائر التعبدية، ويخلو من العمل بجميع أنواعه، بدءًا بالعمل السياسي المتمثل في رقابة الأمة على الحاكم وتقديم النصح له، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ليستقيم على أمر الله وشريعته، ويطبق العدل الرباني كما أمره الله»[8].. وحين يتوهم المسلم أن محاولاته لتغير الواقع الفاسد تتعارض مع واجب التسليم لقدر الله!!
إن واقعنا المعاصر الذي نشكو منه جميعًا إنما هو حصيلة الانحراف الذي أصاب مفاهيمنا وأفكارنا،.. وما تعانيه الأمة الإسلامية اليوم إنما (يرشح) من هذا (المستنقع) الذي اجتمع فيه المرجئة والجبرية،.. فأما المرجئة فقد صار الإيمان بسببها هو مجرد التصديق والإقرار بلا عمل يعمل من مقتضيات التصديق والإقرار، وأما الجبرية فقد صار الإيمان بالقدر بسببها تنصلًا من كل مسؤولية، لأنه لا إرادة ولا اختيار!
وهكذا بين الإرجاء والجبر نمت (القابلية) للاستعباد، و(قتلت) الهمة للتغيير وصارت الأفكار والمفاهيم المنحرفة تشكل أغلالًا تمنع جماهير أمتنا من التحرك والانطلاق نحو التغيير[9]..
ولا شك أن (إحياء) هذه الأمة لن يكون إلا في نفس الظروف التي ولدت فيها وحين وُلدت هذه الأمة «كان ذلك الميلاد صادرًا عن عقيدة واضحة قوية، ولسان يستمد من سحر القرآن تأثيره ليحيي أمة كادت أن تموت، فإذا بها تنطلق مكتسحة العالم بحضارة وتقدم»[10].
ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها «تصحيح المفاهيم أولًا، ثم إقامة بناء جديد على المفاهيم الصحيحة». ولا يمكن (إحياء) الأمة الإسلامية إلا إذا قام هذا الإحياء على أسس أهمها «الرجوع إلى المنابع الأولى للإسلام، الكتاب والسنة، وتخليص عقائد المسلمين مما علق بها، وليس منها، والذي كان له أثر على سلوكهم وعبادتهم وحركتهم»[11].
إن تصحيح المفاهيم هو مفتاح التغيير في كل تجمع بشري يُراد إخراجه من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام.
وإذن فلا بد من تصحيح مفهوم العقيدة، وتخليصها مما شابها من الإرجاء والجبر وعلوم الكلام، وتجليتها ناصعة واضحة، ودعوة الأمة إلى أن تقيم حياتها على أساس المفاهيم الصحيحة للإسلام،.. وحين يحدث ذلك.. «وحين تصحح المفاهيم بالفعل، وتتربى على المفاهيم الصحيحة قاعدة صلبة تساندها الجماهير المؤمنة الواعية التي تمارس الإسلام في عالم الواقع.. عندئذ يتحقق الوعد الذي وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تكون فيكم النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكن ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إن شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكًا عاضًا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبريًا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم (تكون خلافة على منهاج النبوة) وعندئذ يتغير وجه الأرض»[12]، وتنهض الأمة الإسلامية، وتغير بجهادها المستمر أسس الجاهلية الفكرية والخلقية والنفسية والثقافية السائدة في العالم، ويخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
وبكلمة: إن الأفكار الخاطئة، والمفاهيم المنحرفة تُشكِّل في أمتنا شبكة واسعة، تبدأ من العقيدة وتنتهي بالسلوك، مرورًا بالعلاقات الاجتماعية والمواقف السياسية. ويمثل هذا الأخطبوط الذي يمد سيقانه إلى كل مجالات الحياة، يمثل قيودًا وأغلالًا تمنع الأمة من التحرك إلى التغيير، ولن يضع عن هذه الأمة إصرها والأغلال التي صارت عليها إلا الأفكار الصحيحة والمفاهيم الواضحة الصافية، ولذلك فلا بد من تصحيح الأفكار و المفاهيم المنحرفة، ومنها:
♦ مفهوم أن لا إله إلا الله. كلمة تطلق في الهواء وأنه ليس لها مقتضيات!!.
♦ مفهوم العبادة، وانحصارها في شعائر التعبد.. بينما هي غاية الوجود الإنساني كله: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾.
♦ فكرة الجبر، التي تسلب الإنسان إرادته، وتجعله غير مسؤول عن رأيه أو ما يصدر منه.
♦ فكرة الخضوع لأي سلطة مهما كان طريقها في الحكم على اعتبار أنها أولي الأمر!!.
.. فإذا استقرت المفاهيم الصحيحة في قلوب الأمة، كان ذلك هو بداية الانطلاقة القوية لتحقيقها في صورة واقع بشري يختلف اختلافًا أصيلًا وكليًا عن واقع البشرية اليوم.
الأمة الإسلامية من التبعية إلى الريادة، دار الصفوة بالقاهرة، 1437 ه، 2016 م
[1] شروط النهضة - مالك بن نبي ص 81.
[2] منهاج التغيير الإسلامي - أبو الأعلى المودودي ص 38.
[3] المصدر السابق - ص 39.
[4] مفاهيم ينبغي أن تصحح - محمد قطب ص 33، 34.
[5] واقعنا المعاصر - محمد قطب ص 8، 9.
[6] مقومات التصور الإسلامي - سيد قطب ص 22، 23.
[7] ليس المقصود إصدار حكم على هذا الجيل من الأمة.
[8] مفاهيم ينبغي أن تصحح - محمد قطب ص 105.
[9] المصدر السابق ص 198.
[10] شروط النهضة - مالك بن نبي ص 25 بتصرف.
[11] ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر - ص 403.
[12] مفاهيم ينبغي أن تصحح - محمد قطب ص 380.
د. محمد محمد بدري |
يؤكد الإسلام على المحافظة على الأساس الفكري للأمة، ابتداء بالعقيدة، وانتهاء بالمفاهيم العامة للإنسان عن الكون والحياة، ولا يترك المنهاج الإسلامي أي انحراف في الأفكار والمفاهيم دون تصحيح، لأن هذا الانحراف يفسح المجال لثغرات العلمية في الهيكل الفكري والعلمي في حياة الأمة، ويصبح قيدًا يكيل الأمة ويمنعها من التحرك نحو التغيير.
ومن هنا كانت خطوة الإسلام الأولى في تغيير الواقع الجاهلي هي «نفى الأفكار الجاهلية البالية، ثم رسم طريق الفكرة الإسلامية الصافية التي تخط للمستقبل بطريقة صحيحة»[1].
إن «الذي يعرفه القاصي والداني أن العالم كان مصابًا بأمراض خلقية وعمرانية واقتصادية وسياسية... حينما بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم داعيًا إلى الله، فهناك تسلط روما وفارس، وهنالك تنافس وامتيازات بين مختلف طبقات البشر، واستغلال اقتصادي ممقوت، وفوق كل ذلك الأخلاق الذميمة الفاشية في سائر أقطار العالم، وكذلك بلاد العرب نفسها لم تكن آمنة مطمئنة... فقد كانت البلدان الساحلية العربية إلى بلاد اليمن ومقاطعة العراق الخصيبة كلها كانت خاضعة للفرس، وفي الشمال كان قد تسرب النفوذ الرومي إلى ثغور الحجاز نفسها.. وتغلغل اليهود الماليين في أعماق الحجاز.. وكانوا يوقعون العرب في حبائلهم وينشبون أظافرهم - أظافر الربا الفاحش - في لحومهم وأبدانهم»[2]... كان هذا كله وأكثر منه. فكيف واجه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الركام الجاهلي الفكري والعقائدي والواقعي؟ ومن أين بدأ الطريق إلى التغيير؟ إنه «لم يتعرض في أول أمره لإحدى تلك المسائل المفصلة العديدة المتشعبة، بل قام في الناس يدعوهم ويهيب بهم بملء صوته أن يعبدوا الله ويجتنبوا الطاغوت وما كان ذلك كذلك لأن هاتيك المسائل لم تكن في شيء من الخطورة أو مما لا يستحق الاهتمام... بل لأن كل نوع من أنواع الفساد الاجتماعي والخلقي الذي يحدث في المجتمع الإنسان إنما ينشأ - حسب ما يراه الإسلام - من علة واحدة، وهي أن يجعل الإنسان نفسه مستقلًا بأمره.. وبلفظة أخرى أن يتخذ نفسه إلهه، أو يتخذ من دون الله آمرًا مطاعًا يخضع له وينقاد لأمره، سواء كان ذلك الآمر من البشر أو من غيره»[3] فإذا نُقيت العقول من هذه العقيدة المحرفة، وقبلت العقيدة الصحيحة، أفادت من شعائر هذه العقيدة الصحيحة، وتشربت شرائعها، واعتادت آدابها.
لقد «كان العرب - قبل الإسلام - شتيتًا متناثرًا لا يأتلف ولا يتجمع رغم وجود كل عوامل التجمع، من حدة الأرض، ووحدة البيئة، ووحدة اللغة، ووحدة المعتقدات، ووحدة الثقافة، ووحدة التاريخ.. ومن هناك التقطهم الإسلام»[4] بعقيدته الصحيحة ومفاهيمه الواضحة، فكانت هذه المفاهيم وتلك العقيدة هي التي صنعت من أفراد الجاهلية الأولى الذين يحبون الفوضى ويكرهون النظام وتشتعل حماستهم ثم لا تلبث أن تنطفي،.. صنعت منهم «خير أمة أخرجت للناس».
ولكن.. عبر المسيرة الطويلة لهذه الأمة خلال التاريخ، حدثت انحرافات كثيرة في حياة المسلمين.. وكان الانحراف الأخطر في حياتهم هو الانحراف في المفاهيم.. كل مفاهيم الإسلام ابتداء من لا إله إلا الله، وانتهاء بالمفاهيم العامة للمسلم عن الكون والحياة.
فأما «مفهوم لا إله إلا الله - أساس الإسلام كله وأكبر أركانه - فقد تحول إلى كلمة تقال باللسان، لا علاقة لها بالواقع، ولا مقتضى لها في حياة المسلمين أكثر من أن يُنطق بها بضع مرات في كل نهار. فضلًا عما أحاط بالعقيدة من خرافة وعبادة للأضرحة والأولياء والمشايخ، بدلًا من العبادة الصافية لله دون وسيط.
وأما مفهوم العبادة - الشامل الواسع - فقد انحصر في شعائر التعبد، من أداها فقد أدى كل ما عليه من العبادة، ولم يعد مطالبًا بشيء من التكاليف أمام الله فضلًا عما أصاب الشعائر التعبدية ذاتها من عزلة كاملة عن واقع الحياة، كأنها شيء ليس له مقتضى في الحياة الدنيا ولا تأثير!
وأما مفهوم القضاء والقدر - الذي كان في صورته الصحيحة قوة دافعة رافعة - فقد صار في صورته السلبية قوة مخذلة مثبطة عن العمل والنشاط والحركة والأخذ بالأسباب.
وأما مفهوم الدنيا والآخرة - الذي يربط الدنيا بالآخرة، ويجعل الدنيا مزرعة الآخرة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقد تحول إلى فصل كامل بين الدنيا والآخرة، يجعلها موضع التقابل الكامل وموضع التضاد، فمن أراد الدنيا ترك الآخرة، ومن أراد الآخرة ترك الدنيا واكتفى فيها بالكفاف! وأما عمارة الأرض فقد أهملت حين أهملت الدنيا من أجل الآخرة، فخيم على الناس الفقر والجهل والمرض والتخلف الحضاري والمادي والعلمي والعقلي..
وزاد على ذلك كله أنه كان في حس المسلمين أن هذا الذي حدث لهم قدر مقدور من عند الله، لا حيلة لهم فيه إلا التسليم والرضا!!»[5].
وهكذا أصاب الأمة الإسلامية تخلفًا ماديًا كنتيجة لتخلفها الديني الذي بلغ - عبر تراكم السنين - درجات خطيرة، إلى الحد الذي غابت فيه معالم السنن، وتشوشت العقائد، واضطربت المفاهيم، وبعدت الأمة عن التصور الإسلامي للحياة «فبعد واقعها عن النظام الإسلامي للحياة.. ثم إن بُعد حياتها عن النظام الإسلامي أخذ بدوره يبعدها عن التصور الإسلامي من جديد... وهكذا ظلت هذه الأمة تدور في هذه الحلقة المفرغة، ويتم في حياتها ذلك التفاعل النكد يفعل عوامل داخلية كامنة في تركيبها التاريخي من ناحية، ويفعل عوامل خارجية تهاجمها بكل وسيلة وتستغل وتنشئ عوامل التمييع والتمزيق في كيانها من ناحية أخرى... حتى انتهت إلى أن تصبح غريبة غربة كاملة عن الإسلام»[6].. ولا بد أن نكون صرحاء مع أنفسنا... إن الموجود اليوم في حياة الأمة ليس هو الدين الذي أنزله الله، وليس هو الإسلام الذي صنع خير أمة أخرجت للناس[7].
إن المفاهيم التي كان عليها سلف هذه الأمة، هي بالتأكيد غير المفاهيم التي نحن عليها بواقعنا اليوم «فالذل والضعف، وغلبة الأعداء الذين لا يرقبون في المسلمين إلًا ولا ذمة، وعدوانهم المستمر على كراماتهم ودمائهم وأعراضهم وأموالهم، هو الحال حين يكون الناس غثاءً كغثاء السيل.. وهم لا يكونون كذلك إلا حين تتحول لا إله إلا الله إلى كلمة تقال باللسان، بغير دلالة ولا رصيد واقعي، «وحين ينحصر مفهوم العبادة في الشعائر التعبدية، ويخلو من العمل بجميع أنواعه، بدءًا بالعمل السياسي المتمثل في رقابة الأمة على الحاكم وتقديم النصح له، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ليستقيم على أمر الله وشريعته، ويطبق العدل الرباني كما أمره الله»[8].. وحين يتوهم المسلم أن محاولاته لتغير الواقع الفاسد تتعارض مع واجب التسليم لقدر الله!!
إن واقعنا المعاصر الذي نشكو منه جميعًا إنما هو حصيلة الانحراف الذي أصاب مفاهيمنا وأفكارنا،.. وما تعانيه الأمة الإسلامية اليوم إنما (يرشح) من هذا (المستنقع) الذي اجتمع فيه المرجئة والجبرية،.. فأما المرجئة فقد صار الإيمان بسببها هو مجرد التصديق والإقرار بلا عمل يعمل من مقتضيات التصديق والإقرار، وأما الجبرية فقد صار الإيمان بالقدر بسببها تنصلًا من كل مسؤولية، لأنه لا إرادة ولا اختيار!
وهكذا بين الإرجاء والجبر نمت (القابلية) للاستعباد، و(قتلت) الهمة للتغيير وصارت الأفكار والمفاهيم المنحرفة تشكل أغلالًا تمنع جماهير أمتنا من التحرك والانطلاق نحو التغيير[9]..
ولا شك أن (إحياء) هذه الأمة لن يكون إلا في نفس الظروف التي ولدت فيها وحين وُلدت هذه الأمة «كان ذلك الميلاد صادرًا عن عقيدة واضحة قوية، ولسان يستمد من سحر القرآن تأثيره ليحيي أمة كادت أن تموت، فإذا بها تنطلق مكتسحة العالم بحضارة وتقدم»[10].
ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها «تصحيح المفاهيم أولًا، ثم إقامة بناء جديد على المفاهيم الصحيحة». ولا يمكن (إحياء) الأمة الإسلامية إلا إذا قام هذا الإحياء على أسس أهمها «الرجوع إلى المنابع الأولى للإسلام، الكتاب والسنة، وتخليص عقائد المسلمين مما علق بها، وليس منها، والذي كان له أثر على سلوكهم وعبادتهم وحركتهم»[11].
إن تصحيح المفاهيم هو مفتاح التغيير في كل تجمع بشري يُراد إخراجه من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام.
وإذن فلا بد من تصحيح مفهوم العقيدة، وتخليصها مما شابها من الإرجاء والجبر وعلوم الكلام، وتجليتها ناصعة واضحة، ودعوة الأمة إلى أن تقيم حياتها على أساس المفاهيم الصحيحة للإسلام،.. وحين يحدث ذلك.. «وحين تصحح المفاهيم بالفعل، وتتربى على المفاهيم الصحيحة قاعدة صلبة تساندها الجماهير المؤمنة الواعية التي تمارس الإسلام في عالم الواقع.. عندئذ يتحقق الوعد الذي وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تكون فيكم النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكن ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إن شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكًا عاضًا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبريًا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم (تكون خلافة على منهاج النبوة) وعندئذ يتغير وجه الأرض»[12]، وتنهض الأمة الإسلامية، وتغير بجهادها المستمر أسس الجاهلية الفكرية والخلقية والنفسية والثقافية السائدة في العالم، ويخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
وبكلمة: إن الأفكار الخاطئة، والمفاهيم المنحرفة تُشكِّل في أمتنا شبكة واسعة، تبدأ من العقيدة وتنتهي بالسلوك، مرورًا بالعلاقات الاجتماعية والمواقف السياسية. ويمثل هذا الأخطبوط الذي يمد سيقانه إلى كل مجالات الحياة، يمثل قيودًا وأغلالًا تمنع الأمة من التحرك إلى التغيير، ولن يضع عن هذه الأمة إصرها والأغلال التي صارت عليها إلا الأفكار الصحيحة والمفاهيم الواضحة الصافية، ولذلك فلا بد من تصحيح الأفكار و المفاهيم المنحرفة، ومنها:
♦ مفهوم أن لا إله إلا الله. كلمة تطلق في الهواء وأنه ليس لها مقتضيات!!.
♦ مفهوم العبادة، وانحصارها في شعائر التعبد.. بينما هي غاية الوجود الإنساني كله: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾.
♦ فكرة الجبر، التي تسلب الإنسان إرادته، وتجعله غير مسؤول عن رأيه أو ما يصدر منه.
♦ فكرة الخضوع لأي سلطة مهما كان طريقها في الحكم على اعتبار أنها أولي الأمر!!.
.. فإذا استقرت المفاهيم الصحيحة في قلوب الأمة، كان ذلك هو بداية الانطلاقة القوية لتحقيقها في صورة واقع بشري يختلف اختلافًا أصيلًا وكليًا عن واقع البشرية اليوم.
الأمة الإسلامية من التبعية إلى الريادة، دار الصفوة بالقاهرة، 1437 ه، 2016 م
[1] شروط النهضة - مالك بن نبي ص 81.
[2] منهاج التغيير الإسلامي - أبو الأعلى المودودي ص 38.
[3] المصدر السابق - ص 39.
[4] مفاهيم ينبغي أن تصحح - محمد قطب ص 33، 34.
[5] واقعنا المعاصر - محمد قطب ص 8، 9.
[6] مقومات التصور الإسلامي - سيد قطب ص 22، 23.
[7] ليس المقصود إصدار حكم على هذا الجيل من الأمة.
[8] مفاهيم ينبغي أن تصحح - محمد قطب ص 105.
[9] المصدر السابق ص 198.
[10] شروط النهضة - مالك بن نبي ص 25 بتصرف.
[11] ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر - ص 403.
[12] مفاهيم ينبغي أن تصحح - محمد قطب ص 380.